يمر المساء كل يوم من هنا, مائلا على كتفي كعادته , ضوء هائل لم يعكسه وجه المرآة كما ينبغي, والأرجح أن مهمة تصفيفه في هذا الوقت من كل يوم , قد أسندت الى خلفية المرآة ء في حين يبقى شيء ما في الجزاء الذي أعفي من الخدمة , لمساء كامل , سيمر , ممشى من المفترض دخوله … أصدقاء ينتظرون زيارة سريعة , وذات بهاء كلي , وربما رغبة الحذاء في الانتقال الى قدم أخرى تحقيقا للأفضلية , هذا الحذاء الذي التقيته بالصدفة وأنا خارج للتنزه , وزرته في اليوم التالي كغريب , ألقيت عليه نظرة عاجلة , وككل الذين يجدون في النهاية أعضاء كانت تخصهم , دفعت يدي: بضع دقائق .. بضع سنتيمترات . وبضع أوراق كانت في جيبي , لابتسم أخيرا، وتغدو الشوارع مغايرة .(2)
أنا في مفصل ما من المساء. معقود في الحجرة التي تفيض بالأقاصي . كلما انفرشت أطرافي خارج راحتيها.
الاطف دقائق عائمة في الهواء. أفلتت توا من الاخلاص . دون أن أدري لم أبدو سعيدا كلما لمحت دقيقة تفلت : قد انقطع فجأة عن فعل ذلك غير أنه سيكون للغرض ذاته : الافلات . أظن أن سنواتي كلها تعوم الآن في هواء هذه
الحجرة , بعضها كان قد هبط على جدار , فثبته في المكان ذاته على الجدار. بضربة كتاب أو عقب حذاء، في حين أن بعضها الآخر مازال يجوم فوق راسي في انتظار ضربة مشابهة على جدار ما.
أفعل شيئا ما, في الأغلب : ألهو. لابد أن أحدا قد رافقني النهار كله قبل أن أصل الى المساء. واصطدم بهواء الحجرة . ورائحتها حالما وطئت العتبة قادما من هواء الشارع . ورائحة الأشياء التي بالضرورة , ليست لي . المسافة قصيرة دوما مع أية صداقة , وأعتقد أن الصداقة دقيقة تماما ومدببة وحين تنفرش . فإنها بالضرورة , تتلاشى, لقد ولجت الحجرة منذ قليل . واصطدمت بالهواء والرائحة اللذين لها. ولم اتجه الى النافذة لأسرب خيط هواء من الشارع , أو رائحة شيء يرف في الشباك , انكمشت فقط . في عقدة ما من الحجرة . متحدثا الى نفسي عن بشر كثيرين قبلي . قضوا حيواتهم في حجرات بلا نوافذ لمجرد أنهم كانوا خائفين من خيوط هواء غريبة . وروائح غازية قد تندلع فجأة بين أنفاسهم المطمئنة في العتمة . أو تجرهم الى كمائن خارج الحجرات .
بشر بدائيون . مطمئنون في الوضوح , عاملوا الأرض بالفراسة , والصبر, وتلمسوا الحياة بعريهم , دون أن يجدوا وقتا لارتداء ملابس أو لغة , وقفوا تحت أشجار كريمة لم تستأثر وحدها بالثمار أو الظل . وحالما رفعوا عيونهم الى الثمار الناضجة . وقعت بلطف في أفواههم دون أن يقذف غصن
بحجر, كانوا يختفون مع اختفاء الشعاع , ويعودون عند الصباح عائمين .. عائمين .. عائمين , كالغيوم , يسرحون في الأرض نظراتهم , فتكون كائنات وأحجارا , وسحابا. …. الحياة كلمات قليلة , ونظرات ..
بعد ذلك يعودون الى حجراتهم عند المغيب , مصطحبين نفوسهم فقط , ويومهم الذي لم يثبتوه على جدار, كانوا قد فعلوا ذلك للمرة الأخيرة . حينما أشرفوا على حجراتهم عنا المغيب , التفتوا الى الوراء , وسرحوا في الأرض نظراتهم الأخيرة . فامتلات البسيطة بالرياح وأسمائنا. وعندما استيقظوا آخر مرة , قبل أن يفتحوا ابواب الشمس بقليل وجدونا على الأبواب .
(3)
لا أزال في حجرتي . والوقت مساء، أزور أصدقاء وهميين في الذاكرة ء ويزورني أصدقاء وهميون عيناي مفتوحتان على إغماضة في الماضي, ويوشك شيء ما على أن يحدث ويأخذ شكله النهائي.
ماذا يفعل الناس عادة عندما يكونون في حجراتهم , والوقت مساء؟
قد أنهض لعمل شيء ماء أحيانا لمجرد فتح الباب وغلقه , مما سيخلف لدي شعورا بأن هناك أشياء تنتظرني خارج الباب , شوارع .. صداقات .. وأناس يمرون دون أن يتركوا شيئا من حيواتهم في يديه يجب تأمل الأشياء أيضا.. النظر من خلال النافذة .. اسدال الستائر .. التأكد أخيرا من أن شيئا لن يعكر صفاء نومي الذي سيأخذ في الانسراب , خيطا.. خيطا, مع أنفاسي التي تتوافر مصادفة في حجرتي هذه بالذات , لابد ان أنفاسا تتفرد هناك . في أقصى الحجرة , وأظن أن الحياة مواتية تماما لأن تعاش هذا المساء في هذه الحجرة التي عادة ما تسهر حينما لا تجدني نائما فيها، تنظر الى الخارج , أو تقف أمام صورتي الوحيدة على الحائط , تتأمل وتنتظر, وقد تنفصل عن البيت في آخر الأمر هذه الحجرة , وتخرج بحثا عني، تتحدث مع العابرين .. مع الحيوانات الطريدة والسيارات .. مع المصابيح وإشارات المرور. . مع اللافتات التي يبتسم فيها أناس , او يقفون دون عمل شيء عدا كونهم واقفين وحالما يحدث وتلقاني , أدخلها , وأنام .
أنفاس لطيفة جدا وأليفة , أظنها تنفرد هناك , عند أقصى الحجرة , تبتسم لي , أو ترقبني بصمت , وتتجمع , قبل أن تصير خاصتي.
(4)
الوقت مساء، وثمة شيء غامض يدفعني لأن أغير مكاني. في الأرجح أخمن المكان الذي سوف يسقط فيه النوم , أخمن
المكان , وأتعرى , شيء حسن أن تستقبل فكرة ما وأنت عار,لابد أن ذلك سيسهل عليك مهمة الدخول في الفكرة أو
الخروج منها، هناك أناس كثيرون أدركوا هذه الحقيقة , ربما في وقت كهذا ,وعند الصباح انسلوا من أسرتهم خارج الحجرات عراة في الشارع يتحدثون في الهواء الطلق عن جمال الحياة في العري, وكيف يعود الانسان الى البيت خاليا من الآلام لأنه لا يحمل معه جيوبا.
إنني مكشوف بالكامل , وأتنفس بحدة . ربما أتنفس بحدة عندما أركض , لأعقد صداقة سريعة مع الهواء الذي أعبره ، وفي الحجرة , ربما لن أعقد أية صداقة مع هوائها حتى أشهقه بالكامل , وأزفره بالكامل , بحيث لا تبقى ذرة واحدة من الحجرة خارج رئتي, القشعريرة تأخذ شكلها النهائي: جسدي. أظن أن شيئا لم يكن ليحدث لو نمت بملابسي , كنت قد فعلت ذلك مرارا، وعندما كنت أستيقظ , أوقظ ملابسي , وأرحل , دون أن يحدث شيء يذكر, كنت صغيرا جدا, حينما جاءت أمي بملابس, ودارت بها أمامي, قالت بأن ذلك ضروري لحياتنا, نرتدي ملابس من الأفضل أن تكون جديدة , أو على الأقل , نظيفة وحالما نستغني عنها. نخلعها ونضعها في زاوية لم تقل لي أمي لم يرتدي الناس عادة ملابس , قالت لي فقط بأن ذلك ضروري لحياتنا, ثم وضعتني في ملابسي دفعة واحدة , ورحلت . أمي التي كانت نقية جدا,وشرسة جدا أحبتني , لأنني ابنها , بكرها بالذات , لكنها لم تقل لي لم يرتدي لناس عادة ملابس، لم تقل لي مثلا بأن هناك أعضاء في جسومنا تثير الآخرين , تخيفهم ، أو تدفعهم الى قتلنا, لأنهم أرادوها لهم , قالت لي فقط بأن ذلك ضروري لحياتنا.
أجلس الآن في زاوية من الحجرة بعد أن أكون قد جلست في نفسى، وأرصد شيئا ما، لابد أن ملامحي تتبدل بين الفينة , والأخرى ,وأكسب المزيد منها مع الوقت , هناك ملامح في الصباح تختلف عنها في المساء , وملامح في الصمت تختلف عنها في الكلام ء,ملامح كثيرة وكافية تماما لقضاء حياة على كوكب . أعرف أن مسافات طويلة ينبغي أن تقطع أولا قبل أن يتبدل ملمح ما في وجه , وأحيانا تقطع دون أن يحدث ذلك , ولكن ، كم من المسافة ينبغي علينا أن نقطع قبل أن نمسك الملمح الأخير في وجه إنسان ميت تسلل خارج نفسه خفية , بلا ملامح ؟
. . . . الملمح الأخير في وجه إنسان ميت . .
. . . كأن ذلك كاف .
الوقت مساء :
أتذكر شخصا توقف في وجهي مثل صرخة , ولم أتبين من وجهه شيئا. كنت قد أفقت توا, كما لو بين نومتين , المساء وقت مناسب دوما لتذكر ما حدث , أستطيع أن أفعل ذلك بمزيد من اللذة والألم , أتذكرشيء حسن أن تقضي نهارك كله دون أن تتذكر شيئا حدث لك قبل قليل , تعيش فقط , ثم تفعل ذلك كله في المساء , تتذكر النهار كله دفعة واحدة وتنام .
نبيل سبيع(شاعر من اليمن)