-1-
كان هذا الرسام وجها غير ملحوظ في حديقة النبي، فهو يقضي معظم يومه نائما. وبعد أن ينزه حواسه قرابة ساعة من ساعات الضحى، جوار خميلة كثيفة الظل، يعود الى مخدعه النباتي ويستلقي في بحر النوم ساعات طويلة بل أياما متوالية. كان النوم حلقة وصاله بالنساء المريميات المكتنزات، أولئك اللاتي كان يلتقيهن في كراسات جبران، في عصر ممارسته الرسم الواقعي. وهن في المخدع الأخضر لا يفارقنه ساعة، يلتففن حوله بالأوضاع المساوية ذاتها التي أبرزت انسياب خطوط أجسادهن الريانة. وكن قبل ذلك ينسبن من صدوع ذات الرسام المنهارة كلما تبحر في شرخ حائط مرسمه، أو حاول تخمير ملاحظة عابثة على ظهر مقعد باص للأجرة، أو تلذذ بطعم مخروط البوظة. ثم لما أسلم وعيه للنوم، رافقنه وسكن تحت جفنيا.. النهود والأرداف والثغاه تزداد نضجا واستدارة، ما عدا الأقدام فتغيب في طيات الأ ردية الحريرية التي تعمق ثنياتها الخلفيات الجبلية والينابيع الجارية من هضاب (الجليل) المهابة. وتكتسي رسوم جبران بألوان الالهام الرافائيلي في الأسترد يو العظم المحوط بضجيع الحي المديني الغفير بالنفوس.
كانت مشقة الرسام المعلقة في حي (العشار) تترسم أثر مرجع موصول بالحي الصيني الذي أوى اليه جبران وأخرته مع أمهم في (بوسطن)، وكلاهما حي هو دون القمة الطبيعية لهضبة (بشري) لا حركة مهما بلفت درجة عنفها كانت لتوقظ الرسام أو تقطع وصاله الستمي مع مراجعه المعلقة. الستائر مسدلة نصفي النهار والليل، والجسد البارد يتب بينبوع النوم الأخضر في حديقة الأنبياء. س ى حركة مزعجة لالهام آخر، اهتدى لموقع الرسام النائم عبر أسلاك الهاتف. كانت الغرفة شديدة الاظلام، ورحى التعب تربض على ممدور الأحياء، حين رن جرس الهاتف في رأس الرسام النائم، مد الرسام يده ورفع المسماع ثم أدناه من أذنه، نسع صوتا قريب النبرات، بطيء اللهجة:
– أتوقعت صوتا مثل صوتي في يقظتك أو منامك؟
– ألو. من أنت؟ ما عدت أسمع مموتا منذ زمن بعيد، من أنت.
– مرجع من مراجع الهامك.
– مراجعي؟ انقطعت عني الأصوات والمراجع. لا تصلني سوى مرجعيات نومي. لم يتصل بي كائن منذ أمد بعيد.
– ومن تراه يتصل بك في هذه اللحظة؟ كيف تتوقع مشكل هذا الذي أوقظك من نومك؟
– لا أعرفك. صوت. مرجع غامض. سأعود الى رقدتي.
– لا تنم. اني صوت حبيب.
– ماذا تعني بالحبيب؟ لم أسعك من قبل. حس، كأن صوتك؟ صوت روح فر عونية سجل على شريط. أخبرك بذلك كي تدعني أنام.
– لا تنم. وصفك غريب. أجد سعادتي في هذه الروح. حقا انني روح قديمة. لكني الضبع الذي أغرى الأم المرضع كي تترك له طفلها الذي تحمله بين ذراعيها.
– انك تتحدث عن أحدى لوحاتي.
– نعم. اي مرجع تعبيري قديم. لكني لست فرعونيا. فقد نهضت في تلك اللوحة الى جانب المرأة من أور.
– حقا. استعرت شكل المرأة من دمية قديمة. نقلته عن صورة في مجلد آثاري نقلا فوتوغرافيا. كنت رساما موضوعيا. نقلت شكل الدمية بتفاصيله. ألم تلاحظ الشقوق والتصدعات التي سببها مرور السنين؟ لم أفسر شيئا، قدمت موضوعا مرسوما بدقة متنامية كما تتذكر. الأرض الجافة متشققة، ومن هذا المستوى المجدب انبثقت الدمية المرضع في لوحتي.
– لكنك رسمتني ,ازاء الدمية برأسي المتحفز من شقوق الأرض، وسوائل شدقي المخاطية تفضح شهوتي وتضفي على اللوحة تعبيرا مرعبا. كنت رساما تعبيريا.
– مادمت تصر على ذلك، وأنت شاهد على اللوحة وجزء منها، فائ أفضل أن تقدم الفكرة والموضوع على التعبير، لقد رسمت وجه الدمية القديمة كما هو، وجها لا يشبه امرأة من البشر في زماننا، في الأغلب وجه مسخ، امرأة من الممسوخات، يوم أن كانت النساء الممسوخات تمتلكن عاطفة الأمومة وتقدرن على رعاية أطفالهن من الضباع. الا توافقني على ذلك؟ لقد بنيت موضوعا على علامة محايدة منقولة من فضاء الى فضاء، ومن أرض الى أرض، ومن مرجع الى مرجع. صارت اللوحة هي أرضي، كما كان الطفل هو ابنك. أما الدمية فهي جزء من ذاكرة حاسوبية فصلت الشكل الملتقط عن فضائه الميثولوجي قبل ستة آلاف عام واحتفظت به حتي اليوم. كانت لوحتي استعارة مؤقتة من الذاكرة الأبدية. وبعد سلسلة من اللوحات، أخذت أستعير حوريات جبران. إنهن يسيرات في النوم. فضلا عن أن لا أرسم شيئا يمكن تخميره بعد الآن. انني في لحظة ما فوق الرسم. ألست محقا؟
– تفسيرك مدهش. يحزنني ويدحري. لك أن تعدل ملاحظتي عن تعبيريتك بتحريف بسيط. سأقول إنك رسام موضوعي تعبيري من اليوم فصاعدا.
– ليس هذا تحريفا بسيطا، إنما هو تعديل أساسي في فن المفاهيم والموضوعات. انني أنتقل، أنتقل.
– حقا حقا. لكني، لكني لن أدعك ترجع الى نومك.
انقطع الصوت الهاتفي قطعا مفاجئا، وانبعث طنين حيواي مومش من قرارة المسماع، وترنحت رسوم النوم في ذاكرة الرسام حالما أعاد المسماع الى مكانه على الهاتف. بحث عن زر المصباح على منضدة السرير وضغط عليه. اخترقت الدقة الواهنة التي أحدثتها حركة الزر الفراغ المظلم مثل قذيفة مطاط، تذكر الرسام أن قشعريرة التعبيرات المجازية تسري في اوصاله ما ان يحدث انقطاع مفاجيء في تيار نومه، أقنع ذاكر ته نصف النائمة بانقطاع التيار الكهربائي عن الحي الذي يسكنه، ونهض باتجاه النافذة.
أحل في طريقه على ملحق الحجرة، القسم الذي يتخذه مشغلا معزولا عن فسحة سريره، فلم يتبين مشيئا في الغياب المشيد على عقود الظلام.
تعثر بسطل ماء، وفرشاة تنظيف، بشي ء آخرلا يتذكر شكه أو وظيفته، قطع خلفية وجوده السابق كله ورافق خط رحلته المعكوسة الى رحم الرسم الى المرجع المغيب في زر الكهرباء والنافذة التي تعزله عن الحي. أزأر الستارة فالحل قمر صحراوي أنار أرض الغرفة وأعاد للرسام اسمه، فتذكر شكل العالم تحته، وزوايا الجدران والنوافذ المقابلة لشقته، وعيون الكلام وهي تتناهب بمخالبها وأسنانها كرشة خروف منتنة. أيقظ نباح الكلاب نساء جبران فأخذن يراقبن المشهد المرتبك للحي والكلاب من فوق كتفي الرسام النائم. أما الرسام الذي أرهقا الرجوع الى جذر الموضوع المعكوس في عيون الكلاب وهريرها، فقد ازداد حنينه الى أحضان نسائه المعشبة، واستسلم لهن، يحطن به ويقدنه الى السرير، ليزيل هلعه في عيونهن
-2-
بعد أيام، رن الهاتف ثانية، واستمر رنينا دقائق متواصلة مدة الدورة الكاملة لسهم فضي يرسم هالة حول وأمر جمد جبراي، خرج من بحيرة (طبرية) واستلقى تحت صخرة، مسترسل الشعر، مشرق الجبين. ترك الرسام الجسد لراحته ورفي مسماع الهاتف. قال الصوت المضبوع:
– الانتظار شيء له قيمة خاصة مع كائنات رمزية. أعني المساحات الهائلة لصمت التكوين ولا شيء يلوح في الأفق. ثم تظهر تفاحة حمراء مقضومة. حمراء باللون الياقوتي النقي لقلب الخنساء المفجوع، تتدحرج نحوك. ما أدل التفاحة على حواء الخالدة تتلقفها الخنساء بدلا من جمما أخيها القتيل. قلب متدحرج منذ أزمنة يمتقع أخيرا بين يديك، ما رأيك بهذه المقدمة التعبيرية؟
مرة أخرى يبحث الرسام عن حيلة للا فلات من شبكة الضبع التأويلية، فيقول بتكاسل وبطء:
– لم تكن لي حيلة في هذا التكوين. التفاحة الحمراء المقضومة في لوحتي التي تتحدث عنها ظهرت بمساعدة الكمبيوتر. أنت أيضا ظهرت مع ضباع أخرى في حديقة الحيوان. كلانا أيقونة في حدائق الشاشات الخضر.
– أتعتمد في وسك على مصادفات هذا الجهاز الخداع؟
– لا. لكنني أهرب اليه كما هرب فتية طرس س من دقيانومر الى ظل الكهف، لقد جرت تبالات كثيرة خارج الكهف، الا أن الأخوة النائمين كانوا في حصن حصين من ~ثيرها. كانوا يحفظون طاقاتهم ويحرسون ايمانهم غارقين في نومهم الطويل. انني أمام شاشة الكمبيوتر واحد من أصحاب الكهف أرقب ما يتبدل أمام عيني ثم أرمم ما أشاء. إن الكومبيوتر حديقة المراجع النائمة.
– بل هو مقبرتها يا صاحبي، س ى أن رائحة الجثث فيها غير منتنة. أتحرق الى الضحايا المطروحة تحت المثممر والذباب في آذان رؤوسا المقطوعة وعيونها المقلوعة ما أشهى الولائم الخلوية تلك.. ولائم المراجع المدعاة.
– ما عدت تصبر على ضحاياك، سأرجع الى النوم. ألف عام من النوم.
– قبل أن تنام، اسع مني هذه الحكاية ذات الأصل الهندي: كان رسام طقوس الملك يبحث في محرقة الجثث عن مشجرة (الفاتا) كي يضمنها لوحة من لوحاته. كانت الشجرة التي ينبعث حولها الدخان دائمة الخضرة، أزهارها البيض، الجليدية البياض، تفعلي بشذاها على نتن الجثث المحروقة. انتظر رسام الملك حتى حلول الظلام وقصد المحرقة. وهنا يظهر أحد اتباع الشيطان في زي متسول، كما ظهر في المكان الأصلي للحكاية، أمام الرسام زي العباءة الزرقاء، هدية الملك اليه. ويخط على الرماد والجمر دائرة سحرية بمسحوق العظام الأبيض. يقترب الرسام من المتسول ويسأله عن سبب تسكعه في المحرقة. يتجاهل تابع الشيطان سؤال الرسام، ويطلب منه أن يحدق مليا الى دائرته ولا يرفع عنها بصره. تتحول حدقتا الرسام الى جمرتين بعد دقائق من التأمل في لهيب الدائرة، ثم يبرد الحريق وتنجلي لعينيه أروع لوعاتا العالم. "سأرهن لديك عيني يا سيدي مقابل أن تعلمني رسم الروائي التي شاهدتها في دائرتك"، قال الرسام، "أهنئك يا صاحبي على جلدك وحدة بصرك. لم يصمد رسام غيرك لجمر دائرتي. انني هنا بانتظارك"، يرد المتسول. "إنني خادمك يا سيدي. مرني فسأطيع". هكذا تلهف الرسام. عند ذلك يطب تابع الشيطان المتنكر من رسام الملك طلبا خطيرا مقابل أن يعلمه رسوم الدائرة.. أخبرني يا صديقي بطلب التابع الشيطاني فأدعك تنام هادئ البال مع نسائك.. تذكر يا صديقي أي حرفت الحكاية الأصلية تحريفا أختبر به صدق مراجعك وقوى نومك التي تزعمها.
وقت الاجابة في الحكاية الهندية موقت الاجابة عن سؤال الضبع متساويان في حديقة النوم الجبرانية. وفى أثناء صياغة الجواب، كان الهيكل المتحرق هناك قد بلغ أقصى طاقات صبره. سمع الرسام مريف أنياب الضبع وحكاك جلده وبلعمته وتحلب مخاطه على الطرف الآخر المجهول، قبل أن يجيب بتأن:
– لم تحرف الحكاية الهندية فحسب، ولكنك حرفت أيضا مضمون آخر لوحاتي التي بدأت برسمها قبل نومي. لم أتوقع تأويلا لوجود المشجرة في لوحتي أوسع من تأويل الحكاية التي سردتها لوجود المتسول في المحرقة. لكني سأمضي وراء تحريفاتك.. يلذ لي أن أقهرك. طلب المتسول من رسام طقوس الملك أن يحتال حيلة يدخله بها الى قصر الملك، فرسم الرسام لوحة تتوسطها شجرة (الفاتا) ودخان المحرقة المتصاعد حولها يكاد يخفي مشكلا قابعا بين أغصانها الجرد. كان ذلك الشيء المختفي بومة تومض عيناها في الظلام كجمرتين، ثم حمل لوحته الى الملك. لم يرسم رسام في المملكة لوحة قبل هذه تنطق بالرعب وتتحدى شجاعة قلب الملك الذي بدأ يلحظ قدره المحتوم معلقا أمام عينيا بين أغصان الشجرة. الى هنا تتوقف مهمة رسام الملك الذي أدخل تابع الشيطان الى القصر، وينتهي جوابي عن سؤالك. وعلي الأرجح أنك ستعود الى الحكاية الأصلية وتطلق حوادثها ليتخلص الملك من محرتابع الشيطان، أوانك متاعه الى مصيره.. أما أنا فما عادت تلك الحوادث تعينني على رسم لوحات سحرية.. أستطيع متى مثئت الفرار من دائرة الشيطان والعودة الى نومى.
انقطع الخط، وهرب الضبع. أضاء الرسام مصباح سريره، ثم نهض يتبع خيط النور المتسل بين قدميه الى الملحق الذي يضم عدة رسمه. لم يكن ضوء المصباح يرسم حدود أشياء من الملحق، عدا جهاز الكمبيوتر وملحقاته، وجهاز رش الأصباغ، وثلاث لوحات متساوية الحجم على الجدران. أزاح الغطاء عن الكمبيوتر وجلمر تجاهه على المقعد الجلدي الواطيء، في شبه ظلمة تحاكي غسق الكهوف البيزنطية، أوصل التيار، وربط الحاسوب بجهاز الراسم، ثم فتح نوافذ برنامجه بضغطات متواصلة على ظهر الفأرة. ومضت على شاشة الجهاز المستطيلة أيقونات لوحته الأخيرة، كما كانت مخزونة قبل
نومه، ينتقل بينها المؤشر مثل ذبابة خضراء. كانت العين المستطيلة الوامضة تحدق الي عيني الرسام، مصرحة باستعداد الجهاز محاكاة البيانات والأشكال التي يوعز اليه بايقاظها من مخزن الذاكرة. تأمل الرسام النوافذ ثم طلب من الفأرة أن تدخله الى المحرقة. أغلقت النوافذ الأخرى، وظهر على المرقاب المستطيل تصميم محاك لشجرة (الفاتا)، والى جواره ثلاثة تصاميم محاكية للبومة. فكر الرسام بفحص أجزاء أخرى من اللوحة المخزونة، وطبعها على الجهاز الراسم، عندما نقلته الفأرة الى نافذة الضبع. ظهر هذا متربصا خلف شجرة الفاتا، متسللا الى البرنامج. ولما هم الرسام بالايعاز الى الفأرة في طرده انقطع التيار الكهربائي فجأة، وسقط الرسام في دخان المرجع الذي لفه بعتمته ونتانته.
-3-
لم يعد الرسام الى النوم حالا. انتظر قدوم حوريات جبران، وكن في سياحة بين الحدائق المعمدانية في هضاب (السامرة)،مرت ليال بلا ضوء ولا نوم ولا صوت ثم أيقن أنه لم يكن ينتظر – في حقيقة الانتظار – سرى قرقرة الحيوان المتحفز في صومعة الهاتف البعيدة، الموصولة مع صومعته الخشبية المعلقة بالخط الأهود البارد.. انتظار طويل ويقظة مؤلمة، وتجاهل قاس، وبرنامج معطل. كان ينتظر – في حقيقة الانتظار – عودة التيار الكهربائي كي يطارد على الحاسوب مرجعه الذي انقطع عن الاتصال به. وأحمى بسوائل الاشتياق تسيل من زاويتي فمه على فكيه، سوائل صمغية كان يحتاجها ليثبت بها ألوان لوحاته. اشتاق الى أشجار الصمغ، فقد انبأه حسه الحدائقي بموسم تشقق اللحاء العتيق وميلان السائل الكهرماي من الشقوق. أجل، خرجت الحوريات لجمع السائل السلي في قوارير من خزف الآلهة. سيتبعهن قبل أن يدركهن قطيع الضباع ويرتشف السائل المتقطر من شفاههن. زاد ألمه وهو يسبق مخططات برنامجه المنسا بة وراء الشفرات التي متصلبهن على أشجار الصمغ، يتشقق جلدهن مثل لحاء قديم. يشتاق، في حقيقة امثتياقه وانتظاره، الى استباق التحريف المندس في البرنامج وتصحيح مخطط الضباع.. أي عذاب، أي ظلام، بل أية صحرة تقيد حركة انتقاله على لوحة المفاتيح.
كان على ثمنا الانهيار التام، فقدان الذاكرة والتحكم في مراجعه، عندما عاد النور المقطوع الى الحي، فهرع الى حاسوبه، وانسل عبر نافذة في برنامجه المتكامل، طابعا كلمة السر التي ستسمح له بالوصول الى جزء فرعي يخزن عملية بحث عن حديقة الصمغ. نقله رمز الأمر المطبوع في لحظة خاطفة الى الطرف الأخضر من ذاكرة البرنامج، وشاهد نفسه على مرقاب الجهاز يعير في شارع خلفي يمتد حول الحديقة متفرع من شارع المسفن. كان يستعجل الانتقال من أشجار البحث الى أشجار الصمغ، غير أن البرنامج أخطأ فهم لفته، وضل اتجاهه. ابتدأ خطوات البحث من جديد، مستخدما لفة تأليف عالية المسترى في الايعازات، لغته الخاصة في التفاهم مع جهازه، فأعادته الترجمة الصحيحة للأوامر الى مساره السابق. انه في شارع المسفن نفسه، يشاهد على المرقاب كتيبة من الدمى الزاحفة تتدفق على باب حديقة الصمغ. بلفة التأليف الحاسوبية، كان الجهاز يترجم هجوم الزواحف في سلسلة من الأشكال الرمزية الغامضة. طلب الرسام توضيحا أدق من البرنامج بلغة التأليف البشرية للرموز، وطبع أمرا بالغ السرية. اقترب من هدفه، وبدأت الآلة تهاج الغموض بكفاية أكبر، ولغة أوضح، وأجابت عن سؤال الرسام بسلسلة جمل مرتبة على المرقاب: "الكائنات المهاجمة طليعة كتيبة برمائية. أفرادها مكممون بأقنعة واقية من الغاز. غادروا توا المرسى الحديدي العائم. يركضون الآن في شبه انحناءة الى الأمام تميز الغزاة المدججين بالنوايا الشريرة قبل السلاح. بزاتهم المطاطية التي تخفي حقيقة أجناسهم مسلحة بدبابيس شاكة تفنيهم عن الآلات الدفاعية. لا سيما فيهم تترجم حقيقة هجومهم سرى أنهم يمسكون بخراطيم تتصل بأوعية كيمياوية محمولة على ظهورهم".
تجاوبت فقرات التقرير السريعة الانسياب مع الفزع الانساني الذي يصمغ بنان أصابع الرسام، فأخطأت الآلة تحليل رسائله التالية والاستدلال منها على هدفه. بوغت بالهجوم، وعبقته العناصر الكيمياوية الى حديقة الصمغ، وتدفق السائل الكهرماني الى الشوارع فأغرقها خلال فترة فشله في الاتصال بالجهاز. أسك الصمغ السائل بمراجعه، وظهر على الشاشة بلاغ أخير بلفة التأليف البشرية، مترجم عن لفة الآلة الشفوية، تراقصت كلماته الكهرمانية أمام عينيا المحدقتين الى العمق المظلم للجهاز: "عثرت على لوحتك أهنئك. طغراء الصمغ بين يديك. انتهى".
لم يعان الرسام مشكلة في تحويل العبارة الختامية المشفرة الى شكل تجسيمي على الورق. رسم شجرة (الفاتا) ترش من شقوقها قطرات سغ تجمعت في أسفل الجزع وشكلت قطرة عظيمة الحجم. قطرة واحدة رائقة بلون الشفق المنعكس على مياه نهر حياته الذي يجري في ذاكرة حاسوب كوني، ويحمل تيار أعماقا طغراء الصمغ التي تمسك داخل خطوطها بصورته وصور نساء جبران في اتحاد لا يتفتت ولا يحيل.
عندما دق جرس الهاتف، تركه الرسام يرن في نوبة جديدة من انقطاع النور عن الحي. حدس ما سيقوله الصوت في الطرف الآخر، وهو يعلن انتصاره عليه في مقبرة الحاسوب المرجعية.
سيعود الآن الى نومه، منتقلا مع طغرائه التي تحبسه ونساءه الى ظل شجرة في حديقة الأنبياء.
محمد خضير (قاص من العراق)