لا تعدو القصص في “العيون السود” إلّا أن تكون وقائع مستنبطة من الواقع، وبهذا نرى أنّها لا يمكن أن تستغني عن علاقتها بالجمال، فبالنسبة إلى الشخصيات التي تؤدّي أدواراً مضاعفة، فإنّما تبقى في العمق أساس كلّ تجسيد جمالي، كونها تحتلّ أماكن حساسة في البنية السردية.. إنّها في الحقيقة كائنات حيّة ـ معهودة ـ تنمو في أثناء صيرورة السرد، وكأنّها تتفاعل معنا، وتعيش بيننا، وتنتظر منا أن نقول شيئاً بشأنها، ويرجع ذلك إلى خاصيتها الجوهرية وعمق جذورها وتشابك انزياحاتها، والحال هذه يسعى الكاتب “كريم عبد” إلى إغناء البنية الداخلية خاصةً لتكون هي المعيار، هذا المبدأ السائد في المحتوى العام هو الذي يؤطّر مجمل القصص ويمنحها جمالية فريدة فضلاً عن تناغم القوّة، ولذلك نعتقد أنَّ فكرة القصّة تتطلّب غالباً مغامرة كاتب ـ يعرف لغته من دون أن يدخل مجالها اللساني ـ ليبتكر طرائق تعبير جديدة تحفظ هيبة السرد، وتمنحه بعداً دلالياً وقيمة فريدة، فالكاتب لا يكتفي هنا بالنظر إلى الأشياء من زاوية واحدة، بل يطمح في الأعمّ الأغلب إلى تفكيك اللغة الطبيعية التي في الجوهر لإعادة بنائها من جديد، والبحث عن مساحات تسع كلّ الكائنات التي تظلّ أسيرة الواقع.
تتجلّى لنا سيرة الكاتب (السارد) واضحة لا سيما في (العيون السود، وزيارة، ومهمّة سرية، ونهايات الأشجار العالية) على افتراض أنَّ السيرة واقعة، فيلزم بهذا المعنى إدراج سيرة صديقه وقريبه ـ المريض ـ والذي كان يرافقه في المستشفى، كان ذلك في بواكير الشباب، أمّا أحداث بغداد 1973 فتخصّ حياة الشاعر الراحل علي الشباني، وكما نعرف أنَّ السرد في اجتهاد الكاتب يحمل قيمته الجمالية المفترضة وطاقته في التأثير في القارئ بغض النظر عن الفعل الذي يحقّقه.
الجدل في قياس البنية السردية:
ربما لم تسلم القصّة من الجدل، وهذا ما يجعلها في الأقل مميّزة في أثناء التأويل، فالحدث يكاد يكون نقطة انطلاق لخرق البديهيات، وليس لتأصيلها إلى درجة الابتذال التي تجعلنا نزداد شكّاً بالتأويل نفسه، وكذلك بالطريقة السردية التي تصاحبها الهنات في أغلب أحوالها، فالاستمرار بتكرار الجمل المتشابهة مثلاً أو الإفراط في تناولها يحيل على تشابه المعاني، فهذا ما يهدّد باختفاء الفكرة تارة أو تارة باختفاء الموضوع، لذلك فيلزم أن يصاحب الواقعة ـ الحدث ـ تكنيك صارم لجعل اللغة أو ما يعوّض عنها نقطة انطلاق أساسية، ومصدر قياد لسيرورة القص.
إنَّ الوقائع الدلالية تفتح باب الجدل لقياس قيمة بنية العمل طبعاً بعد اختبار عميق يشمل كلّ عناصر البناء فضلاً عن اللغة، من هنا يأتي التأويل، فنحن نعرف أنّه لا تكتمل المعاني الدلالية إلّا بعد إضافة شيء ما من صنيع القارئ، والذي هو الكاتب الضمني، فما يرمي إليه السارد يمكن أن يبتكره القارئ نفسه ليعوّض عن اللغة وعنصر الخيال المفقود بفهمه التحليلي للصيرورات والمشتركات الأدبية، وبعبارة أُخرى إنَّ الابتكار يوسّع المدى ويعمل على ضبط عمليات التكرار، ولا يسمح باستعمال الجمل المتشابهة، كي تظلّ ضمناً في إطارها المضمر.
إنطلاقاً مما سبق ولتوضيح جوهر الموضوع نستطيع أن نستدلّ على أفكار القصص ــ في مجملها بالإعتماد على خيط السرد نفسه ــ مهما كانت دلالتها عسيرة أو غامضة مع أنَّ الغموض لا يعتورها حيثما كانت، فإذا ما سبرنا أعماق الشخصيات مثلاً سنكتشف أسرارها العميقة من دون أن تختل موازينها، ونستطيع أن نتنبأ بنهاياتها من دون أن نسعى إلى تفكيكها مجدّداً، هكذا يبدو لنا الأمر، نحن نلاحظ انسيابيةً في الوحدات السردية تكتنف سير الخطاب السردي، ما يسوقنا إلى الاعتراف باحتراف الكاتب، وهذا ما تؤكّده خصوصيته في إنشاء قصّة مختلفة مشذّبة من البلاغة المتحجّرة الناشئة من أمراض اللغة، ومن الجمل المتشابهة ما يتيح للقارئ فرصة ذهبية لفهم الوحدات الفكرية ما دام تأويلها ممكناً..
يكتفي القاص بإيجاز حدثٍ واحدٍ من دون الافاضة فيه، وقد يكون الحدث أحياناً مقصوراً على فكرة معهودة لا تنمو في حقيقتها، وربما لا تتوسّع في مداها، ولكنّها تحتفظ بمادة المعنى، وبتنامي المدلول، وبجمالية السرد، ولا تصبح القصة بنيوية بمجرّد توسّع مجالها اللغوي أو بتعظيم فكرتها أسوة بالرواية، وقد يحدث أن تخلو القصّة من عمق فلسفي أو فكري ـ أو من وصف بنيوي مع أنَّ الاشارة الأخيرة ليست ميزة إيجابية ـ في حين أنّها لا تغفل جانب الدلالة، ولا يمكن أن تنفصل عنها، وما مثال صورة الرسام المنتحر في واقعة شديدة الغموض إلّا لاستعادة صورته الغائبة، وهذا المبدأ يمنح القصّة بعداً درامياً يحمل قيمةً دلاليةً فريدة.
وهكذا ففي (مهمّة سريّة) يحافظ السياق السردي على الحدث المركزي ولا يبتعد عنه البتة، ومع ذلك يجب علينا أن نشير ولو سريعاً إلى شخصية (يوسف الساقط) المبتكرة التي تمثّل بالضرورة صورة الأُنموذج السلبي في البيئة العراقية، فهذا الابتكار بتجسيده الصوري الدلالي ليس سوى نوع من الاستعارة استعملها القاص بغية تكثيف البنية المجرّدة إذا ما كانت في الواقع ثمّة ثغرات، ومثلما تدلّ عملية نقل السلاح بالمنشفة على دلالة، فيكون كذلك لشخصية يوسف معطى يحمل في طياته فكرة خاصة تأخذ استحقاقها من المعاني الدلالية، هذا وربما لا يغامر القاص أصلاً في إشاعة التفاصيل التي لا تغدو في حقيقتها مهمّة، أو ربما لأنّها لا تضيف شيئاً جديداً من فيوضها إلى البناء العماري خاصة لتتفرّد به، وبناء على ذلك نرى أنَّ القاص لم يستعمل في هذا المستوى وحدات بناء لغوية تعمل على إشاعتها لتتراءى لنا كمعطيات أُسلوبية..
والحق أنَّ القصّة القصيرة من منظارنا الخاص لا تتحمّل في بنيتها أحداثاً متتالية التقنية، حيث لا يتطلّبها السرد، ونحن نعرف جيداً أنَّ القصّة القصيرة تُبنى في الأغلب على حدث مركزي يدور حول محور واحد وليس غير، وفي وسعنا أن نبرهن ومن منظور جدلي على أنّ القصّة أية قصّة تعدّ شكلاً تعبيرياً خالصاً يختلف في مستوياته البنائية أو التركيبية أو الأسلوبية عن الرواية، أو عن أيّ جنس أدبي آخر، وهذا النزوع نفسه من شأنه أن يفنّد وجهات النظر التي ترمي إلى التشابه بين القصة والرواية، فهناك إذاً فارقٌ تركيبي قدر ما يكون تماثلاً بين قيمتين جماليتين، ومع ذلك يجب أن ينتفي السرد، ويحيل على بنية ذات خاصية دلالية، وهكذا وفي صيرورة التعبير تتحوّل آلية اللغة كليّة إلى أُسلوب يحتفظ بأصالته، ويمكن خلال قراءتنا التأويلية اقتناص الدلالة من الوحدات التعبيرية في تفاصيل الحوار بين (فاضل وضيفه) وقد تضعف الدلالة في (مهمّة سريّة) اعتقاداً منا أنَّ العملية لا تتجاوز حدود تسليم السلاح من (شاهين عبد الله) إلى شخص آخر، ومن دون أن تتوضّح الوظيفة المرجوة المنوط بها، من هنا تأتي مهمّة القارئ المعرفي واجتهاده وبحثه الدائم للإمساك بالدلالة، وانتاج المعاني دون الالتجاء إلى تفكيك الوحدات السردية، لأنّها كما أسلفنا لا تقتضي تفكيك أنساقها اللغوية.
الذات الجمالية:
ليس المهم أن تكون التراكيب اللغوية منتمية كليّاً إلى وحدات بلاغية عميقة الجذور، ولهذا يغلب على مجمل القصص أُسلوب جمالي يتخطّى بفرادته سياقات كهذه، ويتجاوز الخطوط الملتبسة، والركام اللغوي الذي تفرضه أُسلوبية بنيوية، فالقصص استمدّت ــ قوتها ــ من مضمونها، لذلك لا تتناول شخصيات كثيرة في الواقع، ولا تكرّر نفسها من ناحية الأُسلوب، حتى إذا ما طرأت عليها فكرة تدعو إلى خرق سياقاتها، في حين أنَّ هذا كلّه لا يلغي البتة السمات الأساسية في البناء العماري، وهذه الأوليّة معنية أن تشحذ هذا الجانب الذي يحتفظ ببعض من الجمالية.
ومع ذلك لا يتطلّب الاستهلال في البدايات تحليلاً دلالياً، هناك في الواقع ما يجعلنا نتفاجأ بشيء يصعب وصفه، يمكن أن يكون معياراً مفقوداً لم يتحقّق مصيره من فوره، وهذا النزوع نفسه ينطبق كليّاً على نهايات القصص التي تنتظر من يكشف بجلاء دلالاتها المفقودة والتي يمكن أن ينجزها المتلقي طبعاً بعد قراءة تامّة، ففي (العيون السود) وكما غيرها من القصص يتجلّى هذا النزوع، ويصبح آلية لإدراك المعاني، فالاستهلال مثلاً يحلّ محل السرد ويغدو نهجاً أو أثراً أو نسقاً، ودودة القز الخضراء تستحود على مادة القصّة، وأمّا ما يتعلّق بسيرة الدودة يمكن أن يجعل منها بعدئذ عنواناً رئيساً للكتاب، فالسارد يحابي على مدى عمر القصّة حركات الحشرة الخضراء حسب وصفه الجمالي لها، لكيلا تفقد في الأخير حياتها، أو تُعرّض إلى أذى مثلما حدث لها ذلك سابقاً..
هناك في الواقع وظيفةٌ دلالية، مهمّة ترمز بالطبع إلى إشاعة روح الحميّة لإثبات أنَّ الفعل الانساني يستلزم غالباً صفاء الروح، وحسن السيرة والسلوك، ويستدعي التضحية المُثلى لإدامة هذا الشعور الإنساني النبيل الذي يشيعه البطل السارد في مفاصل السرد كصفة تلازم موضوعات حياتية وبيئية، ما دام هناك أوغاد وشذاذ آفاق وتافهون:
“صرت أرى تصرفات أولئك الذين كنت أحسبهم أوغاداً على حقيقتها، إنّهم مجرّد أسرى عُقد وأزمات لا يستطيعون منها فكاكاً” ص25
هكذا تظلّ (سلمى) حاضرة في أذهاننا، ويكفينا علماً أنّنا نتحسّسها حين ظنّت أنّها هي من يُرذّ عليها الماء، ففي قصّة (ودّت لو تجلس على الرصيف) تؤدّي سلمى دور البطلة الرومانسية، ويقتضي هنا أن ينشأ تحوّل في أشواقها وعواطفها، إنَّ إحساسها بالوجع اللذيذ كما تصفه هي قرين لا ينفك عنها، فتبدو وكأنّها لا تودّ أن تعود إلى الأماكن التي وُجدت فيها سابقاً، كما لو كانت ماضية في تحقيق حلم لن ينتهي أيّ حلم يحمل معنى ودلالة ووظيفة:
“كالعصافير تسقط نفسها في المياه وتنهض منتفضة في لعبة لا تنتهي” ص34
” أحسّت بالعرق يتصبّب من جسده فاسترخت وتركته يتحسّس بطنها وساقيها داساً رأسه بين نهديها” ص30
والواقع أنَّ القصّة القصيرة جنسٌ أدبي خالص لا يخضع البتّة لمعايير خارجية لا تحقّق وظيفته الدلالية، حتى إذا اشتركت هذه المعايير في بديهيات سردية في مجال التعبير، فاللغة المستعملة في قصّة (في بيت قديم) تظلّ محايثة immanence بالمقايسة إلى غيرها من القصص، ما دامت تلتزم بفن القصّ ولم تبتعد عن سياقه..
تشهد القصّة تطوّراً بنائياً في مستويات اللغة والخيال والجمال والفنتازيا السحرية، كما نحسّ بإيحائاتها من جوهر سياقاتها، فالمرأة الميتة كانت قبل ذلك كينونة ضائعة في حقيقتها، وكأنّها لم تكن تشعر بوجودها البيولوجي، فلذلك تغدو شجرةً وأعشاباً وخرير مياه وخوخاً وأوراق عنب، أي إنّها تصبح في الأخير مسخاً، أمّا حمدان الشيخ الذي وجد زوجته نابتة كشجرة، فإنه يمثّل أسّ الموضوع ومركزه الأول وأفقه البنائي:
“رجل يشبه حكمة مبهمة يقترب من الجميع دون أن يستطيع فهمه أحد” ص43
إنّنا بصدد تطوّر ينمو تدريجاً، ويسمح بتضمين شيء من السريالية والإستنباط منها لا سيما في صيغة التحوّل التشكيلي من حالة إلى حالة، كما يؤكّد ذلك موضوع تحوّل المرأة إلى جماد لا حركة فيه يحيل على معنى في مفهومه، ويزوّدنا هذا التطوّر بصورة لأفعى تمثّل خرقاً لقانون الطبيعة الشائع، ولكي تكون كذلك فتتحوّل من منظور ميتافيزيقي إلى فأل حسن، وهذه الحالة نفسها تنطبق أيضاً على صورة العصافير التي تتبدّد في فضاء البيت، هكذا تبدأ القصّة وتنتهي وبيقى الجميع في حيرة من أمرهم يعجزون عن فكّ لغز (حمدان الشيخ)، فالقارئ في كلّ الأحوال (= الكاتب الضمني) والنتيجة تظلّ معلّقة، أمّا البحث عن الحقيقة، فذلك من شأن القارئ نفسه، كأنَّ الكاتب في (نهايات الأشجار العالية) أراد أن يقول لنا إنَّ الحبّ إكسير الحياة، ولا شيء يمنع الانسان منه في الواقع، حتى المرض نفسه لا يمكنه أن يقف عائقاً دونه، كان يودّ سالم أن يقول لياسمين الممرضة:
“نسبة السكر ترتفع في دمي ليس لأنني آكل حلوى، وإنّما بسبب الحبّ” ص58
ومن أمثلة الانثيالات الرومانسية في مستواها العاطفي تقول صبيحة له أي لسالم:
“أعود إذا مسكت لي عشر سمكات” ص57
وبناء على ذلك تحتفظ هذه القصّة بتميزها كمسلّمات منفصلة عن البديهيات النمطية، فإنَّ فكرة النقلات الفنية في جميع الأحوال قد خرقت قواعد الصورة النمطية، ووفّرت مُناخاً خاصاً لصيرورة التطوّر، لا سيما في ما يتعلّق بتراكيب اللغة المستعملة التي تجسّدت في الكينونة المنفصلة، وكذلك في كلّ حدث منفصل عن سياقه بإرادته، ما جعل المعاني الدلالية في الأحداث المنفردة تندرج في السياق العام الذي يجمعه خيط الخطاب نفسه في وحدة موضوعية يقتضيها السرد.
تفتح قصّة (ضجيج البساتين) باباً واسعاً على تناقضات مجتمعية، فالعلائق بين بعض الفئات تبدو لنا متشظّية ولا تسير كلّها حسب فرضيات مدروسة، تتضمّن القصّة فضاء وجدانياً وعاطفياً ونفسياً وسوسيولوجياً، أمّا في ما يتعلق بالمحتوى فلا يمكن أن نقول عنه إنّه بالفعل قد أُنشئ لغرضٍ رومانسي خالص وبمضمون محصور ضمن حدوده.
لا يساير السرد قطعاً ما ترمي إليه الشخصيات، بل يعمل على مناقضتها، وكذا لا يسلّم قيادها لسلسة العواطف التي يمكن على السارد أن يُمليها عليها في أيّ وقت كان، وقد شاء القدر أن تتزوّج ليلى بصبيح العلوان، مع أنّها كانت قد تعلّقت في السابق بمحمود الذي مزّقت صوره في حفل زفافها لتكتفي بالإيحاء إلى انعتاقها من مغامرات سابقة، وكذلك ينطبق الموضوع نفسه على مديحة التي تزوّجت سليم ابن صاحب مضخّة المياه المتزوّج، مع أنّها كانت أيضاً قد بنت علاقة عاطفية من النوع نفسه بصبيح العلوان الذي وعدها يوماً أن يأتي بالقمر إلى شفتيها كي تقبّله.
فكلمة الحرب مثلاً تحمل علامة الفناء، وهذا المبدأ معروف، فالحرب إذاً تندرج في خطّ التراجيديا، ويعني ذلك أنّها واقعةٌ ملموسةٌ تغدو عنواناً كبيراً للمضمون، وهذا ما يجعلها تفرز بنى خيالية معبّرة فضلاً عن واقعية تظهر جلياً في سياقاتها:
“لماذا قامت الحرب ولماذا قتلوني” ص87
فمن الثكنة إلى المشفى يخضع البطل ضمناً إلى نوع من الضغط النفسي الذي تتزايد وتيرته، تبعاً للظروف بعد أن تُبتر يدهُ اليُمنى حين يخونه الزمن ليرتكس في الأخير حيّاً أو ميتاً من دون أن يحظى بحبيبته سهى التي تتوارى عنه سيراً مع مبدأ الأحداث:
“لا أملك سوى هذا الحب، لكن الحرب جعلت الأيام مضطربة ومريبة رائحة الموت والجثث المدماة تقتلني كل يوم” ص79
لا شك في أنّ هاجس الموت في الأغلب لعبة فنية لإغناء البنية السردية، أمّا طريقة تصوير النمل في الاستهلال وما يليه، فإنّها تناسب الوضع من جهة المعنى، وتترك إحساساً بالضغينة لكسر هيبة الرئيس والانتقام منه فنياً لتحقيق مآرب ذاتية:
“هكذا تنتهي الأسطورة ولا ينتهي الوجع”
يجب علينا بعد هذا أن نسلّم بوجود النقلات السردية النمطية، فسيرة البطل بالطبع مآلها معدوم، واستذكارات الماضي انزياح مطّرد لمقتضيات تتعلّق بقصر النهاية، وسجن الفضيلية، ونقرة السلمان:
“أتخيّل النمل يهرع من زوايا البيت خارجاً من بين أعشاب الزجاج، رائحة القتل والدم والرعب التي دبّت على إسمي ومحته” ص85
إذا لم تكن القصّة جدليّة فلم يعد من مسوّغ لولادتها، وإنّ وجود بنية مجرّدة ليست كافية لبناء لغة، نستطيع أن نطبق هذا المثال بالضبط على المشهد التركيبي في (الكلاب تنبح والمطر يشتد) تكشف لنا هذه القصّة باختصار عن وحدة سردية لا تدلّ بداهة على ابتكار وقائع، بل إنّها تمضي لتلخيض واقعة لا تسعى إلى التوسّع في بنيتها، فما نراه في الواقع: ليس إلّا صورة لقتيل حربٍ محمول في تابوت، ومن صلب هذه الواقعة تولد الفكرة بعنوان عريض وببنية مجردة من تقنيات السرد.
أمّا في (أيام بغداد 1973) فالوضع مختلفٌ تماماً، فنحن لا نتحدّث في الحقيقة عن البلاغة التعبيرية، يبدو لنا أنَّ الفكرة التي تخوض فيها القصّة ترجع كما يوحي إلينا السياق إلى الحقبة السالفة حصراً، فالبنية التركيبية لهذه القصّة تفتح قوساً على واقع لم يسلم من الجدل لا سيما في ظلّ سلطة موهوبة في القتل، ونستدلّ على ذلك أنَّ (عذابات) أكابر شعرائنا مثل علي عبد الحسين الشباني، أو طارق ياسين، أو حسين العبد الله المسجون ظلماً ليست إلّا نتاج سياسة مخطوءة تطبقها الفاشية (Fascism) على الناس لإخضاعها لعبوديتها.
فالخوف من التواصل الاجتماعي يُثير جدلاً مطّرداً ما يجعل الكلام ممنوعاً، والحركة مقيّدة، هذا الوضع يفرز واقعاً مرعباً لا وجود للحياة الرغيدة فيه إلى حدّ أنَّ آثار انقلابي 1963 و 1968 بقيت عالقة بالأذهان لتمثّل جوهر المشكلة..
يقول السارد:
“أفكار كثيرة تعمي الإنسان لدرجة تجعله عاجزاً عن السلام على صديق قديم ووديع ومؤدب مثل حسين العبد الله” ص95
هذا ومما له دلالة إنَّ مسلسل (ملاحقة الأشباح) يغدو تحدّياً صارخاً لظواهر شاذّة، فهذا النمط من الكتابة تحديداً يمثّل بدوره مرجعاً مختلفاً نوعياً عن نظام السرد، في الواقع أنَّ البحث عن الحل السحري في كتابة نص سيناريو لا يعدو في حقيقته إلّا عملية تمهيدية للعثور على أسرار يلفّها الغموض من تاريخ صياغتها، كان هذا هدف سالم عبد الله أُستاذ الإخراج السينمائي في حواره المحيّر مع علي الشريف، ولهذا الغرض كانت فكرة الاحتجاج قبل ذلك في السيرك نابعة من وضعية غريبة، والحقيقة كان يريدها أن تكون لحظة مواجهة في صيغة صيرورة، وهي فكرة لم يتوقف قطعاً عن ترديدها، فتعلُّق سالم عبد الله بالثقافة والفنون مرجعه في الواقع بواعث انسانية عميقة، كما يتّضح في الخلاصة، إذ كان يبني من هذا المنطلق تصوراته على مبدأ شامل ليس للإثبات بالأدلّة، بل للكشف المبكر عن حقيقة ـ الشخص ـ سلطان الحداد قاتل الضحية جواد حسين المقتول ظلماً، وما كان غير متوقّع من الأساس يظهر لنا جليّاً في صيرورة العلاقة الحميمة التي تربط القاتل بابن الضحية..
ثمّة وقائع تذهل سالم عبد الله وتدفعه للاستمرار بكتابة السيناريو، كما يؤكّدها السياق نظراً لحساسيتها الشديدة، فالحديث بالطبع لن ينتهي عن الجرائم الشنيعة التي ارتكبها الفاشيون دون اعتبار لقيمة الانسان، من هنا يردّد سالم عبد الله قولته الشهيرة في أثناء صيرورة الحوار العميق مع البعثي حميد الوادي:
“إذا أصبحت الجريمة ظاهرة رسمية فهل يعني هذا أن علينا أن نبقى صامتين؟ ص123
ثم يستطرد: إننا بهذه الطريقة نقتل إنسانيتنا” ص124
لقد استطاع المؤلف باستفاضة أكثر أن يُنهي حياة الجاني بطريقة تراجيدية تفتح إمكانية التأويل في قضية تبدو ملتبسة في إطارها السردي، ولا يمكن أن تنتهي طبعاً بكتابة سيناريو.،
كريم ناصر*