تتأكد ظاهرة الحداثة في الفن السوري المعاصر خلال فترات الانتقال والتراوح من التعبيرية (التي طبعت محترفي القطر بالالتزام السياسي والاجتماعي )، الى التجريد ا لغنائي، الذي كشف الخصائص الذوقية منذ السبعينات، فاذا ما تجاوزنا قوة اجتياح اشكال الفنان نشير نبعه الإنسانية، وقدرة الحلول الفراغية التراتبية للفنان فاتح ا لمدرس على الاستمرار في تجارب الشياب، فان رواد التعبيرية انفس! هم لم يكن لجمع اساليبهم اي رابط مشترك، نشير نفسه كان شديد الاختلاف حتى مع زملائه "جماعة العشرة " (من امثال زيات والزعبي وغيرهما).
وهنا نلاحظ ان التحولى من التعبيرية الى التجريد كان يتبع تطور معالجة الهيكل الإنساني وموقعه في الفراغ الدرامي،فعندما يزداد تمزقا تغيب ملامحه، وينتقل الانفعال الغاضب من التمثيل الى الالماح، سنعثر على تبيان لمحطات هشا التحول في تجارب الفنان محمود حماد وانتقاله المتدرج من التعبيرية التي تترصد استلابات الأنسان العربي الى حروفيته الرائدة المغرقة في التنزيه.
بعض من هؤلاء كان اسلوبهم يتأرجح بين التعبيرية والتجريد، من مثال نذير نبعه واليأس زيات ونشأت زغبي ورضا حسحس ونصير شكلورى، بل إن هذا الاخير كان يصور مناظره في الاتجاهين.
يكشف هذا التحول الانفصام الإبداعي الذي كان يعاني منه بعض هؤلاء التعبيريين، الانفصام الحاد بين تمسكهم العقائدي بالشكل الإنساني، واغراء فيضهم الابداعي الحر، وتشكل مأساة لؤي كيالي ذروة هذا الانفصام، فقد تجاوزت رهافته التشكيلية حساسيته الإنسانية في الموضوعات، وغلب الطابع الإيقاعي المتناغم على تكفيناته في اغلب مراحلها، منذ لوحة "مراكب البندقية له التي انجزها في روما، وحتى لوحة للم الصيادين لا العملاقة المحفوظة في متحف دمشق، اما مجموعته الشهيرة التى صور فيها مدينة للم معلولا" الآرامية فستصبح رمزا لهذا التحول من الحدة التعبيرية المأسوية الى الغبطة التجريدية في اللون والشكل والخط.
فاتح المدرس والفراغ التراتبي:
تتداخل تجارب بعض هؤلاء التعبيرين (التي تغذيتها جذوة الشكل
واللون ) مع ملامح التجريد، وبما ان التجريد في حالتنا هشه لا لشكل مدرسة او اتجاها مستقلا، فلا يمكن ربط بشارته بواقعة فنية تاريخية من مثال المعرض الثلاثي التجريدي الشهير الذي التقى فيه حمالى وشوري وزيات عام 1971، او حتى تأسيس صالة "اورنينا" قبل ذلك، فالتجريدية تتداخل موجاتها مع التأليفات التعبيرية لأنها كانت نتيجة حتمية لهذا العبور لعل ابلغ أمثلة هذا التداخل يمثلها النظام التراتبي او السلمي في تقسيم الفراغ الذي انتهجه فاتح ا لمدرس، منشئا فراغ لوحته بستنجي (التجريدي الاول في مدينة حمص ) ألوان المرجان والجمر والصقيع، وظلت موهبته التوليفية اشد تحليقا من هذه المصادر، ونجده اليوم احد اعمدة مدرسة حمص الزاهية التي يقع في برزخها مستقبلي، اللقاح الشرعي بين التجريد واصوله التعبيرية السورية، من أمثال غسان نعنع وكرم معتوق وعزوز وادوار شهدا، ونستطيع ان نضيف الى حساسية هذه المجموعة نذار صابور الموجود في اللاذقية، وهالة مهايني الدمشقية.
الغرافيزم، او الوجه الآخر من التجريد:
لعل ارتباط عبدالقادر ارناؤوط بتنزيه الخط والحرف وتأثير الفنان الالماني بول كليه، دفعه مباشرة لسلوك مسلك التجريد دون المرور بمراحل متوسطة،تعتمد لوحته المهندسة على الاغلب على مفردة تربيعية مستقاة من وحدة قياس الخط العربي، تأخذ اشكال المعين والمربع المائل (وضمن قياسات متباينة قد تتحول الى شكل اللوحة التربيعي نفسه )، تشبه حياكاته الزخرفية ترصيعات الفسيفساء والتثليثات الصدفية التي نعثر عليها في الاثاث الخشبي الموروث، وكثيرا ما تبدو الكتابات غائرة او نافرة قريبة من المحفورات الجصية الشعبية، ان ممارسة ارنأؤوط لصناعة اللوحة التجريدية لم تكن لتنفصل عن مفهوم الصناعة الغرافيكية، ذلك ان تكويناته لم تكن تحتمل مفاجآت المادة، وشطحات الفرشاة التي عثرنا عليهما في مجموعة التجريديين الغنائيين الشباب.
اما مصطفى فتحي فقد اكتشف بديلا اصيلا عن اللوحة والمحفورة، وذلك بالعودة الى القماشة العارية من الاطارات الخشبية، ترف وترفرف مع رسومها مثل الستائر والسجف والمطرزات والطنافس والطواطم القماشية والسجاجيد والبسط ، وخيام البدو الرحل، مستعيرا اختامه من بطون البوادي وظواهر الريف السوري، (ومن المفارش واللباد وانواع صناعات الصوف والحرير والقطنيات… الخ ) تبحث اختامه عن الذاكرة التي تسبق التراث الاسلامي (في قرى عفرين وحوران ودير الزور وغيرها) يعتمد في تكويناته على تحولات لا نهائية لوحدة الختم، وتنحصر الوانه بألوان التربة والاكاسيد والاهرة والاسود والابيض، متقمصا نفس الطقوس التشكيلية السحرية والتعويذية التي تتناسل عبر آلاف السنين.
اما زياد دلول فيمارس التصوير والحفر في آن واحد مستخدما مادة الورق بنهم كبير يصور عليها بألوان الأكريليك، ثم يعالجها بستنجي (التجريدي الاول في مدينة حمص ) ألوان المرجان والجمر والصقيه، وظلت موهبته التوليفية اشد تحليقا من هذه المصادر، ونجده اليوم احد اعمدة مدرسة حمص الزاهية التي يقع في برزخها المستقبلي، اللقاح الشرعي بين التجريد واصوله التعبيرية السورية، من أمثال غسان نعنع وكرم معتوق وعزوز وادوار شهدا، ونستطيع ان نضيف الى حساسية هذه المجموعة نزار صابور الموجود في اللاذقية، وهالة مهديني الدمشقية.
الغرافيزم ء او الوجه الأخرمن التجريد.
لعل ارتباط عبدالقادر ارناؤوط بتنزيه الخط والحرف وتأثير الفنان الالماني بول كليه، دفعه مباشرة لسلوك مسلك التجريد دون المرور بمراحل متوسطة،تعتمد لوحته المهندسة على الاغلب على مفردة تربيعية مستقاة من وحدة قياس الخط العربي، تأخذ اشكال المعين والمربع المائل (وضمن قياسات متباينة قد تتحول الى شكل اللوحة التربيعي نفسه )، تشبه حيا كاته الزخرفية ترصيعات الفسيفساء والتثليثات الصدفية التي نعثر عليها في الاثاث الخشبي الموروث، وكثيرا ما تبدو الكتابات غائرة او نافرة قريبة من المحفورات الجصية الشعبية، ان ممارسة ارناؤوط لصناعة اللوحة التجريدية لم تكن لتنفصل عن مفهوم الصناعة الغرافيكية، ذلك ان تكوينا ته لم تكن تحتمل مفاجآت المادة، وشطحات الفرشاة التي عثرنا طيهما في مجموعة التجريديين الغنائيين الشباب.
اما مصطفى فتحي فقد اكتشف بديلا اصيلا عن اللوحة والمحفورة، وذلك بالعودة الى القماشة العارية من الاطارات الخشبية، ترف وترفرف مع رسومها مثل الستائر والسجق والمطرزات والطنافس والطواطم القماشية والسجاجيد والبسط، وخيام البدو الرحل، مستعيرا اختامه من بطون البوادي وظواهر الريف السوري، (ومن المفارش واللباد وانواع صناعات الصوف والحرير والقطنيات… الخ ) تبحث اختامه عن الذاكرة التي تسبق التراث الاسلامي (في قرى محفرين وحور ان وديرا لزور وغيرها).
يعتمد في تكوينا ته على تحولات لا نهائية لوحدة الختم، وتنحصر الوانه بألوان التربة والا كاسيد والاهرة والاسود والابيض، متقمصا نفس الطقوس التشكيلية السحرية والتعويذية التي تتناسل عبر آلاف السنين.
اما زياد دلول فيمارس التصوير والحفر في آن واحد مستخدما مادة الورق بنهم كبير يصور عليها بألوان الأكريليك، ثم يعالجها بالمكبس او بأداءات بملصقات حرة، يستعير احيانا الاوراق المطبوعة او المخطوطة مسترجعا عناصرها المعندة على النسيان، وما أن تدخل تبصيماتها في سياق اللوحة حتى تتحد خارج سياق دلالتها اللغوية، فتنقلب الى ابجدية شمولية، وهكذا تتحول اشباح الكرسي والمائدة والنافذة والطبيعة الصامتة الى مولود آخر يتصل بديمومة الشكل في الذاكرة، ثم تتسامى وظائفه عن اليومي الواقعي الى العبثي الغائب، وبالاجمال فإن هذا الفنان يمثل البرزخ المتوسط والاصيل الذي يقع بين حدود التشخيص والتجريد.
ألوان من الاتصال الروحي التشكيلي
مع الياس زيات ونشأت زعبي يبلغ التصوير منتهى التنزيه،ليصل في مراحلة الى التجريد الكامل، يتفق الاثنان على أن التصوير ما هو الا انعكاس للحالة الروحية التأملية المديدة التي تسبق الانجاز المتسارع المحافظ على خفقة هذا الانفعال.
فالتصوير يرتبط إذن بالحالة الروحية للرسام وطريقة شحنها عن طريق الانتهال الدؤوب من التراث المخلي في التصوير الروحي " الاسلامي والمسيحي " من مثال صيغ الزجاج المعشق والايقونة او المنمنمة والتحلية، تمر من خلال هذه التقاليد صور الحياة اليومية (حمائمها وحماماتها الحموية، دورها واطفالها)، وقد عبر الزيات، بمرحلة تجريدية خاطفة مشاركا في معرض حماد وشوري المشار اليه سابقا ولكنه سرعان ما عاد الى تعبيريته الروحية، مستخدما ألوان التامبيرا على أخشاب العجمي، وعلى مصاريع الأبواب واطارات المرايا الشعبية، تمتاز رسومه بفيض عفوي هائل – يجابه ارضية شفافة وألوانا مشعة.
يعتمد الزعبي على تجزيء الفراغ، الى حجرات متعامدة تسمح بتسلسل
حكاياه المنسوجة بخيال ليالي نهر العاصي ونواعيره وغيطانه وقصوره المنتزعة من ألف ليلة وليلة.
وقد أدى البحث عن متتاليات تجريدية في التأليف الى استقراء نواظم الواجهات المعمارية المحلية، التي ينبثق النور القزحي الملون من بواطنها، وبالرغم من شدة تنزيهه للأشكال فقد ظل متاخما للتجريد،من هنا ندرك مدى أهمية استكمال لمحوره من قبل مصطفى النشار الذي ارتبط في تجريداته مباشرة بالحليات القرآنية وزخارف العجمي النباتية والاشكال القدسية التي تتناسل من زخارف بعض طرز السجاجيد الحموية ومحاريبها، تعتمد تشكيلا ته على الالتفاف الحلزوني مستعيدة دورة الافلاك والدراويش محاولا في اشواقه اللونية بلوغ
مواجيد أهل الذوق والعرفان.
استمرت بصمات الزعبي ونشار قي الجيل التالي لمدرسة حماه، من أمثال عبدا للطيف صمودي وابرهيم جلل، تجتمع تجريدات الاثنين حول نسيج بصري اهتزازي مستخرج من مغناطيسية اسطح السيراميك والفسيفساء ومن تناثرا ت الرقش وتقاطعات اللحمة والسدى في الأنسجة
والسجاجيد، وهذا ما يفسر استخدام الاثنين للهوامش التي تؤطر الفراغ المحتشد بالزخاف والتهشيرات اللونية. قد تصل احيانا في زيغانها البصري، والتباسات الادراكية " حدود الوهم البصري " الذي نعثر على تأثيراته في حويصلات المقرنصات (في العمائر الاسلامية).
تبدو الحدود (بشكل خاص في المحترف السوري ) بين التجريد والتعبيرية حدودا غائمة ومتداخلة، لان البحث عما بشص " بالمشاهد الجوانية " يجمع هاجس فناني الاتجاهين، فالتجريد يمثل بالتالي واحدة من المحطات الاخيرة في رحلة القلق الوجودي الذي يعاني منه المصورون عامة، وهنا نجد انه من الواجب التنويه الى ان الاشراقات الروحية لا تحتكرها النزعات العرفانية في التصوير (خاصة التجريد منها)، لانه كثيرا ما يغذيها ذلك الاندماج المطلق بالهم الكوني الذي لاحقناه لدى مروان ونبعه، من هنا نعثرعلى القرابة السحرية او التعويذية التي تجمع اختام واشارات مصطفى فتحي الوثنية، وردائفها المستلهمة مباشرة من الرقش الاسلامي لدى عبداللطيف صمودي، لقد عثرنا على مثل هذه
المفارقة ابضا بين ديكارتية المعلم حماد في التجريد، وروحانية تلميذه سعيد طه، بل انه من التعسف اخراج تكوينات فائق دحدوح العارية من هذا الهم الروحي، فأجساد كائناته قد اكتست بفردوس حاد من الألوان العاطفية التي جعلت من غياب أرديتهم سفرا متصاعدا مطهرا من أية بصمة حسية او شهوانية.
ومهما يكن من أمر فان المحترف السوري عل تنوعه وتباعد مناحيه فان خصائص حساسيته تقع في نقاط العلام التي حاولنا رسمها لخريطة ساحة ابداعه، لانها تشكل نوعا من الصراع الحاد بين الترا كم الثقافي البصري البالغ الثراء، ؟
والمخاض الذي يعيشه صراع انسان المنطقة وفنانها مع قوى الشر مباشرة.
وبالاجمال فان تتالي الاجيال الفنية الذي ترصدناه لا يعكس أمانة التحول النوعي من التعبيرية الى التجريد، فهناك تعبيرية اشد حداثة – في مفاهيمها المعاصرة من التجريد النمطي، وهذه حال تجربتي الياس زيات وفاتح المدرس، ولو راقبنا مثلا التناسل الذي اتخذناه كرمز تتابعي بين جيلين. فاتح المدرس ورضا حسحس ، محمود حماد وعبدالله مراد، نذير نبعه ويوسف عبدلكي، نشأت زعبي (مصطفى النشار)
والصمودي.وجلل، ثم نصير شورى وهالة مهايني، لعثرنا من جديد على مراوحات بين الاتجاهين وتحولات من التعبيرية الى التجريد وبالعكس.
أسعد عرابي (فنان وناقد تشكيلي سوري مقيم في باريس)