هل وصلت الرواية العربية إلى خانقها الضيّق، خانق حياتها الذي لم تعد قادرة معه على أن تمنح إنسانها فرصة للفعل والمواجهة والصراع، بعد أن غدت الحياة نفسها دوراناً متصلاً في حلبة مغلقة حُسم الصراع داخلها مسبقاً، بعد سيل من الإجهاضات المتوالية التي يقف على رأسها إجهاض مشروع التحديث العربي، وقد أضعفت هذه الإجهاضات الجسد العربي مثلما بددت أحلام إنسانه وخلخلت ركائزه إلى حد كبير ووصلت بمقاومته إلى درجة بات معها من السهل العودة به إلى مرحلة ما قبل الدولة، فلم يعد همُّ الرواية العربية اليوم موصولاً بهمومها في مرحلة التأسيس التي بلغت ذروتها مع ثلاثية نجيب محفوظ وقد عملت على تأويل انهيار سلطة الأب والتفكير بميلاد الابن المستقل، والأحفاد ذوي النزعات الحرة والاجتهادات المتضاربة(1)، كما لم يعد موصولاً بتطلعها إلى مستقبل إنسانها في زمن تحكمه وتتحكم به إرادات متقاطعة كما في رواية الستينيات التي عملت على إعادة صياغة إنسان نجيب محفوظ كي تمنع عنه راحة المقبرة وتتركه معلقاً على صليب الحياة(2).
إن ما حدسه كتاب الستينيات من مستقبل لا يبشر بالطمأنينة وما عملوا على تمثله في خطابهم الروائي هو ما يجده كتاب الرواية اليوم واقعاً شديد الوطء، اتخذت القسوة فيه أشكالاً مبتكرة، كأن مجتمعنا العربي لا يتفوّق في شيء قدر تفوقه في إنتاج القسوة وتجديد أشكالها! فقد تراجع الابن مختنقاً باختناق الطبقة الوسطى في مهرجان الصعود والنزول غير المحكوم بمنطق سوى منطقه الخاص، منطق الهمجية التي اقترحت أعرافها بدائل لقوانين مجتمع مدني لم يؤت له أن يتشكل على نحو مكين، كما لم يعد مفهوم الإرادة بتحققاته الصعبة يشكل معاييره في إنتاج وتوجيه الخطاب الروائي في عالم لم يفقد مصداقيته فحسب، بل فقد، وذلك أخطر ما فيه، منطقيته، لتتجاوز الرواية التناقض القديم بين الذاتي والجمعي، بين الفرد والمجتمع، وهي النزعة التي دارت أصلاً ضمن البعد الإنساني للحداثة، منقادة نحو تيه يتعادل غياب المرء فيه داخل نفسه مع غيابه خارجها، ليمكن أن نستعيد مقولة ماركس الشهيرة وهي تنظر إلى طبيعة العلاقة بين الوعي والحياة «ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل إن الحياة هي التي تحدد الوعي»(3)، لتصبح من منظور الهدم والبناء في حيز الثنائية نفسها: ليس الوعي هو ما يبني الحياة، بل إن الحياة هي التي تهدم الوعي.
إن وجهاً مؤثراً من أوجه (هدم الوعي) هو ما يتحكم بمجريات جانب واسع من جوانب الرواية العربية اليوم، مثلما يبدو مسؤولاً عن إنتاج وتوجيه حقول روائية يتواصل الهدم فيها من رواية إلى أخرى، متمثلاً في كل مرّة وجهاً مختلفاً من أوجه العلاقة بين المرء ونفسه، وبين المرء ومجتمعه الذي لم يعد بمقدورنا التسليم بحقيقة انتساب كل منهما للآخر، وقد دخلت فكرة الوطن نفسها مرحلة جديدة من الالتباس بعد أن عاشت عقوداً طويلة قلق المواجهة والسؤال، ليبدو المرء عندئذ عارياً وقد سقطت عنه أردية التشكلات الرمزية للماضي، وهبت رياح الراهن عنيفة فأطاحت به كما يُطاح بورق الخريف، ليؤسس هذا الجانب من منجز الرواية العربية رؤيته لذاته وللعالم بناء على موقفه من الذاكرة التي ما زالت تتمتع بحضور فاعل في الخطاب الروائي، وهي تُستحضر لا بوصفها خاصية بناء وتعضيد بقدر ما تسهم بإنتاج فعلها المضاد الذي يربك الحاضر مثلما يربك الموقف من المستقبل، فلا تكون اللحظات الزمنية الثلاث غير صورٍ تبددها الذاكرة، بعد أن تخلخل انتظامها وتعبث بمنطقها، فيبدو كل شيء مجزّأ إلى وحدات صغرى تدور كل وحدة منها في فلكها الخاص من دون أن تنقطع انقطاعاً كلياً عن التواصل مع سواها من الوحدات. إن ما يهدد الذاكرة هو نفسه ما يهدد الإنسان، ليبدو تهديد الذاكرة وجهاً مؤثراً من وجوه تهديد الوجود الذي لن يعود معقولاً ومحتملاً مع ارتباك الذاكرة وانكسار حضورها، إن كل ارتباك لها سيعني بالضرورة خرقاً يوهب للنسيان، لتكون كتابتنا سعياً حثيثاً تجاه البياض، ملامح وأصوات ومشاعر وتفصيلات تمشي بلا توقف تجاه المحو والغياب، محو العلاقات اليومية التي ستشهد قبل ذلك غرابة تهيؤها للذوبان البطيء في محاليل النسيان، إنه عالم الهفوة والزلة والاختناق والحلم المستحيل الذي يعرّي عوالمنا الصغرى، يبدد ذواتنا، يكشفنا أمام جنون الواقع ولا معقوليته وهو يجعل من الالتباس واقعة ذهنية تتكرر أمام استحالة ما يبحث عنه المرء من إجابات، ليكون الالتباس نفسه واحدة من استراتيجيات عدة يعمل الخطاب الروائي من خلالها على مواجهة عالمه، مواجهة نصية لا تستنفد فاعليتها بالوقوف عند آخر كلمة في شريطها اللغوي، ولا تنتهي بانتهاء الرواية نصاً منفرداً في حقل كاتبها، إنها تواصل مهمتها في إنتاج قراءتها لذاتها وللعالم من خلال ما تؤديه من مهمات في رفد حقل الكاتب وتنويع رؤيته عبر مجموعة من الاستراتيجيات التي تقف في مركزها تجزئة المشهد وهي تقول بأجزاء الصورة وتفصيلاتها ما لا تقوله الصورة مكتملة ومرئية، مما يتطلب من الرواية، ويهيئ لها المجال، للنزول إلى جزئيات الواقع وشظاياه التي لا تبدو خارج السياق الروائي ذات شأن، إنها تكتسب أهميتها من دخولها في ضوء الرواية وانتظامها في أفقها الدلالي، مثلما تفعل متوالية الاحتمالات فعلها في كسر أحادية الرؤية والحد من عنف توجيهها للخطاب الروائي في زمن الأسئلة المتوالدة، زمن الإجابات المفتوحة على ما لا ينتهي من الاحتمالات وهي تردم الهوة بين الوهم والواقع وتمنح كلاً منهما فرصة لاختراق الآخر والحياة الحرة داخله، حيث تنتج الذاكرة قلقها في نوع من مواجهة مستمرة بين الممكن والمستحيل، يصعب معها أن تستجيب هذه الكتابة لمحددات التسمية والاصطلاح التي استخدمت لتوصيف التجارب (الجديدة) في الكتابة الروائية العربية، إن ما قدمه الروائيان منتصر القفاش وأحمد زين يمنحنا فرصة لمعاينة جانب مهم من جوانب الكتابة الروائية العربية اليوم وتفحص خصائصها، وقد عمل كل منهما في سمة مشتركة على تطوير موضوعته من رواية إلى أخرى وتوسعة حقله مع سعة الرؤية وانفتاحها وهما يعالجان موضوعين مختلفين ينصت منتصر فيه إلى ما يعتمل في الدواخل الإنسانية لشخصيات مصرية مثقفة، مخترقاً المسافة بين الوهم والواقع، فيما يواصل أحمد مراقبة ما يحدث في مجتمعه اليمني متأملاً واقعه وهو يعيش الذروة في التداعي والالتباس، وهو يدخل طائعاً منطقة معتمة من الوهم.
إن ما تعلنه الرواية اليوم من قلق يظل سارياً في المسافة الفاصلة بين الاصطلاح السابق وراهن المنجز الروائي بقلقه وغموضه وانكسار زمنيته، لتؤكد المعالجات النقدية المتعددة عدم قدرة مصطلحات مثل (الكتابة عبر النوعية) أو (كتابة التشظي) أو (الكتابة العابرة للأجناس)، أو حتى (رواية الحساسية الجديدة) على الإحاطة بمتغير الكتابة الروائية التي يبدو قلق التسمية سمة عميقة من سمات انحرافها، ووجها مؤثراً من وجوه فاعليتها، فهل يمكن أن نسلّم بالمقابل بـ (الرواية العربية الجديدة) مظلة لاحتواء متغيرات النصوص ومقاربتها في بعد اصطلاحي واحد، و(الجديدة) نفسها لا تخلو من قلق هي الأخرى ولا تتخلّص من مقاربة زمنية فنية حققت صدقها مع كل تجربة روائية سابقة، إذا ما نُظر لها من منظور متغيراتها الكتابية، فالرواية (التقليدية) لم تعد تقليدية إلا بناء على منظور مختلف زمني فني في آن، لكنها استطاعت، على نحو أو آخر، أن تمنح زمانها وجهاً جديداً حقق لها التقبل والتداول والشيوع، ومكنها من قول كلمة مختلفة، والأمر نفسه مع الرواية الحديثة، أو روايتي الحداثة وما بعدها، فلكل من هذه الروايات جدتها وخصوصيتها في زمنية الإنتاج الروائي.
أن ترى الآن: الصورة في تلصصها
تعمل رواية منتصر القفاش ( أن ترى الآن )(4) على استمالة القارئ في علاقة شرط غير مكتملة، ووعد غير مصّرح به، للدخول إلى لعبتها السرديّة والوقوف على تفاصيل الحياة التي تعتمل في دواخلها، فالمخاطب الذي يبدو معنيّاً بوعد الرؤية بما تنطوي عليه من متعة واكتشاف يغدو جزءاً مهماً في إنجاز اللعبة التي تقوم بالأساس، كما يذكر الكاتب في حديث له نُشر في أخبار الأدب، على استعادة فنية لكتابة اليوميات، بما يسوّغ وجود اللهجة إلى جانب اللغة الفصيحة، وعدم اكتفائها بالحوار بل انسحابها على السرد أيضاً بما تحمله اليوميات من «رغبة في بلوغ الحقيقة عبر الذاكرة»(5) فعبر اليوميات تعمل الذات المعزولة على إنتاج ذاكرتها مركزاً لحدث ما، مركزاً لزمنية هذا الحدث ولما يحيط به من عالم، إن الذات المعزولة تسعى عبر كتابة اليوميات لتحقيق تحولها إلى شيء ذي قيمة، وهي تتوجه لترميم الذاكرة التي بدت منذ السطر الأول للرواية مهددة بالنسيان، حيث تغيب أسماء الأصدقاء والأقارب والجيران، ثم تغيب الكلمات المهمّة، تسقط عن الأحاديث والحوارات ولا يتبقى إلا شعور مفرغ من التفاصيل، الشعور الذي ينمّي حدث الرواية وينظم مغامرتها في النظر إلى العالم عبر عيني (إبراهيم)، المحاسب في فندق يُشرف على الإفلاس، وهو يرى، على امتداد الرواية، تفاصيل انهيار حياته الزوجيّة، مثلما يشهد في برودة وتسليم اهتزاز العالم من حوله، فثمة إبراهيم آخر، على نحو شبه دائم، يكّمل دائرة التوجس والمراقبة والتقاط الشعور، إنه بشكل ما، صاحب الرواية، مثلما هو صاحب رؤيتها، فإبراهيم الواثق من أنه عاش حياته من قبل هو الذي يبدو مهدداً بفكرة النسيان «صفحة بيضاء ستكون نفسه لو استمر نسيانه واشتد، وعليه البدء في كتابتها من جديد بطريقة جديدة. ورغم إعجابه بالفكرة إلا أنه تأكد من عدم قدرته على مواجهة صفحة بيضاء هي حياته»(6)، لذلك يبدو من الطبيعي أن تُستحضر زوجته سميرة، مركز اللعبة السردية وأحد قطبيها المؤثرين، من خلال النسيان في أول حضور لها داخل الرواية، فملامحها تتبدى لإبراهيم، أثناء وجوده في عمله بمكتب المحاسبة، واضحة خطفاً لكنها سرعان ما تغيم في ملامح أخرى متداخلة، ليشكل نسيان ملامحها أحد محفزات الحدث الروائي إن لم يكن محفزها الأوحد الذي تتطوّر الوقائع مثلما تترتب وتنمو انطلاقا منه، في إصرارها على تثبيت اللحظة عبر الاستعادة الفنية للغة اليوميات، وهي تشكّل استعارة الرواية، وعبر اقتراح الصورة الفوتوغرافية التي توثّق ارتباطها بالحدث والعمل على تطويره، فباللغة فضاءً وبالصورة علامةً تسعي الرواية لدحض النسيان والحّد من قدرته على تغييب الملامح ومحو التفاصيل «لا عجب إذن أن تحل الصورة محل الأصل كما يحل النسيان محل الذاكرة، ذلك النسيان الذي يرسخ حضوره بتشويه الذاكرة»(7).
ستتسمر عينا إبراهيم عند ( الكاميرا )، في مقابل لنسيان ملامح زوجته، وقد اشترتها سميرة لتدوين أحلامهما، فقد «كانت بها ومعه تريد أن ترى ما لم تره»(8) في تصريح هو نوع من الإرصاد الذي يمكن أن يتم عن طريق جملة تؤدي فعلاً أيديولوجياً في توجيه الحدث والإرهاص به. . فمن خلال الكاميرا تعلن سميرة بأسلوب غير مباشر رغبتها في رؤية ما لم تره، مثلها مثل إبراهيم الذي يسعى بالرؤية لدحض النسيان، وهما معاً ينشغلان بالكاميرا خارج إيقاع حياتهما المعتاد «تناول الكاميرا – يومها – والتفت إلى زوجته»(9)، ليحقق ظرف الزمان من الأهمية ما يعادل فعل النسيان، فالكاميرا لم تخرج يومها عن حالها كل يوم إلا بإيعاز من النسيان نفسه، ليبدأ إبراهيم لعبته الشخصية مستغرباً، أول الأمر، انزلاق زوجته في اللعبة وهي تُسلّم نفسها للكاميرا، يُسعد بها ويظهر لها كل الرضا بمباغتاتها، ثم يتضايق من صيحاتها، ثم يهم أن يكتم فمها «وهي تكرر: ياللا، وكأنها تطلبه هو لا الكاميرا»(10)، وصولاً إلى الانتباه بأن فرحتها مرتبطة بعلو صوتها والشعور «بهذا الصوت وقد تم إضافته إليها أو خرج من الكاميرا »(11)، الصوت الذي سينقطع أو يكاد على امتداد الرواية، ليحضر خارج حدود الفصل الأول مَنْ يتحدث نيابة عنه، مَنْ يقوّله أو يُفصح عن شعور صاحبته، من دون أن تقول هي على نحو مباشر سوى كلمات مجتزأة لا تكتمل معانيها إلا بارتباطها بسلوك الآخرين وأقوالهم التي تتواصل في قضيتها هي، حتى لتكشف في أحيان كثيرة عن دواخلهم وتضيء بعضاً من أزماتهم تحت ذريعة تمثيلها أو الانتماء لها والدفاع عنها، لكنها تغيب، بالفعل، ينحسر حضورها خلف الأحداث وهي تتواتر وتنمو خلف ملامح الآخرين وظلالهم التي ستملأ المشهد، وإذا كانت شخصيات مثل سمراء وأحمد وسامي وبهاء قد حضرت من خلال (إبراهيم ) لمتابعة الحدث وانتظار تطوره والاستمتاع به، فإن شخصيات مثل ناهد وعبد العظيم لم تحضر إلا للتعبير عن رؤية سميرة، لكنها تنحرف عن هدفها بطريقة أو بأخرى، خصوصاً فيما يتعلّق بشخصية الخال عبد العظيم لتعبّر عن رؤيتها هي وتدافع عن وجودها الذي أصبحت قضيّه سميرة مسوّغاً له.
إن لحظة وجودية صادمة تقف بين دخول إبراهيم إلى اللعبة وانفصاله عنها، فاللعبة لا تنتهي مع انتهاء الفلم وظهور الصور، بل تتصل في حركة موجيّة، تهتزّ وتهزّ معها ثوابت الرواية وتفاصيل عالمها، ولم يعد الصوت وحده ما يثير الغرابة، فالزوجة نفسها تُستبعد، حال ظهور الصور، ليؤكد إبراهيم لصاحب محل التصوير «بأنها موديل يستخدمها لإعداد أعمال معرضه القادم»(12)، الأمر الذي يكشف رغبته في الانفصال عن لحظة التصوير، إسقاطها والتنازل عنها، ليتنازل، بما يشبه الارتباط الشرطي، عن سميرة والكاميرا ولحظة الانفلات من الإيقاع اليومي للحياة، إنه يتنازل عن الذكرى لصالح النسيان، وإذا كانت الذاكرة تتطلب صورة، بتعبير برتراند رسل، لتحيا وتمد حياتنا بالقدرة على تصور ما حدث وعلى استعادته على نحو أو آخر(13)، فإن الفكرة تتحقق معكوسة في رواية منتصر القفاش، فالصورة تتطلب ذاكرة، إنها تسبق على نحو ما ذاكرتها وتخلخل موقعها ضمن مجرى وقائع حياتنا، فيتخلخل جراء ذلك وعينا بالواقع وتربك أحاسيسنا إزاءه، وهي الفرضية التي ستجد حضوراً أقوى في (مسألة وقت) رواية منتصر اللاحقة، الأمر الذي يُلمس في سلوك الزوجة أيضاً، على الرغم من فرحها وهي تشاهد الصور واقتراحها أن يشتريا كاميرا للتصوير الفوري وموافقة إبراهيم لكن بعد أن تستقر الأمور في عمله بما يكشفه غياب الكاميرا ومغادرتها مكانها المعتاد في الرف العلوي، إن نوعاً من العيب أو الفضيحة المكتومة يعتمل، دونما صوت، تحت المشهد، مهيئاً للحظة الانفجار المرئية والمسموعة حالما تعثر سميرة على واحدة من الصور «وشنب خُط تحت أنفها»(14)، وقد واصل إبراهيم تكرار جملته : «إنه زلة قلم «، فهل كان التشويه زلة قلم حقاً؟
يضيء الفصل الأول بفنيته وثراء معلوماته حركة الرواية وينمُّ عن تحولاتها، تطورات حدثها، مثلما يلمّح للدوافع الخفيّة، التي ستواصل خفاءها محققة واحدة من السمات الجماليّة للرواية في اكتفائها بملاحقة الجزء الظاهر من الأحداث عبر عيني إبراهيم الذي تتوقف الرواية عند حدود ما يرى وما يعلم، وأحياناً أقل مما يعلم متنازلة عن الجزء الداخلي من وعيه ورصيد خبرته، في انتظام سردي ينأي في لغته وبناه عن الثقل النفسي والرخاوة العاطفية، بما يشير إلى قدرة منتصر القفاش على تطوير حقله السردي والوصول به إلى مناطق جديدة، غير منتظرة نوعاً ما، وهو يغادر ما قدمه في روايته الأولى( تصريح بالغياب / 1996) على مستوى اللغة والرؤية والتركيب، كما يغادر ما قدمه في مجموعته القصصية ( شخص غير مقصود/1999) على مستوى النظرة وزاويتها وعلى مستوى اللغة أيضاً وقد بدت مسؤولة إلى حد بعيد بتضاؤل نصيب السرد فيها وازدياد نصيب الشعر عن إضافته إلى ما أسماه أدوار الخراط بظاهرة القصة القصيدة أو الكتابة عبر النوعية(15).
من الصعب النظر إلى ما أصاب صورة سميرة من تشويه على أنه هفوة عارضة أو زلة قلم يمكن رصدها ومعالجتها ضمن حركة الفصل الأول ورصيد معلوماته، فمع دخول (سمراء) إلى بيت السرد، وتحديد موقعها ونمط علاقتها مع كل من إبراهيم وسميرة يبدأ غموض ما بالتأثير لا على ما يُرى فحسب بل ويسهم بمقدار الرؤية ودرجتها فسمراء لم تكن صديقة سميرة ولم ترها سوى في ليلة الفرح وفي (صور) الزفاف، لكنها تقترب من إبراهيم بلا حدود، فهو «لا يستطيع أن يوقفها عند حد في أي شيء بينهما، فلم تكن الحدود مطروحة في علاقتهما، واقتنعا بأن راحتهما الحقيقية يجدانها في وجودهما معاً، ويسعدان بتحقيقها بأي شكل ودون تردد»(16). لتبدأ مفارقة الرواية، وتنشأ مراوغتها، وينهض التباسها الفعلي، فهي لا تكتفي بتقسيم اسم واحد بين شخصيتين ( سميرة سمراء ) بل تُبدّل من أدوارهما إلى الدرجة التي يوهم التنصيص السابق بأنه يخص علاقة إبراهيم بسميرة، زوجته، التي يبدو من المعقول أن تكون بلا حدود، لكنها تخص سمراء في الوقت الذي تُنسى فيه ملامح سميرة مختلطة بملامح الآخرين، مثلما يتطوّر حضور سمراء وهي تتابع حياة إبراهيم بتفاصيلها باللقاء المباشر مرَّة، وعبر الهاتف مرَّة أخرى، لتندثر أهم المعلومات عن سميرة تحت تلال من تراب الآخرين، مثل مشكلتها مع الإنجاب التي لا ترد إلا وروداً عارضاً في حيّز التشويه «الخطوط السوداء أكسبت وجهها شكل. . ليس فقط وجوه مهرجي السيرك الذين يبالغون في وضع الماكياج على وجوههم. لا. هناك شكل آخر، أيكون حينما بكت بعد علمها بأنها السبب في عدم الإنجاب. أسالت دموعها الآيلينر والآي شادو »(17). كما لم تكن إجابة سمراء عن سؤال إبراهيم إن كانت توافق على تصويرها غير تأكيد صريح لنسيان سميرة، مما يمنحها تأثيراً في حركة السرد، ونمط تحولاته، وبما يكشفه من معلومات تظل معها المعلومة الأساس حول المشوّه الفعلي للصور طي الكتمان، لكنها مع ذلك ستدخل حيّز الانتظار بالنسبة لإبراهيم الذي يترقب أن تصارحه «في الوقت الذي تراه مناسباً وبعد أن تأخذ كفايتها»(18) مختزلة قوة تدمير دونما سبب محدّد فهي وجدت نفسها هكذا «أو بمعنى أدق تشعر كلما تمادت في السخرية من رجالها بفرح وسعادة ونشوة لا تجدها في أي شيء آخر»(19)، لتبدو مسؤولة عن حياة إبراهيم وهي تتابعها، وتحيط بتفاصيلها، مثلما تنتظر ما ينجم عنها من سلوك، كل ذلك مواجه بما يشبه التواطوء أو التسليم من قبل إبراهيم الذي ينتظر أن تمرّ أزمته مع الصور، مثلما تمر أزمته في العمل، وتستعيد حياته هدوءها ورتابتها، فهي (فترة) أخرى و(تعدّي) بناءً على جملة أساسية في حياته و» دليل على طريقته في الحياة في أن يجعل الأيام تصلح ما تريد وتفسد ما تريد وما عليه إلا أن ينتظر»(20) كأنه بذلك ينتظر نتائج قراره هو ويترقّب تطوراته في «البحث عن جانب من حقيقة مراوغة ولكنها ماثلة أي عن جانب من الرؤية»(21)، لكن للحياة حركتها، خارج المترقّب والمنتظر، بما يبني حول إبراهيم سوراً من الصور، السليمة منها والملوّثة، وهي تحجب عنه أشياء كان بمستطاعه فعلها بيسر وفي أي وقت، لتحقق الرؤية في (أن ترى الآن) فعلها العكسي، فما يراه إبراهيم حقاً هو ما لم يتوقعه أو ينتظره، وهو ما لم يره في اعتياد الحياة وألفة أشيائها، فتبدو الحياة، حياته، مرئية ومرصودة من قبل الصور التي تكمل مع تصاعد الحدث إنجاز حصارها وتطل «كمتلصص لا يريد أن ينتبه إليه»(22)، لتكتمل الفرجة، خارج اللعبة الروائية نفسها، أو فوق ما يمكن أن تتحمله حدودها، لنعود فنطرح، في آخر رؤيتنا، فكرة إبراهيم الآخر الذي ينظر فيرى. .
ـ مسألة وقت: مواجهة الممكن والمستحيل
بين قوسين من الصمت تنشيء (مسألة وقت)(23) خطابها، وتواصل تفتيت زمنيتها بما تقترحه من بنية مقطعية يعمل الصمت فيها على تبييض المساحة الفاصلة بين مقطع وآخر، في خطاب الرواية ينشيء الصمت خطابه، وفي عنايتها بالوقت، مشكلتها الأساس، تعلن قلق شخصياتها ازاء اللحظة الفاصلة، اللحظة التي تتماهي فيها الحدود بين الواقعي والمتخيل، فتنشر غرابة الحدث ظلاً كثيفاً يُعيد بناء الحقائق الصغيرة تأسيساً على ما تقترحه الذاكرة من صور إذ أن «التذكر هو أكثر فأكثر عملية لا تعني استرجاع قصة بل القدرة على استحضار صورة»، بتعبير سوزان سونتاغ(24)، هذه الصورة التي تشكل مجرى الحياة، مثلما تخلخل انتظامها وتربك فاعليتها وهي تنشيء تراسلها بين عالمي الحياة والموت بما تنطوي عليه مثل هذه العلاقة من أسئلة صعبة وإجابات مستحيلة، فتختصر قدرة الرواية للبحث في حقيقة زيارة رنا ليحيى، الزيارة التي تمت بعدما ماتت رنا غرقاً، وقد عثروا على جثتها عند قاع النيل بعد خمس ساعات من غرق المعديّة، لتقدم الرواية في عدم وقوف يحيى على سبب التأخر في العثور عليها واحدة من أهم خصائصها وهي تفتح شبكة من احتمالات لا تحدد تصوراً ولا تؤدي إلى حل «ولا يعرف حتى الآن سبب تأخرهم في العثور عليها، هل لكثرة من تم انتشالهم من الأحياء والجثث أم لتأخر الغواصين في الوصول إلى موقع الحادث أم لأنها لم تعد إلى مكانها عند القاع إلا بعد مرور هذا الوقت»(25)، إنها تحرّك أمواج احتمالاتها على سطح الرواية لا فيما يخص واقعة غرق رنا فحسب بل بما يجعل من الالتباس واقعة ذهنية تتكرر مع يحيى لتؤكد، على نحو ما، استحالة ما يبحث عنه من إجابات، وما تبحث عنه الرواية وهي تواصل حركتها الموجية في المنطقة الفاصلة بين الواقعي والمتخيل، وهي تنشيء وهم حركتها بين الحياة والموت، فتنتقل بسيل احتمالاتها من الممكن إلى غير الممكن من دون أن تهجس بانتقالها لتساوي عندئذ بين منزلتي الاحتمال وتوحد بين الممكن والمستحيل، انشغال الغواصين وعدم وصولهم إلى موقع الحادث يعادلان عدم عودة الجثة إلى مكانها إلا بعد مرور الوقت الذي تؤدي فيه زيارتها الغريبة ليحيى، الأمر الذي يتكرر مع يحيى في محاولته تفسير ضحكة رنا حينما تكتشف ورقة الطلبات المنزلية في جيب قميصه وقد ارتدته بدل بلوزتها المقطوعة خلال زيارتها «فلماذا ضحكت رنا؟ هل لأن آخر ما قرأته قبل أن تعود إلى موتها كان مجرد قائمة بطلبات منزلية أم لأنها أثناء قراءتها كانت ترى قلقه وهو معها أم كان ضحكها من شيء آخر حدث في مكان آخر»(26).
ستكون متوالية الاحتمالات واحدة من استراتيجيات الخطاب الروائي الذي يتسع موجة إثر موجة وهو مع اتساعه ينطفئ، أو يتبدد، أو يذوب، لكنه يحافظ على رؤيته لحدثه المركزي، حضور رنا بعد موتها، بوصفه حقيقة تعززها إشارات متعددة: البلوزة، والقميص، ورقم ناهد، وورقة الطلبات المنزلية، وهي الحقيقة التي تتأسس عليها شبكة الاحتمالات اللاحقة قبل أن تتماهي في احتمال لا حدود له. هذه الإستراتيجية التي ستوجه مسار الخطاب الروائي حتى آخر كلمة في شريطه اللفظي وهو يقع في (الصمت) قبل أن ينقطع كلامه ويقع في البياض:
«سامعني؟
ـ أيوه.
لم يعرف يحيى من سأله هل الرجل أم رنا أم أحد المسحورين أم أمه تسأله «أنت أجازه النهارده؟» أجابهم كلهم بالكلمة نفسها. وما إن قالها حتى تلاشت أصواتهم كأن إجابته كانت الموافقة على صمتهم»(27).
إن يحيى لا يعمل على غلق دائرة السؤال بالوقوف على إجابة محددة أو احتمال واحد، أقرب الاحتمالات إلى الذهن وأكثرها مقبولية، كما لا يعمل على ترك الدائرة مفتوحة، دونما إجابة، لكن احتمالاته تتوالى لتكون امتداداً للسؤال نفسه، وأصداءً لا نهائية لصوت ينبثق من منطقة اللايقين، هذه المنطقة التي تسعى الرواية للوقوف على أرضها الرخوة، وهي ترعى زمنين تطلقهما عتبتها المستلة من ألف ليلة وليلة، وهي تضع الشاب بمواجهة الملك، وما الصلة بينهما إلا سؤال يوجهه الشاب لـ (ملك الزمان): «أتدري ما بينك وبين مدينتك؟ فقال الملك: يومان ونصف. عند ذلك قال له الشاب: أيها الملك إن كنت نائماً فاستيقظ، إن بينك وبين مدينتك سنةً للمُجِدّ، وما أتيت في يومين ونصف إلا لأن المدينة كانت مسحورة»(28)، يكشف التباين في تصور الزمان بين الشاب والملك، ملك الزمان، المنطقة التي تسعى «مسألة وقت» لاكتشافها من دون أن تجد لذلك سبيلاً، إذ يشكل الزمان مشكلة الرواية التي يضيء العنوان على نحو مخاتل أحد وجوهها وهو يعمل على تخليصها من محمولاتها لتوجيهها وجهة عامة، شعبية ومؤتلفة، محولاً إياها من (مشكلة) إلى (مسألة) تحمل من البساطة والعرضية ما تؤكد معه مخاتلتها وهي تحوّل (الزمان) إلى (الوقت)، وهي تندفع إلى الهوة الصعبة بين السؤال واحتمالات الإجابة، هذه المشكلة التي تعمل الرواية على مقاربتها عبر الذاكرة وهي تبحث في الحاضر عما يؤكد الماضي ويبرهن على صدق حوادثه، لكنها في دوامة بحثها تبدد فكرة الحاضر بعد أن تُزيح أُلفته، تطمره تحت ركام الماضي وشظايا استعاداته التي تُصبح مع تقدم الرواية أكثر قوة من الحاضر نفسه، فيحاصر وهم الماضي عندئذ مجريات الحاضر ويربك جريانه، إنها لحظة انكسار الزمان بين زمن الشاب وزمن الملك، زمن رنا وزمن يحيى، زمن الأسئلة المتوالدة وزمن الإجابات المفتوحة على ما لا ينتهي من الاحتمالات، فتبدو الوقائع، ومنها واقعة زيارة رنا ليحيى «أشبه بالذكرى التي تُدخلها الذاكرة إلى زمن الديمومة، أوالزمن الذي تبتلعه الذاكرة وتخلّفه في أعماق الكائن الذي أضاع مفتاح ذاكرته»(29)، فهو يخطو مأخوذاً بما ترسمه الذاكرة من أخيلة وما تستحضره من تصورات، إن الذاكرة تواصل فاعليتها وهي تؤسس انتباهات الخطاب الروائي بناء على قوانينها، وهي تعمل على نحو ضدي، إنها في الوقت الذي تربك تلقي يحيى للعالم وتخلخل موقفه منه جراء عدم قدرتها على تقديم فهم واضح، منتظم ومعقول، لحادثة حضور رنا وهي تستعيدها وتدقق في تفصيلاتها، تعمل، من جانب آخر، على إنقاذ يحيى من الغرق في بحر البطالة، إنها حبل الإنقاذ الذي أمّن له العمل في مكتب التوزيع، ولم يكن يملك ميزة تؤهله للعمل أهم من ميزة الذاكرة التي استحوذ من خلالها على اهتمام صاحب المكتب، إنها الذاكرة التي تخلخل حتى ما نظنه عن أنفسنا ففي البداية ظن ذاكرته ستكون نقطة ضعفه، وسرعان ما وجدها تمده بما يريد في أي وقت، مثلما تؤدي دورها في رؤية ما لا يرى وقد استحضرت المعديّة، في واحد من أجمل مقاطع الخطاب الروائي، على حائط غرفة يحيى فور استيقاظه، لتكون الرؤية، بحسب ملفوظ الخطاب، وجهاً من وجوه اليقظة لا طيفاً من أطياف المنام «نزل من السرير ووقف وسط الغرفة ليتأكد من أنه لا يحلم. وعندما شك أنه ما زال في الحلم خرج من غرفته وعاد إليها وفتح الشباك وأطل منه. مستحيل أن يكون في حلم إلا إذا كان من الأحلام التي ترى نفسك فيها وأنت تحاول أن تستيقظ وتتخلص مما تحلم به»(30)، إنه يستعيد صوت الشاب في عتبة الرواية وهو ينبه الملك «إن كنت نائماً فاستيقظ»، دافعاً الرواية عبر الذاكرة إلى رؤية ما لم يُر بعين يحيى من قبل هي تعيد تقديم المشهد على نحو مرئي بناء على ما تقدم من تفصيلات، فالمعدية تُستحضر طبقاً للأوصاف التي ذكرتها ناهد، صديقة رنا، بركابها وحيواناتها وسياراتها وعرباتها الكارو، إنهم يُستحضرون لا في سبيل تأكيد وجودهم، أو الدفاع عن لحظاتهم الأخيرة قبل واقعة الغرق بل ليكونوا شهوداً على وجود المعديّة في غرفة يحيى، وهي اللحظة التي يؤخذ فيها الركاب الموتى بدهشة أن يكونوا هنا، محاصرين بحائط وسقف ينشغلون بالنظر إلى أعلى حيث من المفترض أن تكون سماء فلم يجدوا سوى سقف بمصباحه المطفأ، تُستحضر المعديّة على الجدار صورة ثابتة ولنتذكر بدورنا تصور سوزان سونتاغ لا يتحرك كل من كان فوقها ولا يتكلمون، إنهم يعيشون بعد الموت دهشتهم ويواصلون شهادتهم على وجود المعديّة في الغرفة، الوجود الذي يحيا قلقه الخاص وينمّي احتمالاته بين الحقيقة والحلم، حيث يكون الحلم في عالم منتصر القفاش رديفاً للخيال ووجهاً من وجوهه، وهو الآلية التي يُستحضر العجائبي من خلالها بوصفه استيهاماً يوطد علاقته بلا وعينا وبـ» الغرابة التي تسكننا» حسب جان بلمان نويل(31)، إنه القنطرة القصيرة بين الممكن والمستحيل وهو اللحظة التي تتراسل خلالها أحلام الموتى مع أحلام الأحياء لتواصل الرواية في مزيج أحلامهما نسج حكايتها وهي تعيش دينامية المواجهة بين التذكر والنسيان.
ـ تصحيح وضع : حرب مع الذاكرة
تسعى رواية أحمد زين (تصحيح وضع)(32) لإنتاج قراءتها الخاصة لمشهد حياتي لا يخلو من التباس وتعقيد، مثلما تعمل على توسيع مساحة الحياة اليمنية التي لم يُقيض لها من قبل أن تعيش إشكالاتها الخاصة تحت مجهر السرد، إشكالات العمالة اليمنية الوافدة إلى المملكة العربية السعودية، في واحدة من المراحل الزمنية الصعبة في حياة اليمن والسعودية على نحو خاص، وحياة البلدان العربية على نحو عام. . إنها مرحلة غزو الكويت من قبل النظام العراقي السابق، بما خلفته من تداعيات مأساوية لم تنته مع الانسحاب المميت للجيش العراقي، بل دشنت زمناً عربياً عسيراً ترك آثاراً عميقة في وجدان المواطن العربي مثلما خلخل مجريات حياته داخل بلده وخارجه، الأمر الذي تعدى دور الخلفية العامة للحدث الروائي وهو يعمل على تعيين زمنية أحداثه إلى المشاركة الفاعلة في بناء الحدث وإغناء مظاهره، وقد عملت رواية (تصحيح وضع) على رصده منذ جملتها الافتتاحية وهي تستعير مقولة باشلار (بدون البيت يصبح الإنسان كائناً مفتتاً، إنه البيت يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الأرض)، المقولة التي كشفت بجلاء شعري ما يمكن أن يؤديه غياب البيت من تهديم للإنسان، فهل تسعى الرواية وهي تجعل من مقولة باشلار باباً للدخول إلى عوالمها للإشارة إلى بيت غائب وإنسان مفتت جراء هذا الغياب؟
تفتح الرواية باباً ثانياً تقترب فيه أكثر من عوالمها الخاصة عبر مقولة لعبد الله البردوني (عرفته يمنياً، في تلفته خوف، وعيناه تاريخ من الرمد)، فهل عيّنت الرواية بمقولة البردوني ما ألمحت إليه بمقولة باشلار، وهل اختصرت بين المقولتين مساحة من المراقبة تظل بالنسبة للقارئ هاجساً خفياً قبل الوصول إلى فصلها الأول؟
إن (تصحيح وضع) تئن قبل أن تتكلم، وتومئ قبل أن تُفصح، كأنها تستعيد، وهي تتطلّع للحظتها الخاصة، تاريخا صامتاً من المرارة والهوان، ذلك الهوان الذي يقدم على دفعات منتظماً في شظايا وأجزاء من وقائع بقيت خارج محاولة معالجة وضع أناسها فيبدو تصحيح الوضع نفسه نوعاً من مواصلة اللعبة الأليمة وهي تمد في زمن العمالة وتوسع من غربة أصحابها، فالرواية، بناء على ذلك، تؤجل الكشف عن مرجعية عنوانها حتى الصفحة الثامنة والخمسين، كأنما لتؤكد وضعاً غير قانوني يقيد شخوصها الرئيسيين وهم يندفعون في ليل الحدود ومتاهاتها ( عندما كان يعود مرّة أخرى إلى غلق الأكياس، بلهب الشمعة والريشة المسننة، ولما استبطأ عودة هويته إلى جيبه، مدّ يده لاسترجاعها، فنهضت والدفتر بين أصابعي، مفتوحاً، قرأت بغير استعجال، بعض بياناته: تم تصحيح وضعه بتاريخ: 29/11/1990، اسم الكفيل: مؤسسة رهف للتجارة والمقاولات)(33)، بما يجيب ضمناً عن اعتماد الرواية عدداً من التقنيات السردية في الضمائر وتحولاتها، والزمن بمراوحته وتداخله، وعن تجزئة المشهد التي تقف وحدها خصيصة مؤثرة يمكن أن تقول بأجزاء الصورة وتفصيلاتها مالا تقوله الصورة مكتملة ومرئية من النظرة الأولى، إن الرواية تعمل باستعادة تفاصيل الصورة مرّة بعد أخرى على تهجئة مشاهدها قبل أن تصل بها إلى قراءة محكمة، والرواية بذلك، تحقق مراوحتها الزمنية وهي توزع مادة العرض على القصة كلها «وهي تصيّر الضرورة تفنناً إذ تجزيء الترتيب عن عمد، فيضيع كل معنى الاستمرارية، وبذلك لا تلاحظ الفجوات الموجودة بين الأحداث التي تتناولها القصة»(34)، خصوصاً وأن الرواية لا تنتهج خطاً تصاعدياً في تقديم قصتها، إنها «كتابة تراكم الصور وتستوحي الذاكرة البصرية والسمعية، وتحرص على إشراك القارئ في سيرورة الاستبطان والتأمل، إن (تصحيح وضع) لا تهتم بالحبكة المحكمة، ولا بتسلسل الأحداث والأزمنة، وإنما تسعى إلى استحضار عالم منسوج من نتف المشاهدات العالقة بالذهن، ومن أمشاج التذكرات»(35) حيث تتجزأ القصة إلى قصص تتجسد في كل منها الشخصيات الرئيسية: شائف، قبول، سالم، قاسم، مثلما تسحب في دوامتها عدداً من الشخصيات الثانوية التي تشكّل وهي تحكي وقائع غربتها صوت الرواية الموجع والعميق، لتتضافر الشخصيات، الرئيسية منها والثانوية، في حلم متواصل لا بحياة كريمة آمنة وإنما باجتياز الحدود، بكل ما يتطلبه هذا الحلم من ثمن باهض وسعي مرير، حيث يغور المرء في لحظات غربته منفصلاً عما حوله، غريباً عن ذاته وجسده، فيشهد عندئذ وقائع انتهاكه في غرف درك الحدود كما لو كانت توجه ضد أجساد أخرى بما يشير لاندحار علاقته مع الذات والآخر والعالم والكون، فالجسد هو (بيت الكائن) و(الدليل الأقوى على الكينونة)، وهو يعيش داخل الرواية تحولات يفقد معها خصوصيته وحصانته فتنمو داخله ابتداء من انتهاكات الحدود، بذرة الاغتراب، وتتحكم، إلى حد بعيد، بما ينشأ بينه وبين العالم من علاقات، مثلما تغدو مسؤولة عن أفعاله داخل الرواية، فوجود الجسد «ووضعيته في الخطاب الثقافي بمثابة النواة أو البنية العميقة التي تتمحور حولها كل الخطابات الفرعية المشكلة والممثلة لهذا المتن الثقافي في مجمله»(36)، مثلما يشهد معنى الوطن من خلال امتهان الجسد وغياب الذاكرة واحدة من لحظات مواجهته فيدخل في متوالية أسئلة تنفتح وتمتد مع توالي التجارب وتصاعدها:»أحست أنه لم يعد لها وطن، شعرت بفراغ مكانه، فراغ أليم. هل الوطن مجرد أمكنة، جغرافيا، والناس هم حركتها، عافيتها. إذا كان ذلك نعم، فليس هناك وطن… لا وطن لأنه لا يوجد ناس، ولا حركة، فقط أشباح، مخلوقات تفتك بها الفاقة»(37)، من هنا يمثل السعي المتواصل لاجتياز الحدود حرباً تتعدى الموانع الجغرافية لتشتبك مع الأزمنة الخاصة للشخصيات فتكثف وعيها لتكتشف ضراوة وجودها وتعمّق شعورها بغربة واسعة تستعيد الرواية رصدها ومواجهتها، مثلما تستعيد دورها في توجيه الشخصيات نحو مصائر تكون في الغالب معلومة ومتوقعة بالنسبة لها على الرغم من قسوتها وعنف نتائجها، فتنظر كلما اتسعت غربتها إلى مرايا أعماقها، وتواجه من جديد معنى الوطن «الذي تحتفظ به كصورة عتيقة، ليس له أدنى شبه بمسقط الرأس ذاك، ربما هو مجرّد ذريعة فقط، حتى لا نتيه أو نتبدد بلا هوية في الخواء واللامكان»(38)، فتتصاعد أزمة الشخصيات وتشتبك وقائعها وهي تحكي حكاية عبورها بين خانقين وتراكم صور حروبها الماضية منها والحاضرة، هذه الحروب التي تتوجها حرب الإنسان ضد نفسه، ضد وجوده وذاكرته، فهي «حرب تشب في عراء الكائن، بينه وبين نفسه، حرب لاستعادة الصورة الأولى «للهناءة» أو لسرقة الإيمان من جديد، بحرافة «المواطن الثاني»، حرب ضد النظرة، أو ضد الاستسلام أسرى شعور لآخر بالشفقة. باختصار هي حربهم مع الذاكرة»(39) فيبدو مسوغاً عندئذ أن تعيش الشخصيات من خلال حكاياتها نوعاً من الحرية، فهي إذ تعاني أزمتها في المكان والزمان الواقعيين تعمل، في شكل من أشكال المواجهة أو الرد، على التخلص من حدود زمنها الداخلي لتعيش اللحظة الماضية جنباً إلى جنب مع لحظتها الراهنة، تعمّق كل منهما الأخرى وتمنحها بعداً معنوياً تظل الرواية من دونه بحاجة إلى ما يملأ ثغراتها الزمنية وينظم حركة السرد فيها، وهي لا تكتفي بأن تتنقل حرة بين الأزمنة الثلاثة فحسب، بل وتتكرر عودتها إلى الماضي باستمرار في حركة دائبة بينه وبين المستقبل بما يخلق سرداً لولبياً، يشبه في حركته الزمنية حركة اللولب(40)، يعمل على المقاربة والمؤآخاة بين صور زمنية عدة يؤدي فيها الاسترجاع دوراً مؤثراً بمستوياته المختلفة في تفاوتها بين ماض بعيد وآخر قريب، لكن هيمنة الاسترجاع الخارجي، العودة إلى ما قبل بداية الرواية، وضعف حضور الاسترجاع الداخلي، العودة إلى ماض لاحق لبداية الرواية تأخر تقديمه في النص، تكشف عن أهمية دعم الحدث الروائي الراهن بحوادث هي بعض من تاريخه البعيد، مثلما توسع من مساحة التجارب الخاصة للشخصيات لتنفتح على التاريخ العام لليمن لتنتقي من سلسلة وقائعه ما يتناسب مع لحظتها الحالية ويعمق ظلالها الإنسانية، فأحداث الرواية التي تبدأ مع أغسطس 1990 حيث تعصف متغيرات الحدث السياسي بأحوال اليمنيين داخل المملكة العربية السعودية وتنتهي مع موت زوج الابنة الكبرى للجدة، بعد أن يشتد به مرض السل، بعد تحرير الكويت بسنتين، تجد متسعها بشبكة من الاسترجاعات التي تؤكد أهمية الزمن في الخبرة البشرية وتفوقه داخل الرواية على الزمن الخارجي الفيزياوي، فيتجلى الزمن التاريخي للأحداث، على الرغم من عدم عناية الرواية بتراتبية وقائعها، من خلال مجموعة من الإشارات لما قبل وقوع الحرب في نوع من الرصد لمسيرة الأحداث وتوجهاتها: «فكر قبل أن يدهمه ذلك الألم، أنه بعيد هناك ربما ستنشب حرب، سيقاتل فيها الأمريكيون والكويتيون والسعوديون معاً ضد العراق. وقال إنها عارض لن يطول، حدث وسينتهي، وإذا بقي كيف سيطالهم هم اليمنيون المقيمون هنا في الرياض أو أي مدينة أخرى»(41) ليتواصل الربط بين تداعيات الحدث السياسي والحياة اليومية لليمنيين بتأثيراته المباشرة التي تقدمها الرواية بطرائق مختلفة ترد في معظم الأحيان بصيغة الأسلوب غير المباشر الحر، مثلما تتضمن في الحوار الصامت للشخصيات، وهي تواصل مراقبتها لما حولها مترقبة ما ستؤول إليه مصائرها «وأخذ يصغي لكلمات يقرأها (كذا) أحدهم لعاشر مرّة على سبيل التأكد إن كل ما يقال ليس خطأ مطبعياً ولا زلة جريدة» نحن لم نفعل شيئاً غير مساواتهم بالمقيمين الآخرين» «لكن يا سيدي. . أليس له علاقة بموقف حكومتهم من الغزو العراقي للكويت»(42)، مثلما تشكل مراقبة الحدث السياسي جزءاً من السرد نفسه في سعيه لإرضاء زمنية أحداث الرواية فقد تحوّل بيت الجدة تدريجاً، وبعد أسابيع قليلة من الانتصار الخاطف لقوات التحالف، إلى نزل صغير، الأمر الذي تواصل معه الشخصيات بحثها عن زمنها الخاص في خضم الأحداث فتستعيد بعض تفاصيل حياتها خلال حكم الإمام، بزيارات عساكره الليلية، أو خلال انتشار جنود عبد الناصر في البلاد، أيام الثورة على الملكية، وهي تلتقط حضورها العبثي وتراقب حياتهم في خيام لا يأمنون فيها خيانات ليلية أو عمليات ثأر مباغتة يرتكبها ملكيون وجمهوريون على السواء، لتؤاخي في مراقبتها بين زمنين تعمل على المقاربة بينهما مقاربة آيديولوجية يمنحها السرد حيزاً منتظماً داخل شبكة حوادثه: «لكن وبين حين وآخر، وأثناء ما كانت تمرّ بالصورة الكبيرة للرئيس يظهر فيها مبتسماً، المعلقة أسفل من صورة صغيرة، إطاراتها مشغولة بزخارف دقيقة، تجمع الملكين السعودي فيصل والأردني الحسين والرئيس جمال عبد الناصر ومعهم الإمام… كانت تسترق نظرات إليها، وتنوش برأسها لكأنما في حلم طويل»(43)، فالرواية تنشغل من خلال معالجتها الزمنية بإضاءة لحظات تملك تأثيرها في تاريخ الشعب اليمني وحياة أناسه، مثلما تملك أن تعمّق سؤال الشخصيات وهي تواصل دونما انتهاء رحلتها بحثاً عن مأوى آمن وحياة كريمة، لذلك فليس من الغريب أن تستعيد الرواية في فصلها الأخير جانباً من رحلة الشخصية عبر الحدود بعد أن تثّبت بعض تفاصيل اتفاقها مع المهربين، كأنها تبدأ في ليل الصحراء متاهة جديدة، هذه المتاهة التي شكّلت بعداً قدرياً تفرّ منه الشخصية لكنها تجد نفسها بعد طول معاناة أسيرة حبائله.
ـ قهوة أميركية: ذاكرة للمستقبل، تاريخ للنسيان
تعمّق (قهوة أميركية)(44) ما سعت (تصحيح وضع) لكشفه وإضاءته مع محافظتها على امتيازها في رؤية المجتمع اليمني من الداخل والإنصات لصوت إنسانه إنصات المراقب المكتشف الذي يضع كل شيء أمامه موضع المعاينة والسؤال، إذ يواصل أحمد زين فاعلية خطابه الروائي التي تنهض على تجزئة المشهد للوقوف على تفصيلاته، ليكون كل تفصيل فيه صورة دالة تنهض عبر المجاورة مع شريط صور الخطاب الروائي بأداء فاعليتها وإنتاج دلالاتها، فالصورة تنتظم في (قهوة أميركية) بوصفها كلمة في جملة مرئية، إنها تحقق بلاغتها وتنتج مجازها في رؤية عالم يتآكل وإنسان يدور في حلقة واسعة من التيه، وهو يعيش تناقضه بما تحفل به المادة السردية من تمثيل تُطعّم من خلاله بمقاطع وصفية متوالية لإعلانات السلع وهي تهيمن بلوحاتها الضخمة على مجرى الحياة اليومية وتتحكم برغبات إنسانها، مثلما تتحكم بمجرى التاريخ وتدل على تحولاته «بدا لعارف أن تلك الطريقة المبتكرة للوحات الإعلان، التي تنتشر في الزوايا والتقاطعات والشوارع الرئيسية التي تزدحم بالناس، وفوق أسطح المنازل وبجوار إشارات المرور، تعبير عن عهد جديد تدخله صنعاء»(45) ، ليكون العهد الجديد في مجاز الرواية هو عهد تقدم الإعلان لا السلعة واندحار الإنسان، إذ تظل السلعة المعلن عنها حلماً بعيد المنال ورغبة غير متحققة تعمل الرواية على قراءتها في اللحظة التي تقرأ فيها مجتمعها، حيث «تُقدّم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات، كل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد متحولاً إلى تمثيل representation»(46)، لتقول الرواية من خلال الإعلان ما لم تقله في نظرها لمشهدها الحياتي، مشهد مدينتها التي لم تكن سوى قرية كبيرة خرجت من عصور سحيقة وهي «تُسقط ما تصدر عنه المدن من مواءمة بين الحسبان الدقيق والقيم الجمالية، وملاءمة بين الحاجات الإنسانية وتكامل الكلام الجماعي»(47).
إن لوحة الإعلان لا تقول نفسها فحسب، ولا تكتفي بأن تسوّق بضاعتها، إنها تقولنا على نحو ما، وتمنح إنساننا فرصة ضبابية للعيش فيها والشعور بشبع غريب، والإحساس بنظافة لم يعتدها لمجرد رؤية إعلان صابون لايف بوي، والشعور برائحته تعبق كأجنحة الملائكة، إنها تشهد تفكك عالمها الواقعي، تجزئته وتشظيه إلى صور بسيطة، تُصبح الصور البسيطة كائنات واقعية وحوافز فعالة لسلوك في حالة تنويم(48).
إن الإعلان في رواية أحمد زين يتخلل الحدث، يخترقه ويتسع فيه، وهو في الوقت نفسه يسوره ويرسم حدوده بأطياف حلمية تعتمل فيها الروائح والطعوم والأصوات، مجالات حسية للنظافة والتناسق والجمال تُنتج طباقها بمواجهة مجالات دنيا يتآكلها التلوث والركود هي مجالات الحياة التي تجعل من إنسانها مقابل قوة الإعلان القاهرة مادة للعرض حيث يكف عن أن يكون متفرجاً، ويزداد إحساسه بأنه مادة للفرجة، ليكون المتفرِّج والمتفرَّج عليه في وقت واحد، إنها متاهة السلعة التي تنتقل من مراقبة العالم الروائي إلى لغته لتبدو مسؤولة إلى حد بعيد عن إنتاج العالم، مثلما تحدد مسؤوليتها في إنتاج وعينا به، فإن السمة التركيبية في لغة ( قهوة أميركية) تهيء لها المجال لتستحضر السلعة بماركاتها التجارية إلى جوار أحاديث الناس اليومية الملتقطة في الباصات والشوارع والمقاهي، والملفوظات الإنكليزية داخل معهد تعليم اللغة، وحوار الشخصيات الذي لا يترفع عن اللهجة اليمنية، وعناوين الصحف، والأغاني النادرة العربية منها والإنكليزية، تؤدى عبر الشخصيات أو تُبث من خلال الراديو لتتركب جميعها في مؤدى لغوي «تخيلتني سمكة علقت في أعشاب شوكية داخل قفص زجاجي، مملوء ماء وأشجاراً صناعية صغيرة، ورأيت عيني جاحظتين، ولامعتين من الرعب، استسلمت للصورة، أخذت أتفرّج عليّ، صرت مادة للفرجة، في إعلان تلفزيوني طويل، مع هذه القائمة غير المنتهية من أصناف الأطعمة المختلفة والكماليات والأدوات المنزلية والسبشل أوفر، بريزيدن، بوردن، ميلو، أندفوود، لورباك، سنو وايت، هوت إنسبايس، فيراند لفلي»…(49)وهي المتاهة التي سيشتري عارف منها بكل ما يملك علبة قهوة أميركية، وسيفشل مرّة بعد أخرى في صنعها بمذاق رائع كما يشاهد في الإعلانات مكتفياً بأنه وجد أخيراً عزاء له في التعرف على المنتجات الأميركية، هذه المنتجات التي وهبت الرواية عنوانها وسورت عالمها بجدار من لوحات الإعلان الضخمة، ليواصل تخبطه تحت سطوتها باحثاً عن (تاريخ شخصي) يمكن من خلاله أن يعيش في المستقبل، حيث يبدو الحاضر زمناً متوقفاً، إنه يسعى للمشاركة في الحياة على طريقته، والاشتباك معها في سبيل إنتاج ذاكرة للمستقبل، حيث يكون الحاضر نفسه ماضياً ويعاش بوصفه تذكراً يعيشه المرء كما يعيش حلماً أو كابوساً ويستعيده في مشاهد متوالية على امتداد الرواية كأنما في فلم سينمائي، مشاهد تتجاور في حركيتها فيما تتداخل عناصر الإعلان فيها ملتحمة خارج الوقت الذي يبدو هو الآخر غير متوافر لا يقدم سوى عيش منفلت ولا نهائي، «فالوقت يشبه أبدية رخيصة»(50) ، الأبدية التي تعمقّ شعور عارف بالإغتراب، تبعده عن نفسه وتسحبه من لحظته (التاريخية) الفاصلة، ففي الوقت الذي يكون عارف فيه داخل المظاهرة لن ينشغل بغير اللوحات الأنيقة وعوالمها الفارهة «حين راحت الحشود تخضّه، ترفعه تارة وتنزله مرّة أخرى، لم يدر عارف لماذا انشغل بتلك اللوحات الأنيقة، التي تعكس رجالاً ونساء يرشون عطوراً فارهة على أجسادهم، ويقتحمون العالم بروائحهم الجميلة، وفكر في ذلك الجسد الرجولي شبه العاري، بالصدر الفسيح والبطن المشدود، بالقرب منه زجاجة عطر أنيقة، فيما كتب أسفل الإعلان اسم الوكيل الشهير للعطورات العالمية في دول الخليج»(51) ، بعيداً عن مخاوفه التي تتكرر على امتداد الرواية بأنه سيموت برصاصة طائشة، أو أثناء انفجار قنبلة، صدفة، مدسوسة في ملابس قبيلي، هذا الشعور الذي تحول إلى نوع من ترقب وانتظار بين مجموعة من المشاهد التي تحفل بالقنابل والأسلحة، قنابل يدوية يلهو بها الصبيان وأسلحة تطل من ثياب العابرين، الأمر الذي يدفع عارف لتخيل ميتة مناسبة لا تبعد كثيراً عن اللحظة التي ينفصل فيها عن دوامة اليومي ونزيف مشاهده ليستبدلها بميتة درامية متخيلة داخل دار عرض سينمائي في ضوء الشاشة التي تعرض فيلماً أميركياً ما دامت كل الأفلام التي تعرض أميركية سيتلقى عارف الرصاصة بعد أن يلمح لمعة عيني قاتله، ليكمل هروبه من موت مجاني إلى موت مقصود يقود إلى الفخر، إن التخيل لن يعمل، بذلك، على تأجيل الواقع بقدر ما يعمل على اقتراح نهاية على الخوض فيه، هي إحدى النهايتين اللتين ينتظرهما عارف، يترقبهما، يعيش تفصيلاتهما: موت المصادفة والجنون، وهما يلوحان مثل شبحين في نهاية المشهد بعد أن افتُتحت بهما الرواية نفسها وهي تقترح أقوالاً لنايبول، ونيتشه، وباموق، وراكب باص عتبة للدخول إلى عوالمها، إنها تؤسس عبر غياب الإرادة، والاغتراب، والجنون، مؤديات الأقوال ومحمولاتها، مقتربات عالمها قبل أن تخوض فيه، كأن الرواية حسمت موقفها من العالم ولم يبق أمامها غير أن تؤدي تمثيلات خطوتها الأخيرة، بما يوطد الصلة بين (تصحيح وضع) و(قهوة أميركية) وهما يبنيان على أنقاض مفهوم الوطن في اللحظة التي «يتحول الانسان فيها إلى قصبة جوفاء ترجّع الذكريات وتعيش انحداراً لا يكاد يتوقف عند حد»(52)، فالرواية الأخيرة لا تتعامل مع عالم جديد ولا تقترح منطقة مبتكرة، إنها توسع المساحة التي انشغلت بها الرواية الأولى وتعمّق الحفر فيها مستعيدة أحاسيس قبول في (تصحيح وضع) بمواجهة وطنها، وهي تعمل جاهدة في سبيل الانفلات منه لتحقيق حلمها باجتياز الحدود مثلما تعيد إطلاق سؤالها في معنى الوطن وتعيش على نحو صامت إجابتها، ستستعيد (قهوة أميركية) جسامة السؤال وتعيش أصداء إجابته عبر انكسار الحاضر، غيابه أو سقوطه أو تماهيه في البحث عن (تاريخ شخصي) ينهض حائلاً أمام غدر المستقبل، ليعادل غدرُ الحاضر غدرَ المستقبل، يُنتجه ويُفضي إليه، وهما معاً يقتاتان على الماضي، يجردانه من أهميته ويسطوان عليه، مثلما يكشفان تناقضه بمواجهة تاريخ وطني عريق، إن البحث عن تاريخ شخصي في ظل عراقة تاريخ وطني عملية لا تخلو من مفارقة والتباس، عراقة تُنتج الجغرافيا فيها أسطوريتها، وعبر الأسطورة تحقق حضورها مكاناً أول للذاكرة، الذاكرة البشرية هذه المرّة، حيث لا يعد ثمة مجال للذاكرة الفردية تحيا من خلاله وتنمو فيه.
إن بحث عارف عن تاريخ شخصي وهو يحمل عجزاً جنسياً نتج عن رفسة متوحشة بمقدمة جزمة عسكرية دخلت فتحة شرجه وغارت عميقاً ينتج مجازه بمواجهة مستقبل لن يتحقق، فإن ما تحلم به الشخصية من تاريخ مشرّف وتسعى للحصول عليه عبر اشتراكها، ولو مصادفة، بالمظاهرة، لن يكون غير هدم متواصل لذاتها، تشظية وتمزّق يقابلان ما حلمت به ويبددان حلميته مع تصاعد الألم والظنون، مع توجه عارف للتفكير بأنه كائن مغتصب، ومع سؤال طبيب الأمراض التناسلية الذي يتجنب النظر إليه وهو يحوّل الألم إلى حكم والظن إلى اندحار: «شاذ؟ تفاجأ فظل صامتاً، ظن الرجل أنه لم يفهم، فعاد يسأل بصيغة أكثر صراحة: مخنوث قصدي؟»(53) .
سيتقارب موقف قبول في (تصحيح وضع) وعارف في (قهوة أميركية) من انتهاك جسديهما، ومراقبتهما كما لو كانا يراقبان جسدين غريبين، الشعور الذي يدفع الرواية باتجاه النهاية الثانية بعد أن تمثلت النهاية الأولى بتصور موت مقصود، نهاية الجنون التي تظلل الرواية بغمامتها الدكناء فتترك أثرها بادياً في تفاصيل المشاهد وفي أعماق الصور، وإذا كانت (تصحيح وضع) قد انشغلت بحرب الإنسان ضد نفسه، ضد وجوده وذاكرته في سبيل استعادة الصورة الأولى للهناءة، فن هناءة (قهوة أميركية) في حربها لإنتاج ذاكرة يمكن أن تمكث هناك، في المستقبل، حيث لا شيء غير المرء وتاريخه الشخصي يؤآخي كل منهما الآخر، يسنده ويتكئ عليه، حيث تتحرّك الشخصية بين طرفي الفتنة المكللين بالسواد: طرف الموت وطرف الجنون، وإذا كان الأول انسحاباً نهائياً من الحياة، وذهاباً لغزياً لا جواب له، فإن الثاني يشكل فتنته بمواجهة حياة عصية على المواجهة، عصية أمام السؤال، فما يولد من أغرب أشكال الهذيان، بتعبير ميشيل فوكو، هو» شيء كان مختفياً كالسر من خلال مفارقة عجيبة، إنه يشبه حقيقة لا يمكن الوصول إليها في قلب الأرض»(54) ، هذا السر الذي دفع عارف مراراً للهروب من مشاهد الجنون وهي تتكرر أمامه كأنها تُنتج ذاتها بتلقائية واعتياد، حتى ليبدو الانحدار باتجاه الجنون أمراً مدركاً، على الرغم من خشيته، ومنتظراً على الرغم من استحالة التكهن به، إنه يحدث لمن حولنا كما لو كان مقدمة لما سيحدث لنا.
إن الخشية تدفع عارف لهوة الجنون، الخشية تناديه، مثلما نادته الرصاصة لميتة مشرّفة، فتنعكس صورته في عيون الآخرين نصف عار يعبر الشوارع المكتظة منتظراً الرصاصة من جديد، من دون أن يجد مفراً من سؤال نفسه قبل انزلاقه إلى مهاوي الجنون: هل كنت تطارد تاريخاً أم صورة؟
الهوامش:
(1)ينظر: صبري حافظ، نقل المركزية الروائية وجماليات سرد ما بعد الحداثة، مجلة(الأقلام) العراقية ع2نيسان/آيار1998 :7
(2)ينظر:د. فيصل درّاج، نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت ط2 : 286
(3)كارل ماركس، القلب الآيديولوجي، كتاب: الفلسفة الحديثة، نصوص مختارة، اختيار وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، أفريقيا الشرق، المغرب 2001 :132
(4)منتصر القفاش، أن ترى الآن، رواية، دار شرقيات، القاهرة 2002
(5)ميري ورنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب، ت. فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2007 :159
(6)منتصر القفاش، م. س: 8
(7)مي التلمساني، صفحة بيضاء هي حياته، مجلة ( قوافل ) الرياض ع18 ديسمبر 2002 : 54
(8)منتصر القفاش، م. س: 9
(9)م. ن: 9 (10)م. ن: 10 (11)م. ن: 10(12)م. ن: 10
(13)ينظر: ميري ورنوك، م. س:37
(14)منتصر القفاش، م. س:11
(15) ادوار الخّراط، أنشودة للكثافة، دار المستقبل العربي، القاهرة 1995 : 188
(16) منتصر القفاش، م. س: 11 (17)م. ن: 29 (18)م. ن: 31
(19) م. ن: 31 (20)م. ن: 37
(21) ادوار الخرّاط، نص ورؤيتان، جريدة ( أخبار الأدب ) القاهرة، 24 مارس 2002
(22) منتصر القفاش، م. ن: 118
(23) منتصر القفاش، مسألة وقت، روايات (الهلال) القاهرة، عدد 709 يناير2008
(24) سوزان سونتاغ، الالتفات إلى ألم الآخرين، ت. مجيد البرغوثي، أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان 2005: 85
(25) منتصر القفاش، م. س: 10 (26)م. ن: 35 (27)م. ن: 123
(28) م. ن: 5
(29) جابرعصفور، هوامش للكتابة/ مسألة وقت، جريدة(الحياة) اللندنية 20/2/2008
(30) منتصر القفاش، م. س: 115
(31) ينظر:د. يوسف شكير، شعرية السرد الروائي عند ادوار الخراط، مجلة (عالم الفكر) ع2مج30 أكتوبر2001: 256
(32) أحمد زين، تصحيح وضع، رواية، دار الانتشار العربي، بيروت 2004
(33)م. ن: 58
(34) أ. أ. مندلاو، الزمن والرواية، ت. بكر عباس، مراجعة إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1997: 89
(35) محمد برادة، أحمد زين يبحث عن وطن غائب في رحلة لا تنتهي، جريدة (الحياة) اللندنية 30/9/2005
(36) معجب الزهراني، تمثلات الجسد في نماذج من الرواية العربية المعاصرة، مجلة (فصول) القاهرية مج16 ع4/1998: 79
(37) أحمد زين، م,س: 88
(38) م. ن: 167 (39)م. ن: 107
(40) د. شجاع مسلم العاني، قراءات في الأدب والنقد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999: 64
(41) أحمد زين، م. س: 19 (42)م. ن: 20 (43)م. ن: 146
(44)أحمد زين، قهوة أميركية، رواية، المركز الثقافي العربي، بيروت 2007
(45)م. ن: 16
(46)جي ديبور، مجتمع الفرجة، ت. أحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة 1994: 9
(47)فيصل درّاج، رواية تواجه مدينة عربية، جريدة (الحياة) اللندنية 17/7/2007
(48)ينر: جي ديبور، م. س:67 (49)أحمد زين، م. س: 67
(50)م. ن: 35 (51)م. ن: 81 (52)محمد برادة، م. س
(53)أحمد زين، م. س: 113
(54)ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ت. سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي 2006: 43
مصادر البحث
ـ الروايات:
أحمد زين:
_ تصحيح وضع، دار الانتشار العربي، بيروت 2004
_ قهوة أميركية، المركز الثقافي العربي، بيروت 2007
منتصر القفاش:
_ أن ترى الآن، دار شرقيات، القاهرة 2002
_ مسألة وقت، روايات (الهلال) القاهرة، عدد 709 يناير2008
ـ الكتب:
_ أ. أ. مندلاو، الزمن والرواية، ت. بكر عباس، مراجعة إحسان عباس، دار صادر، بيروت1997
_ أدوار الخّراط، أنشودة للكثافة، دار المستقبل العربي، القاهرة 1995
_ جي ديبور، مجتمع الفرجة، ت. أحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة 1994
_ سوزان سونتاغ، الالتفات إلى ألم الآخرين، ت. مجيد البرغوثي، أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان 2005
_ شجاع مسلم العاني، قراءات في الأدب والنقد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999
_ فيصل درّاج، نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت ط2
_ كارل ماركس، القلب الآيديولوجي، كتاب: الفلسفة الحديثة، نصوص مختارة، إختيار وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، أفريقيا الشرق، المغرب 2001
_ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ت. سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي 2006
_ ميري ورنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب، ت. فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2007
_ الدوريات:
_ مجلة(الأقلام) العراقية ع2نيسان/آيار1998: صبري حافظ، نقل المركزية الروائية وجماليات سرد ما بعد الحداثة
_ مجلة (فصول) القاهرية مج16 ع4/1998: معجب الزهراني، تمثلات الجسد في نماذج من الرواية العربية المعاصرة
_ مجلة (عالم الفكر) الكويتية ع2مج30 أكتوبر2001: د. يوسف شكير، شعرية السرد الروائي عند ادوار الخراط
_ جريدة ( أخبار الأدب) القاهرية، 24 مارس 2002: ادوار الخرّاط، نص ورؤيتان
_ جريدة(الحياة) اللندنية 20/2/2008 : جابرعصفور، هوامش للكتابة/ مسألة وقت
_ جريدة (الحياة) اللندنية 17/7/2007: فيصل درّاج، رواية تواجه مدينة عربية
_ جريدة (الحياة) اللندنية 30/9/ 2005 : محمد برادة، أحمد زين يبحث عن وطن غائب في رحلة لا تنتهي .
لؤي حمزة عباس
كاتب وأكاديمي من العراق