يهدف هذا البحث إلى الوقوف على أسباب رفض أحد أنواع الرواية, الرواية العاطفية, من قبل النقاد, والأسباب التي تجعلهم يصفون هذا النوع بافتقاده صفة »الأدبية«, التي تسم أنواع الرواية التاريخية والإجتماعية والسياسية. سوف يأتي البحث على التفريق بين الجنس والنوع, مبينا أن للرواية كجنس, خصائص عامة تشترك فيها جميع أنواع الرواية, وأن لكل نوع روائي خصائصه أيضا, التي تميزه عن بقية الأنواع الروائية الأخرى. ستكون رواية الطريق المسدود لإحسان عبد القدوس نموذجا على الرواية العاطفية, ومن خلال التحليل, نبين خصائص هذا النوع.
الجنس والنوع الروائي
في خضم المنتج البحثي الخاص بالرواية العربية, نجد إما صمتا تاما, أو هجوما غير مبرر, على ما يعرف في حقل الأنواع الأدبية بالأدب الشعبي, بمعنى الرائج popular الذي يقبل عليه جمهور القراء, لا بمعنى الموروث الحكائي الشعبي من مثل ألف ليلة وليلة. فالرواية, كجنس أدبي, ولفظة جنس, كما يقر ابن منظور, أعم من لفظة نوع, تضم أنواعا متعددة مثل الرواية التاريخية, والإجتماعية, والسياسية, والبوليسية, والمغامراتية, والعاطفية, والخيالية العلمية..الخ, وبالرغم من تعدد الأنواع الروائية, إلا أن معظم الدراسات النقدية تركز على الأنواع الروائية التاريخية والإجتماعية والسياسية, وتتجاهل الأنواع الأخرى, وكأنها لا حضور لها في الساحة الأدبية العربية, مما يدعو للتساؤل عن أسباب هذا الموقف النقدي.
من المسلم به نقديا أن الرواية تختلف عن الشعر أو المسرحية أو غيرهما من الأجناس الأدبية, حيث أن لكل جنس خصائص عامة تميزه عن غيره. فغير المشترك »بين الأجناس« هو الذي يكشف عن خصوصية الجنس, لأنه يوقف عما ينفرد به, أي, ما يعطيه شكله وتميزه« (1). وبالرغم من وجود قاسم مشترك بين أنواع النوع الواحد, إلا أن هذا لا يعني أن كل الأعمال التي تنتمي إلى جنس واحد مثل الرواية, على سبيل المثال, توظف هذه العناصر بأسلوب مماثل. فوجود علاقات مشتركة لا ينفي وجود غير المشترك. بل ان التعامل مع هذه العناصر يخضع بالدرجة الأولى لتقاليد الجنس: الرواية, ثم لتقاليد النوع: الرواية التاريخية أو الرواية العاطفية أو رواية الخيال العلمي, وثالثا لخصوصية المؤلف والتي تتفاوت من عمل لآخر, ومن حقبة تاريخية لأخرى, ومن جمهور قارئ لآخر. من هنا فإن لكل نوع خصائصه التي تميزه عن غيره من الأنواع الروائية الأخرى, والتي تمنحه استقلاليته, ولكن ضمن حدود التقاليد الأجناسية والأنواعية. وهذا ما أشار إليه تودورف حين أكد على ضرورة اكتشاف القاعدة التي تعمل عبر العديد من النصوص والتي تسمح بإدراجها ضمن نوع ما(2). والخاصية المشتركة بين النصوص أو أعمال النوع الواحد قد تكون موضوعية أو كيفية بناء الحبكة, أو كيفية تطور الحدث, أو خصائص أسلوبية ما, أو استخدام لغوي بطريقة معينة, أو ترتيب الوحدات النصية, أو تنميط الشخصيات, أو وجود أيديولوجيا ثابتة, الخ, مما يؤدي إلى خلق »سنة« أنواعية يتبعها الكاتب. وإن كانت الأنواع الروائية تختلف في خصائصها نظرا لاختلاف تقاليد النوع الروائي الذي تنتمي إليه, فما الذي يؤدي إلى احتلال نوع روائي, كالرواية التاريخية مثلا, المركزية الروائية, بينما يبقي نوع آخر, كالرواية العاطفية أو رواية الخيال العلمي على سبيل المثال, في الهامش? وإن كان للتطورات التي تمر بها الأنواع الأدبية دور في موضعة النوع الأدبي في المركزية أو على الهامش فما الذي يجعل الرواية العاطفية تحتل الموقع الهامشي في تاريخ الرواية العربية?
بما أن الورقة تركز على الرواية العاطفية فلا بد من الإشارة, إلى أن الدراسات القليلة المتوافرة حول هذا الموضوع تقتصر على دراسة الرواية العاطفية في بدايات نشوء الرواية كنوع أدبي في الثقافة العربية, خاصة المصرية, ولا نجد اهتماما بما أنتجه الكتاب, من مثل إحسان عبد القدوس, ومحمد عبد الحليم عبدالله, وغيرهما, في فترات لاحقة(3). من هنا فلا بد من مراجعة الموقف النقدي من الروايات العاطفية في مطلع القرن العشرين, وأثر ذلك في الموقف النقدي المعاصر.
الرواية العاطفية في مطلع القرن
واليوم وموقف النقد منها
كان الكاتب العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, أمام تيارات فكرية وأدبية ونقدية متعددة, أحدها يدعو إلى تمثل الموروث القصصي القديم, من مثل المقامة, وآخر يدعو إلى الإستفادة من الفنون الأدبية الغربية كالرواية وتمثلها في الأدب العربي(4). وممثلو التيار الأول, وبتأثير من حالة الفوضى التي أصابت جميع جوانب المجتمع آنذاك, حاولوا الحفاظ على الهوية الثقافية, والخصوصية الأدبية العربية, التي أدرك مناصرو هذا التيار, أنها باتت تعاني من الضعف والانهيار والاستسلام أمام كل ما هو غربي. بالإضافة إلى توحد الموقف الأدبي هذا مع الموقف السياسي الرافض لكل ما هو غربي, أو مرتبط بالمحتل, مما تسبب في إبطاء حركة التطور الأدبي آنذاك لفترة وجيزة. أما التيار الآخر فقد دعا إلى استلهام الفنون الغربية وتمثلها, خاصة, في ظل انقطاع علاقة القراء بالموروث »القصصي« العربي, وإقبالهم على الأعمال المترجمة. وقد وصف عبد المحسن بدر هذه المفارقة بقوله: »الطابع الثقافي لهذا العصر يتمثل في انقطاع الصلة بين ثقافة العصر وبين التراث الأصلي للثقافة العربية الكلاسية في شتى مجالاتها الفكرية والأدبية من ناحية, وانقطاع الصلة بينها وبين جماهير الشعب من ناحية أخرى« (5). وهذا يعني أن الأنواع الأدبية, التي عرفتها الثقافة العربية آنذاك, كانت غير قادرة على جذب القراء والتواصل معهم, بينما تمكنت الأعمال المترجمة من تحقيق ذلك التواصل. وهذه القطيعة بين الأنواع الأدبية العربية والقارئ العربي, أدت إلى إقبال الكاتب والقارئ على الأدب غير العربي, خاصة الفرنسي والإنجليزي(6), مما أدى إلى نشاط حركة الترجمة الأدبية, خاصة في مجال الرواية, والذي أدى إلى, ليس فقط نشوء المجلات والصحف, بل واهتمامها بالأدب المترجم استجابة لحاجات القراء.
كانت المجلات والصحف التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, تعرض على صفحاتها روايات مترجمة, وكانت أساليب المترجمين مختلفة: بعضهم يميل إلى سرد الأحداث الغريبة والمشوقة ضمن عمل قصصي يتم نشره كسلسلة على صفحات المجلة, مما كان يجذب القراء, وبالتالي يضمن حجم مبيعات أكبر للصحيفة أو المجلة, أي كان الهدف ماديا. وكان هم البعض الآخر تلخيص العمل الروائي الغربي أو عرضه, مع كثير من التحريف والتصرف بمجريات الأحداث وأسماء الشخصيات..الخ وهو هدف تعليمي أو تثقيفي.
ويمكننا تقسيم الأعمال التي اهتم المترجمون بترجمتها إلى الأنواع التالية: العاطفية, التي تركز على قصة عاطفية من مثل رواية بول وفرجيني; قصص المغامرات وخاصة البوليسية, مثل شرلوك هولمز; والقصص التي تصور المشاكل الاجتماعية من مثل رواية البؤساء. وبالرغم من اختلاف أجناس هذه الروايات, إلا ان قصة الحب المرتبطة بعنصر المغامرة تشكل عنصرا مشتركا فيما بينها. ويتفق الباحثون أن هذه الترجمات قد تعرضت إلى تشويه وتحريف كبيرين, بالإضافة إلى عدم تقدير المترجمين للجوانب الفنية بشكل خاص(7). وإن كان المترجمون قد أهملوا الجانب الفني في ترجماتهم آنذاك, فإن الأثر الذي تركته هذه الممارسات مازال حاضرا في الذاكرة النقدية. فكل ما له علاقة بالروايات العاطفية والبوليسية والمغامراتية يعد غير فني وغير أدبي, نظرا لما ارتبط بهذه الأنواع من نظرة سلبية في الحقبات التاريخية السابقة.
هنا, لا بد من الإشارة إلى وجود تشابه كبير بين موقف النقد العربي من الرواية المترجمة, التي أقبل عليها القراء آنذاك, وبين موقف النقد العربي المعاصر من أنواع الرواية العاطفية, والمغامراتية, ورواية الخيال العلمي. ولعل أسباب رفض الروايات المترجمة في مطلع القرن العشرين, لا يختلف كثيرا عن أسباب رفض هذه الأنواع المهمشة اليوم, خاصة العاطفية. ومما يلفت الإنتباه ايضا, وجود تشابه كبير بين موقف القراء من الروايات المترجمة في مطلع القرن العشرين والروايات العاطفية. فالنوعان يتمتعان بإقبال جماهيري كبير, لا يعادله إقبال على أي نوع روائي آخر. والحديث هنا يخص القراء عامة لا النخبة. في هذا السياق, تعد روايات إحسان عبد القدوس من أكثر الروايات انتشارا بين القراء, وفي الوقت نفسه, تكاد لا تحظى بالدراسة والنقد, مما يدعو للتساؤل. هذه الشعبية التي حظيت بها الروايات المترجمة, وروايات عبد القدوس والتي فسرها النقاد بمناسبة هذه الأعمال لمستوى القراء الثقافي »المتدني«, يجعلنا نتساءل عن مدى مصداقية مثل هذه المقولات, خاصة وأن الظاهرة تتكرر لا في مجال الرواية فحسب وإنما في مجال الشعر أيضا, حيث نجد أن أكثر الشعراء شعبية بين القراء, نزار قباني, أتهم أيضا بتوجهه لشريحة ذات مستوى ثقافي »متواضع«. فما الذي يحققه النقد حين يعد كل ما هو شعبي, أي يحظى بإقبال جمهور القراء, »أقل قيمة«? وهل من خصائص مشتركة بين هذه الأنواع »المهمشة« يمكن أن يفسر موقف النقد?
لابد من الإشارة إلى أن الكتاب, ممن أقبلوا على كتابة الرواية في مطلع العشرينيات, ونتيجة إقبال القراء على القصص العاطفية والقصص ذات الطابع المثير المترجمة, ضمنوا أعمالهم قصة غرامية مشوقة, كانت عاملا أساسيا في اجتذاب القراء. واستمرار ظهور العلاقات العاطفية والمغامرات المثيرة في الأعمال الروائية, المترجمة ومن ثم العربية, أدى إلى معارضة هذا النوع حرصا على »أخلاق الأمة«, خاصة قيم الجيل المراهق. من هنا ارتبطت قراءة الروايات العاطفية بمفهوم »مضيعة الوقت«, وأصبحت القضايا المرتبطة بالمشاعر الإنسانية والقضايا العاطفية مرفوضة من المؤسسة النقدية. وهنا نشير أيضا إلى أن أسباب رفض شعر نزار قباني كانت أيضا ؛أخلاقية, قيمية«.
ورفض الروايات أو الأعمال التي تعالج هذه القضايا على جانب كبير من الأهمية, لأنها تؤكد ارتباط الأدب بالواقع والمحيط الثقافي والبيئة المنتجة له. فالأدب الذي يعالج قضايا العاطفة غير مقبول إجتماعيا وقيميا في الثقافة العربية ذات الطابع الإسلامي. وهذا الرفض, أو عدم القبول, ينطبق على أي خطاب أدبي, حديثا كان أو قديما, نثرا أو نظما, روائيا أو شعريا. ومن المؤكد أن الخلاف بين الخطاب الأدبي المرتبط بمفاهيم العاطفة وقضايا الحب يعيش حالة صراع مع الخطاب الإجتماعي المكون للثقافة الجماعية العربية. ولأن الخطاب الجماعي مساند من قبل المؤسسات المجتمعية المختلفية, بما فيها المؤسسة النقدية والنظام التعليمي بشكل خاص, فإنه أكثر تمكنا من الصمود واحتلال المركزية, بينما يدفع بالخطاب المعارض, والذي لا يحظى إلا بمساندة القلة, عادة غير الرسمية, يدفع إلى الهامش, ويبقى في حالة صراع مستمر مع الخطاب المقابل باحثا عن أساليب مختلفة للدخول إلى المركزية.
ولعل القضايا المرتبطة بالحب والعلاقات العاطفية, والمشاعر, التي تضمنتها الروايات المترجمة, والروايات العربية في بداية القرن, لا تختلف عن القضايا التي عالجتها معظم روايات إحسان عبد القدوس, وبعض أعمال عبد الحليم عبدالله, وشعر نزار قباني, والتي اتفق النقاد على عدم ارتفاعها إلى مستوى الأدب »الرفيع«. هنا, نشير إلى أن هذه القضايا مما لا يتفق مع العادات والتقاليد العربية »المحافظة«, التي سعى التيار المحافظ إلى الدفاع عنها وحمايتها, خاصة مع استجابة القراء الشديدة لهذه الأعمال. وإن كان الموقف الإجتماعي مما يمكن تفسيره وفهمه, إلا أن الموقف النقدي, والذي يفترض أن يتعامل مع النصوص حسب إتقانها الفني لخصائص نوعها الأدبي, مما لا يمكن فهمه, مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين الموقف الإجتماعي الرافض لهذه الموضوعات وبين موقف المؤسسة النقدية.
لقد أدى انتشار الروايات المترجمة, خاصة العاطفية منها, أو ذات السمة العاطفية, والتركيز على كل ما هو مثير وجذاب, والإهتمام بالأحداث المشوقة دون الإهتمام بالجوانب الفنية, إلى خلق موقف إجتماعي وأدبي ونقدي (والنقدي مرتبط بالإجتماعي) رافض لهذا النوع الروائي, وبالتالي رفض كل ما تشابه معها, ووصف هذه الأعمال بافتقادها خاصية »الأدبية«. وهذا الإرتباط الوثيق بين النقدي والإجتماعي الأخلاقي أدى إلى التركيز على المكونات »المضمونية« الأخلاقية(8), لا الفنية, لتحديد ما هو جدير, وما هو غير جدير بالدراسة والتدريس في المؤسسات الأدبية والتعليمية العربية, مما ساعد في »مركزة« بعض الأنواع الروائية وإقصاء البعض الآخر.
إن الإعراض عن دراسة هذه الأعمال في بعض الحالات, ومهاجمتها في حالات كثيرة, ووصفها بانعدام »الأدبية«, لدليل على اتفاق خفي بين المؤسستين الإجتماعية والنقدية. فالمؤسسة النقدية, تعمل, وبشكل غير مباشر, هذا بالطبع على اعتبار المؤسسة النقدية واحدة من المؤسسات المجتمعية, على تعزيز المفاهيم التقليدية التي تحافظ على الإستقرار الإجتماعي من خلال تقسيم الأدب إلى أدب »رفيع« وآخر »وضيع«, فتعلي من قيمة بعض الأعمال, وتحط من قيمة البعض الآخر, حسب تأثير كل منهما على القيم والأعراف المتوارثة إجتماعيا أو حسب تهديدها للمفاهيم التي تساعد في الحفاظ على الإستقرار الإجتماعي والمؤسساتي وبالتالي السلطوي. فما خالفها رفض وما وافقها قبل. ومن هنا فإن الروايات التاريخية, على سبيل المثال, والتي لا تشكل خطرا على القيم المتوارثة والمتأصلة في المجتمع, تحظى بالدراسة والإهتمام, بينما تهمش الروايات العاطفية, التي تعرض للحب والمغامرة, والتي قد تقود إلى خروج على القيم والعادات لما تحدثه من أثر في نفس القارئ.
من هنا كانت دعوة النقاد والكتاب في مطلع القرن, إلى تأليف أدب يعبر عن التحديات التي تواجه المجتمعات العربية بما في ذلك أزماتها وهمومها وقضاياها الكبرى, مما يساعد في تثقيف العامة وإرشادهم, بدلا من تسليتهم وإضاعة وقتهم. وبالطبع استجاب الكتاب لذلك, فحاول كل منهم التوفيق بين مطالب النقاد وبين إبداعهم الروائي كل على طريقته الخاصة. ويبدو أن الكاتب, آنذاك, كان في صراع ليس مع التيار المحافظ أخلاقيا وقيميا فقط, وإنما مع عدد من المنظومات الأخرى. فهو في صراع مع المنظومة الأدبية, ففي مقابل الرواية, النوع الأدبي الجديد الذي لا يستند إلى تاريخ – أدبي او نقدي- نجد الشعر التقليدي المستند إلى تاريخ عريق, ونجد أيضا المقامة ذات التاريخ الطويل, مما أدى إلى معاملة الرواية »كوليد غير شرعي« في الأدب العربي. هذا الصراع بين الأدب المركزي: المقامة والشعر, والأدب الهامشي: الرواية, ازداد حدة بسبب الموضوعات التي عالجتها الروايات من مثل الحب والغرام والتحرر. وهنا تبرز سلطة منظومة أخرى, السلطة النقدية الإجتماعية, التي تحاسب الأدب وفق ما هو مقبول وما هو محظور إجتماعيا. ونضيف إلى هاتين السلطة التعليمية, التي تحدد وظيفة الأدب بالتعليم والتثقيف وإفادة العامة. ولا ننسى المنظومة اللغوية, حيث تميل الروايات المترجمة, والروايات العاطفية إلى استخدام لغة بسيطة, تقترب من اللغة المحكية في أغلبها, مما لا يتوافق مع التوجه المحافظ »لغويا« الذي يتعامل مع مفهوم البلاغة والفصاحة تعاملا نظريا, خارج سياق العمل الروائي وتقاليده. وكما سيتضح لاحقا, فإن هذه المعارضات ذات الإتجاهات المختلفة, والأسباب المتعددة, أدت إلى رفض الأنواع الروائية العاطفية والبوليسية وغيرها, بالإعتماد على معايير لا روائية, لا فنية, ولا نقدية.
وقد ترك الصراع الذي شهدته المجتمعات العربية في القرن العشرين بين ما هو ؛موروثي« و»تقليدي« و »تاريخي« عربي, وبين ما هو »حديث« وبالتالي لا تقليدي, ولا تاريخي, ولا عربي, أثرا واضحا على أنواع الرواية. فالمحاولات الروائية الأولى حاولت الجمع بين هذين القطبين, القديم والجديد, وهذا واضح في حديث عيسى بن هشام للمويلحي, وروايات جرجي زيدان التاريخية, ورواية حسن العواقب لزينب فواز. فبينما تأثر المويلحي بالموروث, المقامة, وبشكل كبير, تمكن جرجي زيدان من ترجيح كفة الجديد, الرواية, ووازنت زينب فواز بين هذا وذاك. فالمويلحي يوظف المقامة, ويهدف إلى تصوير عيوب المجتمع المصري آنذاك, وكالهمذاني, يهدف إلى تعليم القراء بشكل أساسي. أما جرجي زيدان فقد جمع عناصر التسلية والتاريخ والتعليم في رواياته محاولا إدخال نوع روائي جديد, الرواية التاريخية, إلى الأدب العربي. أما زينب فواز فقد تأثرت بشكل كبير بما تمت ترجمته عن الآداب الغربية من جهة, والموروث الحكائي العربي من جهة أخرى, فكان عملها ما يمكن تسميته بالنوع الهجين, أي الذي يحتوي خصائص النوعين معا, وتعرضت نتيجة ذلك إلى نقد سلبي شديد من قبل النقاد (9). وهنا نشير إلى ضرورة التعامل مع هذه الأعمال التي تنتمي إلى مرحلة التأصيل للرواية في الأدب العربي وفق معطياتها التاريخية أولا, ووفق تقاليد الأنواع الأدبية ثانيا, آخذين بعين الإعتبار إنتاجها في مرحلة يمكن تسميتها »بالإنتقالية«.
هذا التعارض المستمر بين القديم والجديد, الثابت والمتحول, التاريخي واللاتاريخي, الأخلاقي والفني, الواقعي والأدبي, من الإشكاليات التي تجعل الروايات الشعبية تحتل موقعا هامشيا في المنظومة الأدبية والنقدية العربية الحديثة. إضافة إلى ما تقدم, نشير إلى أن الأبحاث التي تناولت الرواية العاطفية في الأدب العربي, لم تكن تقصد دراسة هذا الجنس لذاته وإنما تعرضت لدراسته باعتباره مرحلة البداية لدخول الرواية إلى الأدب العربي. لذلك, اقتصرت الدراسات الخاصة بالرواية العاطفية على المراحل الأول التي أنتجت أعمالا »مهجنة«, وعلى الروايات المترجمة بشكل خاص, وأهملت المحاولات التالية نتيجة الاهتمام بالأنواع الروائية التي تمت »مركزتها«, مما نتج عنه غياب الدراسة, والتحليل, والنقد, وبالتالي غياب المناهج النقدية القادرة على التعامل مع هذا النوع الروائي ضمن سياقه الخاص.
وحين يتم إهمال دراسة نوع ما, فإن النتيجة هي أستخدام المعايير النقدية المتوافرة, للحكم على كل الأنواع الأدبية, بغض النظر عن موافقتها, أو لا موافقتها, لما يدرس من أنواع أدبية. وإلى أن يعاد النظر في تلك المعايير, فإن النظريات النقدية تبقى قاصرة عن تقديم قراءة منهجية وعلمية لهذه الأنواع »غير التقليدية« (10).
إذن, يمكننا حصر الأسباب التي أدت إلى عدم الاهتمام بالأدب الشعبي عامة, والرواية العاطفية خاصة, إلى الثقافة. والمقصود بالثقافة هنا ما أشار إليه Bygibsy في التعريف التالي: »الثقافة تتكون من معنى عام وآخر خاص. أما العام فيتضمن توجه وقيم المجتمع كما هو معبر عنها من خلال الاستخدام اللغوي والخرافة والمناقب وأسلوب الحياة, بالإضافة إلى المؤسسات »السياسية والدينية والتعليمية. « أما المعنى الخاص … فإنه تدريب وتطوير وتهذيب العقل والذوق والتصرفات« (11). هذا يعني أن المجتمع يخلق مجموعة قيم لا يسمح لأبناء المجتمع بتجاوزها سلوكيا أو أدبيا, ويصبح الذوق العام, بما في ذلك الذوق الأدبي والنقدي, موجها عن طريق المؤسسات المختلفة بما يتناسب والذوق الجماعي العام. فموقف النقاد من الأدب الشعبي, ليس موقفا نقديا علميا, وإنما هو تعبير عن الموقف الجماعي, ويمكن فهمه ضمن تركيبة المجتمع العربي الأدبية والإجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك, تستهدف الرواية العاطفية القراء الناشئين عامة, والنساء بشكل خاص, وهاتان شريحتان مهمشتان في المجتمع العربي, الذي ينظر إليهما نظرة دونية أولا, ويعاملهما على أساس انهما بحاجة إلى الرعاية والحماية الإجتماعية ثانيا, نظرا لنقص في قدرتهما على تحديد ما هو نافع وما هو ضار! وإذا ما ربطنا بين موضوعات الرواية العاطفية, التي غالبا ما تتعرض لموضوعات الحرية العاطفية, وعلاقة المرأة بالرجل, والحب وغيره, وبين الأثر الذي قد تتركه في نفوس الشريحة التي تستهدفها هذه الروايات, والتي تعمل المؤسسات الإجتماعية على برمجتها لتكون من المحافظين على قيم المجتمع التقليدية, تمكنا من تحديد بعض أسباب رفض الرواية العاطفية.
ويبدو أن المنظومة النقدية لم تدرك أن أسباب الرفض هذه, هي ذاتها, من مميزات الرواية العاطفية, ومن خصائص نوعها, والتي لا بد للكاتب من المحافظة عليها. فالقارئ يعتاد على وجود تقاليد معينة, كوجود علاقة حب بين فتاة جميلة وشاب وسيم, مما يعرفه الكاتب ويحافظ عليه أثناء الكتابة, ومما يتوجب على الناقد أيضا أن يدركه ويقبله اثناء تحليله للعمل ونقده. فكيف يرفض النقد إذن هذا النوع الروائي لأنه حافظ على تقاليده?
أما عن دور المؤسسات التعليمية والأكاديمية في إقصاء, أو مساندة, نوع روائي دون آخر, والذي يلعب دورا كبيرا في حركية الأنواع الأدبية أو سكونيتها, فلعله من المفيد أن نسأل, ما هي الروايات التي تدرس في مثل هذه المؤسسات? وما هو نصيب الروايات العاطفية من الدراسات الأكاديمية? الإجابة واضحة وتلقائية. فالروايات التي تدرس هي تلك التي تنال حظها من النقد والدراسة, وهي الروايات التي تم مركزتها, والتي يمكن أن نقول أيضا أنها اصبحت المثال أو النموذج. فأي الجامعات أو الأقسام المتخصصة, تدرس ضمن مناهجها, أو تقبل أن يكون موضوع رسالة ماجستير أو دكتوراة, الرواية العاطفية? إن المؤسسات الأكاديمية بمختلف نشاطاتها البحثية والتدريسية تعمل على حماية الأدب الكلاسيكي وحماية الأدب المقنن أو الممركز, وتحارب الأنواع الجديدة لأنها تشكل خطرا على الهوية الثقافية المتوارثة أو المركزية الأدبية. لهذا كان الكتاب والنقاد يحاربون الرواية, النوع الجديد, في مطلع القرن العشرين, ولهذا السبب ذاته حاربوا الشعر الحر الذي جاء لينازع الشعر العربي التقليدي مكانته, وكذلك حاربوا نزار قباني لمنازعته أساليب الشعر التي تميل إلى جعل الشعر أدب النخبة لا أدب الجميع. وبعد أن تمت مركزة الرواية التاريخية والإجتماعية والسياسية, تم إحلال نوع روائي في الهامش, وكان ذلك من نصيب الروايات العاطفية, ورواية الخيال العلمي ورواية المغامرات. وأصبح من الضروري تقسيم الأدب إلى مركزي وآخر هامشي, وإذا ما تحول أحد الأنواع من الموقع الهامشي إلى المركزي أصبح من الضروري إحلال نوع بديل في تلك الخانة, وهذا ما أشار إليه زوهار Zohar في نظرية الأنظمة المتعددةPolysystem. (21)
كما أن الأدب الشعبي يميل, بحكم تقاليده إلى لغة بسيطة, بعيدة عن الأساليب البلاغية التقليدية, ويتطلب شفافية في التعبير, مما يعني أنه يخالف سلطة اللغة العربية الفصيحة التي ارتبطت منذ نشأتها الأولى بمفهومي البلاغة والفصاحة, مما أضاف إلى الصراع القائم مع المؤسسة النقدية العربية. وهل يختلف موقف النقد الرافض للغة الروايات الشعبية عن موقفهم من لغة أدباء المهجر, والتي اضطرت جبران خليل جبران إلى مقولته المشهورة »لكم لغتكم ولي لغتي«? الأدب الشعبي له أسلوبه الخاص في التعامل مع اللغة, من حيث المفردات, والتشبيهات, والتركيب, والتماسك, والتتابع, مما لا يتفق مع الأساليب والتراكيب والتعبيرات والبنى التي تصلح للأنواع الروائية الأخرى, وبما أن الأنواع تختلف, وأساليبها تختلف فهل من مبرر نقدي لتفضيل اسلوب على آخر? أضف إلى ذلك أن الأدب الشعبي الذي يقترب في لغته من اللغة المحكية, يواجه معضلة لم تستطع اللغة العربية تجاوزها بعد, ألا وهي ثنائية العامية والفصحى, والتي تؤثر على الموقف النقدي من الأنواع الشعبية دون شك. فالغالبية العظمى من النقاد والأدباء يناصرون الفصحى ويرفضون اللهجات المحلية لأسباب متعددة, لا يسمح لنا موضوع البحث مناقشتها, فكيف لهذه الغالبية أن تعترف بحق نوع روائي, يقترب في لغته من العامية, في الظهور والإنتشار? لكن, وبما أن هدف اللغة أساسا هو التواصل والتعبير والإفصاح عما في النفس, فلماذا يرفض استخدام العامية, وهي لغة/لهجة الأكثرية من الناس, في النصوص الأدبية?
نخلص من كل ذلك إلى أن الأدب الذي يتخيره النقاد هو أدب مسؤول ينفع القارئ ويعلمه, ويلتمس شرعيته من السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية. ألا يتفق ذلك مع ما ذكر في جريدة المنار (1898) في مقالة بعنوان الأدب ؛الصحيح«, مما يوحي بوجود أدب غير صحيح, من أن وظيفة الأدب هي »تهذيب النفوس وتحليتها بعد تطهيرها من ادران الرذائل« (13).
يقول ابن خلدون في المقدمة(14): »هذا العلم »الأدب« لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم«. فابن خلدون لم يقر بوجود نوع أو جنس جيد وآخر رديء, وإنما الفاصل بين الجودة ونقيضها هو الطريقة, والتي يشير بالتحديد إلى اتفاقها أو مخالفتها »لأساليب العرب« أو ما سميناه بالأساليب الموروثة. وبما أن لكل نوع أدبي أسلوبه, وطريقته, التي لا بد من الإحاطة بها, والإلتزام بها, وهذا ما عنيناه بالتقاليد, ليكون العمل مكتملا فنيا فأين المشكلة في الأدب الشعبي? أليسوا الأدباء هم الذين يتقنون »كل ما في العصر من الفنون والصنائع في الجملة ليقتدروا على مخاطبة كل صنف من الناس بما يناسب ذوقه ويتصرفوا في كل موضوع بما هو أمس بحالة أهله« كما ورد في المقالة السابقة الذكر في جريدة المنار. فلماذا يقسم النقاد القراء والكتاب إلى »مثقفين«, »أشباه أو أنصاف مثقفين, وصغير مثقفين«? ولو افترضنا وجود مثل هذا التقسيم فما الذي يمنع من وجود أدب خاص بكل شريحة من هؤلاء? ولماذا نعلي من شأن نوع ونقلل من شأن آخر? ألا يرتبط الأمر بالنقاد أكثر من ارتباطه بالنوع الروائي? لكل موضوع طريقته, ولكل صنف من الناس ذوقه, وبالتالي فلا بد من قواعد نقدية تتناسب مع هذه المتغيرات, تتغير بتغير الموضوعات والأسلوب والقارئ, وهذا هو ما يحتاجه نقدنا المعاصر عند معالجته الأدب الشعبي.
إن الرواية الشعبية هي جنس روائي, ولها عدة أنواع سبق ذكرها آنفا, ولكل نوع خصائص لا بد من الإلمام بها في العمل الروائي ليتحقق هدف الكتابة والقراءة. وسنقصر حديثنا هنا على الرواية العاطفية, التي تتوجه, أساسا, إلى مشاعر القارئ وعواطفه, فيؤثر ذلك التوجه في اللغة المستخدمة, وفي الأسلوب, وفي المواضيع المختارة. وينقل الكاتب قضيته أو فكرته إلى القارئ بجعله, عاطفيا, جزءا من العمل. ويتحقق ذلك عن طريق التأثير الفعال الذي ينقل القارئ من عالمه الواقعي إلى العالم الروائي, وهذا الإنتقال هو الذي يقود إلى متعة القراءة, التي تجعل القارئ يقبل على أعمال من نفس النوع, وكأنه يبحث عن تجربة, يعرف مسبقا لذتها, ويريد ممارستها مرات ومرات. وهنا يجب أن لا نخلط بين متعة القراءة وفائدة المقروء. وعلى سبيل المثال, فإن محب الفلسفة يجد متعته في نصوص يجدها هو ممتعة بينما يراها محب الموسيقى غير ذلك, لا لعيب في النص ولكن لإختلاف في الهوى والميول. والروايات بأنواعها المختلفة تعبر عن ميول القراء المختلفة, مما يعني أن فكرة الأفضلية ليس لها أساس. أما فكرة الفائدة فإنها بحاجة إلى إعادة نظر, نتيجة الإرتباط الوثيق بين ما أنتجته العربية من أدب, والذي كان حتى وقت قريب, ذات أهداف تعليمية, مما قد يختلف مع معطيات الوقت الحاضر, والتي تحتاج إلى نظرة مختلفة. وهذا لا يتعارض مع أن القارئ يجد متعة في قراءة أنواع الرواية الأخرى, وإنما الاختلاف في أن المتعة تصبح هدفا أساسيا من أهداف الرواية العاطفية وأمثالها.
لقد عاب النقاد على الرواية العاطفية ما يلي: أولا, أنها خالية من المحتوى الاجتماعي الهادف, وبالتالي فهي مضيعة لوقت القراء. ثانيا, أن الكتاب الذين استجابوا لرغبة القراء لم يكن لديهم مشاعر قوية للتعبير عنها ولم يكونوا على وعي بمشكلات المجتمع المحيط ومتغيرات الحاضر والمستقبل. ومن هنا فإن نقطتين هامتين لا بد من إثارتهما, الأولى: أن هذا النوع الروائي نظر إليه من وجهة نظر نقاد لا يعترفون بشرعية الرواية الشعبية, فكانت أحكامهم شبه صادرة بحق هذا النوع مسبقا وقبل تحليل هذه الروايات لرصد مدى نجاحها أو إخفاقها في تحقيق خصائص النوع المقصود. والنقطة الثانية, أن النقاد عند رفضهم للرواية الشعبية استخدموا موازين تصلح لنقد بعض الأنواع الروائية ولا تصلح لنقد أنواع أخرى, مما يعني بطلان حكمهم لعدم استخدام الموازين والقواعد المناسبة في الحكم. ولعل النتيجة التي توصلوا إليها تشبه النتيجة التي يمكن أن نصل إليها إذا ما حاولنا تقييم الشعر الحر مستخدمين أسس وقواعد الشعر العمودي, مما يقود إلى عدم المصداقية وتحميل العمل الأدبي ما لا يحتمل.
إحسان عبد القدوس في الطريق المسدود:
يمكن تلخيص الموقف النقدي من الروايات العاطفية من خلال موقف بدر من كتاب هذه الروايات حيث يقول: »لم يتثقفوا ثقافة فنية روائية أصيلة, وفي أنهم نظروا إلى رواياتهم باعتبارها وسيلة لتسلية جماهير القراء المتأثرين بالذوق الشعبي, كما تشابهوا إلى حد بعيد في بناء أحداثهم على المصادفة والقدر, وإقامة عقد رواياتهم على المغامرة الغرامية, وتدخلهم المستمر في سياق الرواية بالوعظ والإرشاد والشعر والحكم, وفي تشابه شخصياتهم وعجزهم عن تحليلها, وفي أسلوبهم التقريري ونفورهم من الحوار, وضعف لغتهم بصورة عامة واستخدامهم اللهجة العامية وخاصة في الحوار« (14). هذا الحكم مثال على النظرة النقدية للرواية العاطفية. وسيكون الرد على تلك المقولة من خلال التحليل التالي لرواية الطريق المسدود لإحسان عبد القدوس.
أحداث الرواية والعقدة:
تدور أحداث الرواية حول فتاة اسمها »فايزة«, تعاني مشكلات إجتماعية بعد وفاة والدها, وهي في الثانية عشرة من عمرها, حيث تسلك أمها وأختاها طريقا غير أخلاقي, من وجهة نظر فايزة, يتمثل في دعوة الرجال إلى المنزل, وتناول الكحول, وعقد جلسات الغزل والإثارة…الخ. توافق الأم على تصرفات ابنتيها لتضمن لهما الزواج من رجال أغنياء, وتكون الطريقة لتحقيق ذلك هي الإغراء الجنسي, لكن, دون المس بالعذرية. وتشير فايزة في الرواية أن هذا السلوك ناتج عن عدم وجود رجل في المنزل يسيطر على مجريات الأمور ويصون شرف أمها وأختيها. تقرر بطلة الرواية, فايزة, أن تسلك طريقا آخر, يتمثل في تحصيل العلم كي تخرج من ذلك الإطار العائلي. وتجد الفتاة التي افتقدت حنان الأب ورعاية الأم, في قراءة الروايات العاطفية, التي يكتبها بطل الرواية, منير حلمي, تعويضا عن النقص العاطفي الذي تشعر به. تلتقي فايزة بمنير حلمي في إحدى جلسات والدتها المنزلية. ولأنها كانت تعده مثالا للحب العفيف السامي الذي تحلم به, فإنها تتقرب منه, وتلتقي به في شقته عدة مرات, وتصاب بأزمة ثانية عندما يحاول استغلالها جنسيا, مما يجعلها تتخلى عن فكرة الحب العفيف التي آمنت بها ويزداد إحساسها بفساد الأخلاق. إلا أن ذلك يحثها على الاستمرار في دراستها, فتلتحق بالكلية, وفي تلك المرحلة التي تحاول فيها نسيان كل الخبرات السابقة والنظر إلى الحياة بتفاؤل, تتعرف إلى أستاذ الأدب الإنجليزي, الذي يحاول, من خلال مركزه, أن يستغلها لإشباع رغباته الجنسية, وعندما ترفض, يقف الأستاذ في طريق تعليمها, ويتهمها بتصرفات لا أخلاقية, مما ينتج عنه إجراء تحقيق معها, وتوقع العميدة- التي طالما أعجبت فايزة بها- اللوم عليها, فتصبح في نظر الجميع مجرمة ويبقى الأستاذ بريئا. ومع ذلك, تستمر فايزة في طريقها, وتحصل بعد تخرجها على عمل في إحدى القرى, حيث تتعرف إلى رجل يوافق تصورها عن الشرف والرجولة والفضيلة, وتقوم بينهما علاقة حب, ويطلب الشاب, أحمد, من فايزة الزواج منه فتوافق, إلا أن انتحار الطفل الصغير, الذي أعجب بفايزة وأحبها, يقود إلى اتهامها بقتله, فيتخلى الشاب عن فايزة لما قد يلحق بتجارته وسمعته من ضرر إن هو تزوجها. بعد هذه التجارب التي مرت بها فايزة, تقرر الرجوع عن موقفها وأحلامها والالتحاق بطريق الأم والأختين, ليس للحصول على زوج ثري, وإنما للإنتقام من أكبر عدد ممكن من الرجال. وتعود فايزة إلى لقاء الرجل الأول, منير حلمي, الذي جعلها تصدق بالحب, فتعرض عليه مفاتن جسدها, وتكاد تخسر عذريتها, لولا أن إحساس منير حلمي بتحول جسدها إلى مجرد جسد ميت المشاعر يحدث تغيرا في نفسه, يحوله من المستغل لأنوثتها إلى رجل يسد مكان أبيها, فيوجهها, وينصحها بالاستمرار في طريقها, طريق الشرف, لأنه الطريق الوحيد إلى راحة الضمير, وإن كان مليئا بالعثرات. وتنتهي الرواية بعودة فايزة إلى البحث عن الحب والسعادة ككثير من النساء, كما يقول النص.
هذا ملخص لأحداث الرواية, وفي نظر النقاد التقليديين, فإن روايات كهذه, ليس لها هدف إلا عرض بعض صور الغرام. وكما يقول شكري: »إن إحسان عبد القدوس لا يصور الجنس كمرض اجتماعي, وإنما من خلال نظرته للجنس, يتبنى أسلوب السرد الإخباري, مما لا يلقي الضوء على تلك التجربة« (61). فهل تصدق تلك المقولات على الرواية العاطفية عامة, ورواية عبد القدوس بشكل خاص?
إن مفهوم توظيف الأحداث للكشف عن نفسيات والآم ومواقف الشخصيات, وعن القوى التي تحرك كل ما هو محيط بها لا ينقص الرواية العاطفية, إلا أن الكاتب يجعل الحدث في خدمة القضية الأساسية, بحث الشخصية عن هدفها. ومن هنا فإن الأحداث في الطريق المسدود تدور حول البطلة, وما تتعرض له من مواقف مختلفة, ولكنها تؤدي في النهاية غرضا واحدا, وهو جعلها تشعر بمدى الحاجة إلى الرجل الذي تبحث عنه. فالأحداث تقتصر على محيط الأسرة أولا, وتعرفنا بظروف البطلة, ثم تنتقل إلى الكلية حيث نتعرف على شخصية الأستاذ وحياة فايزة كطالبة, ثم تنتقل الأحداث إلى القرية حيث تعمل فايزة وتلتقي بأحمد. فالأحداث تتبع الشخصية وتدور حولها, وكل ما هو غير مرتبط بفايزة يصبح غير ذي أهمية.
من هنا فإن الحدث يتطور تطورا منطقيا, فهناك بداية ووسط ونهاية ولكنه لا يقود إلى العقدة التقليدية, لأن »الهدف من العقدة في هذه الروايات هو إعادة بناء العلاقات بين الجنسين«(17) لا تأزم الحدث عند نقطة فاصلة تقود إلى نهاية الرواية أو لإثبات موقف وفكرة الرواية. لهذا فإن أهمية العقدة في الرواية العاطفية »تأتي ليس من تتابع الإحداث وإنما كونها مرحلة روائية تعبر عن القلق الذي يحيط بعالم البطلة ويهدد وجودها« (81). والنتيجة التي لا بد للعقدة من الوصول إليها هي »تبادل العلاقات« أو الأدوار بين البطل والبطلة, الرجل والمرأة, فيحل الحب والوفاق مكان العداوة والخلاف, والإستقرار مكان البحث والقلق. وعليه, فإن الأحداث تدور في محيط ضيق هو عالم البطلة الصغير الذي يضم بعض العلاقات الشخصية جدا لا المجتمع بمؤسساته المختلفة أو مكوناته المتعددة.
الأيديولوجيا: الموقف الإجتماعي
من علاقة المرأة بالرجل
نقف أولا عند الأيديولوجيا في الروايات العاطفية الموجهة للجيل الناشىء وللنساء بشكل خاص. يقول تيرى إيجلتون إن الفن »جزء من البنية الفوقية للمجتمع, إنه جزء من أيديولوجيا المجتمع, أو عنصر من تلك البنية المعقدة من الإدراك الجماعي, التي تبرر الموقف الذي تسيطر فيه طبقة اجتماعية على غيرها, ولذلك فإن فهم الأدب يعني فهم العملية الإجتماعية التي تشمله« (19). وقد أثار الثوسير مفهوم الأيديولوجيا وكيفية خضوع أفراد المجتمع الواحد للأيديولوجيا الإجتماعية المسيطرة, والتي تخدم استمرارية الطبقات الحاكمة وسلطتها, مما يعني أن العقلية الإجتماعية السائدة في فترة ما, مشروطة بالعلاقات الإجتماعية لهذه الفترة, ومعنى هذا, أن الأعمال الأدبية ليست إلهاما علويا, أو أعمالا قابلة لتفسير بسيط يعتمد على سيكولوجية مؤلفيها, إنها أشكال للإدراك, وطرائق خاصة في رؤية العالم, مما قد يتفق وقد يختلف مع الرؤية الجماعية. ومن هنا فإن أيديولوجيا الرواية العاطفية تكشف عن رؤية خاصة للعالم, تكشف عن عقلية المجتمع التي تنظم العلاقات بين الذكر والأنثى ضمن حدود مرسومة لا يجوز تجاوزها أو الخروج عليها.
فرواية عبد القدوس تعالج مشكلات المرأة في علاقاتها مع الرجل, والظلم الذي يلحق بها بسبب السلوك الاجتماعي المفروض عليها, والذي يقوم الرجل على تنفيذه, والحفاظ على استمراريته لمصلحته الذاتية, بدءا بالعلاقات الأسرية, حيث أدى اختفاء الأب إلى فساد العائلة, ثم علاقات الحب والزواج, حيث أن الرجل الذي تسعى المرأة إلى الإرتباط به هو مستغلها وظالمها, ومرورا باحترام المرأة وقدرتها على العمل بحرية دون ضغوطات خارجية, حيث نجد فايزة مضطرة طوال الوقت لتقديم تنازلات بسبب أخطاء الآخرين من الذكور. إذن العلاقات التي تصورها الرواية وإن بدت عاطفية في ظاهرها تحفر في أسس النظام الإجتماعي السائد وتعري التناقضات التي تتجمع تحت قشرته.
وكما توضح الرواية فإن المرأة مجرد »شيء« يستخدمه الرجل لإشباع رغباته الجنسية والسلطوية. وإذا رفضت المرأة الخضوع فإنها تدفع الثمن, لأنها شيء لا قيمة له بالقياس مع الرجل الذي يعد كل »شيء« نظرا لمكانته الإجتماعية وقدرته على السيطرة. وكما يتضح من الرواية فإن فايزة, بالنسبة للرجال الذين تعاملت معهم, ليست الفتاة المثابرة الباحثة عن حياة أفضل, أو الفتاة التي تعاني فقدان المحبة والتماسك في محيطها العائلي, أو الفتاة التي تتبع قناعاتها الشخصية وتصدم مع قيم الجماعة, وإنما هي مجرد فتاة جميلة مغرية تشتهيها أعين الرجال. ألا يعالج قدوس من خلال هذا الطرح الدور التاريخي الذي حدد للمرأة والذي وصفه روجر بروملي بقوله: »وظيفة النساء, تاريخيا, هي أنهن ملك للذكر. «?(20).
إن المجتمع يتوقع من المرأة تلبية رغبات الذكر, خاصة الجنسية, وكأن المرأة مجرد جسد خال من الروح, مجرد جمال خلق لمتعة الرجل. وهذا السعي الذكوري وراء إشباع رغباته واضح في الرواية, بغض النظر عن موقف المرأة منه. وفي مقابل الرغبات الجسدية, يظهر مفهوم الحب الذي تبحث عنه بطلة الرواية, والذي يجلب لها الكثير من العقبات في حياتها. وهنا مفارقة أخرى في الرواية حيث يسيطر الجانب الحسي على مشاعر الرجال وتسيطر المشاعر المثالية على تفكير البطلة. والأمثلة التالية توضح هذه النظرة الجنسية للمرأة.
»ونظر إليها الرجل نظرة بلغ من وقاحتها أن أقلقتها وكأنه نزع ثوبها عنها بعينيه, وقال وكأنه يشتهي طبقا من الطعام اللذيذ.. » (21).
المرأة معادلة لطبق طعام شهي, مما يوضح حسية المتعة أولا ونظرة الرجل الجنسية إلى المرأة ثانيا.
»ومد ذراعه كأنه يحاول أن يختطف أحد نهديها« (22).
هدف الرجل هو الحصول على جسد المرأة.
»ولا دكتورة ولا حاجة.. كلها سنة ولا اثنين وتكون اتجوزت وشبعت جواز« (23).
دور المرأة في كونها زوجة وربة بيت لا في تحقيق خصوصية مهنية وكأن مكان المرأة الصحيح هو بيت الزوجية.
»ونظر إليها منير حلمي, وفي لمحة كان قد وعى القوام الذي يتثنى في رقة وخفر كأنه يتأوه من الألم, والبشرة السمراء والشفتين الحالمتين…كأنها تحمل سر الأنوثة البكر المغلقة الأبواب» (24).
كل ما يلاحظه الرجل في المرأة هو الجمال الجسدي.
»هل كان يمكنها أن تمنحه شفتيها ونهديها…..ثم تخرج من عنده شريفة لأنها لا تزال عذراء« (25).
مساءلة للقيم الإجتماعية التي تجعل من العذرية مقياسا للشرف وتغض الطرف عن ما دون ذلك.
»وانت مش عايز من الحب إلا البوس..كل الرجالة زيك كده..كلكم ما فيش عندكم قلب, إنما عندكم إيدين وشفايف تحبوا بيها إي واحدة تشوفوها« (26).
»إنه ليس إلا رجلا كبقية الرجال.. رجلا لا يريد إلا الجسد..إي جسد وجسدها واحد من ملايين الأجساد«(27).
مساءلة لسلوكيات الرجال وحسية مفهوم الحب الذي ينقلب إلى مجرد استمتاع حسي.
شخصية المرأة والرجل
من تقاليد الرواية العاطفية أن تكون الشخصيات مكررة ضمن سياق إجتماعي محدد. حيث نجد أن من القواعد الأساسية التي تقوم عليها الرواية العاطفية لقاء رجل بامرأة وقيام علاقة ما بينهما, وهذه الشخصيات تمتلك صفات خاصة مثل أن تكون المرأة جميلة في مقتبل العمر, والرجل طويل وجميل وقوي فيه كل مقومات الرجولة. والشخصيتان تبحثان عن علاقة حب تتحقق في النهاية. وهذا لا يعنى أن كل الروايات العاطفية متشابهة بشكل مطلق, وإنما المقصود أن هناك عناصر لا بد من وجودها في العمل الروائي حتى يبقى ضمن إطار النوع الروائي. وحتى تكون البطلة في موضع المستقبل للعقلية الإجتماعية السابقة الذكر, فإنها غالبا ما تعاني من نقص عاطفي بشكل أو آخر. وقد جعل عبد القدوس بطلته يتيمة الأب, وحيدة, منعزلة, غير راضية عن محيطها الإجتماعي, لا تصلها بأفراد عائلتها أي مشاعر. وهذا النموذج, بخطوطه العامة, هو مثال لشخصية المرأة في الروايات العاطفية. فالبطلة الضعيفة, التي تعاني من افتقادها للحنان تحاول تعويضه من خلال علاقتها بالرجل البديل, وتستمر في البحث عنه كي يمنحها القوة والثقة بالنفس. وهنا مفهوم إجتماعي آخر تطرحه الرواية حيث أن القوة, والثقة, لا تتوافر إلا في الرجل, الذي يلعب دور المدافع عن شرف الأسرة وحمايتها, وفي حالة غيابه فإن التقاليد التي كان موكلا بالدفاع عنها تهوي كما حدث للأم والبنات اللواتي لم يجدن رجلا يدافع عنهن ويحميهن مما أدى إلى »الانحراف الأخلاقي«. وهذا ينطبق على ما حدث لمنير حلمي في نهاية الرواية حيث لعب دور الأب الموجه الناصح, الذي تمكن من المحافظة على فايزة حين قدم لها النصائح لاعبا بذلك دور المرشد. والأمثلة التالية توضح هذا الضعف والحاجة التي تتميز بها شخصية المرأة في هذه الروايات:
»دنيا لا يشاركها فيها أحد..فلا أحد يشاركها خيالها, ولا أحد يحس بآلامها« (28).
البطلة وحيدة منعزلة عن العالم المحيط وبحاجة إلى شخص آخر لمشاركتها الحياة.
»ولم تشهد شيئا من المشاكل التي تعقب الوفاة عادة..ولم تكن تعتقد أن هناك مشاكل, فإن والدها ترك لهن معاشا يكفيهن, وإرثا صغيرا يعينهن على الحياة دون الحاجة إلى أحد..رجل..رجل يحميها, ويقوم على شؤونها…فقد تركهن أبوهن ثلاث بنات وأم..ليس لهن أخ وليس لهن أحد من أقاربهن يثقن به« (29).
»…أبيها..لو كان حيا لصان سمعتها وسمعة أمها وأختيها« (30).
»ناس يموت الراجل بتاعهم فيموت معاه شرفهم وسمعتهم« (31).
»يعنى تتخلى عنى في الوقت اللي كنت فاكراك راجل تقدر تقف جنبي وتحميني..يعنى تسيبنى زي العيال..يعنى ترميني للكلاب« (32).
»ورأت نظرة العطف في عينيه, فاعتدلت من رقدتها, وأصلحت من ثوبها كأنها شعرت بنفسها أمام رجل غير الرجل الذي جاءت إليه. رجل كأبيها« (33)
في هذه الأمثلة نلاحظ الربط بين الرجل ومفهوم حماية الأسرة. وبالرغم من أن الأمثلة قد توحي بأن غياب الرجل هو السبب في فساد الأسرة إلا أن جعل الرجل يلعب دور المحافظ على شرف الأسرة وفي نفس الوقت المعتدي عليه يكشف الثنائية أو إزدواجية المعايير التي يلجأ إليها الرجل في سلوكياته.
من هنا, لا بد من التنبيه إلى أن الكاتب لا يدافع عن الأنظمة الإجتماعية, وإنما يطرح الأسئلة على القيم التي باتت شبه ثابتة في المجتمع. فالرواية تساؤل عن أسس الأنظمة الاجتماعية والأخلاقية المقررة في المجتمع, كمفهوم أن كل بيت بحاجة إلى رجل لحمايته والمحافظة على شرف وسلوك أفراده, وكأن الرجل هو الأساس ومطالب بحماية هذا المخلوق ؛الضعيف«, المرأة, كما يتضح من الأمثلة السابقة. وكأننا بالكاتب يصور لنا عكس ما توحي به الرواية على المستوى السطحي. هناك عدد من القوانين المتعارف عليها, والتي تنص على حاجة المرأة للرجل, ولكن الرواية تثبت أن هذا الرجل مجرد مستغل ومستخدم لهذه المرأة من أجل إرضاء رغباته وشهواته. ولهذا فإن منير حلمي كانت له صورتان: الكاتب الرقيق الذي يعرف الحب ومعانيه السامية, صورة الرجل الذي يتظاهر بما ليس فيه. والصورة الأخرى أنه مجرد رجل, يريد استغلال منصبه وسلطته للحصول على جسد المرأة. والحال ينطبق على أستاذ الأدب الإنجليزي الذي كان مثال الإنسان الرقيق الحساس المخلص لزوجته وبيته, إلى أن تكتشف فايزة أن كل هذا مجرد قناع يستخدمه الأستاذ للإيقاع بفريسته لتذوق طعم جسدها. والصفات نفسها تنطبق على العمدة والصيدلي في الرواية.
وتجري التقاليد في هذه الروايات أن تجد المرأة رجلا يتصف بالقوة والجمال والأخلاق الكريمة, يبادلها الحب, فتقدم له في المقابل جسدها, مما يؤدي إلى إحداث تغيير في شخصية كل من الرجل والمرأة, حيث يصبح هو الممول المادي والمسؤول عن احتياجات المرأة, وتصبح هي الزوجة التي تقوم على شؤون المنزل وتربية الأبناء. وفي هذا تساؤل عن الأدوار التي يحددها المجتمع لضمان سعادة الجميع. وقد مثل عبد القدوس هذا التغير عندما التقت فايزة بأحمد الذي أرادها أن تكون شريكة المستقبل, وأن تكون له وحده, فقبلت العرض, مما جعلها تستشعر جمال جسدها, لأول مرة, وتسمح للحبيب بتقبيلها والتمتع بها عن طيب خاطر, لأن تبادل العلاقات, وبالتالي قبول الأدوار المحددة, تم والتغيير المطلوب تحقق. وهذا التقليد تتبعه معظم الروايات العاطفية. تفحص هذه الأمثلة:
»التقت فايزة .. بأحمد… واستطاعت هذه المرة, وفي لمحة واحدة أن تعي وجهه كله..وجهه الأسمر القوي.. وعينيه الواسعتين المهذبتين, وأنفه الأشم, وشفتيه الرقيقتين, وقوامه الطويل العريض كأنه نبت من أرض خصبة بكر..كان كل ما فيه ينبض بالرجولة, وكانت كل لمحة من لمحاته تلح عليها بأن تثق به..وتحتميبه« (34)
»وتعلقت أنفاسها وهي تستعيد قوله: إحنا الاثنين رايحين لبعض..أنا ما أقدرش استغني عنك يا فايزة.. وأحست أنها ترتفع إلى سماء يملؤها ضجيج محبب..ضجيج العوالم وهن يقرعن الدفوف في زفاف عروس« (35)
»وتذكرت جسدها.. وتمنت لو قامت من فراشها, وأضاءت النور, ووقفت أمام المرآة عارية لترى مدى جمال جسدها.. كانت تعرف أنها جميلة القوام… هكذا يقول كل الناس ولكنها هي نفسها لم تكن تلمسه بحسها… ولكنها اليوم تحس به, أحست به عندما خطر لها أن تعطيه« (36).
»واستسلمت لقبلته.. وأعطته الشفاه البكر الطاهرة.. وأرادت في هذه الساعة أن تحقق كل خيالها… أن تعيش في قبلته كما عاشت خلال ليالي الأوهام« (37).
ومن تقاليد الرواية العاطفية أيضا أن تنتهي الرواية بزواج البطلة من الحبيب, لكن عبد القدوس خرج على هذا التقليد حين اختار لبطلة الرواية أن تقف ظروفها الاجتماعية دون تحقيق أحلامها. ففايزة اتهمها المجتمع المحيط بقتل الفتى الصغير, مما أدى إلى تخلي أحمد الحبيب عنها, رغما عنه. ففي لقائه الأخير بها, أخبرها أن المجتمع لن يغفر له, وأن عائلته, التي طالما اعتنى بها وضحى من أجلها ستعاني, وأن أخته لن تجد من يتزوجها في حالة ارتباطه بها. ولعل عبد القدوس أراد من هذا الخروج أن يوضح أن المرأة, ومهما نجحت في تحقيق ما تصبو إليه, إلا أن المجتمع يعاقبها بما لا تستحق. ولعل هذه النهاية وإن اختلفت عن نهاية الروايات العاطفية الغربية, إلا أنها تشبه نهايات الروايات العاطفية العربية. فهذا الخروج نجده أيضا عند عبد الحليم عبدالله في رواية لقيطة, والتي تقرر فيها البطلة الإنتحار. فهل لهذا الخروج دلالة محلية? هل يمكن تفسيره حسب اختلاف معطيات ظروف كل من المرأة العربية والمرأة الغربية? إن النهاية, حيث تنضم البطلة إلى »موكب الحائرات« لدلالة على أن النهاية غير السعيدة هي مصير النساء اللواتي يخترن شق طريقهن حسب مفاهيمهن الخاصة, لا مفاهيم المجتمع, والحيرة هنا, قد تكون بين ما تريد المرأة وما يراد لها, ما تؤمن هي به وما يتوقع منها أن تؤمن به. يقول الكاتب:
» كانت حائرة.. والحيرة تستبد بها حتى تكاد تطمس عقلها… هل ظلمت الناس… هل ظلمت المجتمع..هل هناك غير هذا الطريق المسدود… ولكنها سارت… سارت لتنضم إلى الموكب الضخم… موكب الحائرات« (38).
هذه النهاية توضح لنا محورا أساسيا آخر تعتمد عليه الرواية العاطفية, وهو عدم ثقة المرأة بنفسها وممارستها ؛جلد« الذات, حيث تشعر بضعف يقودها إلى لوم نفسها كلما وقعت في مشكلة, وكأنها المسؤولة عن الظلم الذي تتعرض له, حتى وإن كان الظلم مفروضا عليها. فالنظم المحيطة بالمرأة تراها وكأنها سبب كل الشرور والمشاكل التي يتعرض لها المجتمع. ومن هنا فإن المؤلف يستخدم هذا الأسلوب للكشف عن المفارقة الواضحة حيث تتحول الضحية دوما إلى مجرمة تدفع ثمن أخطاء الغير. وفى رواية الطريق المسدود نجد فايزة تلوم نفسها طوال الوقت, وتعتبر نفسها المسؤولة عن العذاب الذي تعاني منه. لذلك فإنها تلتمس الأعذار للرجال في حياتها وكأنها تبحث عن طريقة ما لدفع الأسباب التي قد تؤثر على صورة الرجل الذي تحلم به, ولا ننسى أن العقلية الإجتماعية تفرض عليها, لأنها أنثى, أن تكون على خطأ, وأن تقبل دفع ثمن أخطاء الرجل أو المجتمع, لاحظ ذلك الموقف في الأمثلة التالية:
»كانت تستعرض كل ما حدث.. كل كلمة وكل حركة..ولم تكن تحاول أن تلمه… بل كانت تحاول أن تجد عذرا له.. ولم تجد له عذرا إلا في أن تتهم نفسها بأنها ليست فتاة طبيعية, وأن فيها شيئا ناقصا..ربما كان شيئا في تفكيرها, أو شيئا في طبيعة تكوينها.. أو شيئا في الحياة التي تحيط بها« (39).
»وربما كان الرجل معذورا, فقد حكم عليها بسلوك أمها وأختيها, وأراد منها ما يستطيع أن يأخذه بسهولة من أختيها« (40)
»انتم التعابين… ماله منير حلمي… ذنبه إيه?.. إذا كان ملاك انتم اللي قستوه… وإذا كان راجل انتم اللي اترميتوا عليه وخسرتوه… عايزاه يعمل أيه علشان تبعدوا عنه? يضربكم بالكرابيج… ينشكم زي الدبان? « (41).
كما يتضح, نجد أن هذا النوع الروائي ليس ؛تسلية فارغة«, ولكنه يتطرق إلى قضايا إجتماعية هامة, تتجاوز السطح وتثير أسئلة مركزية ترتبط بالنظام الإجتماعي والقيم والتقاليد ودور المرأة والرجل, مما يدعو إلى التساؤل مرة ثانية عن سر الإصرار على تصنيف هذا النوع ضمن حدود ما يسمى بالأدب «الرخيص« ومن هنا فإن تصوير الجنس لا يخدم الهدف الإخباري الذي تحدث عنه شكري, ولكنه جزء من الممارسة الإجتماعية ثنائية الأبعاد التي تحاول الرواية تعريتها وكشفها. كما أن الرواية توضح أن الكاتب لا يقل إنشغالا عن غيره من الكتاب بالقضايا الجوهرية في المجتمع العربي, وأن هدفه ليس مجرد التسلية أو تصوير العلاقات العاطفية كما ذكر بدر.
وقد عاب النقاد على الرواية العاطفية أن الشخصيات فيها سطحية, ينقصها التحليل, متشابهة, وغير متطورة. إن ما لم يستطع النقاد إدراكه هو أن مثل هذا التعقيد والتداخل لا يتناسب مع تقاليد النوع الروائي. فهذه الروايات تتمحور حول بعض العلاقات الشخصية والعاطفية الفردية, وأن التجربة في هذا النوع هي تجربة شخصية ذاتية داخلية, لذلك فإن الكاتب يهتم باستخدام شخصيات منمذجة, مثل الفتاة الوحيدة التي ما لبثت أن فقدت والدها, أو البطلة التي فقدت والديها في حادث مما يتركها يتيمة ضعيفة ووحيدة, أو البطلة التي لا نعرف الكثير عن عائلتها أو البطلة التي يكون ماضيها غير مكشوف للقارئ. وهذا النوع من الشخصيات يفرض على الكاتب التركيز على الحرمان العاطفي الذي تعاني منه البطلة, ذلك الحرمان المتمثل بالوحدة, وضياع الهوية, وحتى تستعيد البطلة هويتها فإنها تعتمد على عالم البطل الذي يمنحها الثقة والهوية والإشباع العاطفي الذي طالما بحثت عنه. فتكون البطلة فتاة ينقصها الثقة بالنفس: تلوم نفسها طوال الوقت سواء كان الخطأ من فعلها أم من فعل الآخرين, وشكها في نوايا المحيطين بها وكأنهم يريدونها للحصول على المتعة الجنسية فقط, ثم غياب دور العائلة التي تؤدي دور الوحدة الاجتماعية المصغرة لذلك المجتمع. وتكون العلاقة ذات الأهمية هي تلك التي تقوم بين شخصية المرأة والرجل: فالذكر يتمتع بالقوة والحرية والتأييد من قبل سلطات المجتمع, بينما المرأة تمثل المخلوق الضعيف المقيد المعتمد على غيره. ويصور الكاتب هذه الشخصية عن طريق التركيز المستمر والمتتابع على مشاعر البطلة في كل موقف, وكأن الحب والارتباط هو العنصر المفقود في حياة البطلة والسبب في ضعفها وبالتالي في ظلمها. وكما تؤكد مارجوليز »فالمجتمع والتصوير الحقيقي لما يدور فيه ليس له أهمية« (42). عند كاتب الرواية العاطفية, لذلك فإنه يلجأ إلى عالم العواطف والمشاعر التي نرى من خلالها أن هم البطلة هو الوصول إلى الاطمئنان العاطفي. »فالدور الذي يقوم به العالم الخارجي لا يتعدى أن يكون المحرك لمشاعر البطلة, وكأنه رافد لتفاعلها مع عالمها الداخلي« (43). وبما أن عالم العواطف والمشاعر والكشف عن القلق المتصل بهذا الجانب الإنساني من القضايا التي لا يجدها النقاد ذات أهمية وإنما هي من الموضوعات »الساذجة«, أو لأن قضايا الوطنية والفقر والسياسة وغيرها تعد من الموضوعات النبيلة ذات الأهمية القصوى, والتي تفرض بطبيعتها أسلوبا آخر في عرض شخصياتها, فإن هذه الطريقة الخاصة بالرواية العاطفية أدينت ووصفت بضعفها الفني.
ولا بد من الإشارة إلى أن غياب الوصف للمحيط الحسي الذي تعيش فيه البطلة مقصود لذاته لأنه يجعلنا كقراء نولي كل اهتمامنا لمشاعر البطلة والمسببات التي قادت إلى تكونها النفسي الذي تمر به. لذلك, فإن تحليل شخصيات الرواية العاطفية يعتمد على فهم مشاعر البطلة وجوعها العاطفي الذي تحاول أن تشبعه. ففايزة, الوحيدة, المختلفة عن الآخرين, الباحثة عن الرجل المحب, لا عن علاقة جسدية, تمر بسلسلة من المشكلات التي تجعل عالمها العاطفي أكثر تشتتا, ونظرا لهذا الحرمان العاطفي فإنها تقع ضحية أكثر من مرة, حيث تقودها حاجتها إلى تصديق ما تقوله أفواه الرجال, وتنتهي في كل تجربة إلى اكتشاف مزيد من الزيف والغش, إلى أن تجد من يبادلها الحب, ومن يرغب في الزواج منها, لكن القسوة تتحول من قلب الرجل إلى قلب المجتمع, فتكون ضحية مرة أخرى.
الأسلوب واللغة
أما على المستوى الأسلوبي واللغوي فإن الكاتب يلجأ إلى ما يعرف بلعبة الواقعية غير الحقيقية, والتي يتم من خلالها السيطرة على تفكير ومشاعر القارئ بحيث يقبل العالم الروائي كما هو دون الشك في مصداقيته, ويحقق الكاتب ذلك من خلال الأساليب التالية:
1- الإكثار من ذكر أسماء الشوارع أو المدن أو المواد أو العمارات أو أسماء الحافلان أو الأرقام أو التوقيت الزمني . وقد أكثر عبد القدوس من لعبة التسمية هذه كما في الأمثلة التالية:
»شقة نمرة 12« (44).
»أنا بقالي في العمارة دي سبع سنين…والأستاذ منير ساكن هنا من سبع سنين« (45).
»راجل زيي عنده 38 سنة ما يصحش يعرف بنت عندها 17 سنة« (46).
»وكانت الساعة قد وصلت السابعة مساء« (47).
»الزمالك يا أوسطي« (48).
»وعند أول الطريق الزراعي… « (49).
»ووقف القطار في محطة بنها…وصعد رجل لا يتجاوز الخامسة والثلاثين… « (50).
»وانتقلت العائلة من شارع الروضة…إلى شقة فخمة فى الجيزة« (51).
إن هذا الاستخدام يقوم بوظيفة أكثر من مجرد الإخبار عن المسميات, إن الكاتب يحاول وباستمرار أن يؤكد للقارئ أن كل ما هو مذكور حقيقي, تم التأكد منه والبحث عن صحته قبل تقديمه له, مما يؤدي إلى منح القارئ ثقته الكاملة للنص ولما يقوله النص.
2- ربط الأسماء التي يستخدمها الكاتب بمجموعة من الصفات أو الألقاب التي تمثل العمر, المركز الاجتماعي أو الوظيفي, المهنة أو العمل, الدور الاجتماعي, الصفات البدنية أو الجسدية, أو بصورة معروفة لدى القارئ. ومن ذلك في رواية عبد القدوس:
»ووجهت العميدة نظراتها كلها إلى فايزة… « (52).
»وجاء الخال..إنه الرجل الوحيد الذي تخشاه…ولكن الخال..واستقبلهم الخال« (53).
»ولم تفاجأ فايزة برؤية الناظرة…سمينة, مكتنزة الوجه, في عينيها دائما معاني السلطة…وفى حركاتها ثقل كأنها زوجة عمدة« (54).
»ولم تكد تهم بالخروج حتى اصطدمت برجل داخل…رجل سمين ومترهل كل شيء فيه كرش..خداه كل منهما كرش…وعيناه كل منهما كرش…عبد المقصود بك عمدة كفر شرف.. « (55).
3- الإسهاب أو الإطناب: ويستخدم الإسهاب من أجل تنويع الأسلوب وعادة ما يستخدم كبديل عن ألفاظ محدودة تبين الحال أو صفات الشخصية. ومن هنا نجد أن الكاتب يسهب في وصف مشاعر الشخصيات ووقع الأحداث عليها. ومن أمثلة ذلك:
»ونظر إليها منير حلمي, وفي لمحة كان قد وعى القوام الذي يتثنى في رقة وخفر كأنه يتأوه من الألم, والبشرة السمراء والشفتين الحالمتين وقد نامت إحداهما فوق الأخرى كأنها تتدفأ بها, والشعر الطويل المضفر في ضفيرة طويلة تلقيها فوق ظهرها:إنها تحمل في طياتها سر الجمال… وسر الشباب… وسر الأنوثة البكر المغلقة الأبواب« (56) .
»ونظرت إليه فايزة بعينين مفتوحتين كأنها لا تصدق ما سمعت ثم تصاعدت دماؤها كلها إلى وجهها, وقفزت من بين شفتيها صرخة ألم, كأن شيئا فيها قد تمزق.. ثم انكفأت على مسند المقعد تبكي وتنشج بصوت عال« (57).
»كانت تحس بصدرها محملا بأكثر مما يطيق..وكانت تحس بحاجة إلى أن تلقي بعض حملها على أحد من الناس..أن تبوح بسرها إلى إنسان يفهمها ويستطيع أن يواسيها وأن يسد الثقوب النفسية التي تعصف من خلالها أحاسيسها..كأنها زوابع تهز بيتا مهدما« (58).
وكان بإمكان الكاتب اختصار كل تلك الأوصاف بجملة أو ألفاظ قليلة, ولكنه اختار الإسهاب في الوصف لأن تلك خاصية تلازم هذا النوع من الروايات.
4- القياسات: الأوزان, الحجم, الأوقات, التاريخ, المسافة. يحاول الكاتب وباستمرار أن يستخدم هذه الوحدات ليؤكد اللعبة المذكورة سابقا مع القارئ, فكل شيء مدروس ومحكم قبل تقديمه للقارئ.
»لم يمض على موته ليلة واحدة, ولم تحاول أن تعوضها عنه بقبلة فوق جبينها أو بضمة إلى صدرها… « (59).
»وفى الساعة الحادية عشرة أمسكت بسماعة التلفون.. « (60).
»هو انا رايحة مجاهل أفريقيا..دى المسافة ساعتين بالقطر.. « (61).
»حجرة متوسطة الطول والعرض, تضم ثلاثة أسرة وبجانب كل سرير دولاب صغير, وفى ركن منها مائدة عليها وابور جاز.. « (62).
5- الإستخدام اللغوي والمعجمي والتركيبي: لا بد من التنبيه أن وظيفة اللعبة في هذه الروايات هي تحريك وتنشيط حالة عاطفية معينة, وحتى تتحقق هذه فإن الكاتب يلجأ إلى استخدام أساليب تمويه تتعلق بالاستخدام المعجمي والنحوي والتركيبي للغة. فعلى مستوى الأفعال, نجد أن معظم الأفعال التي يلجأ الكاتب إلى استخدامها تدل على حركة وتفاعل مستمر, وهذه الأفعال غالبا ما تدل على الفعل ورد الفعل, وعلى قوة العاطفة, لذلك, فإن الكاتب بدلا من أن يقول »ركضت الفتاة« يلجأ إلى »انطلقت« وبدلا من ؛نظرت« يستخدم »أمعنت« الخ. ومثال ذلك في رواية عبد القدوس:
»كل ما تذكره أنها هرعت في الصباح التالي إلى حجرة أمها.. « (63).
»وبوغت الأستاذ وقال كأنه يصد عن نفسه اتهاما« (64).
»وبلا وعي رفعت توحيده كفها السمين وهوت به على وجه ابنتها« (65).
»والتمعت عيناها في ذعر كأنها وقعت في هاوية. وقامت بعيدة عنه وصدرها يلهث كأنه يقرع طبول الحرب.. « (66).
كما يلجأ الكاتب إلى الإكثار من استخدام الصفات التي ترتبط بالمفاهيم الحسية مثل: الألوان والأصوات والملمس. أو عبارات توضح حالة شعور الشخصيات:
»واختلطت دموع الثلاثة, دموع صادقة حارة.. « (67).
»نفس الصوت العميق الذي كانت تتخيل إنه يحدثها به, نفس الابتسامة الهادئة…ونفس الأصابع الطويلة.. « (68).
»…وعاد يميل عليها بشفتيه ويملأ وجهها بأنفاسه الساخنة.. « (69).
»..تتكلم في صوت خفيض كأنها تتكلم من دنيا بعيدة.. وتسير في خطوات ضيقة كأن قدميها مقيدتان بالأغلال, وتتنهد كأن قضبان السجن تضغط على صدرها« (70).
»وابتسمت عائشة لابتسامة فايزة, ثم قفز إلى عينيها بريق عجيب« (71).
ويلجأ الكاتب إلى استخدام صيغة اسم الفاعل واسم المفعول وتوظيفهما في طريقتين: الأولى, لبيان حدوث أكثر من فعل في الوقت نفسه, والثانية, أنها تقترح حالة عاطفية ملازمة أو حالة نفسية أو رد فعل.
»وانتفضت واقفة وهى تبعده عنها قائلة في غضب.. « (72).
»ونظر إليها متسائلا وهو لا يزال محتفظا بوجهه الصارم.. « (73).
»وردت فايزة وهى تغالب تأثرها من القصة.. « (74).
»وابتسمت ساخرة من الجميع… « (75).
»ونظر إليها لمدة متعجبا ونظرت إليها عائشة معجبة, ونظرت إليها سعدية مبهوتة, ونظر إليها الدكتور عوض ساخرا,… « (76).
ويكثر الكاتب أيضا من استخدام الفاعل غير الحي أو المبنى للمجهول, والهدف من ذلك هو التأكيد على أن البطلة لا تتحرك كما تريد وإنما تحركها قوة أخرى:
»وفجأة فتح الباب في عنف, وكأن عاصفة اقتلعته.. « (77).
»كانت الأفكار تطوف بها دون أن تتوقف… « (78).
»…أن الهواء النقي بدأ يغسل رئتيها, وينزع عن صدرها … « (79).
»واستبدت بها دموعها حتى لم تعد تطيقها… « (80).
كما أن هذا النوع من الروايات نادرا ما نجد فيه استخداما للرموز أو الاستعارات أو الكنايات, وبالمقابل فإننا نجد استخدام التشبيه بصورة كبيرة, ويتمثل ذلك في استخدام عبارة »كأن« »كما لو« وما شابه, ومثل هذا التشبيه يتناسب مع هذا النوع الذي يعتمد على البساطة والصور القريبة من القارئ.
»فالتفتت في عنف كأن يدا مجهولة أمسكت برأسها ولفتها رغم إرادتها« (81).
»وسمعت صوتا من ورائها كأنه نداء السماء« (82) .
»قال ودموع باهتة ضعيفة تنحدر فوق خديه, كأنها آخر ما بقي من دموع« (83).
»وأخيرا فتح الباب كأن أهل البيت استيقظوا من رقاد طويل.. « (84).
الخاتمة
إن ما ذكرناه عن رواية إحسان عبد القدوس يمثل الخصائص العامة للروايات العاطفية, والتي لا بد من الإحاطة بها قبل التعرض لتحليل أو نقد هذا النوع من الروايات, وكما قلنا في موضع آخر فإن لكل نوع من أنواع الرواية أساليب تؤدي إلى حسن التواصل بين الكاتب والقارئ, وإلى خدمة الهدف الأول من كتابة الرواية, وتبعا لاختلاف الأنواع الروائية فإن آليات تحليل العمل الروائي لا بد وأن تختلف أيضا.
لقد تمكن إحسان عبد القدوس من المحافظة على علاقته بالقارئ حيث أدرك حاجة شريحة من القراء وقدم لها ما يتناسب معها مستخدما لغة تتميز بالسهولة والوضوح في السرد, ولهجة عامية مصرية في الحوار. وابتعد في أسلوبه عن الرمز والغموض والإيحاءات والاستعارات والأساطير الغريبة والتعقيد الزماني والمكاني, وبذلك يكون قد نجح في تطبيق مبدأ ؛لكل مقام مقال« الذي حثت عليه النظريات القديمة والحديثة, والذي يؤكد على ضرورة التوافق الفكري واللغوي والأسلوبي بين المرسل (الأديب) والمستقبل (القارئ). فالكتابة لقارئ غير مطلع على أحدث النظريات الأدبية والنقدية واللسانية والأسلوبية, تختلف عن الكتابة للنخبة, والكتابة للطفل تختلف عن الكتابة للشباب, والكتابة الموجهة للمرأة تختلف عن الكتابة الموجهة للرجل..الخ. إذن, لماذا نحكم على الكاتب الذي يحاول الوصول إلى الطبقات المختلفة والقراء بمستوياتهم المتفاوتة بعدم المسؤولية وعدم إتقان العناصر الفنية? ولماذا لا نقبل بوجود أنواع أدبية مختلفة, كل حسب الهدف المنشود منه, والجمهور القارئ له, والمؤلف المبدع فيه?
بعد هذا العرض وجدنا أن الأدب العربي يتسم بمعارضة الأنواع الأدبية الجديدة لسببين: الأول: التمسك بالأنواع القديمة قالبا ومضمونا, والحكم على الأنواع الجديدة من وجهة نظر تقليدية, وبمعايير النقد التي تنتمي إلى القديم وليس إلى الجديد, مما أدى في بداية ظهور الرواية إلى معارضتها والوقوف ضدها. والثاني, هو التمسك بالأنواع القائمة ورفض الجديد حرصا على مصلحة القارئ بالاعتماد على المقاييس الأخلاقية, مما سبق وأن ذكرنا أن له صلة بالمؤسسات الإجتماعية أكثر من صلته بالدراسة الفنية.
الهوامش
1- رشيد يحياوي, مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية (الدار البيضاء: افريقيا الشرق, 1991), ص 13.
2- تودوروف تزفيتان, أصل الأجناس الأدبية, ترجمة محمد برادة, مجلة الثقافة الأجنبية (العراق) ع 1, 1982, ص 47.
3- انظر عبد المحسن طه بدر, تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (القاهرة: دار المعارف, 1976) ط4, حيث وقف طويلا عند أجناس الرواية التي نسميها شعبية, والتي صنفها تحت عنوان ؛روايات التسلية والترفيه«, معتمدا في تقسيمه على وظيفة الرواية.
4- لمزيد عن هذه التيارات, انظر عبد الرحمن ياغي, الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ (بيروت: دار الثقافة) ص7-20; أحمد هيكل, تطور الأدب الحديث في مصر (القاهرة:دار المعارف, 1958); عبد المحسن طه بدر, تطور الرواية العربية الحديثة في مصر.
5- عبد المحسن بدر, تطور الرواية العربية, ص91.
6- انظر عبد الرحمن ياغي, الجهود الروائية; أحمد عصام الدين, حركة الترجمة في مصر في القرن العشرين (الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1986).
7- لمزيد عن الترجمة والمترجمين وأساليبهم يمكن الرجوع إلى عبد المحسن بدر, تطور الرواية العربية, ص 127-140. وللمزيد عن هذه الصحف والمجلات راجع عبدالرحمن ياغي, الجهود الروائية, ص23,30, 35-38, 44, 63-64.
8- حول استخدام المعايير الأخلاقية, انظر, أحمد إبراهيم الهوارى, نقد الرواية (القاهرة: دار المعارف, 1983) ط2, ص41-4
9- انظر عبد المحسن بدر, تطور الرواية العربية, ص 152-157.
01- Ashley, B., Reading popular narrative (London: Leicester University Press, 1997), p. 4.
11- Bigbsy, C. (ed.), Superculture: American Popular Culture and Europe (Bowling
Ohio: Bowling Green University Press, 1975), p. 23 Green,
12- نظرية Polysystem أو الأنظمة المتعددة تم تطويرها في السبعينيات من القرن العشرين على يد إعتمار ايفن زوهار Itamar Even-Zohar الذي اعتمد في نظريته على آراء الروسيين الشكليين الخاصة بتأريخ الأدب. وهنا لا يدرس النص الأدبي منفصلا ولكن باعتباره جزءا من نظام أدبي في حالة مستمرة من التفاعل مع الأنظمة الأخرى.ومن هنا فالنص الأدبي جزء من بنية إجتماعية وثقافية وأدبية وتاريخية. ومفهوم النظام الذي يعيش في حالة ديناميكية مستمرة من الصراع للوصول إلى المركزية التي يحتلها الأدب الرسمي هو أهم ما جاءت به هذه النظرية. وقد قدم زوهار آراء مفيدة في مجال دراسة الأب المترجم بشكل خاص وما يحتله من مركز هامشي بالمقارنة مع الأدب المحلي, كما أنه ساهم في تطوير النظرية الخاصة بالأنظمة المتعددة والأنظمة المتجاورة ضمن النظام الأدبي الواحد. أنظر:
The position«, in Venuti, L. (ed.), The Translation Studies Reade ) London.
Even Zohar, I.)of Translated Literature within the Literary Polysystem
and New York: Routledge, 2000(, pp. 192-7
13- هذه المقالة تم إعادة نشرها في مجلة فصول, 5891, المجلد الخامس, العدد الثالث ص184-189.
14- ابن خلدون, المقدمة, ص 612.
15- عبد المحسن طه بدر: تطور الرواية العربية الحديثة في مصر, ص183.
16- غالى شكري, أزمة الجنس في القصة العربية (القاهرة: الهيئة المصرية للنشر, 1971) ص199.
17- Jones, Ann, R., ))Mills and Boon Meets Feminism«Red letters (9), 1983, p. 209.
18- المرجع السابق, ص 8.
19- تيرى إيجلتون, الماركسية والنقد الأدبي, ترجمة جابر عصفور, فصول, 1985, المجلد الخامس, العدد الثالث ص23
20- Natural Boundaries: The social Function«Red Letters (7), 1978, p. 36.
Bromley, R., «of Popular Fictio
21- إحسان عبد القدوس, الطريق المسدود, ص 19.
22- السابق, ص 20.
23- السابق, ص 20. 24- السابق, ص 34.
25- نفسه, ص 69. 26- نفسه, ص 124.
27- نفسه, ص 111. 28- نفسه, ص 7.
29- نفسه, ص 18. 30- نفسه, ص 21.
31- نفسه, ص 45-6. 32- نفسه, ص 294.
33- نفسه, ص 329. 34- نفسه, ص 245.
35- نفسه, ص 256. 36- نفسه, ص 258.
37- نفسه, ص 262. 38- نفسه, ص 334.
39- نفسه, ص 56. 40- نفسه, ص 89.
41- نفسه, ص 26.
42- Margolies, D., «Mills and Boon: Guilt Without Se«Red Letters (14), 1983, p. 9.
43- المرجع السابق, ص 9.
44- إحسان عبد القدوس, الطريق المسدود, ص 43.
45- نفسه, ص 44. 46- نفسه, ص 53.
47- نفسه, ص 71. 48- نفسه, ص 72.
49- نفسه, ص 216. 50- نفسه, ص 299.
51- نفسه, ص 24. 52- نفسه, ص 135.
53- نفسه, ص 150. 54- نفسه, ص 179.
55- نفسه, ص 192-3. 56- نفسه, ص 34-5.
57- نفسه, ص 81. 58- نفسه, ص 120.
59- نفسه, ص 12. 60- نفسه, ص 57.
61- نفسه, ص 173. 62- نفسه, ص 183.
63- نفسه, ص 11. 64- نفسه, ص 37.
65- نفسه, ص 66. 66- نفسه, ص 108.
67- نفسه, ص 15. 68- نفسه, ص 40.
69- نفسه, ص 53. 70- نفسه, ص 145.
71- نفسه, ص 215. 72- نفسه, ص 52.
73- نفسه, ص 113. 74- نفسه, ص 129.
75- نفسه, ص 161. 76- نفسه, ص 224.
77- نفسه, ص 16. 78- نفسه, ص 68.
89- نفسه, ص 226. 80- نفسه, ص 276.
81- نفسه, ص 250. 82- نفسه, ص 262.
83- نفسه, ص 276. 84- نفسه, ص 289.
عفاف البطاينة اكاديمية من الأردن