ترجمة وتقديم: إدريس الخضراوي
ناقد ومترجم مغربي
منذ ستينيات القرن الماضي، أضحى المفكّر الروسي ميخائيل باختين (1895-1975) يمارس تأثيرا واسعا في قارّات العالم المختلفة، بما في ذلك العالم العربي الذي شرع في استقبال افتراضاته النقدية منذ مطلع الثمانينيات. فالمفاهيم التي صاغها هذا الفيلسوف، مثل «الحوارية» و«تعدد الأصوات» و«الكرنفال» و«الكرونوتوب»، والتي أدخلته في خصام مع أتباع المدرسة الشكلانية الروسية، ومع أتباع اللسانيات البنيوية التي وضع دو سوسير لَبِنتهَا، لم تَصِرْ أساسية ومحورية في الخطاب النقدي المعاصر وحسب، بل مهدت الطريق أمام العديد من الباحثين للتفكير بها ومن خلالها في موضوعات تتجاوز حدود الأدب بالمعنى الضيق، كدراسات التواصل والثقافة الشعبية والتفاعلات البين ذواتية. وبما أنّ عمل باختين أسّس لمرحلة جديدة تستجوب التاريخ الأدبي، وتقطع مع الصيغ النقدية المغلقة في مسعى لفهم العالم الجديد الذي يجترحه روائي من طراز دوستويفسكي، العالم الغني والمعقد بشكل لا يقارن، فإنه ليس في الأمر أي تزيد أن يُعتبرَ باختين، استنادا إلى تودوروف، أحد أكبر المنظّرين في الأدب في القرن العشرين.
ويمكن للمرء أن يتبيّن، بعد تجربة المنفى الأليمة التي كابدها باختين في ظلّ النظام الستاليني، والعزلة التي فرضها على نفسه، أنّ الشهرة التي تمتّع بها في أرجاء العالم، والنّدوات والمؤتمرات التي ما فتئت تنظّم حول فكره، فضلا عن الترجمات التي أعدّت لأعماله في عشرات اللغات، يعود الفضلُ فيها لمجموعة من تلامذته وأتباعه، سواء داخل روسيا عندما أعيد اكتشاف بعض أعماله في مطلع الستينيات مثل كتابه «مشاكل الإبداع عند دوستويفسكي» الذي ألفه عام 1929 أو كتابه حول «رابيله» الذي هو في الأصل أطروحة الدكتوراه التي قدّمها خلال الأربعينيات من القرن الماضي، ولم ينشر أول مرّة إلا عام 1965 في الاتحاد السوفييتي. أو خارجها، حيث تمّ التعريف بفكره في لغات وأوساط ثقافية مختلفة، مما فتح أعين العالم على عمل بالغ الثراء وشديد الاختلاف من شأنه أن يرتاد بالدّراسة الأدبية آفاقًا واعدة تحرّرها من أغلال البنيوية الجامدة.
في هذا الإطار، تعدّ الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا (Julia Kristeva 1941/…) في طليعة هؤلاء الوسطاء الأوفياء، ذلك أنها مثلت نقطة البداية التي انطلاقا منها سينتشر هذا الفكر خارج روسيا، منذ أن قدّمت أوّل عمل عن هذا الفيلسوف بعنوان: «ميخائيل باختين: الكلمة، الحوار والرواية» عام 1967، في إطار دروس السيميولوجيا التي كان يؤطرها رولان بارت، ونشر في مجلة Critique الشهيرة في العام نفسه. شدّدت كريستيفا في هذا المقال على قوة المجاوزة التي ينطوي عليها عمل باختين، ليس فقط بالنسبة للشكلانية الرّوسية، وإنما أيضا بالنسبة للبنيوية، التي بدا لمنظريها أن باختين يفكّر بصورة غير مألوفة في الإشكاليات المعقّدة التي تضعها على المحكّ، ذلك أن مفهومه عن الكلمة الأدبية بوصفها ليست نقطة ثابتة، وإنما هي ملتقى نصوص متعددة، وحوار بين كتابات مختلفة، يشكّل ثورة حقيقية في حقل الدراسات الأدبية، ولا سيما فيما يتعلّق بتأسيس مقاربة جديدة كالمقاربة العبرلسانية Translinguistique.
في هذا الحوار المطوّل الذي أجراه كليف تومسون Clive Thompson مع جوليا كريستيفا عام 1997، وذلك بعد ثلاثين سنة من صدور مقالها ميخائيل باختين: الكلمة، الحوار والرواية عام 1967، تتحدث كريستيفا عن أهمية عمل باختين، ودوره التكويني في فكرها، وعن إسهامها في انتشار أعماله في أوروبا وأمريكا، وكذلك الإشكاليات التي تحيط بتلقيه وتأويله في السّياق الغربي. ونظرا للقيمة المعرفية التي يكتسيها هذا الحوار، وما يثيره من أفكار مهمة بالنسبة لموضوع تلقي باختين، نقدّم ها هنا ترجمته إلى العربية التي لا يزال هذا الفكر مبهما فيها، كما أنّه لا يزال بحاجة إلى مزيد الاستكشاف والبحث.
*رغم أن التلقي الذي حظي به عمل باختين Mikhaïl Bakhtine وحلقته في السّياق الفرنسي يكتسي أهمية شديدة، فإن ما يلاحظ هو أنّ عمله لم يدرس دراسة عميقة وبكلّ تفاصيله1 . وهذه الأسئلة ترمي إلى استكشاف تطور تلقي باختين في فرنسا، ولا سيما خلال سنوات 1960. السّيدة كريستيفا Julia Kristeva، لقد أشرت في حوارات أخرى إلى الدّور الذي لعبه باختين بالنسبة لعملك (راجع غوبرمان 1995، 44). لا شك أن الباحثين الذين يعنون بدراسة فكرك وفكر باختين سيستفيدون من مزيد الاستكشاف فيما يخصّ هذه العلاقة. وبالنّسبة للدراسات حول باختين، من الواضح أن عام 1997 يشير إلى لحظة لافتة تمثلت في الذكرى الثلاثين لظهور مقالك: باختين، الكلمة، الحوار والرواية عام 1967. لقد كان هذا المقال أول عمل حول فكر باختين يظهر في البلدان الأوروبية. في البداية أقترح عليك أن نستكشف هذه اللحظة. هل لك أن تقربينا من هذه الظروف التي أحاطت باكتشافك باختين؟
-أنا أقدّر هذا التحديد بكون دراستي كانت سبّاقة إلى التعريف بهذا المفكّر. والحال أنني كثيرا ما ينتابني الشعور بأن دارسي باختين اليوم يتجاهلون هذا الأمر. عندما شرعت في قراءة باختين في مطلع سنوات 1960 في بلغاريا، كنت أنتمي إلى وسط ثقافي يوصف بـ»المنشق». وسط منقسم إلى قسمين. كان هناك، من جهة، المولعون بالحضارة السلافيّة، أو القوميون الذين يسعون إلى إحْياءِ شعلة الحياة الثقافية، وحرّية الفكر من خلال استعادة الذاكرة الثقافية، والمستغربون، من جهة أخرى، الذين يَروْنَ أنّه من الضّروري أن نيمّم الوجه شَطْرَ الغرب إذا أردنا التمتّع بالحرية. في هذه اللحظة، كنْتُ طالبة في بلغاريا، وتقريبا في المرْحَلةِ الأخيرة من مساري الدراسي، وكنْتُ منجذبةً بشكل أشدّ إلى المستغربين. ثمّة حدث كان يحظى بالاهتمام من قِبَلِ الطرفين معًا، يتمثّلُ في صدور عملين لباختين في موسكو: شعرية دوستويفسكي عام 1963، ورابليه عام 1965. أما أصدقائي الأكبر منّي سنًا، الذين هم إما مدرّسون في الجامعات أو باحثون في أكاديمية العلوم، فكانت ميادين اشتغالهم هي تاريخ الأدب أو نظرية الأدب المقارن، أو نظرية الأدب. كان هؤلاء الأصدقاء يعدّون كتابي باختين ليس فقط ردّا على الشكلانيين الرّوس، وإنما أيضا تحفة فِكرٍ نَسقِي من الممكن أن يساعد على فهم دوستويفسكي في ضوء الشخصية الرّوسية، الاستثنائية، متعددة الأصوات أو الكرنفالية. لقد رأوا في [هذين الكتابين] اعترافا بالشّعب الرّوسي، في الوقتِ نفسهِ الذي اكتشفوا فيهما طريقة لتمثل التنوير الغربي، وهذا يعني بشكل أساسٍ هيغل Hegel. يشكّل باختين أداة لتكييف تلك الأفكار مع خصوصية الأدب الرّوسي.
كان باختين يمثل بالنسبة إلينا ضربًا من التركيب بين هذين التوجّهين المهمّين، أي صوت داخلي يقود نحو الحرية والإنصات للشّعب، وصوت خارجي يَنفتحُ على السياق الدولي. كنا نقضي لياليَ بأكملها نُناقشُ هذا العبقري الذي يسمّى باختين، والذي كانت كتابته تَتعينُ بوصفها مؤسّسة على أرضية مَعْرفةٍ فلسفيةٍ وأدبيةٍ. وفي الوقت نفسه، فإنّ هذا الكاتب مشارك بقوة في بلورة هذه المعرفة. ولما كان باختين يُمثلُ بالنسبة إلينا شيئا من قبيل المقال essais الأقرب إلى السّرد، وليس فقط من قبيل العلم الوضعي، فقد كانت كتابته تُشعلُ أمسياتنا. وأنا أصرّ على ذلك، لأنني نادرًا ما وَجدْتُ مثل هذا المناخ المطبوع بالحماس الثقافي، الذي كان يُحافَظُ عليه سرًا بدافع سياسي. كان يغمرنا الحماس في الرغبة الشديدة في التحرّر من النّظام الشيوعي. ثمة في الوقت نفسه حماس ثقافي كبير ومأزق. أتمنى لو أنّ هذا المناخ موجودٌ الآن في بلدان أوروبا الشرقية لأنها تَعيشُ نوعا من الاكتئاب، من دون أمل كبير سياسيا، اقتصاديا أو أخلاقيا. هذا أمرٌ مؤسفٌ، لأن في هذه البلدان ثمة كثير من المشاعر الكامنة، وجذور ثقافية أشدّ غنى من شأنها أن تعطي ثمارًا ثقافية، وربّما أيضا تطورا اجتماعيًا، وحتى هذا طَالَ انتظاره.
عندما أتيتُ إلى كندا، إلى جامعة ويسترن أونتاريو، ولكن أيضا إلى جامعة تورونتو، كُنتُ أقابل أشخاصا من جيل الشباب، ومنفيين أوروبيين بالإضافة إلى طلاب كنديين. العديد بين هؤلاء كانوا يتقاسمون الارتياح ذاته إزاء الفكر الذي تَعرفتُ عليه هناك. لا أعرفُ لماذا، وبشكلٍ لا شعوري، أجِدُنِي مشدودةً إلى مرحلة سنوات الستينيات هذه في أوروبا الشرقية، أو أنني، ببساطة، أسعى إلى إحياء المثال الأعلى. أشعر أحيانًا بأنني مُحاطَة ومَفهومَة بشكل أفضل في كندا مقارنة بفرنسا. علاوة على ذلك، فقد أدركت مرحلة من العمرِ بدأت فيها طَرحَ الأسئلة حول أرشيفي الخاص: لمن أعهد بوثائقي على سبيل المثال؟ أعتقد أن فرنسا لن تكون الاختيار المناسب لأنّ الشعور بأنني غريبة لا يفارقني في هذا البلد. ولا يمكن أيضًا أن تكون الولايات المتحدة بسبب الانقسام، أو حتى بسبب الحرب المؤقتة الذي تدور رحاها بين النموذجين المجتمعيين الفرنسي والأمريكي. ومن ناحية أخرى، ربّما قد تكون كندا.
سؤالك يُبرزُ الترابطات الحرّة بداخلي. من المؤكد أنه في بلغاريا شرعت في قراءة باختين. عندما وصلت إلى فرنسا عام 1966، مثلما ذكرت ذلك في السّاموراي (Les Samouraïs 1990)، التحقت بسرعة بمجموعة البحث في السوسيولوجيا والسيميولوجيا التي كانت تبدي اهتمامًا لافتاً بأعمال الشكلانيين الرّوس، وذلك بكلية الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية. كان تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov الذي جاء من بلغاريا قبلي، قد ترجم الشكلانيين الروس، وهكذا أكّدنا على وجود علاقة وطيدة بين الدّراسات البنيوية التي طورها ليفي ستروس Lévi-Strauss بالتعاون مع جاكبسون Jakobson، وهذه المدرسة الشكلانية. شخصيا، كانت لدي القناعة بأن هذه النزعة الشكلانية الصّارمة والاختزالية تجاوزها باختين بشكل مؤكد. وعليه، ما كنت أرغب فيه هو التعريف بما كان يَتشكلُ في أوروبا الشرقية، ولا سيما في بلغاريا، بوصفه ضَرْبًا من الفكر الأدبي. زملائي وأساتذتي الذين تتَلْمذْتُ عليهم في هذه الفترة كانوا من جيل يكبرني سنا، وهكذا أردت إحاطتهم علما بالأعمال التي قرأتها. لقد تحدثت، بخصوص هذه الأعمال، لأستاذي جيرار جينيت ورولان بارت. كان بارت R.Barthes، علاوة على ذلك، عضوا ضمن لجنة مناقشة أطروحتي2 ، وكنت أعتبره مشرفًا محتملًا، رغم أن لوسيان غولدمان Lucien Goldman كان هو مشرفي في نهاية المطاف. وجود رولان بارت ضمن لجنة المناقشة يعود لكون توجهي كان بنيويا وما بعد بنيوي على نحو مطّرد، وأقلّ فلسفية وجدلية، وهذا هو المجال الذي يهتم به غولدمان. لم يكن لجينيت G.Genette وبارت أي معرفة قبلية بباختين، وَوجَدا هذا الفكر رائعا. كلّفني بارت بإنجاز عرض حول باختين ألقيه في إطار دَرْسِهِ. هكذا أعددت نصّا كان موجّها في الوقت نفسه للنشر في مجلة نقد Critique، وللتقديم في الندوة. ألقيت العرض في خريف 1966، قبل نشره في مجلة نقد Critique بفترة قليلة.
*هل تذكرين ما قاله رولان بارت خلال تقديم عرضك؟
– نعم، لا أتذكر الكلمات التي قالها بالضبط، ولكنه أبدى ارتياحا واضحًا. رحّب أساسا بفكرتي الحوارية والتناص اللتين طورتهما في هذا اليوم. بالنّسبة لكتابه س/ز، أي القراءة التي قام بها لقصة لبالزاك انطلاقا من مجموعة من السّنن، فإن فكرة فتح النص على التناص مستلهمة من العرض الذي قدمته خلال ندوته. وعلى سبيل المثال، اهتمّ جدّيا بهذه الأفكار مقارنةً بجينيت. أعتقد أن هذه الأفكار التي طورتُها، أخْصبَتْ إلى حدّ بعيد أعماله اللاحقة، لدرجة أنها خلّصته من إحْراجِ الخروج من البنيوية الجامدة.
*هل كان لوسيان غولدمان مهتما بباختين؟
– لنقل نعم ولا. كان غولدمان مهتمًا به بمعنى أنه كان يَعتقدُ أن البنية التي تُشكلُ أساس البنيوية لم تكن لغوية فقط. لقد منحه وصولي إلى باريس نوعًا من الخلاص، لاعتقاده أنه بالإمكان، اعتمادا على باختين، ربط البنيات اللغوية بالمجتمع والتاريخ. وهذا ما رحّب به في هذا النّهج. لقد رأى فيه ضربا من التواصلِ بين المباحث المعرفية، وفي هذا الجانب بالتحديد تمثلت بالنسبة له قيمة تأويلي. ما يفكّر فيه باختين هو أمر غير مألوف يَتموقعُ بين اللغة والمجتمع. لا أعتقد أن غولدمان أعاد قراءة باختين بعد ذلك. ولم أتابع كلّ أعماله من منظور باختيني. ظلّ غولدمان هيغليًا، وعمل بشكل رئيسِ في ذلك الوقت لمحاربة سارتر J.P.Sartre. لقد عارض بقوة نقد العقل الجدلي لسارتر، وما كان يشغله هو الوساطة بين هيغل وسارتر. لنقل إن باختين سمح لغولدمان بالتموضع مقابل البنيويين الفرنسيين، لكنّ هذا الأمر لم يكن موضعَ نقاشٍ أساسٍ بالنسبة لغولدمان. إن الاهتمام الذي حظي به باختين يَعودُ بالأساس لتلامذة بارت. ومع ذلك، إذا استثنينا طلابي، فإنني لم أشعر قطّ أن هذا الاهتمام مُنتشرٌ على نطاق واسع في فرنسا. لم تصبح الدراسات الباختينية مركزية للغاية في فرنسا.
*بأي لغة قرأت باختين عندما كنت ما تزالين في صوفيا؟
-قرأته باللغة الرّوسية. والترجمات لم تكن متوفّرة بالبلغارية. كنا أكثر انغماسا في اللغة الروسية؛ نقرأ بهذه اللغة، وعلاوة على ذلك، فإنّ بعض الباحثين، أساتذتي، كانوا متخصّصين في اللغة الرّوسية، وأكثر تفاعلا مع الوسط الثقافي الرّوسي. ومن ثم أتاحوا لنا كتاب باختين عن دوستويفسكي بمجرد صدوره في موسكو. وهكذا قرأناه بالرّوسية. بعد ذلك، شجّعتُ إزابيل كوليتشيف Isabelle Kolitchef على ترجمته إلى الفرنسية. هذا الأمر تحدثتُ بصدده كثيرًا مع جاكبسون الذي كان في البداية يُبدِي بعض التحفظ إزاء باختين، لأنّ هذا الأخير، فيما أعتقد، كان يُنظرُ إليه بوصفه عدوا للشكلانيين، بما أنه كشف عن المحدودية التي تنطوي عليها مقترحاتهم. وعلاوة على ذلك، يعدّ باختين بالنسبة للشكلانيين شخصا يُغازلُ الماركسية. وهذا ما لم يكن هو الحال حقا، لأنه وكما تعرفون، حرية باختين كان يُنظرُ إليها بشكل سيئ من قبل النظام الستاليني الذي انتهى به الأمر بنفيه داخل البلاد. وبما أن باختين سعى إلى التفكير في الجسد والتاريخ، فإن هذا التفكير اعتبره الشكلانيون هجومًا موجهًا ضدّهم. في الواقع، يبدو لي أن موقف باختين كان نقديا، بالمعنى النبيل للجدل الثقافي، وليس اضطهادا بأيّ حال من الأحوال. فهو لم يضع نفسه بأي شكل من الأشكال في المنظور الستاليني. كان نقاشا للأفكار، ومعارضته الشّكلانية ليست أقلّ من معارضته الفرويدية. ويبدو لي أن كتاب ميدفيديف P.Medvedev حول الشكلانيين مستلهم من باختين، إن لم نقل إن هذا الأخير هو الذي كتبه. أما جاكبسون الذي بدا متحفظا للغاية في البداية، فكان مقتنعا بأنه عَملٌ مهم. كما أنّ بومورسكا Pomorska، زوجة جاكبسون، هي التي انخرطت في نشر عمل باختين بشكل مطّرد في الولايات المتحدة بعد بضع سنوات قليلة. هكذا تبلور هذا الإقبال بناء على مبادرتي، إذا كنتُ أجرؤ على قول ذلك.
*في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه ترجمة إزابيل كوليتشيف، ظهرت ترجمة أخرى لغي فيري ونشرت عام 1970 في لوزان. هل شاركتِ أيضا في هذا المشروع؟
-لا، إذا شئت، لما وصلت إلى فرنسا، كُنتُ أحمل معي هذا الحماس الذي وصفته للتو، لكني لم أكن أتطلع لأن أصبح متخصصة في العالم السلافِي، أو أنشر الثقافة الروسية أو البلغارية في وسط ثقافي فرنسي. ولما كان تكويني في إطار الدراسات الرّومانية، فقد كُنتُ أشتغلُ في مجال الأدب الفرنسي، وفي حقل النظرية. لقد وضعت الدراسات الروسية جانبًا، وباختين اعتمد من هذه النقطة من قبل متخصّصين في الثقافتين السلافية والروسية الذين أعدوا حوله دراسات مهمّة. أحد الأسباب وراء إعراضي عن الاهتمام بهذا المجال هو أنني لم أكن أرغب في أن أصبح متخصصة في الدور السلافي أي دور الوسيط. go-between
*هل كانت إزابيل كوليتشيف تعمل أستاذة للروسية في باريس؟
-كانتْ قارئةً روسية، ومدرّسة للغة. أصولها روسية، وتَتحَدثُ اللغة الروسية بطريقة جيدة، ولأنها ولدت في فرنسا، فقد كانت ثنائية اللغة تماما. عندما تحدثت لها عن هذا النص، أحبته كثيرا، واقترحت أن تتولى بنفسها ترجمته إلى الفرنسية طالما أنه في ذلك الوقت لم يكن أحدٌ يَعرفُ باختين.
*ما هو شائع في الدراسات حول تلقي عمل باختين هو أنّك السباقة إلى اكتشافه وتقديمه للباحثين في الغرب. كيف تتفاعلين مع هذا الاستنتاج الآن، بعد ثلاثين عامًا.
-إنه لمن دواعي شرفي أن يحظى هذا العمل بالاعتراف. وأعتقد أنّ مسألة ريادتي فيما يتعلق بتلقي عمل باختين في الغرب، أمر صحيح ودقيق. أنا سعيدة غاية السعادة لكوني أسهمت في انتشار هذه النّصوص التي تكتسي، في تقديري، أهمية لافتة. ها هنا لا أفكّر بكتابيه حول دوستويفسكي ورابليه فحسب، بل في كلّ أبحاث باختين التي تمّ تسليط الضوء عليها لاحقًا. لا شك أن سعادتي تزداد أيضا، إذ من هنا انبثقت تفسيرات أفضل، وأشدّ وفاء لباختين. كانت فكرتي في البداية هي الإشارة بالتالي إلى وجود باختين، وموضعته في السياق الفرنسي. كان من المتعيّن تأويله من خلال السّياق الفرنسي، وجعله مقروءًا من قبل الفرنسيين. وهذا ما يُمكنُ اعتباره نقطة ضعف، لأن ما يتولّد عن هذا النهج هو باختين المُترجَم والمكيّف مع المنظور الفرنسي. ورغم ذلك، أعتقد أن هذا كان أمرا ضروريا بالنسبة لي، ومفيدا بالنسبة للجميع، لأنه في غياب هذا التكييف، فإن باختين، ربما، كان من الممكن أن يُنظَرَ إلى عمله باعتباره جزءا من الفلكلور الروسي، ولم يكن ليثير الاهتمام الذي يَتمتعُ به الآن.
إذا كان التفسير الذي أعطيته لعمل باختين، أسهم بقوة في شهرته، فإنه أيضا جعله معاصرا. هكذا، لم أغلق [على عمله] في حدود الفلكلور، ولا في الماضي، بل تمكنتُ من أن أبرز الكيفية التي يُشاركُ بها فكره في النقاشات الراهنة. استطاعت هذه القراءة فتح مستقبل جديد، وهو ما سمح، بعد ذلك، بالتفكير في ما كان يقصده حقا. الحداثة التي أضْفتْهَا عليْه قراءتي كانت مفيدةً له، فيما أعتقد، وعلى الخصوص لأنها جعلت منه مُحاورًا للنظرية المعاصرة لسنوات 1960 و1970، وليس موضوعا من المَاضي. أعتقد أيضًا أن قراءتي أشدّ إخلاصًا لفكره.
*هل كان لديك خلال سنوات 1960 أي اتصال أو تبادل مع تلميذَيْ باختين الروسيين سيرجي بوشاروف وفاديم كوزينوف اللذين نشرا في موسكو الطبعة الجديدة لدوستويفسكي ورابليه؟ هل كانت لديك اتصالات بباختينيين روس آخرين خلال سنوات 1960؟
-لا، على الإطلاق. اتصالاتي كانت فقط مع قرّائه البلْغار، وأصدقائي مثل تونتشو جيتزيف Tontcho Jitchev الذي كان متخصصا في العالمين السلافي والرّوسي، وتزفيتان ستويانوف Tzvetan Stoianov الذي توفي منذئذ، وأيضا مينكو نيكولوف Minko Nikolov الذي يَعودُ له فضل تعرّفي على باختين أول مرة عندما كنت في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين. هؤلاء الباحثون من صوفيا هم الذين عرّفوني بباختين، ومدّوني بكتبه. لا أعرف على الإطلاق، على سبيل المثال، أولئك الذين يتولون الإشراف على أرشيف باختين في موسكو. فبعد صدور مقالي الخاص [باختين» الكلمة، الحوار والرواية]، لم أعد أتناول باختين. من المؤكد أنني قرأت النصوص التي صدرت ضمن منشورات غاليمار، جمالية الرواية ونظريتها، جمالية الإبداع اللفظي، والنصوص حول الكرونوتوب والرواية..إلخ. لكنني لم أعمل على نصوص باختين هاته شخصيًا.
*منذ عشر سنوات انطلق نقاش مكثف مداره موضعة باختين ضمن التقليد الفلسفي الكبير لعصرنا، وعلى الخصوص العلاقة بين باختين والكانطية. في الوقت الراهن تعاد قراءة كتابات باختين في مطلع سنوات 1920 عندما شرع في العمل، وذلك لمعرفة ما إذا كان كانطيا جديدا، أو كانطيا أو ما إذا كانت له بالأحرى علاقة متوترة بهذه التيارات الفلسفية الألمانية. كيف تموضعين باختين في التيارات الفكرية لعصرنا؟
-منذ بداية اهتمامي بباختين، اتّضح لي أن علاقته بكَانطْ أقلّ منه بهيغل. عند باختين هناك جانب هيغيلي جديد، وبحسب الشهادات اللاحقة حول تكوينه، نَعرفُ أنه كان قارئا نهمًا لهيغل والهيغليين. كلّ تفكيره حول الوعي المأساوي، المتعارض والحواري، متوافق مع الجدل الهيغيلي، ليس فقط فيما يتعلق بالكلمة التي تتحدى كلمة أخرى، وإنما أيضا في العلاقة بين عالم المعنى والعالم الفيزيائي، سواء الجسد أو المجتمع. يبدو لي أن كل هذه الثنائيات الحدية، وتصادي الأفكار الذي نَشعرُ به عند باختين، نابع كلّه من الإلهام الهيغيلي.
*بعض النقاد في الفترة التي ظهرت فيها أعمالك حول باختين، عبّروا عن وجهات نظرهم في المراجعات التي أنجزوها. هل يمكن أن نعرف كيف تتفاعلين الآن مع هذه التعليقات؟ واسمحي لي أن أذكر مثالا واحدا.
«لكن هل باختين نبيّ بالنسبة لوطنه فقط؟ أولئك الذين يساعدون في نشر أعماله في الغرب يفعلون ذلك أحيانًا بشيء من التعالي. نحن نعترف بما لديه من حدس، لكننا نؤاخذه على غموضه وعدم دقته: عدم اللجوء إلى التحليل النفسي، وعلم النفس، وغياب نظرية في الذات، والتحليل اللساني الذي لم يصل إلى درجة من التطور… لغة إنسانية، وإفراط في التاريخانية. ميزته الرئيسة هي أنه ما بعد شكلاني، أي أنه أراد تجاوز هذا الرفض للتفسير، هذا التشريح [النصّي] الجاف الذي كان على الشكلانيين أن يختزلوا فيه علم الأدب» (Frioux 1971:109).
-يُمكنُ تفسير إحجام الجمهور الفرنسي عن باختين جزئيًا بالنظر إلى فكره ذي الشكل المقالي، فهو غالبا ما يكون أقرب إلى ما يشار إليه في القارة الأمريكية باسم «النظرية» theory، دون الإحالة بهذه التسمية إلى تيار فكري دقيق. لقد أذهلني هذا التردد منذ البداية. وعندما حاولت شخصيا ترجمة جُمَلٍ لباختين لزملائي في فرنسا، لم يكونوا حسّاسين لصرامته، أو بالأحرى كانوا حساسين لكونه يَفتقرُ إلى الصرامة. يقولون إن هذا الفكر الذي تعوزه الدقة، يَذهبُ في كل الاتجاهات، حتى وإن كانوا يقرون بتأثيره المدهش. أردت التغلب على هذا التردد. وهذا أحد الأسباب التي أثرت على تعليقي.
أما السبب الثاني، فهو أن فكري تطور في بيئة ثقافية تميزت بكون ما يُهيمنُ على اهتمامات الأفراد من جيلي هو من جهة اللسانيات البنيوية، ومن جهة أخرى التحليل النفسي. يبدو لي أن هذين التيارين لم يكونا غريبين عن فكر باختين، رغم أنه لم يتناولْهُمَا بصورة صريحة. أولا، لأن باختين ولأسباب تاريخية لا يمكنه الولوج إلى هذا الفكر عينه، أي إلى هذه التيارات بذاتها، وثانيا، لأنه كان يريد معارضة هذه التيارات، والتموقع ضمن نوع من التفكير متعدد الاختصاصات قبل تطوّره الحاسم. وبالتالي، فإنّ كل ما قاله عما أسماه «الكلمة» أصبح غير مفهوم لعالم اللغة. وكل ما استطاع أن يقوله عن «الجسد» بات مستحيلًا على من تناول الجسد كمحلل نفسي، أو كطبيب نفساني، أو بالاستناد لأي تخصص غربي آخر على الإطلاق. في قراءتي، حاولت أن أتموقع في مكان القارئ الفرنسي المشكّل فكره على أرضية اللسانيات والتحليل النفسي. هكذا سَعيتُ بهذا النوع من الفكر إلى قول ما فكّر فيه باختين. لنقل إن الأمر كان يتعلق بترجمة باختين في تلك اللغة. من هنا يَنبعُ التأويل الذي وضعته. لا ينبغي للمرء أن يقرأ في ذلك مقاومة ولا تحفظا من جانبي، ولكن تحذيرًا بسيطًا لأولئك الذين اعتقدوا أن ما كان باختين يقوم به هو اللسانيات أو التحليل النفسي، وهذا ليس هو الحال، وبالتالي راحوا يبحثون له عن «نقاط ضعف» انطلاقا من هذين المبحثين. في قراءتي، لا يتم التعبير عن التعالي على الإطلاق؛ أكثر بقليل من الرّغبة في تجاهل أفكار المرء. على العكس من ذلك، يتم التعبير عن الرغبة في قراءته، حتى لو أدركت في الوقت نفسه اختلافه فيما يتعلق بهذه التيارات الفكرية الرئيسة في الغرب.
*بالقيام بنوع من التصنيف، يمكننا أن نتحدث، كما يبدو لي، عن أربع لحظات قوية في تطور تلقي أعمال باختين وحلقته في فرنسا:
أ) عملك في الستينيات؛
ب) مقالات بعض اللسانيين الماركسيين في السبعينيات (Houdebine1977; Gardin,1978)؛
ج) كتاب تزفيتان تودوروف عام 1981؛
د) دراسات بعض اللسانيين المشتغلين في التداولية، في الثمانينات (Ducrot1984; Autgiez-Devuz1982)؛
كيف ترين هذا التطور المميز والمختلف جدًا مقارنة بتلقي أعمال باختين في بلدان أخرى؟
-أنا على علم بهذه التطورات. ثمة أربعة اتجاهات يمكننا في الواقع تحديدها على هذا النحو. يبدو لي أن مساهمة باختين تَكمنُ في اتجاهين أساسيين. الأول هو لسانيات التلفظ والتداولية، ربّما. يتعلق الأمر بفهم النص الذي أسميته نصًا مغلقًا، سواء أكان نصًا بسيطًا أو نصًا أدبيًا، بوصفه نتاج التفاعل مع الآخر. انطلاقا من هذا البعد المتعلق بالآخر، اهتم اللسانيون وهم يفتحون مجال التلفظ، بالضمني، والتلميح، والقصد. وفي هذا الإطار تندرج أعمال مجموعة ديكرو. يَجبُ ألا ننسى الأبعاد ما فوق لسانية supra-linguistique، وما تعلمنا إياه التداولية. ومع ذلك، أعتقد أن عمل باختين في هذا الصدد يبقى تمهيديا نسبيًا، لأنه على الرّغم من أنه يقدم بالفعل العديد من المؤشرات، إلا أنه لا يقدم أدوات أبدًا. وبالتالي يمكن اعتباره بمثابة مقدمة يمكن الإبداع انطلاقا منها. إن الأساليب الخاصة بالتلفظ البين ذاتي، أو الاهتمام بالآخر، أو أخذ المرجع في الاعتبار، كل ذلك تطور بعد باختين. وباعتباره لسانيا، فقد حدّد الطرق، ولكن لا يَزالُ يتعين القيام بكل شيء.
أما فيما يخصّ الاتجاه الثاني الذي يُشدّدُ على بعد الذات التي لها جسد وذاكرة، فهو يبدو لي أساسيا. في هذا البعد يتجذّر التناص والبعد الكرنفالي للحياة النفسية psyché. وهذا يعني تنوع الوعي إذا أخذنا اللاوعي بعين الاعتبار. هذا البعد لا يمكن أن يطور إلا على أساس التحليل النفسي، ونظرية تحليلية في الذات على نحو ما فعله فرويد S.Freud، وعمّقه لاحقا لاكان J.Lacan وآخرون. أعتقد أنه من بين أحد الأسباب في كون باختين لم يحظَ بالاهتمام المستحق في فرنسا، هو أن هذا الموقع سبق أن ملأه التحليل النفسي. وهذا معناه بالنسبة لأولئك الذين يعنون ببعد الذاكرة هذا، وبتعدد معاني الذات، وبالعلاقة مع الآخر، والعلاقة بين اللغة والجسد إلخ، كلّ هذه الديناميات أشار إليها باختين، لكن التعميق الذي طالها في النهاية بكثير من الدقة السريرية والإبستمولوجية يعود الفضل فيه إلى تيار التحليل النفسي. بطريقة ما، باختين ممتصّ وممزّق بواسطة التحليل النفسي وتطوراته. ومن جهة أخرى، إذا كان هناك في فرنسا نسويات وباحثون مهتمون بالسلوكيات الهدّامة (بالمعنى الذي يشير إليه الكرنفال عند باختين)، وبعبارة أخرى بالحالات الهامشية، فإن الأخيرين ينهلون من النظرية الفرويدية اللاكانية التي يجد فيها باختين مكانه إلى حدّ ما. هناك انطباع بأنه جزء من ذلك التيار، لكنه لم يؤسّسْه، وبالتالي لا جدوى من العودة إليه.
وتبقى خصوصيات العمل الأدبي. كلّ ما قاله باختين عن الرّواية على سبيل المثال، لا يحظى بتأييد حقيقي لدى منظري الأدب المعاصرين في فرنسا. يجب أن أنتقد زملائي الفرنسيين. النظرية الأدبية الموصولة بالتقليد الفرنسي الطويل ليست دائما ذات سمعة جيدة، بعض الأشخاص من طراز بارت وجينيت كثيرا ما يوجه لهم النقد بأنهم أكثر تعقيدا، ويُنظرُ إليهما كإرهابيين. هناك توجه للدعوة إما إلى الكلاسيكي -التي هي بكل بساطة تاريخ الأدب، أي تاريخ المصادر- أو الانغماس في تبسيطات صحفية بشكل آخر أكثر إغراءً وإثارة. لسوء الحظ، فإن النظرية الأدبية التي يُمكنُ لباختين أن يَشغلَ فيها مكانا، لا تقدّر حقّ قدرها. أحاول مع زملائي من جامعتي باريس السابعة والثامنة اتباع هذا الطريق، لكن عددنا قليل، ويتم الاهتمام بأفكارنا أكثر في جامعات أجنبية بإنجلترا والولايات المتحدة وكندا وألمانيا وإيطاليا قياسًا إلى فرنسا نفسها. ومع ذلك، فإن نظريتي في الأدب، والتي تأخذ بعين الاعتبار الكرنفال والتعدّد، لا تحتاج بالنظر إلى التطورات الفرويدية، إلى العودة من حين لآخر لباختين لأنني أدرك، عن حق أو عن خطأ، أن ما يمكنني تطويره على أساس سريري من خلال هذه الحياة النفسية المتضاربة المقدّمة على أريكة، يذهب أبعد بكثير من الحدس الباختيني. وعلى سبيل المثال، ما يمكنني قوله عن الانحراف، أو عن الذاتية أو عن حالة الحب، أو عن حالة الاكتئاب، يبدو لي أساسيا لتطور الحياة النفسية الكرنفالية. تمنحنا هذه التطورات المزيد من الدقة الواقعية والنظرية إذا أردنا أن نواصل القول إن هذا مجرد «كرنفال». لا أعتقد أنني أخون باختين، ولا أعتقد أنني أنساه، بل أشعر وكأنني أقوم بتطويره. لا يبدو لي أننا مضطرون إلى تكريمه باستمرار كما هو الحال في تقديس الأسْلاف.
*هل هناك نظرية للذات عند باختين؟ ما طبيعتها؟ هو ذا السؤال الذي ما فتئ يسيل الكثير من الحبر في حقل الدراسات حول باختين الآن. ما رأيك في هذا الاقتباس التالي الذي فيه يلخص م.بييريت مالكوزينسكي رأيه حول تفسيرك لباختين ولنظرية الذات:
«تدير كريستيفا دمجًا فرويديًا ماركسيًا، استنادا إلى النظرية الدافعية، يفترض مسبقًا، بلا كلل أو ملل، تنظير التراتبية مع إنشاء ذات منتجة قوية للغاية، الذات التي تطلق على نفسها اسم «أنا». كلّ هذا على صلة أقل بالتعددية التكوينية التي يحيل عليها فكر باختين عن طريق تعدد الأصوات، ويفترض بدلا من ذلك مناهضة التراتبية حيث الذات المنتجة هي بذاتها تفهم بوصفها نتاجًا لمحفل في وضعية حوار مع ذوات سوسيوثقافية أخرى». (مالكوزينسكي 1992: 52)
-لا شكّ أن تعليقاتي حول باختين لم تكن مفهومة بشكل واضح دائما، وهذا الاقتباس الذي قدّمته هو مثالٌ لسوء الفهم. أولا، ليس الـ أنا Moi هو الذات sujet. الــ أنا كيان متخيّل، بينما الذات دينامية. وكما هو الحال في النظرية الهيغلية، فإن الوعي هو سيرورة عند لاكان الذي تناول مصطلح الذات بعد هيغل. أما بالنسبة لفرويد فلا وجود لمفهوم الذات. إن الذات قابلة لأن تشتقّ من بنية مكونة من الأنا الأعلى، والأنا والهو. لكن الأنا ليست على الإطلاق هي الذات. إنها مكون خيالي للدينامية. فضلا عن ذلك، فالذات المنتجة ليست قوية للغاية، فهي في أزمة مستمرة. والفكرة التي طورتها حول «الذات تنتقد ذاتها»، توضّح بشكل صحيح أن الأمر لا يتعلق بالقوة، بل باستجواب مستمر للوحدة بحيث يكون هناك إنتاج للمعنى، ومن ثم، للثقافة. هذا يعنى أن العنصر الذي يضفي الوحدة على الذات هو عنصر أساس. يمكننا القول، بعبارة أخرى، إن الحضور الذّهاني paranoïaque للذات بديهي. لا توجد ذات، ولا توجد كتابة أيضا. ومع ذلك، في التجربة الكرنفالية لا يمكن إنكار هذه الوحدة، طالما أنه قياسًا إلى الواحد، قياسًا إلى الله، وقياسًا إلى المؤسسة تتم عملية الاستجواب. في الكرنفال، كما في الرواية، لا يكون التفكير الذهاني مطلقًا، بل حاضرًا ومقيدًا.
لم أكف عن الحديث عن التنافر في أعمالي اللاحقة، بما أنه عندما طورت مقترحات باختين، أو بالأحرى حدْسه بخصوص الكرنفال، فإن ما أثار اهتمامي باستمرار، كان هو العلاقة بين الكلمة والآخر، بين الدافع والمعنى. وما أطوره في أعمالي حول بروست Proust هو العلاقة إحساس/ لغة. وأنا على الدوام على ملتقى الطرق المتنافر هذا. لقد كنت أنا التي أدخلت فكرة «التنافر» Hétérogénéité فيما يَتعلقُ بمفهوم الآخرية من أجل تعقيد ديناميات المعنى بدقة. ثمة الأنا والآخر، وثمة أيضا الدافع والمعنى. الأنا والآخر: الغيرية؛ الدافع والمعنى: التنافرية. في هذا الصدد، فإن شخصا مثل جورج باتاي G.Bataille، والذي حاولت أيضًا قراءته في ضوء التحليل النفسي ضمن الأدب، قدّم أشياء أساسية يجب التذكير بها من أجل جعْلِ حدْس باختين حول الجسد في متناول النظرية الغربية الأكثر نسقية وصرامة.
ثمة بعد آخر لم يتم تناوله بعد؛ إنه البعد الخيالي imaginaire لخطاب باختين، البعد التخييلي fictionnel الذي هو قوته، ولكنه يفسح المجال أيضًا للغموض. «إنه خطاب ضمني يشجّع التوقعات التي يمكن تطويرها بطريقة حرة نسبيًا، ولكنه يمكن أن يؤدي إلى تفسيرات خاطئة تلعب أيضًا دورًا سلبيًا. على سبيل المثال، أجرينا مؤخرًا، بعد سقوط الجدار [جدار برلين]، لقاءات مع الباحثين الرّوس، «وأحدهم قدّم مداخلة في إطار فريقنا، فريق النظرية الأدبية والعلوم الإنسانية في جامعة باريس السّابعة. أردنا تخصيص أمسية لباختين، وهو أمر غير مألوف. جاء شاب من موسكو من الحاصلين على المنحة الروسية وهو يدرس في باريس؛ لا بد أنه كان في الخامسة والعشرين من عمره، كان ذلك قبل عامين أو ثلاثة أعوام. هكذا قدّم لنا عرضا يُمكنُ وصفه بالتحريضي تماما ضد باختين الذي اعتبره مناصرا للثقافات الشعبية، بالمعنى الازدرائي للكلمة. هذا يعني أنه رأى في باختين ما يشبه جواسيس الماركسيين الستالينيين الذين يسعون إلى محاربة الطليعة الروسية؛ بمعنى آخر، محاربة كل من كانوا ينتمون إلى التجربة الشكلانية والفردية الإبداعية. بالنسبة له، يريد باختين العودة إلى الجماهير، وإلى الثقافة الشيوعية، وأن تفكيره حول الكرنفال ليس سوى وسيلة لإسقاط الثقافة الشعبية الستالينية، ومناهضة البحث الفردي. صديقنا الروسي يرى في باختين منظّرا غير مقبول. حاولت أن أظهر له أن ثمة هوة بين الثقافة الشعبية من منظور الستالينيين، والشعب بحسب باختين، وهذه الهوة مصدرها العصر الوسيط وعصر النهضة الفرنسي، حدثت مع الحرية المنتهكة للفلاحين الفرنسيين والضحك المزعج لرابليه. كان من المستحيل إقناعه. كان على يقين من أن باختين هو مجرد شكل من أشكال الوثوقية الشعبوية المقنّعة. هذا العرض صدم خبراء باختين مثلي. لسوء الحظ، هذه المداخلة اللاذعة كان لها آثار ضارة إلى حد ما على الجمهور، الذي قال، بعد أن سمع هذا الكلام، إنه إذا كان الرّوس أنفسهم وجدوا باختين انقلابيا وغامضًا وعرضة لأسوأ ضروب الاسترداد السياسي، فماذا كان علينا أن نفعل إزاءه؟ كان من الأفضل ترك الأمر. ولكن ما الذي يجب أن نكون حذرين منه بالضبط؟ فهل هذا مجرد تفسير مبالغ فيه يقوم به بعض الروس الآن؟ وهل هم مستعدون لتشويه تاريخهم بأكمله من أجل التقرب من الغرب؟ هذا بلا شك شكل من أشكال التطرف الذي أظهره هذا الشاب الروسي، لكنه ربما يكون أيضًا نتيجة لهذه البوليفونية الاستثنائية التي تنطوي عليها النصوص الباختينية التي تصلح لتفسيرات مختلفة، وتلعب ضده دورًا سيئًا في السياق الديكارتي للفرنسيين.
*خلال رحلة إلى موسكو عام 1955 للمشاركة في مؤتمر باختين، ربّما سمعتِ هذا النوع من النقاش، لكن صيغته مختلفة. هناك نقاشات قوية بين الباحثين في موسكو حول تراث باختين. لم يشارك سيرجيي بوشاروف المشرف على أرشيف باختين والطبعات الجديدة لأعماله الكاملة، في هذا المؤتمر الدولي لعام 1995. ولا يتفق كبار المتخصصين الروس في باختين دائمًا.
-ولماذا؟ هل سيكون ذلك لأن هناك من يقول إن باختين روح حرة بينما يقول آخر إنه وثوقيّ dogmatique متنكر، مثل ما حدث في أمسيتنا؟
*بعض الباحثين الرّوس يريدون أن يُعرَفَ باختين فقط بوصفه مفكرًا نابعًا من التقليد الرّوسي. في هذا السياق، ينظر هؤلاء لبعض التفسيرات الغربية بوصفها ضربًا من التشويه وخيانة لفكر باختين. ثمة من جهة المتشددون الذين يمتلكون فكرة مؤكدة عما قصده باختين، ومن جهة أخرى أولئك الذين يتّسمون بمرونة أكبر، وينفتحون على الأعمال المنشورة في ثقافات أخرى..
-ربما يُمثلُ هذا الاتجاه الأول محاولة لمعارضة العولمة. بمجرد أن يكون لديك نصّ في السّوق، فإنه ينفتح: إنه مثل قاموس لاروس الذي يزرع في كل مكان. تبدو الطريقة العقلانية في رؤية الأشياء رجعية تمامًا بالنسبة لي. يمكننا أن نفهم هذا الحرص على الحفاظ على روسية باختين، لمَ لا؟ ربما قرأته بشكل خاطئ، لكن اليوم في روسيا، بمجرد أن نقول كلمة الشعب، يكون لدى الرّوس انطباع بأننا نتحدث عن الدّهماء، عن العامّة. في حين أن باختين، الذي كان يتمتع بثقافة أوروبية، كان لديه تصور عن الشعب ليس المقصود به الجماهير الروسية التي لم يتبلور شكلها بعد، وهذا ما حاولت قوله لهذا الباحث الروسي الشاب. عندما نقول الشعب، يمكننا أن نفكر في الشعب الفرنسي في ساحات رابليه، الذي كان في زمن الثورة الفرنسية بعيدًا جدًا عن الموجيك (الفلاحين الروس) المجندين في الشمولية (التوتاليتارية)، لكنه طالب بـ«الحرية والمساواة والأخوّة». يتعين على الروس أن يفهموا أنه من الممكن أن يكون هناك شعب يتكون من أفراد أحرار وخطابات متنوعة، فردية وانتقادية. أعتقد أن باختين كان يسعى للتعبير عن هذه الرؤية؛ أعتقد أنه كان يُحاولُ إظهار الحرية الإنسانية والمتنوعة داخل الجماهير. بالنسبة له، لا يتعلق الأمر برؤية الجماهير مثل حشد متجانس. إنني أفهم الصدمة التي تنتج عن الماركسية، وأفهم أن الروس يتراجعون بمجرد أن يسمعوا فكرة تَستحضرُ هذا الشبح. لكنني أجد أنهم مخطئون في معارضة الوثوقية من خلال انعكاس لنزعة محافظة بسيطة.
*في هذا السياق أصبح مفهوم الكرنفال مثيرًا للجدل إلى حد كبير. لقد نُشرت مؤخرًا في الولايات المتحدة دراسات جادة تقول بوضوح شديد إن الكرنفالية والكرنفال والكتاب عن رابليه، كل ذلك يمثل لحظة شاذة في عمل باختين. في كلّ أشكال اليوطوبيا (utopie)، وخاصة الكرنفال، هناك خطر العنف (انظر مورسون وإيمرسون 1990).
-بدون فرويد، لا يمكننا فهم اليوطوبيا. يجب أن نكون حذرين من أي رؤية ملائكية ومتزمتة تحلم بعالم خالٍ من العنف. هذا الفهم بعيد كل البعد عن الحقيقة الإنسانية. إن قوة فكر باختين، المستلهم من التجربة الروسية ومن الهيغلية، تمثلت في مراعاة قوة السّلبي الكامنة في العقل البشري. إذا خففنا من هذا الجانب، سنكون بصدد رؤية وضعية متزمتة لا تهمّ إلا أتباعها. لذلك لا أرى أي فائدة في المضيّ في هذا الطريق. الكرنفال ينشر اليوطوبيا، واليوطوبيا خطيرة؟ لنكن جدّيين: هل اليوطوبيا باعتبارها حرية خيالية أم على العكس من ذلك، اليوطوبيا باعتبارها فعلًا حقيقيًا؟ ينتابني دائمًا الشعور، كما أظهرت مقابلتنا، بأنني، لمدة عشر أو عشرين عامًا، درست موضوعات كانت بذورها الأولى في عمل باختين. على سبيل المثال، التمرّد الخاصّ la révolte intime ، الذي يعود إلى الماضي، يضعه موضع شكّ، يناقشه، ويعدّده، ويحاوره، ويجعله متعدّد الأصوات. لكنْ كلّ هذا يمكن أن يصبح أشدّ ضررًا عندما نخلط بين الواقعي والخيالي، وعندما يتوقف الكرنفال عن كونه عملًا خياليًا، وعندما يتحقق في شكل جريمة قتل أو معسكر اعتقال. لكن مثل هذه الرؤية لم يعد لها أي علاقة بما قصده باختين، أو على أية حال، بما نحاول قوله من خلال التأكيد على استقلالية الخيال. يجب ألا نخلط بين مستوى الخيال ومستوى الواقع. يسمح لنا التحليل النفسي بإجراء هذا التمييز والقول «كن حذرًا… إذا شاركت في الكرنفال، فسيبدو الأمر كأنه معسكر اعتقال». لكن ليس من الضروري أن يتحقق الكرنفال، فهو دينامية الحياة النفسية، وقبل كل شيء مصدر للحرية. إذا لم تكن لديك هذه العدة الضرورية التي بلورها التحليل النفسي، فأنت تقول كلاما فارغًا. أعتقد أنه بدون قراءة مستلهمة من فرويد، يمكن أن يؤدي حدْس باختين إلى تفسيرات خاطئة، وسوء فهم.
*سؤال أخير حول الكرنفال (الاحتفال الشعبي) ونختم هذه المقابلة. هل لك أن تلخصي أهمية كلمة «كرنفال» في عملك الآن؟
-هذه هي طريقتي في استئناف الاشتغال بالاكتشاف الفرويدي بأن الإنسان هو حياة نفسية غير متصالحة. يتعلق الأمر بفهم أن الإنسان ذاتٌ في بحث دائم عن هوية لا تقبل التوفيق irréconcilié. يجب علينا من أجل القيام بذلك تَجنّبُ استخدام المصطلحات التي تتضمّن حكمًا معياريًا؛ كالانفصام والانحراف أو الاكتئاب، وهو ما أقومُ به أحيانًا أيضًا في المزيد من الأعمال الأكثر تقنية. لكن عندما يَتعينُ علي الانتقال، في لحظة تفكير معينة، إلى لغة معروفة للغاية لاستيعاب الأنشطة الاجتماعية؛ وهذا يعني أنه عندما يَتعينُ علي التعبير عن هذا التضارب في التجربة النفسية، من خلال تجربة اجتماعية، فإنني أعود إلى كلمة «كرنفال». تكمن أهمية كلمة «كرنفال» هنا في: إنها وسيلة لنزع الطابع المرضي dépathologiser عن التجربة المأساوية للحياة النّفسية، من خلال الكشف عن أن الانقسام الذي لا يحتمل هو أيضًا مصدر للحرية والإبداع. عند استخدام مصطلحات أخرى، يكون لدينا أحيانًا انطباع بأن كل شيء يدخل في المجال الطبّي، وهو ما لا أتردد في القيام به عندما أحاول أن أكون دقيقة. ومع ذلك، إذا كنت أرغب في التعرف على الممارسة الاجتماعية، فإن كلمتي «تعدد الأصوات» و»الكرنفال» تنطويان على كفاية مهمة، وتسمحان لي بمخاطبة عدد أكبر من الناس، وتجربة اجتماعية أكثر منها خاصّة.
*أشكرك كلّ الشكر لصبرك، ولإجابتك العميقة والدقيقة على أسئلتي.
الهوامش