تتأكد المدلولات الخاصة للجسد عند الأنثى انطلاقا من الدور الهام الذي بات يلعبه كمنطلق خاص للشعور بالتمايز والاختلاف، وتشكيل هوية الذات، لاسيما بعد أن ظل الجسد(هو المسؤول عن حمل القيم من وجهة نظر المجتمع، وأصبح مساويا للهوية الفردية من وجهة نظر النساء، مما سهّل على الفكر الذكوري السائد اختزال المرأة في جسدها)(1). وإذا كان الصراع الاجتماعي قد تركز على الجسد عبر محاولة السيطرة عليه رمزيا أو ماديا بهدف إخضاعه، فإنه قد تحول إلى ساحة صراع بين المرأة والرجل على امتلاكه، الأمر الذي جعله يحمل شفراته الخاصة وفقا لاستراتيجية الأهداف التي ينطلق منها كل من الرجل والمرأة في علاقته مع الجسد ورؤيته إليه.
لذلك فإن قراءة تلك الشفرات يمكن أن تقود إلى الكشف عن المنظور السوسيولوجي والثقافي الذي يتم من خلاله النظر إلى هذا الجسد، والتعامل معه وتحديد قيمته.
لقد تميز الفكر الفلسفي الغربي بثنائيته القائمة على علاقة التقابل بين العقل والجسد، والتي منح فيها العقلَ قيمة أكبر من الجسد، مما ساهم في رفع مكانته مقابل تحقير الجسد، كذلك عمل على الربط بين الجسد والطبيعة واللاعقلانية والمرأة، وقد اعتبر أفلاطون الجسد تابعا للروح، في حين عكس تلميذه سقراط القاعدة فجعل الروح تابعة للجسد. ومع أرسطو برزت المرأة ككائن أدنى بيولوجيا سواء من الناحية العقلية أو الجسدية، ما يجعلها أدنى من الرجال وبالتالي يكون خضوعها له نابعا من خصائصها التكوينية، لذلك شبِّه أرسطو سلطة الرجل على المرأة بسلطة الروح على الجسد.
وفي قراءته للجسد في الفكر الغربي كشف عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو عن تلك الرؤية المجنسنة التي اخترعها العالم الاجتماعي للجسد، والتي عملت على استدماج للإدراك يشتمل(على كل الأشياء في العالم، وفي المقام الأول على الجسد نفسه في حقيقته البيولوجية)(2) بغية تبرير إخضاع المرأة لهيمنته عبر بناء الجسد الأنثوي بناء مجنسنا مستمدا من حقائق البيولوجيا. لكن التحول الكبير الذي طرأ على النظرة إلى الجسد جاء مع فكر الحداثة الذي عمل على أن إشهارهذا الجسد لحضوره القوي، وأن يتحول(إلى مصدر ثري لتوليد وصياغة الصور البيانية، وإلى بؤرة لشبكة علامات واسعة بعد أن ظلت علاماته طوال تاريخها ممنوعة من التداول، وممنوعة عن الدلالة، فلم تمتلك بالتالي سيموطيقياها الخاصة بها، بل إن الأمر ارتد إلى الجسد نفسه، الذي صار بحق محور مكبوتات الـ«الوعي»، فلا يتحرك إلا خفية ولا يستعلن إلا رمزا)(3).
وهكذا فإن الجسد في الفكر الحداثي لم يعد مجرد حامل لصيغة وجود(الأنا)، وإنما تحول إلى (فاعلها البديهي، فبالجسد توجد الأنا، وفيه يسكن عدمها، وعليه يقع قمع المجتمع لها، وذلك لسبب واحد ووحيد هو أن الجسد طاقة حرية، ليست الجنسانية غير وجه من وجوهها المتعددة، ومن ثم قامت علاقة التناقض بين الجسد والسلطة تأسيسا على تناقض مبدأ وجود كل منهما: الحرية… مطلق الحرية)(4). إلا أن بعض فلاسفة ما بعد الحداثة عملوا على منح الجسد قيمة كبيرة، وأعطوه دورا مركزيا على صعيد النشاط الإنساني، حتى إنهم اعتبروه أصل الفلسفة، وأصل كل النشاطات الأساسية، في حين رأى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن الجسد قد تحول إلى صورة مجازية أساسية في العصر الحديث، وفي المادية الصلبة والحداثة أيضا.
ولما كانت المرأة بعيدة أو مستبعدة عن التعبير عن صياغة تلك المفاهيم والرؤى والمواقف التي كانت تجسيدا للرؤية الفكرية للآخر/ الرجل إلى جسد المرأة وموقفه منه، حيث تم اختزال وجودها وكيانها كله في جسدها الذي غدا رمزا لضعف المرأة ودونيتها وللخطيئة، فقد سعت الحركة النقدية النسوية جاهدة قبل كل شيء إلى تكريس حق المرأة في استرداد ملكيتها على جسدها أولا، والعمل على إعلاء قيمته وجعله مصدرا ثريا لبلاغة الاختلاف، ولذكاء المرأة وإبداعها بصورة تسترد المرأة معها ثقتها بذاتها.
الجسد في النقد النسوي :
احتل موضوع الجسد في الحركة الأدبية والنقدية النسوية الغربية، ومن ثم في الحركة النسوية العربية مكان الصدارة، وكان أول ما سعى إلى تحقيقه هو إعادة النظر في سلم القيم الاجتماعية والثقافية السائدة، والتي جعلت من المرأة كائنا ضعيفا ودونيا إزاء الرجل، فكان التوجه مركزا على (الانتقال إلى مرحلة اكتشاف الأنوثة بوصفها قيمة خاصة، والاحتفاء بالجسد كمكون أساسي من مكونات الهوية الأنثوية)(5). وكرد اعتبار للخصائص البيولوجية لجسد المرأة، التي عمل الفكر الذكوري على تبرير سلطته عليه وإخضاعه لهيمنته عليه، من خلال صفات الدونية والضعف التي وسمه بها، عمل النقد البيولوجي الغربي الذي يمثل أحد أبرز التيارات النقدية النسوية على رد الاعتبار لجسد الأنثى من خلال إعلاء قيمته باعتباره مصدرا للتفوق وليس للضعف، ويمثل بالنسبة لها ثروتها وملاذها وقيمتها الذاتية الغائبة أو المغيبة. من هنا فقد ذهبت بعض ممثلات هذا التيار إلى حد تقديس هذا الجسد وتبجيله،. لقد أصبحت وظيفة الجسد من وجهة نظر النقد البيولوجي هي(قراءة الشفرات أنثويا، وبيان التصنيفات ذات الدلالات المتنوعة التي يمكن للجسد أن ينتجها. وهكذا أصبح الجسد من جهة نصا يمكن قراءته، ومن جهة أخرى أيقونات يمكن تأويلها إلى معان مختلفة، بل هو أيقونة داخل النص يمكن توظيفها أو تأويلها ثقافيا واجتماعيا. وهناك مسارات متعددة للجسد وعملية إشهاره ثقافيا)(6).
من جهة أخرى اهتمت جوليا كريستيفا بدراسة مادية الجسد عند المرأة، وما يتصل به من دوافع ورغبات وإفرازات ونبض، حيث اعتبرت(الذكورة والأنوثة مواضع معينة للذات تشكلت بفعل عوامل خارجية، ولا علاقة لها بالاختلاف البيولوجي)(7). ولذلك رفضت مفهوم الهوية الأنثوية والهوية الذكورية بوصفهما مفهومان متعارضان.
أما هيلين سيكسو فقد رفضت تلك الثنائية الجنسية عند وولف ودعت إلى ثنائية جنسية أخرى تولد الاختلاف بدل أن تلغيه. لقد سعى النقد البيولوجي النسوي بدأب وإصرار على استحضار المعاني المغيبة لبيولوجية المرأة باعتبار أن هذه البيولوجيا هي الأساس الجسماني لذكاء المرأة.
لقد رأى النقد النسوي في الجسد لغة يمكن قراءتها بوصفه(منظومة علامات، كل علامة هي عرض وكل عرض من هذه الأعراض يأخذ صورتين: صورة الدال وصورة المدلول وعندما يتحدان يصبحان صورة أيديولوجية(أيديوم). ويمكننا أن نميز في عرض الجسد وإشهاره كفاءتين الكفاءة السردية، والكفاءة الخطابية، فجسد المرأة هو وحدة أيديولوجية تشكل وحدة فصل بين ميدانين: النظام الشكلي القائم على مظهره، والنظام التواصلي الذي يمكن للجسد عبر حركات معينة الإبلاغ عنه)(8).
وبينما عملت الثقافة الأبوية التقليدية على تكميم جسد المرأة وتشييئه وتحديد وظائفه البيولوجية والاجتماعية، فقد طالبت الكاتبة فرجيينا وولف بضرورة توحد المرأة جسدا وفكرا، وأن تكون قادرة على التعبير عن كل ما لديها جسدا وفكرا، الأمر الذي يجعل الكتابة بالنسبة لها بمثابة فعل تحرير للذات، ووسيلة لتحقيق وحدة هذه الذات والتعبير عن كامل وجودها وهويتها، وبما يحقق إقامة علاقة الجمالية مع العالم والأشياء.
الجسد في الرواية النسوية :
إن استئثار الجسد بحضوره الخاص في الرواية النسوية ينبع من أسباب متعددة، بعضها يعود إلى(أسباب متصلة بنظرة المجتمع إلى الجسد عموما وما ولده ذلك من إحساس عند المرأة، من أنها مرغوبة على مستوى الجسد، وليس لشيء غيره. وهكذا فإن السبب الخاص بشعور المرأة يترتب ضمن نسق ثقافي شامل تفضي هيمنته إلى اختزال الأنوثة إلى مجرد جسد)(9).
في حين أن السبب الآخر المناقض للأول فيتأتى من داخل الوعي النسوي الذي يرى أن اتخاذ المرأة من الكتابة(وسيلة لحل متناقضاتها مع الرجل أو المجتمع بشكل عام، قد اتسم بتفجر طاقاتها الجسدية الأنثوية، أي اتخذ من اختلاف الجسد وطبيعته منطلقا لعرض قضيتها)(10).
ومما يلحظ في هذا المستوى أن هذا الوعي المركز بالهوية الأنثوية بدأ مع بداية اكتشاف المرأة لجسدها بوصفه قيمة تستمد منها غناها، ويجب استرداد حريته وملكيتها له باعتباره عنوان هويتها الأنثوية، وأساس كينونتها ووجودها، على خلاف ما كانت تكرسه الثقافة الأبوية من مفاهيم تجعل من المرأة كائنا ضعيفا وملحقا بالرجل. لكن الغريب أن تعرف المرأة إلى عالم جسدها وخباياه ومجاهيله المسكونة بالإثارة واللذة، كما تجلى عند العديد من بطلات الرواية النسوية من خلال العلاقة مع الرجل، الذي قادها إلى اكتشاف أغواره وأسراره وجغرافيته الحسية المسكونة بالإثارة، ما كشف عن رؤية جديدة ووعي جديد به بعد أن ظل زمنا طويلا مناطا بالوظائف البيولوجية والاجتماعية المرسومة له في مجتمع أبوي اختزل المرأة في صورة جسدها ووظيفته الجنسية الشهوانية والبيولوجية.
لقد جعل الوعي الجديد بالجسد عند المرأة على حد تعبير سعيد بنكراد بعدا بؤريا تتمظهر فيه الذات الأنثوية وتدور حوله كل الأشياء لأنه(الشكل الذي تنطلق منه، وتلتقي عنده كل الأشياء. إن الجسد حاضر في كل شيء…. وكل شيء يدور حول الجسد، ولا شيء يوجد خارج ما تشير إليه الكلمات والأوضاع، أو ترسمه الأفعال من صورة «اللذة»)(11)، كما إن الجسد أصبح مساويا للهوية الذاتية عند المرأة ما جعله يحتل مساحة واسعة في السرد النسوي المشغول بهموم المرأة وبحثها عن ذاتها ودفاعها عن حريتها ووجودها، الذي تحاول تحريره من الاستبداد الذكوري والنظرة الدونية إليه، للخروج من الهامش الذي ظل ملحقا بالمتن الذكوري.
أما على صعيد السرد الروائي النسوي، فإن (قراءة الفعل الإنساني عبر «مقتضيات الجسد» الحسِّية، هي التي أدت بهذا الجسد- كما سبقت الإشارة إلى ذلك- إلى أن يكون مادة السرد الأولى والأخيرة. إنه النقطة التي تتولد انطلاقا منها الموضوعات)(12). حيث أصبحت اللغة والخيال في الكتابة النسوية وسيلتين للتعبير عن الرغبة النسوية القوية في الانفتاح جسديا على الحرية والتجدد والعالم والذات وأداة لاكتشاف تلك الذات واستحضار معانيها المادية والرمزية والروحية.
وإذا كان انشغال الرواية النسوية المكثف والعميق بموضوع الجسد، ومحاولة توحد الكتابة معه في تلك التجارب قد كشف عن سعي حثيث لردّ الاعتبار له، وجعله مصدرا للشعور بالتمايز والاعتزاز بالكينونة الأنثوية، فإن هذا الانشغال والتمركز حوله عبر ما قدِّم من تمثيلات سردية له في الروايات النسوية مقترنا باللذة، قد اختزل المرأة في صورة أحادية هي صورة الجسد الأنثوي في مواجهة الجسد الذكوري، الأمر الذي يجعل هذا السرد النسوي يختزل وجود المرأة في جسدها باعتباره جسدا مرغوبا به وموضوعا للإثارة والشهوة، ويعيدنا مرة أخرى إلى تلك الثنائية المتقابلة التي رسمتها الثقافة الذكورية للعلاقة بين الرجل والمرأة، ولذلك فإن الاستغراق في عالم الجسد بعيدا عن ارتباطه الوثيق والحي بقضايا المرأة والواقع على مختلف الصعد الاجتماعية والوجودية والثقافية، يجعل وعي المرأة بجسدها ناقصا، ويختزلها فيما حاولت التحرر منه للانفتاح على ذاتها وكيانها الإنساني الشامل وسط محيطه العام الذي تعيش فيه، وتتداخل معه دون أن يعني ذلك تجاهل انشغالها به أو الاحتفاء به وتحريره من قيوده التي فرضتها الثقافة الذكورية عليه بوصفه تابعا ومنفعلا ليس إلا.
علوية صبح :
جسد الحب،الجسد المقموع :
في أعمالها الروائية الثلاث مريم الحكايا ودنيا واسمه الغرام تبدو صبح مشغولة بموضوع الجسد الأنثوي في تجلياته وتعبيراته المتعددة، التي تشي بمظاهر مختلفة من الوعي الأنثوي التي تجعل علاقات الأنثى بجسدها تتخذ مسارات متباينة، وتكتسي دلالات ومظاهر مختلفة، يجري التعبير عنها غالبا من قبل شخصياتها الأتثوية بصورة مباشرة وصريحة، بل إن هذا الحضور المكثف والطاغي لموضوع الجسد بات يشكل البؤرة المركزية في بنية عالمها السردي الحكائي، نظرا للدور المحوري الذي يلعبه في حياة بطلاتها، وفي أحداث الرواية وحركة تناميها، وفي علاقة الشخصيات مع بعضها البعض، كما يتجلى ذلك في حياة بطلات رواياتها وعلاقتهن مع بعضهن البعض من جهة، ومع الرجل والواقع الاجتماعي والثقافي المحيط بهن من جهة أخرى، حتى يغدو الجسد بمثابة بطل الرواية وفاعلها تارة، أو المفعول به تارة أخرى وفق ما تكشفه طبيعة وعي الشخصيات الأنثوية بذاتها وكينونتها.
لكنه قبل استكناه مضامين ودلالات هذا الوعي الأنثوي ومعاني هذا الحضور الطاغي للجسد في أعمال الكاتبة المختلفة لابد من الإشارة إلى التداخل المفهومي الحاصل عند الكاتبة بين مفهومي الجسد والجسم، إذ تتعامل مع المصطلحين بمعنى واحد يشفّ عن وعي غائب بالتمايز القائم بينهما على مستوى الدلالة والكينونة والوجود، فإذا كان الجسم هو وجود مرئي ومحسوس، فإن الجسد يمثل بناء رمزيا وذا هوية وكينونة مكتسبة، لكن لا وجود لأحدهما دون الآخر وإن كان وجود الجسم هو السابق، في حين أن وجود الجسد يتشكل لاحقا من خلال وعي الإنسان بكينونته وذاته.
في روايتها اسمه الغرام تتسم علاقة بطلة الرواية نهلا بجسدها بالإعجاب الشديد والتمجيد النابع مما يشكله على مستوى وجودها من معادل موضوعي لحياتها وهويتها الأنثوية، بعد أن استردت ملكيته وحريته، وقد جرى التعبير عن ذلك من خلال إصغائها لصوته الداخلي، والاستجابة لرغباته وحاجاته بعيدا عن أي مصادرة أو ترويض له خارج إطار الاستجابة العاطفية، كما تجلى ذلك في علاقتها مع هاني المسيحي الذي ينتمي إلى دين مخالف لدينها، لأن الحب أو الغرام كما تسميه نهلا هو القيمة الحقيقية التي تمنح تلك العلاقة معناها وروعتها وسحرها، بحيث يستحضر الجسد عبرها ومعها أجمل ما فيه من مشاعر الحب والتدفق الحسي العميق باللذة والفرح على خلاف ما كان يحصل معها على مستوى العلاقة الزوجية التي كانت تفتقد لتلك الحرارة وهذا التوهج الحسي والعاطفي (جسمي الذي أحبه حبا هائلا، حبي لحياتي، كنت أحسب أنه نظيف وكريم عليّ وعلى هاني حتى حين أقمت علاقات عابرة لم أشعر بأني أمتهنه) (13).
وتعود علاقة نهلا مع جسدها إلى ما قبل علاقتها بهاني، إذ كانت تقوم على الحب والإعجاب والتمجيد النابع من الشعور بتكامل ذاتها ووجودها جسدا وروحا، ما يجعلها دائمة الاهتمام به والرعاية له على خلاف بعض الشخصيات الروائية الأخرى، التي يستدعيها وجود شخصية نهلا أوتعليقها على أحداث الرواية، الأمر الذي يثير دهشة نهلا واستغرابها من مواقف النساء المتباينة والمتناقضة حيال أجسادهن، وما يمثله لهن على مستوى العلاقة معه من شعور بالدونية والدنس والضعف على الرغم من تباين الأعمار والأجيال فيما بينهن، كما تعبر نهلا على ذلك بقولها: (تحِّيرني علاقة البنات بأجسادهن. أرى كيف يتعاملن معها تارة كأنها أكفان، ومرات كأنها أشياء لا تخصهنّ، تفرض عليهن فرضا منذ الولادة، يخفن منها في الأيام العادية، ويكرهنها وينفرن منها أثناء العادة الشهرية، تصفها عمتي رقية بـ«عادة الشؤم والبلاوي والمصايب» وتنعتها أمي بالنجسة)(14). إن هذا الوعي النسوي الذي ينعكس سلبا على علاقتهن بأجسادهن، لاسيما عند الجيل الأقدم من النساء يكشف عن مدى الاغتراب الذي تعيشه المرأة على مستوى وعيها بذاتها وبكينونتها الأنثوية بفعل الثقافة الدينية والاجتماعية المكرسة في المجتمع الذكوري والتربية التي تتلقاها المرأة في المجتمع، ما ينعكس سلبا على تلك العلاقة ويجعلها تشعر بالدونية تجاه الرجل من جهة، ومن جهة ثانية تفقد اتصالها الجمالي معه خارج إطار الوظائف المناط بها من قبل المجتمع. ويمكن القول أن مؤسسة الزوج التقليدية هي التعبير الأوضح عن اختلال العلاقة الجسدية والعاطفية بين الرجل والمرأة من جهة، والمرأة وجسدها من جهة ثانية، نظرا لما تعيشه نساء الكاتبة ضمن مؤسسة الزواج من حالات انفصال وعجز عن التواصل الحي مع أجسادهن، التي تتبلد وتفقد شعورها باللذة خلال الاتصال الجسدي الحميم مع الشريك بسبب تجاهل الزوج لرغبات الجسد الأنثوي وإهماله لقيمته وعدم التفاعل العاطفي معه، واستثارة مكامن اللذة والفرح فيه، أو نتيجة حالة الضعف الجنسي التي يعاني منها الرجل، كما هو حال بطلتها عزيزة التي تستعيد تناغم تلك العلاقة وانسجامها وتفتحها بعد وفاة زوجها، التي حررتها من بؤس تلك العلاقة وخيباتها على المستويين الروحي والجسدي، ومن حالة الانفصام التي كانت تعيشها معه، بل هي تستعيد اكتشاف جسدها من جديد، وكأنها تراه للمرة الأولى وتتعرف إلى مكامن الجمال والألق التي كانت تجهل وجودها فيه سابقا(أمام المرآة المثبتة إلى جانب البانيو شعرت كأنها ترى جسدها للمرة الأولى في حياتها عندما وقفت عارية تتأمله، وهي تنشفه. قبضت على ثدييها ولصقتهما ببعضهما البعض. ثم جالت ببصرها على كل جسمها…. أحست بتلك الموسيقى وسمعتها وهي واقفة تتأمله في المرآة، ثم صارت تتصنت عليه وتستمع إليه وهو يحكي، بينما كانت في السابق هي من يحكيها، مثلما تفعل أمي، ويبقى صامتا لا يجيب)(15). يلعب الحب والرجل على مستوى علاقة المرأة بجسدها دورا مفتاحيا للتعرف على محددات تلك العلاقة الثرية بالحب والتفتح واللذة عند بطلتيها نهلا وعزيزة، حيث يسهم حوار العاطفة والحب بين جسد المرأة والرجل إلى وسيلة لاكتشاف مجاهل الجسد الحسية واتخاذه معنى مسكونا بالفرح والجمال والتفجر الحسي اللذيذ(كان هاني أول من عرَّفني إلى جسمي، وجعلني اكتشف كل تفصيل فيه. أول مرة لامسني ولفحت أنفاسه أذني سرت فيّ قشعريرة لذيذة وصرخت)(16) إن جدل تلك العلاقة بين جسد المرأة وجسد الرجل يجعل كلا منهما دليل الآخر للتعرف على عالم جسده الحافل والمثير والطيب، حيث تمنح تلك العلاقة جسديهما معنى جديدا وقيمة كبيرة يستمدانها من ثراء الحالة العاطفية وتناغم جسديهما وتدفقهما العفوي والحر(كنت أشعر بأنه يعرفني إليه، كما أعرّفه إلى جسده) (17). مقابل هذه الحالة يظهر الجسد المقموع والمدجن وجسد الخطيئة نقيضا لجسد الحب نظرا لما يكشف عنه من حالات عطب وانفصال تعيشها الشخصيات الأنثوية على مستوى العلاقة مع الجسد نفسيا ووجوديا، وما تفصح عنه من اختلال على مستوى وجودها ووعيها لذاتها بفضل سلطة القمع والمصادرة للواقع الاجتماعي والثقافي الذكوري المهيمن، وما ينجم عنه من غياب للشعور بالقيمة الإنسانية والجمالية التي يمثلها جسدها بالنسبة إليها خارج إطار الوظيفة والدور المناط به من قبل هذا المجتمع. وقي ظل علاقات مستبدة وقيم مفروضة تتحول النساء إلى ضحايا، تتنوع أسباب معاناتهن ولكن المأساة واحدة، كما تكشف عن ذلك شخصيات روايتها (دنيا) النسائية دنيا وصديقتيها دلال وفريال ووالدتها، إذ يمثلن جميعا شخصيات معطوبة الجسد ومهزومات يستسلمن لقدرهن بسبب العجز عن مواجهة شروطه وقوانينه الجائرة، أو بسبب غياب الوعي الذاتي عند المرأة وتدجينها من قبل المجتمع، بل وتحويلها إلى أداة تدجين، وهكذا نجد شخصية دلال وشخصية والدة زوجها المتوفي تلغيان أي وجود أو رغبة للجسد بعد وفاة زوجيهما تعبيرا عن إخلاصهما لهما ووفاء لذكراهما، وسعيا وراء تقدير المجتمع وإعجابه بتبتلهما، فدلال التي تعمل على قمع جسدها ومصادرة رغباته وحاجاته الحسية والعاطفية والروحية، تتنكر له وهي في أوج عمر التفتح والاندفاع والرغبة لجسدها من خلال ما تمارسه من تغيّيب وخنق له، إذ تعمد إلى (لف جسدها بالخجل والوحدة، وصار مغطى بطبقة ضبابية كثيفة من الحزن، لم تعد تلتفت إليه، وإن صادف ولمحته بعد أن يقع نظرها عليه وهي عارية تزيح بصرها عنه خائفة من رائحة الخواء والوحشة التي تشمها وتحسها في الأماكن المهجورة والمنسية. وإن حاولت يداها أن تلمسا أي مكان في ذلك الجسد المهجور يحمرّ خداها خجلا)(18). أما الشخصية الثانية دنيا التي هي بطلة الرواية وراوية الحكاية والتي يصاب زوجها بشلل نصفي خلال الحرب الأهلية يكون عليها أن تتحول إلى جسد متلق ومنفعل في إطار ما تمليه عليه رغبات وشهوات زوجها مالك في بداية زواجهما، لكنه بعد أن يصاب بشلل نصفي يكون عليها أن تتحول إلى خادمة وممرضة له رغم قسوته بسبب تهديده لها بالطلاق وحرمانها من ابنتها الصغيرة، ولذلك تعبر عن رغبتها في الانتقام من سطوته وقمعها لها بالقسوة التي تبديها سواء وهي تقوم بتحميم جسده المعطوب الذي كان يمارس عليها سطوة حضوره وجبروته، أوعبر تجاهل رغبات جسده، فللجسد لغته التي يعبر فيها -كما تقول دنيا – للتعبير عن كراهيتها ورفضها للاتصال الجسدي معه(حرارة الرغبة عندي جفت من وهج الكراهية مثلما تجف بركة ماء من وهج شمس حارقة. كان يشعر بذلك من حركة التفاف جسمي على بعضه فوق السرير ومن تكوره وانطوائه في عزلته داخل جسدي)(19)، ويتخلى عشيق فريال عنها، في حين أن الأم تلغي أي وجود لجسدها وتحجر عليها، وكأنه شرُّ يجب أن تحصِّن نفسها ضدّه حفاظا على سمعتها واحترام الناس لها بعد ترملها.
الهوامش
(1) نسائي أم نسوي- شيرين أبو النجا- مكتبة الأسرة القاهرة 2002 – ص127.
(2) الهيمنة الذكورية- بيار بورديو- ترجمة سلمان قعقراني- المنظمة العربية للترجمة- بيروت 2009-ص 28.
(3) العنوان: سيميو طيقيا الاتصال- د. محمد فكري الجزار- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1998- ص74.
(4) العنوان سيميوطيقيا الاتصال- دز محمد فكري الجزار……. المرجع السابق- ص75.
(5) السرد النسوي- د. عبدالله إبراهيم- المؤسسة العربية للنشر- بيروت 2011- ص 217.
(6) مجلة تايكي- عمان/ الأردن – عدد خاص بالكتابة النسوية- العدد الثامن عشر- عام 2004.
(7) النسوية وما بعد النسوية- سارة كامبل- ترجمة أحمد الشامي – المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2002- ص 254.
(8) مجلة تايكي- العدد الثامن عشر- الأردن- 2004.
(9) مجلة عمان – د. عبدالله إبراهيم- العدد38- السنة الرابعة- الأردن –
(10) مجلة القاهرة- العددان178-179- سبتمبر / اكتوبر- 1997.
(11) النص السردي: نحو سيمائيات للأيديولوجيات- سعيد بنكراد- دار الأمان- الرباط 1996- ص111.
(12) النص السردي- المرجع السابق…. ص133.
(13) اسمه الغرام- علوية صبح- دار الآداب- بيروت 2009- ص 23
(14) اسمه الغرام- علوية صبح… مرجع سابق- ص 88.
(15) اسمه الغرام- علوية صبح……..مرجع سابق- ص 186/189.
(16) اسمه الغرام- علوية صبح… مرجع سابق- ص 25.
(17) اسمه الغرام- علوية صبح… مرجع سابق- ص 150.
(18) دنيا- علوية صبح- دار الآداب- بيروت 2006- ص 144.
(19) دنيا- علوية صبح… مرجع سابق- ص 120
مفيد نجم
ناقد من سورية يقيم في الامارات