ينهي صائب التل عمله يوميا في معمل الطوب في تمام الثانية ظهرا..في الثانية والنصف يكون قد وصل غرفته وخلع عنه نصف اليوم وارتدى النصف الآخر.. يضع ملابس العمل في سلة بلاستيكية موضوعة أمام الباب ويخرج لتناول الغداء مع أمه – مع أنه لا أحد يشاركهما المنزل إلا أن صائب التل لم يستطع أن يفسر إصرار أمه على استخدام سلة الغسيل الموضوعة أمام الباب باستمرار-.. حين تنتهي الحاجة فوقية من غفوة ما بعد الغداء ستأخذ هذه الملابس إلى طشت الغسيل الذي تكون قد أعدته قبل أن تنام وتبدأ في فرك الملابس بطريقة لا تختلف إطلاقا عن كل مرة..عملية الغسيل هذه قد تطول وقد تقصر حسب الحالة المزاجية للحاجة..لكنها في الفترة الأخيرة غدت تطول أكثر من اللازم..صائب الذي أصبح لا يغادر غرفته إلا نادرا وصار أقل حديثا مع أمه لاحظ ذلك وتفاديا لأمر ما لم يناقشها..هي لاحظت تغيره وعدم خروجه من الغرفة إلا نادرا..توجسا غريبا كان يمنعها من سؤاله عن السبب لذلك ظلت ساكتة وواجمة أغلب الوقت وتستهلك وقتا أطول أثناء عملية الغسيل..
ما تعرفه الحاجة أن ابنها أصبح أقل بهجة عن ذي قبل ويقضي معظم وقته في غرفته ولم يعد يخرج كعادته للقاء أصحابه الذين تعرفهم واحدا واحدا..ولم يعد يسألها إن كانت قد زارت أم سلاف أو أنها رأتها في مكان ما… وما لا تعرفه وأصبحت ترتعب منه هو سبب هذه الحالة المفاجئة التي حدثت لابنها.. حاولت أن تسأله في بداية الأمر ولكنها لاحظت في عينيه أنها لا يمكن أن تعرف أبدا فتوقفت..
كانت حياة صائب التل كحياة أي شاب في القطاع تجاهد بأن تكون عادية وسلسة.. كان يحاول أن يعيش مع أمه بأقل قدر من المعاناة.. كان مراهقا حين فقد والده بسبب رصاصة طائشة عندما كان يتوجه إلى عمله صباح ذات يوم..هو أيضا أصبح له عمل يتوجه إليه كل صباح ..وصارت له حبيبة تنحت في قلبه باستمرار.. وأصبح لديه أصدقاء يتسكع معهم في الأماسي ويقضي معهم جزءا من الليل كأي رجل أمام أحد المقاهي..ولكنه حين بدأ يلتقي الحاج محمود، ناطور المعمل الجديد ويجلس معه في فترة الاستراحة والصلاة انقلبت حياة صائب التل رأسا على عقب..
قال مرة لرفيقه وهما عائدان معا من المعمل:» أشعر أن لي قدما في الجنة وأخرى في القطاع ، وأعجز عن دفع أحدهما أن تلحق بالأخرى».. بعد ذلك لم يقل له شيئا وأصبح يعود بمفرده إلى المنزل.. حين رآه الحاج محمود وهو يؤدي الصلاة بانتظام في المسجد الملحق بالمعمل أدرك بخبرته الطويلة أن هذا الشاب قد يكون مناسبا للأمر…قضى حياته كمتخصص تعتمد عليه أغلب الفصائل التي انضم إليها طوال حياته..
لم يستغرق الأمر أكثر من أسبوع حتى يقوم بالخطوة الأولى من الخطة التي يحفظها ويطبقها في كل مرة..كان حريصا بأن تأخذ كل مرحلة وقتها..لم يكن مستعجلا في الحقيقة .. كان يقوم بالأمر كما في كل مرة بطريقة تراتيبة ومنتظمة..التجارب الطويلة علمته أن العجلة والحماسة الزائدة قد تفسد الأمر برمته..
ما خطط له الحاج محمود كمرحلة أولى أصبح متيقنا منه أو أنه ظن كذلك. فقد أصبح صائب التل مؤمنا أن هذه الحياة التي يعيشها مع غيره ليست سوى حياة عبثية لا قيمة لها وليس هناك ما يمكن أن يستحق العيش لأجله في ظل الوضع الراهن..ولذلك على المرء في هذه الحالة أن يبحث عن حياة أخرى تستحق التضحية..وهذا ما سيعمل الحاج محمود على غرسه في ذهن صائب التل الذي غدا مشتتا..
والحاج لا يضيع وقته أبدا.. فبدأ خطوته التالية مباشرة، فقد لاحظت الحاجة فوقية وهي ترتب غرفة ابنها تزايد عدد كتب سير الشهداء وتضحياتهم..في الوقت ذاته لم تكن أحاديث الحاج محمود مع صائب تخرج عن التفاصيل الدقيقة لحياة من قاموا بتنفيذ العمليات الاستشهادية داخل الأراضي المحتلة..صائب كان يتوقع الأمر في البداية لا يعدو كونه فعلا استهلاكيا يبرهن به الحاج على حالة التدين الظاهرة عليه ..ما يهم في الأمر أنه كان مأخوذا بكل ما يسمعه أو يقرأه وهو ما أراده الحاج بالتحديد، لذلك كان سعيدا عندما أخذه الحاج محمود إلى غرفته حين جاء ليحييه كعادته بمجرد أن يصل إلى المعمل..أمسك به من كتفه وأسر له بالبشرى في أذنه.. مع أن حالة الانفعال التي كان عليها جعلت الطريقة أقرب إلى الصراخ منها إلى السرية..
ما ظهر على وجه صائب التل لم يكن كافيا للحاج محمود الذي يعول على هذه الخطوة كما في كل عملياته السابقة..كان على صائب أن يعتبر رؤيا الحاج محمود له بمثابة إشارة موجهة إليه ليهب روحه لله، ولكن ما ظهر على صائب لم يدل على أنه فهم الإشارة كما كان يتمنى الحاج..
حين خرج من الغرفة كانت كل الحوريات اللواتي يحطن به في الرؤيا يشبهن وجه سلاف وقوامها..لم يسمح لنفسه أن يتمادى في التشبيه..استغفر ربه ومضى يحمل قوالب الطوب..الحاج محمود الذي صار في الآونة الأخيرة يواجه ضغوطا متزايدة من قيادة الفصيل استغفر ربه أيضا على رؤيا لم يرها في حياته وبدأ القلق يدب في نفسه بجدية..
هل استعجل الحاج هذه المرة نتيجة للضغوط المتواصلة، وحالة الشك التي تراوده حيال صائب..أم أنه أخطأ في تقدير الحالة التي وصل إليها الهدف كما يسميه في كل عملياته بعد مرحلة تهيئة مضنية؟..
لن تنسى الحاجة فوقية اليوم الذي عاد فيه صائب وهو ممتقع الوجه..لم يتناول معها الغداء كعادته..لم يخلع ملابسه ولم يضعها في السلة أمام الباب..هي لم تغادر غرفته أيضا..حاولت أن تفهم ما حل به وفشلت .. وحين يئست خرجت وغابات الخوف تنتشر في صدرها..
كان يتوقع أن يطلب منه الحاج أن ينضم إلى أحد الأحزاب السياسية مثلا.. وإن تطور الأمر قد يدعوه للانضمام إلى أحد الفصائل المسلحة.. ولكن ما طلبه ما كان ليتصوره صائب أبدا..كل الأشياء التي كانت لا قيمة لها أصبحت الآن حميمية أكثر من اللازم.. أدرك كم من الأشياء في حياته تستحق الحياة وليس كما كان يصور الحاج له في بداية لقاءاتهما..ولكن رؤيا الحاج له لا يمكن أن تكون مجرد حلم.. التقوى والورع على محياه كفيلان بأن يجعلان رؤياه حقا.. كيف لم ينتبه صائب لهذا الأمر من قبل؟؟..
الحاج محمود الذي تفاجأ بحالة التردد التي أبداها الهدف قرر أن يدفع بجميع أوراقه التي لم يكن متعودا على الإفصاح بأغلبها في العمليات السابقة.. أخذه بعد صلاة الظهر إلى غرفته وأبلغه أن قيادة الفصيل قررت التكفل بوالدته بعد استشهاده وأنها أجرت لها راتبا شهريا من الآن وأنها أوكلت أمر رعايتها إلى اثنتين من الأخوات أعضاء الفصيل لم يبح له باسميهما.. كان يناقشه وكأن صائب قد وافق على الأمر بالفعل..
حين عاد وسلم على أمه تخيل وضعها في غيابه وتذكر كلام الحاج محمود.. تفجرت فقاعات البكاء في صدره..قبل رأسها وقرر أن يمنحها أياما جميلة في أيامه الأخيرة..تناول معها الغداء وجاهد كثيرا حتى يرسم علامات الإنشراح على وجهه.. أنهى غداءه وجلس معها قليلا ثم دخل إلى غرفته.. قابله حنظلة على الجدار يُسْلم له ظهره…تخيله يدير رأسه في أحد الليالي ويجد السرير فارغا.. تكاثر عدد الفقاعات في صدره ولم ينم كما وعد أمه.. عشر سنوات وهو ينظر إلى قفا حنظلة في اللوحة المقابلة للسرير ولم يكن يحفل أن رسوما كاريكاتورية موحدة تملأ جزءا من الغرفة..
ازداد نشاط الحاج محمود في الأيام اللاحقة إلى الحد الذي لم يجد فيه صائب التل فرصة للتفكير أو التراجع وهو بالضبط ما كان يركز عليه الحاج..حين مر عليه في غرفته بعد نهاية عمله طلب منه أن يتأخر قليلا حتى يعرفه بأهم شخص في حياته وذكره أن حوريات الجنة أتعبهن الإنتظار..الرجل المهم لم يتأخر.. الحاج قام بمهمة التعريف بينهما ثم خرجا معا بعد أن اتفقا على اللقاء في المساء.. حين أخبر أمه بعد العصر أنه سيخرج للقاء أحد أصدقائه تهللت معتقدة أن ابنها عادت إليه حياته السابقة.. صائب عاد مهموما في المساء.. أمه التي كانت تنتظره على العشاء تمنت لو لم يخرج.. أرعبتها النظرات المشفقة التي كان ينظر بها إليها.. عندما سألته عن الحقيبة التي عاد بها انتفض وتلعثم ثم أدخلها الغرفة..عاد إلى أمه التي لا تزال واقفة.. أخذها من يدها وجلسا ثم دفن وجهه في حضن أمه ودخل في نوبة نشيج مستمر.. حين هدأ نظر إليها.. هي لم تزد على «يا يمة .. الله يرضى عليك.. حرقت دمي.. شو قالب حالك فوقاني تحتاني.. ما تقولي شو صاير فيك؟؟» هو لم يقل شيئا وقضى نصف الليل متكوما كطفل في حجر أمه.. ثم دخل غرفته ولا يزال يشعر بملمس الأحزمة التي تدرب على وضعها مع الرجل المهم عصر اليوم في خصره..
بالنسبة للحاج محمود فإن مهمته انتهت بمجرد أن خرج صائب التل من غرفته برفقة خبير المتفجرات في الفصيل.. قرر ساعتها أن التل سيكون آخر من أرسلهم إلى الجنة وأن الوقت قد حان لتقاعده….
صائب تأخر أكثر من اللازم هذا الصباح في غرفته.. حين دخلت أمه عليه وجدته يفترش سجادته ويصلي.. لم تره يصلي بعد صلاة الفجر قبل أن يذهب إلى عمله أبدا.. لم يكن يرتدي ملابس عمله كعادته كل يوم.. كان يشعر أن قدميه مربوطتان في أرض الغرفة.. أراد أن يمتلئ بأمه قبل أن يذهب.. شكرها على إعادة ترتيب غرفته بعد خروجه عصر الأمس..هي وجدتها فرصة لتخبره أن سلاف هي من قامت بكل شي.. جاءت مع أمها وغسلت ملابسه ولمعت حذاءه.. لم تكن تعرف أنها دون أن تشعر هدمت حصونا كانت تبنى منذ أشهر.. لم تجدِ همهمات الإستغفار نفعا في إيقاف صوت الأشياء وهي تتداعى في داخله..أخذ يفكر في الحوريات اللواتي أتعبهن الانتظار ولكن وجه سلاف يغطي على كل شيء.. تحسس الكتل الصلبة تحت قميصه وخرج.. كان الصباح خريفيا وأوراق الكستناء المتساقطة تخشخش في الممرات.. في آخر الشارع ومنذ الصباح الباكر ينتظر الرجل المهم رجلا لا يقل أهمية هذا اليوم ليقله إلى مشواره الأخير..في بداية الشارع من جهة البيت ما زالت سلاف تنظر رجلا بعينه تبدأ معه مشوار العمر.. وبين الشارعين صائب التل يسير ولا ينظر للوراء..
قاص من عُمان