مريم الحتروشي
النجوم شموعٌ في السماء، تأتي الملائكة كل مساء، وتضيئها من أجلنا كي ترشدنا عندما نتوه.
(لونج أونج)
الراعي الوحيد
الذي حوطته الخليقة بجمالها البكر فأصابه الفزع؛ الفزع من رحابة الجمال في حرم الجمال القدسي بين يدي الطبيعة، كل تلك الحواس لم تسعفه؛ غلبه الوجل ودلف به إلى غيابات الحنين الممضّ، الحنين الغابر، الحنين المنبعث من أمداء النسيان، الحنين المتصالب على بوابات الصباح
الراعي الوحيد
الذي أفزعته نأمات السباع ونعيق الجوارح
وفي فزعه الأكبر أمسك بشبّابته.. يهادن قطع الوحشة اللّاهثة حوله، اللّابدة في قيعان الروح وعند أطراف المدى، في كل منحنى وعند كل منعطف.
أن تجابه فزعك بأنفاس ناي قُدَّ من جذع شجرة كانت حارسة الكون، موغلة في الثبات، متناهيةً في العطاء،
كيف تولد النغمات!
كيف يندفع الشجن لحونًا نازفة
كيف تولد النغمات.. ينفثها الراعي وحشةً غامضةً من بين فجوات وحدته،
هل الروح مزمار!
هل هي استغاثات الشجن بأنّات الأرواح/ المزامير..
مزامير الهجيع الأخير!
الراعي الوحيد
كيف تتهدج أنفاسه نغمًا مغدورًا
نغمًا ينفر من فاجعة كانت أو فاجعة آتية..
نُذُرٌ من خطرٍ محدق
استلهام السلالة المغدورة
استجلاء كل ريشة طائر كهل تشاطر القوى الخفية جبروتها
استجلاء كلِّ وشم على ساعدٍ غمره الرماد؛ فباتت الوشوم قرابينَ تلتهمها النيران في غمرات الخديعة واستعار عنصر الخيانة في جوف البشريّ المستعبَد لرغبة التملّك .
هي هكذا أن تستمع لتراتيل الموسيقى
كأن تتنازل عن بعضك للماوراء
تسبح بحرية في المطلق.
كأن تطلق تنهيدة عميقة تجرف في طريقها كل عوالق الذاكرة المُمضّة،
كأن تنفر من بين نبضاتك نبضة محلقة رفقة سرب طيور مهاجرة، وأنت تواليها بالنظر حتى تغيب مع آخر رفة لجناح طائر،
أن تبني جسرًا من غمام أبيض بين مرجين خضراوين، جسرًا تعبره نغماتك إلى مضارب المدى
تنفرط النغمات من الناي للأعلى
كغزالة ترى التماع مقلتيها في وميض شهاب عابر، فتغلق عينيها امتنانا ثم تحنو على خشفها،
كفراشة تهب ألوانها للنور، فتعود حسرى، لائذة بنرجسات لا تتفتح إلّا بعد الغسق.
تزهر النغمة كالتماعة نجمة وسنى في ليالي الشتاء، نجمة تسامر عليلًا أدنفه السهر..
كعبير زهرة تضوّع بين عشب الضواحي
كضباب هبط رويدا رويدا يدرج على الدروب بين جذوع الأشجار وقطيفة الأعشاب،
كبرق متشجر هائل يشقّ السماء بسناه الحالم..
تنفخ في الناي.. تترامى أناملك بحثا عن مخارج الأنفاس لتعتصرها نغمات ناطقة بدبيب الجرح، جرح الوحدة..
كجدول.. ينساب بحثا عن حياة،
تتصاعد النغمات/ الأنات/ النأمات
كارتجافة صفحة الماء الصقيلة من طنين جناح يعسوب على وجه غديرٍ صافٍ تخاتله النسمات.
والشدو يهادن الريح والبرق والمطر،
الشدو يزمّل الطبيعة حين ارتجافة أشجارها،
هل أنت تنصت .. تتنفس… تذهل.. تطفو على جناح نغمة مخدرة،
تنسرب النغمات/ الأنات إلى مسمعك إلى قلبك؛
كأن تحيك الأنغام وشاحا لندفة الثلج وهي تتنزل عذراء، عذراء من فراديس السماء مبللةً بآخر مُجّةٍ من سندسها الأخضر..
كأن يكون لك أرجوحة بين نخلتين مائلتين كهلال لاحتضان الليل،
كنحلة رشيقة تبعثر شذى زهرة صفراء متفتحة لاستقبال وهج النهار،
كأن يكون أمامك بحر من زرقة تنساب موجاته سُجّدا أمام رذاذ القمر المنسكب تبرًا،
نافورة من غناء العصافير وخيوطا من حلوى شعر البنات..
وأشرعة بيضاء من نسيمات تهبها الجبال
كذؤابة شمس،
كسنديانة تأوي إليها العصافير ساعة المغيب فتختلج الأجنحة تسابيح خافتة..
كمهرات ملونة تتسابق إلى الماء لتسري مهابة التكوين في نسغ قطرات الماء..
“كما.. انتفض العصفور بلّله القطرُ”
كضراعة فلاح يواجه عصف الريح وتراكم الغيوم، وبراعمه تتلوى في تربتها..
تفجرك الوحشة
الوحشة من حولك تبتلع الأشياء
الخريف الذي يدسُّ رياحه في أكمام الربيع لينتزع خضرة الأوراق ويختطف حمرة شفاه الزهر،
تشق نايك
تتصاعد غمامًا
تناديك الرؤيا الوضاءة في كل شيء حولك في شدو الحمائم، وفي قشعريرة أوراق الشجر، تناديك الرؤيا الوضاءة في التفاتة الأيائل وفي قفزات أرانب برية وفي تهويدات البوم ليلا،
الضياء يلهمك
الحشائش تحت كعوب الماعز تجدد زهوها بالحياة،
الزهرات تنحني بتؤدة لعبور مواكب النسيم الأولى. تستلهم الكون فينفجر الناي ضياءً وغناءً وارتعاشة شجر
من ربُّ الطبيعة هنا!؟
صمت يتملّك الهواء والفضاء
يمتلئ قلبك شجنا، تواصل إنصاتك للطبيعة من حولك،
“قد يكون الجمال فردا ولكن كل هذا الجمال كيف يكونُ”
تنفخ في الناي..
تشتعل الأنغام في هشيم الصمت
تحترق ذؤابات الأشجار لحونًا عذبةً لناي حزين.. تشتعل ضياءً
ناي قُدّ من ضلع شجرة باسقة
كانت أم الشجر
من النيم
من الحور
من السنديان
من العتم
من اللبان
من العلعلان
من خوط بان
كانت أم الشجر
منذ ألم تشقق البذرة الأولى، حتى لواهيب المخاض والطلق، إلى التبرعم الأول لطراوة البراعم في عناقها للحياة.
أسرار الطبيعة:
الراعي الوحيد في إنصاته يسترق السمع لأسرار الطبيعة،
تدفق الماء المنبعث من الأعماق
حيث الدفء يدبُّ من القيعان حتى ذؤابات الشجر.
انفجاره من بين الصخور الأزلية الحارسة
انسكابه على امتداد السهوب..
واختباؤه عميقًا عن الأنظار..
-استلهام الألم في نبض حياة الشّابّي
يقف الشابيّ
على هضبات تونس الخضراء
ينادي بعضًا من أيامه التي لن تأتي
أيامه التي ستصيبها سهام الحِمام باكرا بل باكرا جدا..
يفتش بين ثقوب شبّابته عن ترياق لتباريح روحه الهائمة، وتباريح قلبه المثقوب بالنهايات السريعة الفاجعة..
كان الشابّي الراعي الوحيد
يحيل عمر الكلمات أنهارًا لا تنضب
ويسرب النغمات “أناشيد حياة”
تضخم قلبُه الترف، فلم تطق الحياة نبضات حبٍّ زائدة فغادرها باكرًا..
الراعي جار القمر
يتضوع اللحن كما تتضوع الأزهار، شذىً
الناي خفقات قلب ناسك في خلواته
قال الراعي: كل هذا حياة!؟
ردّ الصمت: كل هذا وهم!
الراعي الوحيد
ينفخ من أوجاعه على اتساع الأصقاع
من أصقاع الروح
من قيعان الألم
من تناوش الأيام
من قرار اللاقرار
هكذا كنت
ريشة في مهب الزمن
زهرة عشب برية تنتظر الشمس
ليعتريها الذبول،
قطرة ندى تستكين على ساعد عشبة ناتئة تمد أياديها لعناق البهاء
والبهاء تحجبه الغيوم.
فيغدو الكون وكأنه سُكب في بلّورة من حرير الزرقة الحالمة.
تستفيق النغمات..
تتأهب أوراق الشجر للتراقص مع النسيم..
وفي مرابضها تجتّر الأغنام الحياة..
والراعي الوحيد يعود ليمكث على أطراف الشجن، يودِعُ أنفاسه أحشاء ناي.