توفيق صايغ شاعر حائر، وشعره يتردد بين البراءة والمرارة، وبين الألفة والتوحش معاً؛ شاعر مترع بعشق المسيح، ولا ينفك متمرداً على إيمانه المسيحي. كان في الوسط بين أخوته، فإذا وضع نفسه مع فئة من يصغرونه عابوا عليه ذلك لأنه صار كبيراً. وإذا رغب في أن يأخذ حقوقه مثل باقي اخوته الكبار قالوا له إنه مازال صغيراً. ولعله، جراء هذا الأمر، عاش وحيداً وفريداً ومتحدياً حتى استيقظت فيه روح المهاجر وأيقظت لديه شعلة الابداع والتجدد.
كان غريباً ومغترباً في آن. والاغتراب هو الكلمة التي تتكثف فيها معاناته الدائمة. إنه سوري هاجر إلى فلسطين مع عائلته في أثناء الثورة السورية الكبرى في سنة 1925 (ولد عام 1923 في بلد خربا التابعة لمحافظة السويداء في سورية). ثم أُرغم على الهجرة إلى لبنان في عام النكبة سنة 1948. وفي لبنان لم يجد موئلاً لروحه التائهة، ولم يجد وطناً له إلا المنفى والشعر. وفي هذا المنفى المزدوج عاش اغترابه وغربته بجميع تجلياتهما.
خلافاً للشعراء العرب التجديديين الذين نهلوا من عقائد الخصب المقدسة ومن عقيدة الانبعاث بعد الموت التي تجلت في أساطير ما بين النهرين وفي الحضارة الآرامية- السورية (التموزيات)، عكف توفيق صايغ على إعادة صوغ أساطير أخرى ليتكئ عليها في رؤيته الشعرية الجديدة، كالأفعى والهرة ووحيد القرن. فالأفعى هي رمز ديني لسقوط الانسان، وهي رمز شهواني في الوقت نفسه. أما وحيد القرن (الكركدن) الذي خاطبه في قصيدة «بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن» في ديوان «معلقة توفيق صايغ»، 1963) فقد اكتشف، على غرار بعض كُتّاب القرون الوسطى، أن ثمة شبهاً بين المسيح والكركدن ومريم العذراء يقوم على العفة والبراءة والشهوانية. والكركدن حيوان لطيف يعيش وحيداً كالإله، أو كالشاعر في وحدته، ولا يمكن إخضاعه، فهو يفضل الموت على الخضوع، ومتعته الدائمة هي البحث عن أنثى ليضع رأسه في حضنها. غير أن الكركدن يدرك أن حضن العذراء يخبئ الموت، وأن العذراء مغوية، وهي الطُعم الذي يضعه الصيادون فهي طريقه لاصطياده واستعمال قرنه الوحيد لتقوية القدرات الشهوانية. أما العذراء نفسها فهي تعرف أن جسد الكركدن هو الحياة. ولأنه لا يستطيع أن يمنحها الحياة، فهي تسلمه الى الصيادين وتمنحه الموت. كان الكركدن يريدها إمرأة من نار ومن دون جسد لا ليدميها بقرنه الوحيد كما تشتهي، بل ليموت في أحضانها بدمائه قبل اصطياده. وبهذا المعنى فالعذراء تمكنت من تحقيق أمنية الكركدن، بينما لم يتمكن هو من تحقيق أمنيتها البتة (حوار مع جميل جبر عن أسطورة الكركدن ، جريدة الجريدة، بيروت، 26/5/1963، نقله محمود شريح في: «التوفيقيات المجهولة» بيروت: دار نلسن، 2010).
يقول توفيق صايغ إن الفارق بين الكركدن والمسيح هو أن المسيح ذهب إلى الموت مختاراً كي يخلص الغير، بينما ذهب الكركدن إلى الموت كي يخلص نفسه. لهذا كان موت المسيح مجداً وانتصاراً، أما موت الكركدن فكان فاجعة. وفي غمرة هذا الصخب عاش توفيق صايغ بين مريمين: والدته وهي مريم النعيم، وحبيبته «كاي» وهي مريم الجحيم. والدته هي مريم العطاء، وحبيبته هي مريم الامتلاك. وبين مريم القلب ومريم الجسد تناثرت قصائده كغناء صاعد من الجحيم. بيد أن موت والدته في سنة 1950 هزّ كيانه وأورثه كمداً فوق كمد. وفي خضم هذه المعاناة المتعددة الوجوه راح يردد أن أروع النساء هي المرأة الهرة التي لا تعتدُّ بالعاطفة أو بالعقل، بل بالغريزة وحدها، فهي تقسم الكون قسمين: هررة ذكور فتضاجعها، أو فئران فتأكلها. أما النساء فيُردن «أن يضاجعننا وأن يأكلننا في الوقت نفسه».
تراءى له الانتحار خلاصاً ثلاث مرات على الأقل. في سنة 1950 بعد وفاة والدته، وفي سنة 1960 حين ترك ملهمته «كاي»، وفي سنة 1967 بعد إغلاق مجلة «حوار». وفاة والدته أقصته عن النعيم، وافتراقه عن «كاي» أنقذه من الجحيم، وإغلاق «حوار» قطع ارتباطه بهذه البلاد. و «كاي» فنانة إنجليزية تعرف إليها في سنة 1957، ثم أولع بها، وكانت عذابه النفسي وملهمته الشعرية في آن. كانت تمتلكه وتغار عليه وتتشبث به، وصارت علاقته بها مثل علاقة حمامة بتمثال في ساحة الطرف الأغر (ترافلغار) في لندن. كان راسخاً مثل تمثال لا يتبدل، وكانت هي تطير وترجع كحمامة برية. وقبيل افتراقه عنها كتب قصيدته المشهورة «من الأعماق صرخت إليك يا موت» (1960) ثم أحرق رسائلها إليه، وهجر لندن وعاد إلى بيروت ليصدر مجلة «حوار» التي كانت مأساته الإضافية. وفي معمعان هذا التيه المؤلم باتت حياته بحثاً دائماً عن الخلاص، وتأرجحاً منهكاً بين الشهوانية والروحانية، وتغلغل في أعماقه شك خلخل كيانه وأورثه أسقاماً. بيد أن الشك لديه لم يكن شكاً عقلياً كما يتجلى عند الفلاسفة والمفكرين، بل تجربة دينية مؤلمة مثل شك العاشق في محبوبته، فلا يزيده الشك إلا وجداً وهياماً. وفي أي حال كانت تجربته المتأرجحة بين الإيمان والإلحاد، مثالاً للروح المحطمة والجسد المعذب، وهلع الحياة.
في 27/4/1966 نشرت جريدة «نيويورك تايمز» مقالة ورد فيها ان المنظمة العالمية لحرية الثقافة التي تموِّل مجلات عدة مثل «إنكاونتر» الانكليزية و «بروف» الفرنسية و «ديمونات» الألمانية و «حوار» العربية تتلقى دعماً من وكالة الاستخبارات الأميركية CiA. فنزل هذا الخبر عليه كالصاعقة، وعلم أنه خُدع حين اتفق مع سيمون جارجي السوري وجمال أحمد السوداني على إصدار «حوار» في بيروت، ولم يكن يدري أن هذه المنظمة الثقافية لها صلة خفية بالمخابرات الأميركية، وغايتها المباشرة مواجهة الشيوعية. واللافت أن «حوار» لم تنشر طوال أربع سنوات أي مقالة معادية للشيوعية، بل إن كُتّاباً يساريين وقوميين كتبوا فيها كثيراً أمثال يوسف ادريس وغالي شكري ونجيب سرور وراشد البداوي وصادق جلال العظم ولويس عوض والطيب صالح ووليد الخالدي ومحمد الماغوط. وجراء هذه الصدمة أصدر في 20/5/1967 بياناً أعلن فيه احتجاب «حوار»، ولم يلبث أن غادر بيروت إلى الولايات المتحدة ليبدأ عهداً جديداً من المنفى في جامعة بيركلي. وهكذا عاش هذا الشاعر منفياً في عراء البراري الجليدية. وفي هذا العماء، أمضى توفق صايغ أيام عمره غريباً، ومات في الغربة في 3/1/1971 ليدفن في «مقبرة الغروب» في بيركلي بين قبر لرجل صيني مهاجر وقبر لرجل ياباني مهاجر أيضاً.
صقر أبو فخر