يخاتل الخطاب المزروعي قارىء مجموعته القصصية «لعنة الأمكنة» بما أسماه «استهداء» أخذه من فيتولد جومبروفتش حيث يقول: «أنا لم أبرم أي عقد مع أحد لكي أكتب جيدا»، كأنه يطالب قارئه بأن الكتابة الجيدة ليست واجبة، وما تحتضنه مجموعته من نصوص قصصية قابلة لذلك الاحتمال، إن كان القارئ لا تعجبه (أو غير معني) بالتفاصيل الملتقطة بين دفتي المجموعة الصادرة عن دار نينوى.
يجمع المزروعي ملامح نصوص مجموعته في الإهداء حيث يقدمه إلى فاطمة «التي تشبه نوبات البكاء في زمن القحط» مستدركا باعتذار عن فجيعة سبّبها لها مردّها إلى «جنون اللحظة لا أكثر»، فاستوت النصوص على تلال من البكاء والفجيعة والجنون، مبتدأها «خطوات لزجة للفرجة»، وخبرها «هدوء بغيض».. وبين المبتدأ والخبر عناوين دالة على فجيعة وحزن وجنون، متوزع الموت على تفاصيل الحكايات إن لم يسكن العنوان الدال في أغلب الحالات عليها، فـ «أنا» السارد، و»ذات» المخاطب متصفة في مجمل النصوص بالجنون، والحالة العامة لأجواء الحكايات فاقدة لرشدها.
ينطلق الخطاب المزروعي في أغلب نصوص مجموعته «لعنة الأمكنة» من حالة فراغ هائلة تتحد فيها ذات المؤلف مع ذوات الشخوص التي تبدو واحدة تتحدث بصوت واحد فغالب عليها التنوع، والمعاناة مع الوجود والموجودات، فهي في مواجهة دائمة مع الفراغ المتسع أمامها، ولا وراءه إلا الموت كمخرج دائم من الفجيعة والإحساس المرير بتذكر راحلين، أخذهم الموت، أوالفراق «بعيدا عن الكون التافه».
الوجود من حول الكاتب / السارد منغلق على بكائيات وفقد، فالمؤلف هو البطل الدائم في جميع النصوص، بحيث يقرأ المرء هذه المجموعة ويرى الكاتب فاردا أرديته كبطل أوحد، هو بطل الحكايات، أو من يتحدث إليها، أو يتحدث باسمها، أو يرصد علاقاته معها بواسطة تجليات تأملية، تتلبسها شخوص معينة، كالحلاج (مثلا) في نص لعنة الأمكنة الحامل عنوان المجموعة.
يعبّر نص لعبة حمقاء بوضوح تام عن هيمنة المؤلف كبطل أوحد في نصوص مجموعته، هي تساؤله «ماذا عساي أكتب؟.. ولمن؟» راصدا تداعيات فكرة البحث عن مكتوب يلقمه فم اللعبة المجنونة (الجنون دائما)، يقع في حيرته، أن يكتب عن نفسه، أو عن فيروز (كاشتغال أدمنه كثيرون من الأدباء العرب)، منطلقا من فكرة لا جدوى الوجود / الكتابة، يرى «الكتابة هي الحل الأخير حيل كل هذا الخراب الذي يحاصره، ويرى أنه في تلك اللعبة مكره لا بطل.
هذا الاندماج (القسري) لم يكن في صالح القص الذي نأى بعيدا لصالح الشعرية التي يطلبها المزروعي كهاجس دائم في أغلب النصوص، وأسميها نصوصا لأنها تميل إلى الشعرية أكثر مما يحتمله الحدث الذي يكاد غائبا إلا ما يعيد القارئ إلى بعض اللفتات القليلة، والقول أنها مجموعة قصصية لا شعرية.. وإن كتبت بنفس القصيدة، معنى لا مبنى، وفي الأدب المعاصر فإن تماهي الأجناس أصبح مشجبة تعلق عليها الذاتيات والخواطر وما لا اسم له.
من الأمثلة على ذلك ما نجده في مطلع نص ذاكرة الموت الشائخة إذ تأتي الجملة: «أيها الغائب الحاضر.. ما هكذا تتوادع النوارس… يتمرغ الحزن في جسدي» (ص75)، يحاول في هذا النص الدفاع عن اندفاعه للكتابة بالشعر بنفيه كونه شاعرا، وكتابته بلحن موجع:
– لماذا شعرك دائما يحمل عبق الحزن والألم؟
– لأني لست شاعرا، بل تابوتيا؟
هذا التبرير قد لا يلغي الشاعرية، لكنه يؤكد حقا على «تابوتية» تنال منها سائر قصص المجموعة (أو نصوصها).
وفي قصة قرية النقّاق وما حدث لها يتدخل بشكل مباشر ليشير إلينا بين قوسين إلى أن النقاق الذي يدعي أنه ضاجع الكثيرات من بنات القرية موضحا (بالمناسبة إنه عنّين، ولكن لديه أكثر من أربعة وخمسين ما بين ذكر وأنثى)،
القصة كتقنية فنية (واضحة المبنى الساردة للأحداث) غائمة في نصوص لعنة الخطاب المزروعي، هي لعنات يعاني منها، وأخرى يصبّها على ظهر وجوده، حيث الغياب المتكرر، الفقد بطريقة أو بأخرى، لا تخلو مجموعة من مفردات متساوقة بين الموت والجنون، والعناوين المفجوعة جارّة لعناتها، مستفيدة من قاموس يميل دوما لصالح لفافات السجائر (المتكررة كاللعنات) والبصاق والقيء والديدان وعظام الأموات.
مع ذات تعاني الوحدة والتأزم الداخلي تراوح نصوص المجموعة «لعنة الأمكنة» لعبتها، فاتحة أبواب الأسئلة عن الحزن والوجود، وعبثية الحياة، وعن الذين رحلوا، الموت / المقبرة / القبر/ الأموات.. المفردات المحفزة لإطلاق مزيد من الألم للكائن المتوحد في عالمه، الضائق به حد التيه، يعبّر عنها نص القبو، وهو يمهد له بجملة للمسرحي سعد الله ونوس «من الظلام جئت وإلى الظلام أعود»، يبدأ من رؤية غائمة لما تسير عليه أحداث النص الذي بين يديه، تاركا للصور تتناسل من بعضها البعض بحيث لا يقبض على مفصل ما ليتركه يقود ذاته بدلا من تشعبه ذات اليمين وذات اليسار، تبدأ الفكرة بخاطرة / حديث ذات وتشرذمها، وتمضي في تداعيات التهاوي، للوصول إلى حافة النهاية بذات المنتهى الذي يؤول إليه الإنسان في خاتمة سيره على جسر الحياة.
التشبيهات في نصوص المجموعة منحازة إلى عالم «اللعنات»، لعنات الأمكنة.. والأزمنة أيضا، منها: كأني فراشة توشك أن تخرج من شرنقتها (ص19)، كجناح نورس (ص19)، كذئب تلقى رصاصة قاتلة (ص23)، كذئب جريح تكالبت عليه كلاب قذرة، تخرج أصواتا من مؤخراتها (ص39).
تستدعي النصوص شخصيات تبني عليها سلالم خروجها من حالات الوحدة والإحساس المقيت باللاجدوى، النص الأول «خطوات لزجة للفرجة» يدور في حلقات مفرغة نرى فيها جمال عبدالناصر وجنائزيات باخ ورواية الأم لمكسيم غوركي وامرؤ القيس، في منولوجات تخاطب الكائنات بكراهية أقرب إلى الخطاب المباشر منها للغة القصة القصيرة، وبها مقطع عنونه المزروعي بـ«الرمق الأخير» دال على أنه ليس معنيا بالكلمة التي وضعها على غلاف المجموعة حيث أوضح أنها «قصص» فالمقطع هو نص شعري نثري:
أسافر بخطواتي المجنونة
أخطها على جمجمة الرمال
أنقلها مرة أخرى
لداخل خيمة هذا الليل. (ص15).
وفي نصوص أخرى يعمد المزروعي إلى تحميل نصوصه التي أرادها قصصية مسؤولية تقديم شاعريته، كما يتضح جليا في نص مجدلية الزمن الآتي: «يا حزني الجميل اعتقني، اجعلني انطلق إلى السهول الخضراء، اتركني أمرغ وجهي في المراعي الخضراء، أقلب وجهي في نورها.. كل شيء يتقد في سمائك المكفهرة وأنا أرسم جنوني على وجهك» (ص26)، حتى اللحظات المرتبطة بالحب والألوان الخضراء لا تخرج عن دائرة الحزن والسماء المكفهرة وصولا إلى.. الجنون.
في نص «عندما سرت في جنازتي» يتخذ من فكرة صغيرة مدخلا لتقديم نص شعري، وضعه على لسان أبي سعيد، محمّلا «النص القصصي» أمانة نقل الصور الشعرية / شاعرية القاص أولا وأخيرا.
يفتتح نص «دموع وأشياء أخرى» بجمل شعرية مباشرة «أيها الفرح المثمر أينع، متى يأتي فصل حصادك يثمل هذا القلب المتدحرج على الوديان؟» (ص49) لكن تبقى لغة القص في هذا النص أكثر وضوحا، خروجا إلى حكاية الآخر، مسعود الذي يبيع وسيلة الفرجة الوحيدة في البيت ليشتري خروف العيد فيحقق فرحة لأطفاله الأربعة، يقع الكاتب في فخ فني حينما يدخل اسم حمدان بدلا من مسعود وهو يصف دخول الأب على أطفاله النائمين بانتظار العشاء، وفي آخر كلمات القصة يقدم الكاتب صفة مسعود، حيث الدموع التي «لا تنزل أبدا من عينه الوحيدة» (ص53)..
النصوص مبنية على حلم، يعرض تفاصيل الحكاية (أو رؤية الكاتب للوجود) في حزمة من الكوابيس المرتبطة بالموت والمجهول، في نص «قرية النّقّاق وما حدث لها» يبدأ بجملة «وأنا في الحلم كنت أحلم»(ص31)، يتدخل أحيانا ليعلق على مشاهد الحلم / الكابوس، مع نزوعه إلى إلباس المشهد غرائبية التشبيه كقوله: «كأني أتنفس في رحم عجوز تحتضر» (ص42).. البطل الهارب إلى البحر، المثخن بأحلامه وكوابيسه التي تلقيها براكين الوحدة إلى ذاكرته، المشغولة بالأمس، المتعبة باليوم.
يتضح اشتغال الخطاب المزروعي على النص الديني، لكن ليس استغراقا فيه، بل مرورا هامشيا معنيا بالأسماء، في نص مجدلية الزمن الآتي نجد مريم التي تحب عيسى، استدعاء للغائب، هي ليست مجدلية الزمن الماضي (السيدة العذراء مريم أم المسيح عليه السلام)، بل هي للآتي، المتداخلة مع صوت الداخل، المسحورة، يجمع مريم (أم المسيح) بمريمه أن عيسى ليس ابنا لها (مثلما يقول الماضي) لكنه الحبيب (المعذب) كما يريد الزمن الآتي، يخاطبها «أيتها العابرة بطهارتها الممزقة في زمن المشردين» (ص29).
في اللحظات التي يقترب فيها الخطاب المزروعي من القصة يشكل عالما جميلا وحالما، كمقطع من قصة «النقاق» حيث «الريحان» يسرد كيف نبت بطل الحكاية بعد ملايين السنين من الطوفان زهرة ريحان، متذكرا قريته الجميلة، تشمّها ابنته، إنما لا بد للحزن أن يطلّ.
وهناك جلنار، دلالة البراءة / الطفولة، من النص الأول يخاطبها الكاتب «جلنار حبيبتي، بيتي الكئيب الرائع» ص16)، وهي الطفلة في قصة هذا الليل ما أطوله التي أهداها لغسان كنفاني، كأنها ابنة الشهيد، انتظاره الأبدي يشبه انتظار جلنار لأبيها الذي أخذوه وعذبوه.
في قصة سفر الجنون اللامتناه تتحول الحكاية إلى حوار، مع الذات / الحبيبة / الأخرى أيا كانت صفتها، الأنا الحاضرة دوما، أنا الكاتب تعرض رؤاها عن العالم دون الحاجة إلى القصّ بالضرورة، تشكيل للقدرة الشعرية للغة، وهي تقدم نفسها ضمن حوارية الشخوص وعلاقاتهم المتشابكة مع الكون من حولهم..
– هيا ارقصي بحروفك الخرافية.
– سنطري الروح بنشوة الموت والخلود الأزلى ونحن نركب سحابة بيضاء بين غياهب الوجود.
– تململي أكثر، اجرحيني ببكائك الندي.
– لنرحل إلى الشمس، هيا يا حبيبتي، إنها لعبة الفراشة، لعبة الاحتراق الأبدي، لعبة الموت المندثر في سديم الأبدية.
– لن تنتهي هذياناتي أبدا يا حبيبي إلا عندما تكتمل اللعبة التي ورطتني فيها. (ص47).
يدس المزروعي بضعة أسطر تسبق حواريته الشعرية (كهذه) وينهيها بسطرين يختلفان عنها يأتي البحر كرديف للموت ينهي الحكاية، والحوارية تكاد تتشابه في نص نورسة البحر، الحوار السوفسطائي الباحث عن معنى أو لا معنى لما له معنى، يمتزج الواقعي بالحلمي في هذه القصة أو في غيرها من القصص، إنما يعبر عنه بشكل واضح حين يقول «تختلط الأشياء المكانية بالميتافيزيقية» مقررا حالته بوضوح تام «كانت الروح تبحث عن كتف تأوي إليه». (ص58)، ومن الحوار بين ذاتين (أو ذات واحدة) يصل المشهد في نهائيته إلى غرائبيته الساعية دوما إلى إحداث الدهشة حيث أنها «صرخت حتى تحولت نورسة طارت مع السرب» (ص60).
من العادي يحاول المزروعي أن يزرع في حقول الكتابة ما هو غير عادي، القول أن التفاصيل الصغيرة في حياتنا قابلة لتكون حروفا، يحيلها كاتب ما إلى تنويعات كتابية ليس ضروريا القول أن لها اسمها محددا، أو أنها تشترط عقدا مع القارىء لكتابة جيدة، مثلما قال الاستهداء الأول.