لأنها مهد القصيدة ظلت فتوحات الجزيرة العربية الفكرية والفنية والعلمية علامات ترسم على الطريق ملامح إرثها الحضاري الذي يشع ليغمر بقية المراكز الثقافية بألقه الباهر. وعطاءات إنسان هذه المنطقة التي انتجها عبر مخاضات طويلة وكان لابد لهذه الانجازات التي تعكس حيويته الفكرية أن تتواصل لتدخل العصر الحديث متسلحة بذلك الارث النابت في وجدان المكان .
ورغم المكانة الرفيعة التي احتلها شعر الجز يرن العربية على مر العصور في الآداب العالمية إلا أن نصيبه من الدراسات الأكاديمية يكاد يكور شبه معدوم ، لأسباب غامضة ، ويكفي القول إن هناك دراسة توثيقية واحدة انجزتها الدكتورة (ثورية الرومي) وتوقفت فيها عند عدد من النماذج المبكرة للقصيدة الحديثة ، لذلك جاءت دراسة الشاعر والباحث (أحمد الدوسري) الموسومة (اتجاهات الشعر العربي الحديث في الجزيرة العربية ) التي تقدم بها لجامعة جينيف لنيل درجة الدكتوراة باشراف البروفيسور (شارل جو نكو) وباللغة الفرنسية لتفتح نافذة ليدخل عبرها ضوء القصيدة الحديثة لشعراء الجزيرة العربية الى قاعة الدرس الأكاديمي لكي يتمكن الباحثون الأجانب من الاطلاع على المستوى الرفيع الذي بلغته هذه القصيدة تتألف الدراسة التي أوصت لجنة المناقشة بطبعها ومنح (الدوسري) درجة الدكتوراة بامتياز مع درجة الشرف الأولى من جزءين وثمانية فصول .
تناول الباحث في الجزء الأول تجارب شعراء حافظوا على القصيدة العربية التقليدية من ناحية البناء الفني، لكنهم جددوا فيها لغة وايقاعا، وصورة وموضوعات وربطوا الشعر لأول مرة بالانسان والوطن ، ويأتي على رأس هؤلاء الشاعر (عبدالله البردوني) الذي رأى الباحث إنه جعل الشكل التقليدي عاملا مساعد في دخول القصيدة العربية معترك الحياة والناس وقضايا الوطن ، ومن قبله حاول (الزبيري) الذي اغتيل في اليمن مطلع الستينات ذلك وتوقف الباحث عند تجربة البراوني باعتبارها تجربة مهمة ليس في اليمن وحده ، ولكن في عموم الجزيرة والوطن العربي لأنه استنفر طاقات هذا الشكل الشعري كما فعل الشاعر (محمد مهدي الجواهري) الذي يعد آخر عمالقة هذا الشكل . واستعرض (الدوسري) في الفصل الثاني تجربة الشعر الحر مع الاشارة الى ارهاصاته الأولى خصوصا لدى (باكثير) ورأى أن وجود (بدر شاكر السياب ) في الكويت مطع الخمسينات هاربا ومشتغلا هناك أثره الحاسم في دخول القصيدة الحديثة الى الجزيرة العربية عبر البوابة الكويتية حيث تعرف عليه (محمد الفايز) و(علي السبتي) وتأثرا به ، فكتب محمدالفايز (مذكرات بحار) التي عدها الباحث من أجمل ما تم تحويله الى غناء في الشعر العربي لكنه يرجح أن (علي السبتي) كان الأسبق تاريخيا من (الفايز) في كتابة الشعر ن الحر.
وتناول الباحث تجارب عديدة أبرزها تجربة الشاعر سليمان الفليح ، ومحمد الدميني ، وعلي الشرقاوي، وأحمد ضيف الله العواضي ودخيل الخليفة اضافة الى تجارب أخرى أكثر حداثة كقاسم حداد.
كما أفرد فصلا كاملا للقصيدة النسوية (الفصل الرابع ) حيث رأى أن الشاعرات العربيات في الجزيرة أكثر من أي مكان آخر في الوطن العربي كما ونوعا ، حيث توقف عند ر تجارب الشاعرات : سعاد الصباح ، سعدية . مفرح ، ميسون صقر، فوزية السندي ، حمدة خميس ، ظبية خميس ، عالية شعيب وأخريات وتناول الباحث في الجزء الثاني من دراسته عدة مفاهيم وتعريفات ، ورؤى للشعر عبر رصد تجارب ثلاثة شعراء بارزين هم الشاعر عبدالعزيز المقالح صاحب التجربة الثرية المتطورة تطورا مطردا الذي بدأ تجربته ثوريا وانتهى صوفيا لكنه حافظ على شفافيته حيث توقف عند ديوانه (أبجدية الروح ) متناولا أهم انجازات المقالح الشعرية والنقدية باسطا رؤيته الشعرية والفنية ، كذلك أهم أدواته الفنية ، وبخاصة استدعاء الشخوص التاريخية وينتهي الباحث الى أن المقالح يعد أكبر شخصية شعرية في الجزيرة العربية من حيث الاتجاه الذي سلكه وحده لاسيما في شعره الأخير. والشاعر الثاني الذي تناوله بدراسته التطبيقية هو (خليفة الوقيان ) الذي يتفرد بلغته الشعرية الفذة وهو شاعر ملتزم برؤية عربية ثورية خالصة .
واختتم دراسته بالشاعر سيف الرحبي حيث رأى أن تجربته مغايرة تماما لتجربتي المقالح والوقيان ، حيث تحرر منذ البدء من التزامات التفعيلة واستفاد من كل تجاربه المكانية فالمدن الصاخبة التي عاش فيها طويلا مثل (القاهرة ) و(بيروت ) و(باريس ) و(لندن ) جسرت نص (الرحبي) وجعلت منه نصا للحنين بامتياز بطاقة تحررية تقاس باللانهائي، وبالانفتاح الهائل على العالم ، واذ يعود في التسعينات الى بلده (عمان ) فإنه يعود اليها شاعرا كبيرا وناضجا، وتجربة (الرحبي) متفردة ، وتبدو نسيجا وحدها ، فنصه يجمع بين التفاصيل والكليات بين اليومي والكوني، وكل ذلك بلغة لا يحدها المبتذل ، ويرى الباحث أن المكان والطفولة في شعر (الرحبي) يرتبطان بالشعرية لديه ارتباطا وثيقا ويكادان يفيضان من نصه على نحو كامل ، ومذهل ، لذا يمكن أن يقال أن شعر الرحبي هو الحياة بكل ما فيها من ايجابيات وسلبيات وهو شعر لا يلجأ الى وسيط سواء على مستوى الرمز أو على مستوى التمايلات الفنية كما لدى شعراء آخرين . ان أهمية هذه الدراسة تكمن في أنها توقفت عند تجربة الحداثة الشعرية في الجزيرة العربية عبر قراءة جديدة لنتاج شعراء متميزين أثروا المشهد الشعري العربي الراهن بابداعاتهم ، فدخلوا الجامعات العالمية عبر الدرس والتحليل والقراءة المتفحصة لواحد من أبناء الجزيرة ، وكم نتمنى أن نقرأ هذه الدراسة مترجمة الى اللغة العربية لاثراء المكتبة العربية بمثل هذه القراءات الجادة لنتاج شعراء الجزيرة .
عبدالرزاق الربيعي(شاعر من العراق يقيم في مسقط)