يعيب البعض على بعض المثقفين أنهم تخندقوا فكريا ، وأسسوا لأنفسهم الشللية والعصبوية الفكرية الضيقة، وبدلا من لعب الدور الطليعي للمثقف في الإسهام في ثقافة الحوار والانفتاح لكل الأفكار والانتماءات الثقافية المختلفة ، تقوقعوا على أنفسهم، واظهروا النرجسية الفكرية في تعاملاتهم بحجة وصلت لحد الانغلاق والتوجس من الاختلاف ومن ثقافة التعدد والتنوع والتي هى سنة كونية من الخليقة، وهذا مشكلة المشاكل في الراهن الثقافي العربي ، وأصبح التمترس هو الذي يسيطر على الساحة الثقافية،وهذا ما جعل الأزمة قائمة، والحراك محدودا، بفعل هذا الموقف الانحيازي للمثقف من قضايا الثقافة والمثقفين، سواء في مجتمعنا العماني ،أو المجتمعات العربية، فالأزمة قائمة، وأسبابها متعددة، وتحتاج إلى مناخ إيجابي يحلل ويدرس ظاهرة أزمة المثقف وتراجع دوره الهام في خلق الوعي الثقافي، ودفع بالمجتمعات إلى ما هو أجدى وأنفع في قضايا الحرية والديمقراطية والتسامح مع الآخر المختلف والقبول بالاختلاف الطبيعي الذي هو سنة كونية.
والمثقف العربي أيضاً أصابه ما أصاب المثقف في هذا العصر ، خاصة المثقفين المتأثرين بهذه الأفكار أو المقتربين منها ، ومن هؤلاء المثقف القومي، والمثقف الليبرالي ، والمثقف اليساري الملتزم.لكن البعض يرى أن الصدمة الكبرى في حياة المثقف العربي والتي شكلّت له منعطفاً خطيراً في أيديولوجيته الفكرية ،جاءت مع هزيمة 1967 ، لكنه استطاع أن يراجع قناعاته وينقذ نفسه ، ويعيد النظر في بعض ما اعتنقه من أفكار وأوهام ، وهذه المراجعة ربما أنقذته من نهايته كمثقف ملتزم بقضايا أمته ومجتمعه وعصره ، وفاعل في الدفاع عن المبادئ الأساسية التي كانت راسخة في وجدانه . ودافعة للإبداع والتقدم والحرية، وظلت الانسدادات الفكرية تجاه المثقف تتراكم بفعل الاحتقان السياسي والتذبذب الفكري وغياب الحريات بمضامينها المتعددة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى جاءت الانهيارات الأيديولوجية وتبعاتها وأزمتها القائمة. وجاءت العديد من الكتابات الجادة في الغرب تتحدث عن نهايات السياسة ونهاية الأيديولوجيا . ونهاية المثقف ونهاية الديمقراطية . آخر مقولات هذه النهايات ، نهاية التاريخ عند الليبرالية الغربية لفرانسيس فوكوياما .وتلقف بعض الكتاب الذين لا يتورعون عن توريد الأفكار والنظريات في الغرب طرح ما يقوله الغرب ويستعيره بلا مناقشة أو نقد ، ليعرف ما مضامين هذه الأطروحات ومطابقتها على واقع العربي وأزمته الحقيقية .وبالفعل طرحت مسألة «نهاية المثقف» على المثقف العربي ، واستعيرت الأزمة الثقافية والأيديولوجية في الغرب بكل ظروفها ، وإسقاطها على الثقافة العربية . وهذه بلا شك نظرة قاصرة ولا تعبر عن الواقع العربي وظروفه وقضاياه .
صحيح أن هناك الكثير من التداخل والترابط في إشكالية الثقافة وأزمة المثقف في الكون عموماً ، وما أفرزته الإنسانية من مشكلات قد تتقاطر في الكثير من رؤاها ومضامينها ، لكن هناك أيضاً الكثير من التقاطع والتنافر في مفاهيم المثقف العربي عنه في المثقف في الغرب ، إلا إذا أصبح المثقف العربي نسخة « كربونية « من المثقف الغربي في أفكاره ورؤاه وإشكالياته ، ومن ثم فإن تسمية المثقف العربي تصبح هنا في غير ذات معنى . وتكون معالجة القضايا والإشكالات عند المثقف العربي مصطنعة ، وقراءة مختلفة لتاريخ الأمة ، ذلك أن النخب المثقفة في الغرب صاغت قضاياها وأفكارها من داخل الغرب نفسه ، ومن ثم فإن نخبنا العربية المثقفة عندما تستعير المشكلات والحلول من الغرب ، فإنها بهذه النظرة تصبح كتلة منفصلة عن المجتمع والأمة ، وتكون حلولها المطروحة مجرد استعارة وهمية لمشكلات غير قائمة ، وتصبح أزمة المثقف العربي أو نهايته مقبولة الطرح وواضحة للمتابع الحصيف ، وربما لا تحتاج إلى تنظير أو تحوير في هذا الصدد ، ومع ذلك فإننا نرى إن هذه المسألة ـ أزمة المثقف أو نهايته ـ قضية نسبية بين أوساط المثقفين العرب ، وقد لا تمثل الصدارة في إشكالية المثقف العربي الذي نقصده .
فالثقافة هي الوعاء الذي تصب فيه كل التجارب والخبرات وطرائق العيش ، والمخزون الفكري والعطاء الإبداعي الخ :و لذلك فإن الثقافة من أبرز مكونات حركة الحياة في المجتمعات الإنسانية باعتبارها الذخيرة المشتركة لأي أمة من الأمم تنتقل بها من جيل إلى جيل عبر تاريخ طويل من الأفكار والعادات والسلوكيات والمعتقدات وغيرها من المعطيات في هذا المضمار .
لنتفق أولاً أن المثقف في النهاية إنسان له ظروفه النفسية والاجتماعية ، وله حاجاته المتعددة كأي إنسان في محيطه ، ولذلك ليس من العدل تحميله قضايا وإشكالات ليست من صنعه أو من بنات أفكاره ، بمعنى أن الكثير من الإشكال الثقافي وتأزمه أو الجمود الإبداعي قد لا يصنعه المثقف وحده ، لأن الثقافة عبارة عن تراكمات عديدة تصنعها الشعوب والمجتمعات الإنسانية ، وفق بيئتها وسبل حياتها ، لكن النخب بلا شك عليها الدور الأساسي في تفعيل هذه الثقافة وتحويلها إلى مؤسسة فاعلة في المجتمع .والمثقف العربي ينتمي إلى هذا الصنف من المثقفين الذي يسعون عبر نشاطهم النظري والعملي إلى إنجاز التطلعات الثقافية في المجتمع العربي ، في إيجاد الإبداع الحقيقي في نظرته ودوره وممارسته .
وهذا لا يعني أن المثقف يستطيع الإجابة على كل الأسئلة ، وحل كل المعضلات القائمة ، لكن وظيفته هي الانطلاق والإبداع ، والسعي إلى كشف القضايا والإشكاليات والبحث في مضامينها الجوهرية ، وتحفيز الناس على التفكير فيها بما يهدف إلى وضع هذه الاشكالات موضع النقاش والنقد الجدي ، وليس الهروب والتقوقع والمعايشة في الأبراج العاجية . فالمثقف المبدع هو الذي يوجد إبداعه وتحفيزه لأقرانه على الدور الفاعل من خلال الأفق الثقافي المفتوح ، والحفر المعرفي المستمر ، والمراجعة الدائمة لهذا الإبداع للارتقاء به إلى مستويات رفيعة .
إن رسالة المثقف العربي في المجتمع ليست هامشية بقدر ما هي هامة حضورياً ، وما يستتبع ذلك من مهام وأدوار ملقاة على عاتق المثقف في الانفتاح على الناس ، والتفاعل مع قضايا الوطن وهمومه ، وهذا الانفتاح المرغوب هو الذي يلغي الحواجز ، ويسمح بإقامة علاقة ثابتة وصحيحة مع المجتمع تجعل منه مثقفاً صادقاً مع نفسه ومجتمعه ، ويدرك بالتالي متطلباته الملقاة عليه ، وغرس بذور الثقة والتفاعل الإيجابي بين المثقف وقضايا الوطن في عمومه ، سيما قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تعد من المتطلبات الملحة في وطننا العربي .
لذلك نعتقد أن ثقافة الحوار هي المنقذ من الارتباك في قضية أزمة المثقف، بقدر ما للثقافة من أدوار وتأثيرات في كل الأنساق الفكرية والسلوكية في المجتمعات عبر العصور ، لكن الذي يكسب الحوار الثقافي إيجابياته وبعده الإنساني القويم ، التعدد الثقافي والقبول به . فالتعدد في الثقافات البشرية عبارة عن تعدد في مسارات مختلفة « يسلكها بمجرد سعيه لسبر أغوار العالم ، ومحاولة التعرف على حقيقته . إن هذه الحركة تشبه حركة الماء المراق على الأرض عندما يأخذ بالانتشار بكل الاتجاهات الممكنة ما لم يمنعه مانع ؛ فالفكر يتحرك في الفضاءات التي تواجهه ما لم تحد من حركته موانع ، كما أنه قابل لأن يتوجه وجهة خاطئة إذا ما تم فرض هذا التوجه عليه ، وإذا وضعنا في اعتبارنا علاقة هذا الفكر بحركة الواقع ، وكونه القوة التي تجر الحياة البشرية وراءها بأي اتجاه سارت ، عرفنا خطورة وأهمية عملية تشكيل الأفكار وخطورة الأغلاط التي يقترفها الوعي وهو يحدد علاقته بموضوعاته .
ومن هذا المنطلق فإن الحوار الثقافي يأتي بثمرات عديدة تكتسب من بعدها الانفتاحي على الآخر ، ويشكل النواة الصلبة للعمل الثقافي الجاد الذي يتراكم ويتواصل « لخلق حالة ثقافية بصفات جديدة وعقلية حضارية تمارس القطيعة المعرفية مع تلك العقلية الضيقة التي لا ترى في الوجود إلا لونين إما أسود أو أبيض ..وبالتالي فإن الحوار الثقافي ليس تصدعاً في الذات الثقافية ، بل هو إثراء لها وإضافة نوعية إلى بنائها وسياقها المعرفي ، وأن أهم ما تمارسه عملية الحوار هذه أنها ترفع الأوابد عن الإبداع وآفاق الثقافة الجديدة . من هنا تبرز ثقافة التفاعل والتنوع كنتيجة للحوار في مقتضياته العديدة وكثمرة للقبول بالآخر ومحاورته ، بهدف توطيد جسور التواصل ، وفي غياب الحوار الثقافي نفتقد بالتالي إيجابياته وثمراته الكبرى ، وتثمر في مقابله ثقافة الاستبداد بحديث يقود المجتمع إلى حالة سلبية من عدم التوازن وعدم الترابط ، وبالتالي وضع المجتمع في إطارين ؛إما التصادم بين الأفكار والاتجاهات المتعارضة والوصول للصدام المادي ، أو اضمحلال الكل في فكر واحد واتجاه تسلطي منفرد ؛ مما يعني انقراض الإبداع ، وموت التنوع ، وإقصاء الاجتهاد ، والتوقف التام عن الحركة الحيوية المستمرة .
ولذلك الاستبداد ( يتناقض )مع الحوار ، فمع وجوده ( يتراجع ) الحوار ؛لأنه يمثل اعترافاً بالآخر ، وبالتالي إذعاناً للتعددية والتنوع ، وهذا أمر ترفضه الدكتاتورية ، وفي نفس الوقت فإن قطع الطريق أمام الحوار يقود تدريجياً لتسلط الرأي المنفرد ، وإقصاء الرأي الآخر
فالحوار الثقافي يثمر أيضاً ثقافة الانفتاح المحضة ضد الاختراق ، ذلك أن الانغلاق ـ كما يقول د/ محمد عابد الجابري ـ موقف سلبي غير فاعل . والطريقة الإيجابية للتحصين الذاتي أن يكون الحوار الداخلي قائماً ومترابطاً وبالتالي سيكون متماسكاً حتى في حالة عدم التكافؤ في القدرات والإمكانيات المختلفة بيننا وبين الآخر ، مع وجوب إرساء ديمقراطية يتم بها « وفي إطارها تحرير الثقافة من السياسة وذلك برفع جميع القيود عن حرية التعبير التي من دونها لا تفكير ولا حوار ولا إبداع . إن الاستقلال الثقافي يبدأ من إستقلال الفكر ، وليس هناك من بديل للفكر المستقل غير التبعية للغير أو الجمود على التقليد .والحوار الذي توفره الديمقراطية الحقة في إطار تكافؤ الفرص وضمن الإستراتيجية الثقافية ..هو وحده القادر على أن يحفز عملية « التجديد من الداخل « ، عملية تبيئة الحداثة وجميع مكتسبات الفكر الإنساني المعاصر بالصورة التي تجعل من الاتصال والتواصل مع الثقافات الأخرى عصر إغناء وإخصاب ، لا عامل استلاب واستسلام .
ومن ضمن ما قام به الإسلام عند انطلاقته العظيمة ، أنه اتخذ الحوار طريقاً إلى الإنسانية ، فأثمر هذه الحضارة العملاقة التي تفاعلت مع كل الحضارات في ذلك العصر « بوتيرة لا سابق لها في تاريخ البشر .فتوسعه في آسيا كما في أفريقيا وأوروبا قد أتاح له أن يكون بوتقة عملاقة انصهرت فيها ثقافات عدة . وهكذا نشأت حضارة أصيلة عالمية الطابع ، متخذة العربية لغة مشتركة . وقد شكلت مرحلة حاسمة في تاريخ الإنسانية . فقد قدمت الحضارة الإسلامية أسماء لامعة يعتد بها على المستوى العالمي في ميادين المعرفة كافة : الأدب ، علم اللغة ، المعاجم ، التشريع ، اللاهوت ، التصوف ، التاريخ ، الجغرافيا ، رواية الرحلات واكتشاف البلدان القصية ، الملاحة ، الرياضيات ، الفلك ، الموسيقى ، الفلسفة ، الطب ، الكيمياء ، النبات ، الفن والعمارة . إنه التراث الثقافي الكلاسيكي الذي يستمر درسه واستكشافه
كما أن الحوار يساهم في التعايش مع ثقافة الآخر وفكره ورؤاه من منطلق القبول بالتعدد الثقافي والإقرار بها ، وهذا في حد ذاته غنىً للثقافة نفسها ، وقوة لعناصرها الذاتية ، يضاف إلى ذلك أن نظرتنا للقبول بالآخر والتعايش معه تعتبر جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا وحضارتنا وديننا الحنيف ، لذلك فإن من المهم تعميم ثقافة القبول بالآخر والتعايش معه والدفاع عن حقه في التعبير ما دام يلتزم القوانين والأنظمة المرعية ، وهذا ما يدفعه أيضاً للقبول بالحوار الثقافي والتعايش معه .
وينمي التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب من خلال هذا التفاعل ، ومع أن لكل أمة سلمها الحضاري ، وحيزها في هذا السلم ودرجته ، إلا أن هذا التفاعل يتنامى مع الحوار الثقافي ، ويترك أثره وتأثيره بالتراكم الثقافي ، ويكون أقدر على الثبات والتأصيل ، والأقدر أيضاً على الحوار الثقافي والحضاري مع الحضارات والثقافات الأخرى بحكم تفاعلها الثقافي معهما .
من هنا فإن القيمة تدخل في صميم التكوين الثقافي الجمعي والفردي على حد سواء ، لأن الثقافة المميزة لأية مجموعة توضع على شكل مفاهيم وقيم وأنماط سلوك ، ومنظومات معرفية تحققت لدى أنساق متتالية من الجماعات البشرية عبر مراحل متعددة
فالوعي بثقافة الحوار يسهم مساهمة إيجابية في الانفتاح لتعدد الآراء ، أو على الأقل الاقتراب من الديمقراطية الحوارية ، وهذه الديمقراطية ـ بغض النظر عن المسميات والمصطلحات ـ تقترب كثيراً من مفهوم الشورى في الإسلام من حيث التعدد في الآراء وقبولها بعيدا عن الإقصاء والشللية والأحادية في العمل الثقافي العام.
ً
———————————–
عبدالله بن علي العليان