طلعت رضوان *
الباحث والمفكر الكبير أحمد أمين (1886- 1954) بالرغم من تربيته وولادته في أسرة (دينية) مُـتحفظة..ودراسته الأزهرية..وتخصصه في دراسة (تاريخ الإسلام) الذي أثمر عدّة كتب عن البدايات الأولى للدعوة الإسلامية، إلى تاريخ الخلافة الإسلامية..وذلك في كتبه التي استفاد منها جيل الباحثين من الشباب، مثل كتابه (فجر الإسلام- جزءان) و(ضحى الإسلام- جزءان) حسب طبعة هيئة الكتاب المصرية- عام1997- وكتابه (ظهرالإسلام- أربعة أجزاء) وكتابه الشيق عن (حـي بن يقظان) وكتابه (عن المهدي والمهدوية) وكتابه (الصعلكة والفتوة في الإسلام) وفي هذا الكتاب تعرّض فيه لزاوية تغافل عنها كثيرون..وبالرغم من تخصصه في التاريخ العربي/ الإسلامي، فقد كتب كتابــًـا بعنوان (قصة الفلسفة اليونانية) وكتابــًـا آخر بعنوان (قصة الفلسفة الحديثة) .
وبالرغم من كل ذلك فقد أولى اهتمامـًـا كبيرًا بعلم الأنثروبولوجيا، وظهر هذا الاهتمام منذ سنة 1945 عندما تـمّ انتدابه للعمل بوظيفة (مديرالإدارة الثقافية بوزارة المعارف) وهي الوزارة التي تحوّل اسمها بعد يوليو1952إلى (وزارة التربية والتعليم) ففكــّـر أحمد أمين (في هذا الوقت المُـبكر في الأربعينيات) في إنشاء (جامعة شعبية) قال عنها إنها (ابنتي العزيزة) وتطوّرتْ هذه الجامعة لتصير بعد يوليو 52 (الثقافة الجماهيرية) ثـمّ (هيئة قصور الثقافة) .
وفي موسوعته التي أسماها (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية) الصادرعن المجلس الأعلى للثقافة- عام 1999. بتقديم ومراجعة الباحث الكبير(محمد الجوهري) المُـتخصص في (علم الإنسان- الأنثروبولوجي) في هذه الموسوعة كتب أحمد أمين عن أبو زيد الهلالى: فذكر أنه شخصية غريبة غامضة..ولم يذكر المؤرّخون شيئــًـا واضحــًـا عنه.. وفي ثنايا بعض الكتب (نتفٌ قليلة) وحسب البعض أنه عاش في القرن الحادى عشر الميلادى..وهومن قبيلة (هلال) وهي قبيلة كبيرة بدوية تسكن نجدًا..وتجاورهم قبيلة أخرى اسمها (سليم) وكانت هلال وسليم (سلابين نهابين، يخرجون من ديارهم فيغيرون على أطراف الشام والعراق..حتى ضجــّـتْ منهم الدولة العباسية..وأرسلتْ فى أيام الواثق بالله حملة بأمرالقائد التركي (بغا الكبير) لتأديبهم على ما ارتكبوا من فساد.. وهاجر قومٌ من هلال وسليم إلى مصر في الوجه البحري..ولكنهم ساروا سيرتهم الأولى من سلبٍ ونهبٍ..حتى ضجّ منهم الأهالي، فأمر الخليفة الفاطمي العزيز بالله بطردهم إلى الصعيد..وهناك فعلوا ما فعلوه في كل مكان من سلبٍ ونهبٍ وتخريب..وانتشر ضررهم..واستغاث الأهالي من شرهم..وفي خلافة المستنصر بالله الفاطمي ثارتْ بلاد المغرب عليه، فنصحه مستشاروه أنْ يبعث هؤلاء العربَ إلى المغرب، فإنْ ظفروا بالثائرين فقد كسب تلك البلاد..وأخضع الثورة..وظفر بالخصوم وإنْ انهزموا ((وقى اللهُ مصر شرّهم)) فأرسلهم وأعطى لكل واحد منهم بعيرًا وديناريْن وقال لهم: أعطيتكم المغرب ففرحوا..ولما نزلوا المغرب استباحوها..وكتبوا لإخوانهم في مصر يدعونهم للسفر إليهم..ولكنّ المستنصر بالله منعهم حتى يأخذ من كل واحد ديناريْن لتعويض ما دفعه لهم.. وساروا إلى تونس كالجراد..ولا يمرون بشيء إلاّ أتوا عليه واغتصبوه.. واقتسموا تونس فيما بينهم، فأخذتْ قبيلة سليم شرق تونس..وقبيلة هلال غربها..ووقعتْ بين هؤلاء العرب..وسكان البلاد الأصليين من البربر حروب يطول ذكرها..كما وقعتْ الفتن والحروب بين العرب والبربر..وكان ذلك في القرن العاشر الميلادي..واشتهر في هذه الحروب (دياب بن غانم) وأبو زيد الهلالى..ويرى البعض أنّ بني هلال توجــّـهوا إلى (نجد) وبلاد السرو باليمن.
ووقعت حرب بين دياب وأبي زيد (يطول شرحها) وانتهتْ بانتصار أبي زيد. وعندما (حلــّـتْ المجاعة) بنجد توجــّـه أبو زيد وأتباعه إلى تونس (حيث خصوبة أرضها) ووقعتْ حروب بين الهلالية والزناتية بسبب (سعدة بنت الزناتي خليفة) وهي من البربر..ووقعتْ في حب (مرعي) أحد أصحاب أبي زيد..وانتهتْ الحرب بقتل الزناتي خليفة..واختلف الهلاليون فيما بينهم على (قسمة أملاك الزناتي) وثارتْ الحرب بين أبي زيد ودياب..وانتهتْ بقتل دياب لأبي زيد فاجتمع قوم للأخذ بثأر أبي زيد..وانتقموا من دياب وقتلوه.
وهذه القصة التي دارتْ بين البدو من العرب..وبين المغرب وتونس..ولم تدخل مصر فيها إلاّ من ناحية أنّ الهلاليين أقام بعضهم فيها بعض السنين، ثـمّ رحل أكثرهم إلى المغرب..ومع هذا فالقصة لها شأن كبير فى مصر..حيث أعجب بها المصريون، لأنها مكتوبة بلغة (مصرية شعبية) ولأنّ حوادثها (ساذجة) وتشتمل على (بطولة خيالية أشبه ببطولة الجن) وفيها الحب اللطيف البسيط..ولهذا كله كانت القصة محبوبة للمصريين..وذكرأحمد أمين أنه شاهد في الكثير من الأحياء الشعبية المـُـغنّي الذي أطلقوا عليه (شاعر الربابة) وكان في حارتنا رجل اسمه (أحمد الشاعر) كان يأتي إلى القهوة كل مساء..ويجلس وحوله المستمعون..ويبدأ في قراءة القصة، والناس يصغون باهتمام..ومنهم من يتعصّب لأبي زيد..ومنهم من يتعصّب لدياب. وقد يقوم النزاع والسباب والضرب بين الفريقيْن، فإذا جاءتْ ليلة انتصر فيها أبو زيد عمل أنصاره (فرحــًـا) في القهوة وزيـّـنوها..وإذا جاءتْ ليلة انتصر فيها دياب فعل أنصاره نفس الشيء..ولا يزال الشاعر يقرأ وهم يصغون وتمتدّ السهرة إلى قــُـرب الفجر..وينصرفون إلى بيوتهم..وأنصار أبي زيد فرحون إذا انتصر، مهمومون إذا انكسر.. وكذلك أنصار دياب.
وأضاف: فكانت هذه القصة تقوم مقام السينما (في أيامنا هذه) وكان الشيخ أحمد الشاعر يلقي القصة إلقاءً حسنــًـا..ويتحمّـس في مواقف الحماسة..ويترنّم في القصائد. وظلــّـتْ هذه القصة تتداول في مصر عدة قرون..وذكرها ابن خلدون..وأعجب ببلاغتها..وقال في الجزء السادس من تاريخه: إنّ الخاصة من أهل العلم يزهدون في روايتها..ويستنكفون منها لما فيها من خلل (في الإعراب) لأنهم اعتقدوا أنّ الإعراب ((هو أصل البلاغة..والحقيقة أنه ليس كذلك)) وبالرغم من ذلك ذكر ابن خلدون أنّ القصة لها أثر تاريخي..ولكن العوامّ أضافوا إليه..وأدخلوا فيه الكثير من الحوادث المصنوعة والأخبارالتي لايوثق فيها.
وذكر أحمد أمين: هذا موجز مختصر جدًا لقصة طويلة تــُـقرأ في أيام..وبالرغم من تداخل الخيال بالواقع..وأنها أقرب إلى الخرافات في بعض أجزائها..كان لها أثر حميد في الأوساط الشعبية المصرية..في العصور السوداء التى اجتازوها، فقد كانت سمرًا لذيذًا في لياليهم..وحديثــًـا طريفــًـا في نهارهم..وتبعث فيهم الغزل اللطيف والحماسة..والعصبية للأبطال (من ص 88 – 91).
وفي المقدمة التي كتبها الأستاذ محمد الجوهري، تطرّق لاهتمام أحمد أمين بعلم الفولكلور(بالرغم من تخصصه في الإسلاميات) فقال: لعلّ الغاية التي يسعى إليها دارس الفولكلور دائمًـا هي أنْ ينتهي من دراسته لتراث شعب معيّن، إلى الكشف عن الطابع القومي لذلك الشعب، أو التعرف على سمات شخصيته..وسواء وعى الباحث هذا الهدف، أولم يع، فإنّ عمله في جمع التراث وتحليله إنما يصب في النهاية في تيار دراسات الطابع القومي..ولسنا في هذا المقام في حاجة إلى التأكيد على أهمية مواد الفولكلور في الكشف عن ملامح الشخصية القومية، فهذا أمر تكفــّـلتْ به دراسات (الثقافة والشخصية) وأشار (في الهامش) إلى المجلد الأول الذي كتبه بعنوان (علم الفولكلور- الأسس النظرية والمنهجية) ومن بين القضايا التي ذكرها: كيف تتسنّى دراسة شخصية الفلاح المصري– على سبيل المثال– إلاّ من خلال دراسة تراثه الشعبي، فهذا الجزء التقليدي من ثقافة الفلاح، هو أبعد أجزاء ثقافته غورًا، وأكثرها تمكنــًـا منه، وأعصاها جميعــًـا على التغيير والتطوير.. وأقربها إلى نفسه..وأضاف أنّ نفس هذا المبدأ ينطبق على الجهد العظيم الذي قـدّمه الأستاذ أحمد أمين في قاموسه..ومن الطبيعي أنْ (تحدّ) المادة التي يحويها القاموس (حدود) معينة، قد تقصر من نطاق تطبيقها، أو تــُـقلل من قابليتها للتعميم، أو تفرض عليها بعض التحفظات.. ولذلك بدأ الأستاذ أحمد أمين بمحاورة معاصريه، الذين توقع هجومهم على مشروعه ((وتجريحهم له)) لأنّ المادة التي جمعها فيها تشهير بالمصريين.. ولكنني (محمد الجوهري) أرى أنّ في هذا مفخرة للمصريين، إذا نظرنا كيف قطعوا خطوات واسعة منذ عهد قريب في التقدم.. كما أنّ الأستاذ أحمد أمين وضع في اعتباره وهو يكتب قاموسه في عام1953 عتاب زملائه الكبار الذين سماهم ((بعض الأرستقراطيين من العلماء))لأنه اهتم بالكتابة عن ((عادات وتعابير شعبية من إبداع العوام)) وكانوا يقصدون اهتمامه بجمع الأمثال المصرية التي تجري على ألسنة الأميين المصريين..وكان تعليق الأستاذ محمد الجوهري: ولكن من المؤكد أنه لا يستطيع أنْ يــُـقدم على هذه الخطوة الجبارة إلاّ الأستاذ أحمد أمين (من ص42- 44) .