إبراهيم محمود
باحث سوري
ما الذي يُبقي السرد سردًا؟ إنه حسابه الجاري، الذي يُغري قارئه بمتابعته، فهو يعنيه أمره. بالطريقة هذه لا يتضمن الحساب الجاري، بمفهومه النقدي، المادي، رأسمالًا نقديًا معينًا مودَعًا في مصرف أو بنك معين، إنما ما يخرجه من خانة الثبات، ما يصله بالخارج في الحالة هذه، وهو ينشغل بالمضاف، وما يزيد فيه بالمقابل. ثمة علاقات، وخطوط تحركات تشغله، عبارة عن أطراف متعددة، تُعرَف باسمه أو من خلاله بالمقابل.
ماذا لو أدرجنا في سياق هذا الحساب المتعدد الوتائر، جملة الرؤوس التي تتفاوت في حركتها، وتفاوتها في مواقعها، وهي تعيش تجاذبات فيما بينها، طالما أنها معنية بالحساب المذكور؟ بالطريقة هذه، ألا يصبح السرد في أصل تشكله مفهومًا حسابيًا مركَّبًا، دونه لا يكون للقول معنًى، لأنه مشدود إلى المجهول، وأن الرواية المعتبَرة الأكثر استئثارًا بالسرد هذا، لها النصيب الأوفر من هذا الحساب؟
إن الذي تمثّله رواية الكاتب العماني يونس الأخزمي “رأس مدركة” سيكون الرهان في ذلك!
رأس مدركة، والرؤوس المنضوية ضمنًا
محك “رأس مدركة” رأسيٌّ وأفقي كذلك! إنما كيف يمكن مكاشفة الرأس، وثمة جغرافية كاملة، يثير الناظر ظاهرها، ويقلقه باطنها، لأن “خيط أريان” السحري والمفصلي ينطلق من هناك، ودونه لا إدراكَ معرفيٌ لرأس مدركة!
إنما ما الذي تكونه “رأس مدركة” الرواية؟ “1”
إنها رواية عمّا كان، وعما هو كائن، وعما سيكون. وما يُعلِم به السرد، من خلال المسطور، أبعد مما تبصره العين، ولو أن فعل الرواية توقفَ في نطاق المفصَح عنه كتابيًا، لوقف مأثور النص بوصفه روائيًا!
إنها رواية قائمة بذاتها، رغم أنها تمثّل الجزء الثالث من ثلاثية روائية معنونة بـ (ثلاثية بحر العرب). “2”
ثمة تاريخ متسرب داخل نسيج الثلاثية، وجغرافية مأخوذة بها بالمقابل. وهناك ما يضيء علاقة النص بكاتبه بالمقابل، ومن شهادة له:
(ليست ثلاثية بحر العرب سلسلة متواصلة في أحداثها، بل منفصلة في أحداثها وأزمنتها، رغم تصاعدها في جانبها الزماني، حيث تبدأ في الجزء الأول منها (برّ الحكمان) في منتصف الخمسينيات وتنتهي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ليلحقه الجزء الثاني (غبّة حشيش) الذي تبدأ أحداثه حيث انتهى الجزء الأول وتمتد للتسعينيات. بينما تقع أحداث الجزء الثالث (رأس مدركة)، في الفترة الممتدة بين أعوام 2016 و 2018.
إنها رحلة طويلة ومضنية، حاولت فيها رصد كل التغيّرات الاجتماعية والمكانية، العادات والتقاليد، البشر وتغيّرهم عبر الأزمان، الصياد وصراعه مع البحر ومع أعدائه من سفن الجرف العملاقة التي حلت في بحره كاللعنة على حين غرّة، ونهبت رزقه الذي قسّمه له ربّه، ثم التطور السريع والهائل الذي أحدثه التعمير واحتلال البحر من قبل الموانئ والسفن العملاقة والمباني الأسمنتية التي لم يألفوا ارتفاعها، وقد حجبت عنهم الشمس والهواء، تتداخل تلك القصص مع قصص كثيرة، كالصراع على مصائد الأسماك في أعالي البحار لإثبات من هو سيد البحار، والقتال الذي يحدث بين حين وآخر، خصوصا بين صيادي الشرقية وقريات، وكصراع الصياد القاطن في المناطق الصحراوية مع ابن عمّه القادم من الأشخرة وصور والذي يفوقه شطارة في الصيد، مما يضطره إلى طرده واستبداله بالوافد الآسيوي، كجنوح السفن عبر التاريخ وغرقها بالقرب من مناطق حياة البدو، والتي استفادوا منها، ومدى حقيقة عدوانية البدوي التي تناقلتها الكثير من المصادر الأجنبية.
الجزء الثالث (رأس مدركة)… جزء مختلف تمامًا عن الجزأين اللذين سبقاه، واللذين تناولا الحياة في الصحراء وتغيّرها عبر الزمن. هذا الجزء يتناول أمر جنوح السفن والعبارات وتحطمها على صخور بحر العرب، وعلاقة البدو بها وكيفية تعاملهم مع من كان عليها. هي تستكشف مدى صحة ما كتب عن تصرفات البدو تجاه أصحاب الجلد الأبيض من الأوربيين، في مقابل ما كتبوه عنهم وعن عداوتهم والتي سيكتشف القارئ حقيقته من خلال ما كتبه الأوربيون أنفسهم وليس غيرهم، فالبدو لم يكونوا يملكون القدرة على الكتابة وتوثيق تلك الأحداث، فهل أخذ الأوربيون حريتهم في كتابة ما يناسبهم؟
ليست إذن الثلاثية سلسلة مرتبطة ببعضها بعضًا من حيث الأحداث، فكل جزء هو رواية مستقلة بحالها، أحداثها تنتهي بانتهاء الجزء. لا يوجد رابط سوى الامتداد الزماني وانعكاس التغيّر في حياة البدو عليهم وعلى عاداتهم وممارساتهم.)”3″.
في المذكور آنفًا، تنبسط جغرافية كاملة، وتعزز متخيلَ القارئ الباحث عن المفارقات، عن الخطوط الفاصلة بين ما يكونه أرضيًا، وما يتشكل روائيًا، ولعبة الكاتب في المسافة الفاصلة بينهما، وكيف يدشّن واقعًا آخر، هو واقع النص الذي يشير إليه، أو يُسمّيه، وأي تحوُّل يتخلل هذه المعايشة على صعيد كتابة النص زمانًا ومكانًا!
نعم، المكان عُماني، بمفهومه الجغرافي، وله تاريخه، سوى أن الرواية تنزع عن المكان، ونظيره الزمان كحاضن تاريخي، كلَّ ما من شأنه ربط القارئ بحاسة النظر، واقتفاء الأثر من خلال ورود أسماء الأشخاص والمواقع، أي ما يحرر النص من المرئي المباشر، ويتوقف على مقدرة القارئ في رسم خطوط تمضي به إلى ما وراء العنوان، وراء “الرأس” عنوانًا، والرؤوس أسماء أشخاص، واستنطاق مجهول معلوم كل منها، سعيًا إلى مصداقية الحساب الجاري للسرد وهو أنه لا ينفد دلالة كما هو مقتضىاها الفني طبعًا!
ليس هناك معلومات مفصَّلة عن رأس مدركة. نقرأ مثلاً (رأس مدركة اليوم أجمل بلدة في الصحراء. ص 32). هذه العبارة تتجه بنا صوب الصحراء. سوى أنها ليست صحراوية، إنما تغطس في البحر كذلك، ولها رهبتها، بالنسبة إلى السفن التي تقترب منها من خلال صخورها (التي ثلمت أطرافها بفعل زيارات غواطس السفن المتكررة.. ص 19).
كم يضن السرد بالتفاصيل جهة هذا العنوان. لا بد أن وراء هذا الحذر من التفاصيل من سياسة كتابة، تخص متخيل الكاتب، حيث يصل ما بين الصحراء ومتاهاتها، والبحر وأغواره، وما يحفّزه هذا التقنين في السرد من شعور المكاشفة للمتواري عن النظر هنا وهناك .
علينا أخذ الاختزال لأي حقيقة مكانية، أو زمانية، اجتماعية أو فردية بالحسبان. إذ ماالذي يكسبه الكاتب “الروائي هنا” إذا فصّل في هذا الجانب أو ذاك، سوى خسارة كونه كاتبا، حتى إن عوَّل على ما هو سِيَري في كتابة نصه الأدبي، إذ لا بد من وجود فراغات، من مسوح غموض، من جانب إرباك أو توقيف دوري للقارئ، ليدرك أنه لا يسلك طريقًا معبَّدًا بيسر، وإنما ما يتوجَّب عليه التزام الحذر والتروي.
التفاصيل مرض الكاتب الفاشل
ينوّه الأخزمي في بداية روايته، إشعارًا بما يجب على قارئه أو ناقده وجوب التقيد به:
(هذه الرواية من وحي الخيال، لكنها تستلهم، لأغراضها الفنية البحتة، العديد من القصص والحكايات المروية والمكتوبة ذات العلاقة بمنطقة أحداثها… ومن المهم الإشارة كذلك إلى أن الشخصيات الواردة في الرواية لا تمت بصلة، لا من قريب ولا من بعيد إلى شخصيات طبيعية على أرض الواقع، وإن حصل تشابه في الأسماء فإن الأمر ليس إلا محض صدفة . ص 7).
تلك خطاطة معروفة لدى كل من له أدنى اهتمام بمفهوم كتابة الرواية. لا، بل إن الكتابة في عمومها، حتى وإن قاربت ما هو نسخي بصدد حياة شخص ما، تكون متخيلة، أو لا يصادق عليها الواقع وهو تنوع بالتأكيد. فاللغة ما إن تحيل الأشياء إليها، حتى تنزع عنها ما يُسمى بـ “واقعها”. لا تطابق بين الاسم والمسمّى إطلاقًا.
ثمة دُرْجة هنا، ولكنها بالنسبة للمجتمع الذي لم يختبر ما يكونه الأدب عمومًا، والرواية خصوصًا، وبمنظور الفن تحديدًا، ولم يتأهل إلى مستوى متخيل النص واحترام بدعته، تفصح عن إشكالية علاقة وعسْر تقبلها. فـ (أن يبوح كاتب ما بكل ما يريد، فهذا شأنه. أما بخصوص الآخرين.. هل يحق له التسلط على حياة الآخرين؟ كلنا يعرف العبارة: “كل تشابه مع أشخاص…” وهي عبارة لا تثبت أي شيء وليس لها حتى أي مفعول قانوني.) “4”.
من المؤكد أن العُماني، أن “ابن المنطقة”، أن المطَّلع على جغرافية رأس مدركة، ما إن يقرأ عنوانًا كهذا، حتى يستدعي كل ما له صلة به، تنوعًا من عراضة معلومات، سوى أن ذاكرة الكاتب تتجنب إقامة علاقة كهذه، حتى بالنسبة إلى المقيم في المكان نفسه. لا بد أن تجري كتابة الرواية، ولو نهارًا، تحت مظلة ليلية ما، أو تحت جُنْح ظلام، لتلهم الخيال!
سواء أدرك الروائي هذه العلاقة، أدرك بنية هذا العهد الضمني، أو لم يتنبه إليه، إلا أن سرده يعزز ذلك ويغذّيه دائمًا!
كم هي كثيرةٌ الأسماء التي صادف أن تلاقت في الرواية هذه، أو كان لها حضورات متفاوتة، غيابات متفاوتة، قواسم مشتركة بنسَب مختلفة، إزاء وقائع مختلفة، ليس لأي منْها فضل على سواها، وليس في مقدور أي اسم -مهما بلغ من التأثير في عمران الرواية- زعْم أنه متصدر الواجهة، فهو الضنين بسرّها، أو المستأثر به. في الحديث عن النص، كمفهوم نسيجي، ينبسط، ويتعمق، لا مركز له، لا محيط نفسه، بالنسبة لخبير النص، ثمة حسابات من نوع آخر، معطيات، هي معلومات يتواشج فيها الزمان والمكان، وعمق الحركة، هي التي تمنح الرواية حضورًا لا يتوقف عند قلم كاتبها، أو ذائقة معينة لقارئها، وحين يُتمعَن في بنية الكتابة لدى الأخزمي، ويُلاحَظ هذا التنويع المعلوم لأسماء أشخاص يتكلمون لغات شتى، وإن كانوا يعتمدون لغة خاصة، هي لغة كتاب نص روائي بأسلوب معين، تحت لسان كاتبها هنا، ويُمَد بالنظر إلى ما وراء الأفق الحسي، يتحقق صواب هذا اللامرئي، هذا المنقوش في جلد النص من الداخل، وهذا المركَّب الصوتي طي أي صوت منفرد.
يبقى الكاتب متنحيًا جانبًا، حين يُقبَل على قراءة المسطور، في المساحة المفترضة بين غلافيْ كتاب، يحال الكاتب نفسه إلى شخص آخر، بوجه آخر، باسم آخر، وليس اسمه الشخصي في ضوء مقروء نصه. إنه ينصهر في كلية النص، في جُرْم النص المحدود واللامتناهي فنيًا، لتتشكل عنه، له، صورة مغايرة مع كل متابعة أو قراءة.
أكثر من ذلك، يصبح الكاتب قارئ نصه في ضوء من يقرأه، قارئ ذاته الكاتبة، وكيف توزعت روائيًا.
نكون هنا إزاء أكثر من مهمة صعبة، شائقة، شيقة، ومقلقة في آن، في ضوء تحرّي تفاصيل معينة، وليس عمومها، لأن ليس من نفاد لها، وكل ادعاء بالقبض على التفاصيل تشويش على المعنى، هدر لزمنه.
لكل اسم موقع، توقيعه، حُرمته في أي علاقة قرائية تقام مع النص. يتساوى الحرْف مع الجملة، تعبيرًا عن هذه الميزة، مأثرة الرواية وتشاركيتها من جهة الأسماء المقيمة فيها، حتى الأقل تسمية، في المعتبَر جمادًا بالذات!
كل اسم يضاف إلى البقية، لا بقية هنا، بالمعنى الحرْفي للقول، وإنما المجموع غير المتجانس، كما هي أخلاقية النص الأدبي: الروائي، والذي وحده يكفل للسرد ديمومة البقاء واستيلاد المعاني، وفي “الرأس” حيث يكون الجسم عالقًا به، ومشيرًا إليه، ثمة إيماءات لا تكف عن شد النظر إلى الداخل، وما يعقب ذلك من تحولات.
رأس مدركة ليس المكان، ليس الترسيمة الجغرافية، ليس الحد الحدودي، ليس الرقعة الجغرافية بخطوط ذهاب وإياب لبشر وكائنات أخرى، لرغبات وخلافها، لتفاعل أو تجابه الداخل والخارج إجرائيًا. ليس التاريخ في منعطف زمني معلوم، كما هي الخريطة الموصوفة في عالم الرواية، ليس الأفق النائي، أو العمق الخفي في ما وراء كل مشهد روائي. لقد قيّض لرأس مدركة العنوان أن يكون علامة مركَّبة، قابلة لولادات ذات أصول تصل ما بين أزمنة مختلفة، وأمكنة مختلفة، في جغرافية غير مستقرة. إنها حمّى التاريخ والجغرافية معًا!
تواريخ وأمكنة
لا بد من الحذر في قراءة الرواية، لأن هناك كثافة ليس في سرد الأحداث، وإنما في تنوعها. المساحة الزمنية التي تشغلها الرواية أكثر من قرن “بدءًا من 1904، على الأقل، كما سنرى”، دون أن يعني ذلك بالضرورة، ملازمة هذه الحدود الزمنية، لأن ما يأتي ذكره زمنيًا، لا يعني أنه المطروح في سياق سرد الرواية، هناك ما يتطلب تقديره، هناك ما يتوجب على القارئ تدبيره، لمعرفة كيفية انشغال السارد، وهو ليس واحدًا لا بالاسم أو بدونه، وعبر تنوع الأمكنة، وما ينبّه في السياق إلى أن الرواية لا تنتهي في الصفحة “301” كما هو المسطور، وما يقرأ طي العناوين الداخلية، بالمقابل، يتطلب مضاعفة حيطة الذاكرة المكانية، وبصيرتها تجاه حركيتها.
لا بد أن الروائي كابد كثيرًا لتكون رأس مدركة بهذا الزخم الانفجاري من الأحداث ظاهرًا وباطنًا . لقد كان أركيولوجيا أكثر من كونه مسّاح علاقات!
وربما أمكنني القول أنه يلزم القارئ ” شد الحزام “الذهني، ليتدبر بنية العلاقات هذه بين مكونات الرواية.
إذ ليس للسرد خط تصاعدي، إنما إقدام وإحجام، ومنحنيات، ليكون الزمن في مختلف الحالات حاضرًا بمؤثراته، لتتساوى أبعاد الزمن، لأنها تسهم جميعًا في تركيب جسد الرواية، والملاحَظ هنا، أن الأزمنة تتصدر العناوين الداخلية:
سبتمبر 2016 “مدينة ليدز، إنجلترا”- مايو 1970 “بحر العرب، عُمان”- سبتمبر 2015- سبتمبر 2016- سبتمبر 2016- فبراير 2016 “مدينة ديفون، إنجلترا”- سبتمبر 2016 “بحر العرب”- نوفمبر 2016- نوفمبر 2016 “قصة لا تصدَّق 1904”- ديسمبر 2016- يناير 2017- فبراير 2017- مارس 2017 “مسقط، عُمان”- مارس 2017 “بحر العرب”- أبريل 2017- مايو 2017- ديسمبر 2018 “بحر العرب”: تلك هي العناوين التي تردُ تارة دالة على ما هو زماني، وتارة أخرى على ما هو زماني- مكاني. حيث يلاحظ أن الشهر التاسع: سبتمبر- أيلول، له حضوره اللافت، وفي البداية خاصة، وفي وسع القارئ التساؤل عن مغزى هذا التكرار، وبهذه الصيغة: سبتمبر 2016، وفي واعية الكاتب. أي رهان نفسي، ثقافي، رمزي استوطن ذاكرته الأدبية. وهل يمكن ربط كل شهر بموقعه ضمن فصول السنة، وما في ذلك من مفارقات، حيث مفهوم الفصل السنوي في عُمان غيره في بريطانيا- إنجلترا التي تتميز بحضور تاريخي فاعل في تاريخ المنطقة عمومًا، وفي عُمان خصوصًا، عندما يشار إلى حُمى الرؤوس السياسية إزاء لعبة المصالح، وفتنة الجغرافية وأبعادها الاستراتيجية.
يخضع السرد نفسه لنوع من كبح الجماح، تجاوبًا مع الأزمنة المسمَّاة بتواريخها وأمكنتها طبعًا. وفي رأس مدركة ومن رأس مدركة، وعبر رأس مدركة تكون منصة التجاذبات الاجتماعية والسياسية في إهاب روائي طبعًا.
إن شذرات من المعلومات العائدة إلى رأس مدركة، مقدَّرة بآلية فعلها في تلوين مشاعر القارئ.
لهذا، يمارس النص غوايته، وتحدّيه للذاكرة والتاريخ معًا، وعلى وقْع هذا التلاعب بالأزمنة، وتباينات الأمكنة: البرّية، البحرية، والجوية كذلك، واتساع المساحة الجغرافية لهذا “الرأس” بالمفهوم الدلالي، ونظرًا لتوافد آخرين إلى رأس مدركة ومحيطها، من عمالة أجنبية، هندية، باكستانية وبنغالية، وشذاذ آفاق ومساحي جغرافيا بحجج مختلفة، حيث يكون التحرك بين لحظة اكتشاف التاريخ المحفّز على المغامرة “1904”، والتعرف على محتواه “نوفمبر 2016″، حيث العنوان الفرعي “قصة لا تصدَّق، وتاريخ 1904- ص175″ بمقدار ما يكون هذا المؤشر باعثًا على الحركة التنقيبية في الرواية، وبالصيغة هذه.
الأخزمي لا يخفي مهارة في السرد، إنما بصفته الأنا والآخر، الـ”هم” والـ”نحن” لئلا يقاطعه أحد، فآذانه الداخلية وأعينه الداخلية، وأجنحة متخيله كثيرة، بغية الإحاطة بالرواية وهي تتعمق كما تنبسط، كما تتباعد مسافاتها هنا وهناك.
رأس مدركة.. الرأس الساخن
( كانت أرض رأس مدركة جرداء حين وطأت حوافر جِمالهم ترابها “بالنسبة إلى أهلها”، خالية من أي شيء عدا الأشجار المتيبسة والصخور، لا يقترب منها البشر، ليس بسبب شُح المياه فيها، فقد وجد فيها بئرًا ممتلئة بالمياه طوال أيام السنة، وليس لخلو بحرها مما يؤكَل، فبحرها كان يحوي من الرزق ما يكفي لإطعام الصحراء كافة بشرها وحيواناتها، وإنما بسبب ما كان يتناقل عن وجود السحرة في جروفها وكهوف صخورها الحادة الغريبة التي تتبعثر كتلًا هنا وهناك على الشاطئ، والتي يعج بها قاع البحر كذلك. وأنهم -السحرة- جاهزون للانقضاض على كل من تسول له نفسه البقاء على أرض رأس مدركة حتى لوقت يسير أو الشرب من ماء بئرها.
لكن سهيل، وما إن أناخ ناقته في وسط الأرض بالقرب من البئر، حتى شرع في تثبيت الأوتاد التي قامت عليها الخيم غير ملتفت لما كان يشاع . “لو كان للسحرة قوة وبأس، فأنا هنا الآن قدّامهم، خلّونا نشوف قوتهم”. جلجل بها وهو يرتشف أول جرعة من ماء البئر، على أمل أن يطرد بذلك مشاعر الخوف التي كان يراها ماثلة في وجوه من رحل معه من القوم، والذين كان عددهم يومها لا يتجاوز أصابع اليدين. ص 155).
وما يهبُ المكان اعتبارًا قيميًا أكثر:
(تزايد القوم على أرض رأس مدركة بسرعة، وبعد مضيّ أقل من عقد من الزمن على وصوله، مضى سهيل يخطط لتوسيع بقعة الأرض التي يتشيخ عليها، لكن حماسه ذاك كان سبب موته المفاجئ، حين قرَّر ذات صبح بارد من صباحات صيف رأس مدركة أن يخطو هابطًا بقدميه الحافيتين على الصخور الملساء لقرية رأس خشايم الصغيرة جدًا، والواقعة في الطرف الجنوبي من رأس مدركة لينزلق من عليها، وينحدر بسرعة إلى الأسفل فيتفتت رأسه ويموت، بعدها خلَّفه ولده غاسي ابن الثانية والعشرين، والذي كان قد احتفل قبل أيام قليلة فقط بقدوم شالح، مولوده الأول. ص 161).
شالح حلقة وصل بين رؤوس وأمكنة كثيرة، وأزمنتها. ثمة ما هو أسطوري يُستدعى من خلالها، إزاء تطويب المكان وتحريره من الذاكرة وإيداعه التاريخ، وما في ذلك من استعداد للدخول في نطاق المدينة.
لكن ذلك لا يخلو من المتاعب، من تحمّل المصاعب، بما يتناسب ونشدان الأفضل:
(كيف له أن يتحمل العيش في منطقة جرداء خالية من الأساسيات البسيطة للحياة لأكثر من ستة أشهر!! لن يتحمل، سيفعل المستحيل لكي يعود باكرًا، سيجدُّ ويجتهد ليحصل على ما جاء من أجله بأسرع ما يمكن مهما بلغ الثمن. “لن أعود خالي اليدين، سأبذل أقصى جهدي، حتى لو توقفت عن النوم لأشهر”.. ص73)
من جهة أخرى، علينا ألا ننسى تبنيه لذلك الصبي الذي قذفته أمواج بحر العرب، وهو بين الحياة والموت، ويطلق عليه اسمًا:
(-من اليوم وغادي سمّونه “سند” بدل “الغريب”. ص 45 ).
يتباهى به، فقد كان لديه بنات فقط، ليكبر ويكون له صيته. وما في هذا التبني من إيحاء إلى الجانب الديموغرافي للمجتمع العماني، وكيفية تقبل الآخرين، أو طبيعة هذا المجتمع في مكوناته الديموغرافية.
شالح “محارب” على أكثر من جبهة. سوى أن التعلق بالمكان والسعي إلى إحداث تغيير فيه دأبه.
كما في التالي، مثلًا:
( ويوم أعلنت الحكومة عن نيَّتها في إنشاء ميناء كبير في الدقم ركض -أي شالح- هو ليترجاهم إعادة النظر في قرارهم، محذرًا اللجنة المحلية التي يرأسها الوالي من مغبَّة ما يمكن أن يحدث..حتى أن أحد الحضور سأله إن كان قد تعلَّم الهندسة حتى يتحدث عنها. “أرض الدقم أرض طين، التراب فيها رهيف وما يقوى يتحمل شيء، وصخورها هشَّة وتتكسر على أبسط ثقل، رأس مدركة غير، صخورها غير، ما تنعاب أبد، صلبة وضاربة جذورها في قاع البحر، وفوق هذا وذاك محمية من كل النواحي، أيش أكثر من كذاك تحتاجون للميناء ؟” ..ص 171).
نحن إزاء صراع الإرادات!
لا بد أن تصرفًا من هذا النوع يترجم الصفة النوعية لموقع الرجل في المكان، ليصغى إليه، ويكون هناك إمكان لتحفيز المتخيل والنظر أبعد مما هو مقروء، حيث (أعتقد أن رواية قصة ما تفترض بناء عالم، ويُستحب أن يكون هذا العالم كثيفاً في أبسط جزئياته.)”5″
العالم مكثفًا! تلك مهمة الروائي، والعالم مطروحاً بالتفاصيل، تلك مهمة القارئ الناقد، وهناك نقاط استناد، هناك طرق ومعابر، منعطفات، زوايا، وسلالم ارتقاء -إن جاز التعبير- تتوسط العلاقات الناسجة للرواية، ومنها يمكن رؤية الأبعاد القصية، النظر إلى ما وراء الرؤوس، وتبيُّن ظلالها.
مع شالح الذي ترتد إليه الرواية كثيرًا، وهو سليل المكان، ومن خلاله موقعاً وانتشار أثر، يمكن متابعة الآخرين.
بدءًا من البداية، حيث النظر يتجه إلى الخارج، صوب مدينة ليدز، إنجلترا “سبتمبر 2016″:
( تتصاعد أصوات نواقيس الكاتدرائية الواقعة على شارع جورج الأعظم في مدينة ليدز البريطانية، فتغوص صوفيّا في خشوع عميق، أكثر من المعتاد خشوع غارق في التوسل والرجاء، دعت ربَّها أن يكلل بالنجاح رحلة زوجها ديفيد المشوبة بالقلق إلى الصحراء. ص 9).
مفارقة كبيرة جهة التمني للآخر بالنجاح، في بحثه المزعوم عن الذهب، في رأس مدركة، وفي إهاب ديني.
يتم انطلاقًا من قصة مفبركة بلسان روز (نوفمبر 2016 ، قصة لا تصدق، 1904).
هذا الانبناء الوهمي لواقعة صِيرت تاريخًا ترجمة مباشرة عما تنسجه خيالات شذاذ الآفاق ممن يبحثون عن الكنوز في حِمى الآخرين، ومن يمارسون تشويهًا لهؤلاء، لشرعنة كل عنف موجه ضدهم.
هو ما يمكن التأكيد عليه، لحظة أخذ العلم بمؤثرات الرواية، بالأدب وتاريخه بالذات، حيث إن (تاريخ الأدب مليء بالتناقضات، وقوته الدافعة والمخفية هي الخلاف والمعارضة.)”6”
إنها أنثروبولوجيا الرؤوس التي لا تهدأ، لأن هناك بيئة غير مستقرة، حيث تتداخل ألسنة وتتواجه:
رأس صوفيا المؤمنة إنما الطماعة والواثقة من نفسها إلى حد الغرور.
رأس عتيق بن مسرور “المهبول” الأشبه بإعلاميّ البلدة، والذي يُسمّي كل ما يراه مأخوذًا به.
رأس شالح بن غاسي شيخ القرية: البلدة، الذي تتصارع داخله جهات وهيئات وتصورات، ويحلم بولد ذكر.
رأس خنفور الذي يحلم بحياة تمنحه سكينة واستقرارًا وكرم إقامة فيها.
رأس سالمة زوجة شالح المأخوذة بهمّ زوجها وهمّ بناتها.
رأس سند الذي لا يخفي سخونته هو الآخر، بين ماضيه المجهول، وما سيكون عليه مصيره تاليًا، والذي يعِدُ نفسه بالكثير مما لذ وطاب.
رأس باعبود الخبير بأمور المزرعة، والحالم بفائض من الثروة والجاه والمكانة الاجتماعية.
رأس ديفيد المغامر والمفتون بالثروة والمكانة الاجتماعية المعتبَرة.
رأس روز المغامرة وساردة الترَّهات وناسجة الأقاويل عن المنطقة “عُمان” وأهلها “البدو” وتلفيق الأكاذيب عنهم، والتأكيد على مكانتها “الحضارية” في “قصة لا تصدق”.
رأس محمد شفيع الوافد إلى المنطقة، المعدَم بداية، والثري، ورجل الأعمال، والساعي إلى المزيد من الثراء والسلطة، ونفوذه المعلوم أبعد من جزيرة “كوريا موريا” التي يشاع عن أنها تحمل في قاعها كميات ذهب كبيرة، والتي استعد لها ديفيد..
…إلخ
إنها رؤوس عديدة، لا بل كثيرة، من الصعب قياس المسافة الفاصلة بين ما كانت عليها بداية كل منها، وما انتهى إليه أمر كل رأس، والموقع الاجتماعي، حيث الرواية مفتوحة هنا.
الأخزمي دقيق في نسْج العلاقات بين الجغرافيا والتاريخ، وكيفية استعارة ما يلزم لصالح الأدب، من واقع معرفته لوشائج القربى. نعم ( يقدم الأدب للجغرافيين مجالًا لانهائيًا من الدراسة. وفي الواقع ، غالبًا ما يعرض الروائيون في قصصهم أماكن وأقاليم ومساحات يمنحون لها خصائص معينة).”7″
هذه الجغرافيا التي انشغل بها الأخزمي صنيعة طبيعة، إنما صنيعة تاريخ بالمقابل، ولعل الكاتب حين يستدعي أسماء أمكنة بمحتوياتها وأهميتها: بحر العرب وموقعه الاستراتيجي، والبيئة الطبيعية: السمكية المميزة فيه، إنما يكون على بيّنة كما يظهر، من كل شاردة وواردة، أبعد من جغرافية عُمان عينها وما يمكن للرواية أن تؤديه من مهام، ومن تمثيل رمزي لهذه الشخصية، وكيف يمارس الخيال نفسه دوره هنا، فـ (في الواقع، تشارك الجغرافيا الخيالية في توتر أكثر عمومية بين وظائف المحاكاة والسيمياء من السرد، وهو في الواقع ممزق بين قوتين متعارضتين: من ناحية، هدفها التمثيلي، الذي يأمرها بترسيخ الحبكة في الفضاء الحقيقي، ومن ناحية أخرى هدفه السيميائي، مما يؤدي به إلى فصل نفسه عن هذا الفضاء المرجعي لنشر المعاني الداخلية الخاصة به والحفاظ عليها).”8″
وفي المساحة الشاسعة هذه، في مقدور متخيل يرتقي إلى مقام سلسلة الوقائع المدمجة والي تشكّل قوام رواية مكانية العنوان “رأس مدركة” أن يستنطق صمت المكان، أن يهبَ الجماد نفسه لسانًا، وهو ما اعتمده في قائمة المشاهد التي تستغرق ما هو بحري، وبرّي، ما هو إنساني، وحيواني، ونباتي، وما هو جغرافي وتاريخي.
الرواية ذاتها ساخنة على وقع متضمنات السرد في ضوء الاعتبارات آنفة الذكر، حيث تتنوع الرؤوس بين محلية: أهلية، وشرقية وغربية “إنجليزية، بالذات” في لعبة صراع المصالح.
ولعل الروائي في تنقلاته هذه، وتوزيع عناصر أثره الروائي بين جهات جغرافية مختلفة، وهذا التنقل، كذلك، بين الأزمنة، تعبير حي عن مدى حاجة الرواية التي أريدَ لها أن تكون فاعلة ببنيتها، تجاوبًا مع مستجدات بحر العرب، في لحظة زمنية مكثفة لا تنحصر بالتأكيد بين “2016-2018” إنما توجه الأنظار إلى الخارج، كما هو البحر الذي يُنظَر فيه عميقًا، وفي الصحراء التي ينظَر تحت كثبانها الرملية وعلى تخومها، وعلى السواحل حيث تتراءى سفن جديدة طاردة ثروات مائية وغيرها، وطارحة وجوهًا مختلفة إلى الداخل في حمّى التحولات .
ربما كان الذي سطّرته يد روز ذات يوم، في ماض استعماري، يثير لعاب التالين عليها وما يعنيه الشرق للغرب سياسيًا.
روز لا تصدّق ما حدث، لأن ما حدث يفوق الخيال، أصعب من أن تصدق، وهي إن تكتب هذه القصة فبغية ملاحقة من كانوا السبب، أي قتلة حبيبها وآخرين (وأنا أسترجع تلك الأحداث، بتفاصيلها المؤلمة، فهنالك في تلك الصحراء قتلة مجرمون لا يزالون طلقاء، لم تصل إليهم يد العدالة، ولا بد أن تصل، لا بد أن ينالوا جزاء ما اقترفوه من مجزرة . ص 175).
صوفيا تصدق ما قرأته في كتابها، مستجيبة لنداء الرغبة، وديفيد مفتون بالمسمى بالمقابل (ديفيد محكوم إلى جانب زوجته والمؤثرة فيه بالوارد بذلك الدفتر، وما يقلقه بالمقابل، حين نقرأ كيفية نظرته إلى العالم الجديد الذي حل فيه (لا يزال غير مستوعب تمامًا لما حدث، غير مصدّق أن الأمور مضت بسرعة كبيرة لينتهي به المطاف في هذه البقعة شبه المقطوعة على سطح الأرض، شبه الخالية من الحياة، القصية والمظلمة والمخيفة، لا يزال بين الشك واليقين من أنه يعيش حلما غرائبيًا لم يستيقظ منه بعد . ص88).
البدء في الرواية إنجليزي، والنهاية، بالمقابل، تكون إنجليزية، من خلال مهاتفة الشخصية النسائية المتدينة “صوفيا” والنهمة إلى الذهب المتوهم أنه موجود في قاع بحر العرب قريبًا من رأس مدركة، وشخصية ديفيد زوجها السابق وطليقها، وغير المنقطع عنها كليًا، حيث تكون مهاتفتها له في الفقرة الأخيرة من الرواية “ص 301″، تعلِمه بقدومها إلى عُمان، إلى عاصمتها مسقط لتجديد اللقاء والاحتفال بما كان، رغم أنه تزوج من أخرى “آرلين” وهي كذلك تزوجت من آخر (زميلها في العمل.ص 298).
لا أدري هنا، إلى أي مدى كان، أو بقي الأخزمي قارئ المكان وتوأمه الزمان، وكم استغرق وقتًا، هذا الانهمام بالرؤوس التي قيّض لها أن تكون أكثر من كائنات ورقية في عالم روايته، قبل أن يباشر كتابة نصه.
إن ما أفصح عنه إيكو جدير بالتذكير هنا (يبدو أنه من واجب القارئ أن يكون على اطلاع واسع على العالم الواقعي لكي ينظر إليه باعتباره الأساس الذي يشيد عليه العالم التخييلي).”9″
عُمان في واجهة التاريخ
الحديث عن بحر العرب لا يفارق أهليه ثراوتهم الطبيعية: الباطنية والسطحية، ما يمثله المكان البرمائي من حلقة وصل بين جهات مختلفة، كما لو أن عُمان تتهجى ألسنة مختلفة، وتعيش ولادات مختلفة: مستقبلية.
هنا (لا شيء يفتن أكثر من السرد، فنحن نبحث عنه حيث يمكن أن يكون وحيث لا يمكن، لا شيء إلا من أجل أن نطمئن، فهو يمنحنا سلام الروح والعقل، يكيفنا مع الوجود، ويكيف الوجود مع مآلنا).”10″
هذا السرد لا يخفي طابع المقاومة المكاني نفسه، ومن الداخل. إن تلك الإضاءة الروائية لتاريخ مديد، صحبة جغرافية جلية السمات، تترجم خاصية الذائقة الروحية والفكرية الطابع لدى الأخزمي. هو الآخر يمارس لعبته إزاء جملة الألعاب “السياسية” الحية، المسجلة الظاهرة، والمخفية في المنطقة، وما لذلك من تأكيد خطورة دور الأدب الذي يشغل لسانًا آخر، يُخشى منه، إن برز فالحًا في التعبير التخيلي عما هو قائم.
إن متابعة سردية لحيوية الأحداث، ومن خلال قصة “روز” المولّفة، ومتتالياتها، تعزز عامل اليقظة لدى الكاتب. عندما يستعرض الوارد في دفترها، وما جاء بلسانها في لحظة درامية، حسب زعمها:
(أعتصر بالألم وأنا أتذكر الأحداث، تفاصيلها الصغيرة، الأمواج العاتية المخيفة وسط المحيط، رعب الاهتزازات، عيون البدو الصغيرة، المتربصة خلف الصخور، السماء التي غابت خلف ركام السحب والضباب، صراخ البحارة والسكاكين تقطع شرايينهم وأكبادهم، بحيرة الدماء على الرمال، ونظرة الوداع الأخيرة اليائسة التي أرسلها إلي مايكل وهو يودع الحياة . ص 176).
لدينا صفحات تترى تركز فيها روز على البدو، وكيف كانوا يتربصون بهم، في حدود الرأس الصخري، وهم، كما يظهر في سردية نصها، في منتهى البراءة، وحيث يصبح إيقاع السرد على أشد ما يكون في التعبير عن العنف الدموي ومن يمثّله، ومن يكون الضحية ( هجم البدو علينا بسرعة الريح، انطلقوا كقطيع من حيوانات مفترسة، كان وجه مايكل المحتقن والمتفاجئ يتحدث بلا كلمات، وهو يُحدّق في سام معاتبًا على ما قام به من تصرف غبي، تسمَّرنا في مكاننا بعد أن تجمدت الدماء في عروقنا. كانوا يطلقون صيحات كأنهم ذئاب مسعورة وهم يتقدمون نحونا. رفعوا ثيابهم فانكشفت السكاكين التي كانت مخبأة في وسطهم… لقد تحولَ البدو في لحظة إلى وحوش، تفوقوا على الحيوانات المفترسة في كمية الشر داخلهم، يتراكضون في كل مكان وهم يصرخون ويزأرون، بل ويرقصون فرحين بجريمتهم. لم أصدق في سنوات حياتي السابقة، ولا في سنوات حياتي الباقية أنه يوجد بشر على ظهر الأرض لا يملكون قلوبًا في صدورهم أو مشاعر رحمة في نفوسهم. تساءلت في لحظتها هل يملكون أبناء؟ هل يشعرون بالألم لو أن أحدًا اعتدى عليهم وقتلهم غير عابئ بمشاعر آبائهم ؟!.ص 197).
وما يفنّد هذا المسطور”الروزي” وقد جرَت تعريته، أي رغم أن هناك ما قيل له “لديفيد” من قبل باعبود ما يلغي حقيقة الموصوف في دفتر روز (تذكَّر كلام باعبود عن البريطاني والأمريكي اللذين قررا اتخاذ الصحراء سكنًا لهما، وأن ينسيا صخب حياتهما السابقة، لم يبالغ باعبود حين ذكر ذلك إذن، يعترف لنفسه. خمَّن أنهما يعيشان قبل ذلك حياة مملة كحياة العبودية الوظيفية التي كان يعيشها. ص 210).
ومن خلال شالح الشاهد الحي على ما يجري. شالح البيئي يواجهه بأنه لم يأت للغطس، وكونه إنجليزيًا بالذات:
( لو أنك من جنسية أخرى كان نعم صدقتك، إنجليزي يأتي للصحراء للاستثمار، ولأنه يحب البحر والغطس، بلادكم فيها بحر أحسن من بحرنا).
وَجِهة واقعة اعتداء البدو على الإنجليز:
( لو كان ذلك صحيحًا لتوقفتم ومنذ المرة الأولى إلى الصحراء ما دمتم تعلمون بأنه سيُعتدى عليكم، أليس كذلك. ص259).
وما يعيد ديفيد إلى الواقع، حين يشير إلى شالح بأنهم (بالفعل سحرة)، ماضيًا، أي شالح، إلى مكاشفة الواقع، كما في الكتابة عن البدو، بالطريقة المعتمَدة لدى روز:
(أنتم تستطيعون أن تقولوا ما تشاؤون، فأنتم من تكتبون، نحن لم نكن نعرف الكتابة حينها حتى نكتب عن الواقعة كما حدثت. للأسف أنتم تفوقتم علينا في ذلك، تؤرخون عن الواقع مثلما تريدون، ومن يستطيع مغالطتكم؟ أنتم تستسهلون الكذب، وتنسون أن الله يعلم عن كذبكم، وسيعاقبكم على ذلك طال الزمان أو قصر.ص289).
(ذهب؟! لأول مرة أعرف ذلك، من أين جئت بقصة الذهب هذه؟! لم يكن هناك ذهب أبدًا، ألم أقل إنكم بارعون في الكذب، بل أذكياء جدًا، أنتم تدّعون وجود الذهب حتى تأتوا لاحقًا للمطالبة به، تبدأون بالقتل، ثم لتطالبوا بالقصاص أو بالتعويض، وهذا ما حصل بحق البدو في مصيرة.. ص 289).
وواقعة القتل:
(..هل نحن من كتب تلك القصص؟ أنتم وهم من يكتبون، وأنتم وهم تزوِّرون الحقائق مثلما تريدون، فهل يعقل أن يقوم البدو العزَّل بمثل تلك الأفعال؟ أم أن أولئك الذين كانوا على ظهر تلك السفن كانوا نساءً لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم؟.. ص291).
أترانا بالطريقة هذه في مواجهة ذلك التاريخ المكتوب من قبل غزاة المنطقة: مستعمريها، ومن يحاولون إنتاج الأثر السيئ الصيت لما كان، بمفهومه الاستعماري، وفضائح الاستعمار وممثليه على أكثر من صعيد.
الأخزمي يحيل ما بحري، وعميقًا، جهة صخور رأس مدركة، وفي كوريا موريا، إلى جبهات مقاومة مميتة ومباغتة للذين يتلمظون برؤية المكان: البحر وسواحله، وحتى الصحراء، فليس من حياد مكاني حرفيًا:
(إن تلك الصخور البنية الغامقة اللون المنتشرة بكثرة على صخور رأس مدركة، تحت البحر وفوقه، التي خص الله بها القرية دون سواها، هي السبب. فهي قادرة على جذب المعادن نحوها.. ص21).
نعم، في مستطاع القارئ العادي أن يقرأ في ذلك توصيفًا للمشهد الصخري البحري، لكن، منذ متى كانت الكلمة الواحدة عينها، يجري تلفظها، بعيدًا عن مبتغى معين، منذ متى كان الصوت نفسه، وهو بشري، أو حين يتمازج مع ما هو بشري، يؤخَذ به فيزيائيًا، دون الاجتماعي والدلالي منه (الروائي يعيش في مخبر حقيقي لمراقبة الوقائع التاريخية والاجتماعية).”11″
رواية “رأس مدركة” ما بعد كولونيالية، والحساب الجاري للسرد فيها!
هو ذا الروائي الذي عاش تجربة حية، مكانية، التقى فيها البرّي بالبحري، وهو ما منحه مقدرة على طرح مادته بتلك النموذجية التي يتراءى فيها الآتي بأكثر من معنى، أي ما يسهم في كتابة التاريخ بطريقة أخرى.
بدءًا من كتابة “رأس مدركة” ونشرها، سيعرف كثيرون عبر قراءة مباشرة للرواية، أو ما سيُكتب عنها، ما تكونه الرقعة الجغرافية هذه، من جلاء موقع واعتبار، وانتصار للمكان نفسه، دون إخفاء إمضاءة روائي لا تقلَّد، هي إمضاءة يونس الأخزمي!
1 – يونس الأخزمي: رأس مدركة، منشورات دار عرب، لندن، ط1، 2022، في “304” ص، من القطع الوسط، وكل الإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة.
2 – يشار هنا إلى أن الجزء الأول من الثلاثية هذه معنون بـ”بر الحكمان” صدر عن دار سؤال، بيروت، 2016، في 448 ص، من القطع الوسط، والجزء الثاني معنون بـ”غبَّة حشيش”، وقد صدر عن دار عرب، لندن،2018، في 398 ص، من القطع الوسط أيضًا.
وأحيل هنا إلى المنشور -إنترنتيًا- عما تقدم من باب التوضيح:
وتمتاز سلطنة عمان بوجود كوكبة رائعة من الولايات التي قسمت لعدة قرى أغلبها تمتاز باعتدال مناخها وهدوئها وطبيعتها الخلابة. من بين تلك القرى (قرية رأس مدركة) إحدى قرى ولاية الدقم العمانية..
وفي الجزء الثالث:
alantologia.com/blogs/56744/
منطقة سكنية تقع في ولاية الدقم، التابعة لمحافظة الوسطى في سلطنة عمان. يقدر عدد سكانها بـ 767 نسمة حسب إحصاء عام 2010 التابع للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات الحكومي.
وتقع قرية رأس مدركة بولاية الدقم العمانية بالمنطقة الوسطى، وتتخذ الدقم موقعًا مميزًا بجنوب شرق تلك الولاية، وتبعد القرية مسافة خمسة وسبعين كيلو مترًا عن وادي صاي مركز الولاية .
أما عن بحر العرب:
فبحر العرب هو جزء من المحيط الهندي، يقع بين سواحل شبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية. تحده من الشمال إيران وباكستان، ومن الشرق شبه القارة الهندية، ومن الغرب شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي. وتبلغ مساحته 3.862.000 كيلومتر مربع، ويبلغ أقصى عمق له 4.652 مترًا. يربطه بالبحر الأحمر خليج عدن من الغرب عبر مضيق باب المندب، ويربطه بالخليج العربي خليج عمان في الشمال الغربي.
3- في موقع “الرواية” حول: ثلاثية بحر العرب. .ثلاثية الزمان والمكان!
4 – روجيه غرينييه: قصر الكتب، ترجمة: زياد خاشوق، دار المدى، بغداد، ط1، 2018، ص91 .
5 – أمبرتو إيكو: آليات الكتابة السردية، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2009، ص 33.
6 – أرنستو ساباتو: الكاتب وكوابيسه “في قضايا الرواية المعاصرة”، ترجمة: عدنان المبارك، منشورات أزمنة، عمّان، ط1، 1999، ص 95 .
7-Pascal Clerc:Épépé. Une géographie
expérimentale,Dans L’Espace géographique 2016/4 (Tome 45)
باسكال كليرك:إيبيبي. جغرافيا تجريبية
8-Yves Baudelle:Cartographie réelle et géographie representa :
poétique de la transposition
إيف بودل: رسم الخرائط الحقيقي والجغرافيا الخيالية: شاعرية النقل.
9 – أمبرتو إيكو: تأملات في السرد الروائي، ترجمة: سعيد بنكَراد، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2، 2015 ، ص 139.
10 – سعد محمد رحيم: سحر السرد “دراسات للفنون السردية” دراسات نقدية، دار نينوى، دمشق ، ط1، 2014 ، ص 5 .
11 – رينيه جيرار: الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية، ترجمة: د. رضوان ظاظا، مراجعة: د. سعود المولى، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت،ط1، 2008، ص 53 .