يحيا إلى الأبد من يحيا في الحاضر
فتغنشتاين
قد لا يكتشف إنسان عصرنا في اليومي الذي يلفه سوى ذلك الحضور الكثيف والمربك للرتابة المضجرة والروتين الممل. وقد يحمل هذا الإسم كل أشكال الإدانة لوجود لم يعد محتملا بسبب تحوله إلى عادة منهكة تمارس بفعل نفوذ التكرار. إلا أنه رغم ذلك يظل مشدودا إليه لأن فيه يعثر على ما يمنح وجوده مضمون التجربة أي الوجود كحاضر يدوم.
فاليومي الذي رادفه الابتذال حتى صار أحد إبدالاته اللغوية، لم يكن في عمقه سوى السؤال المنسي للآخر، والقلق المتبدي من تلك الإرادة العنيدة التي تواجه إرادة الذات، والتي تظهر نفسها في صلابة الأشياء الموضوعة في متناول اليد والمنثورة ملء عالم يلف وجود الإنسان ويشكّله. لأن هذا الوجود ليس فكرة محضة أو شكلا خالصا منجزا سلفا بل هو تحققات يمنحها الحاضر ويصوغ إمكاناتها. فوحده موجود من يحيا حاضره. أو كما قال فتغنشتاين «يحيا إلى الأبد من يحيا في الحاضر».
لذلك معنى محدد، هو كون اليومي امتداداً للجسد، إي للرغبة ومايشبعها، وما يقاومها،بل حتى ما يتلف موضوع إشباعها. وإن ظهر اليومي في شكل أنظمة قاسية محسومة المقدمات، متمنعة اتجاه إرادة الذات، فذلك لكونه ينتسج كمجال يكتشف فيه الإنسان حريته كمقاومة أي كمجهود وليس كإمكان. وهو ما يجعل من هذا اليومي في رتابته المملة وركاكته السؤال الفعلي المتحرك خارج اللغة للتمرس العملي على الحرية، وهو ذلك التمرس الذي يمنحه الحاضر ويتشكل من إمكانياته، ويصلح ضمانة لقدرة الإنسان على تحمل مهمته التاريخية في مواجهة حدوده.
إن الهروب من التفكير في اليومي، وبه، ليجسد نسيانا لعمق التجربة الإنسانية، وهي إقامتها في الحاضر، وانتماؤها للحظة. فمن يخرج اليومي من أفق فلسفته يخرج منه أيضا سؤال الجسد والرغبة والحرية، أي سؤال التاريخ برمته(1). ففي قلب الإحساس المضجر من مظاهر اليومي، يوجد توق فعال للتحرر منه.
إن وضع اليومي في تعيناته الأكثر تفاهة في قلب تناول فكري، لكفيل باستدعاء أعمق إشكالات الوجود الإنساني ورهاناته، لأن مسألة الحياة في صلبها هي مسألة أسلوب في التحرر، ولأن نموذج الأخلاق ليس العلم وإنما الاستيطيقا، ولأن المهمة الأسمى للكائن الإنساني هي أن ينتزع أبديته من إحساسه الجميل والممتع بحاضره.
الرغبة.. إيتيقا كائن الحداثة
ما الذي يمكن أن نرغب فيه؟ وما الذي باستطاعته إشباع رغبتنا؟ وكيف نتشكل كذوات راغبة؟ وما ذاك الذي يشتغل في صلب وجودنا كرغبة؟ إن إثارة سؤال رغبتنا لا يهم ذاك الجانب الهش والعابر من وجودنا وهو الجانب الشخصي من كياننا، وإنما يتجاوزه إلى روح العصر الذي يشكلنا. إنه المحك الذي نطرح عليه حدود حريتنا، ونسائل من خلاله انتمائنا للتاريخ ونستعيد عبره شهوتنا الدائمة في الحياة التي تؤمّن استرسالا في المغامرة البشرية(2).
ظلت الرغبة مجال اختبار الغموض الأصلي للتجربة الإنسانية والتباسها. ومع اسبينوزا أعيد اكتشافها باعتبارها الماهية الأكثر جوهرية للإنسان. وظهر التاريخ في جدل السيد والعبد في المنظومة الهيغلية متاحا بكامله كحصيلة لنمط محدد من الرغبة هي الرغبة في الاعتراف. وبدت فيما بعد نهاية التاريخ باعتبارها التحقق الفعلي لما يشبع هذه الرغبة. وحدد الإنسان في جوهره كرغبة في الوجود. ورفعت فلسفات النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين تحديا كبيرا من أجل تحرير الرغبة وتحويلها من مجرد طاقة يحكمها قانون النقص إلىشكل من امتلاء الحاضر الذي ينشده الكائن الحداثي(3).
شكلت الرغبة إذن ذلك النتوء الذي فيه ينفصل الإنسان عن النظام الحيواني، والذي به يظهر ككائن يعلو عن نسق الحاجة الذي يحدده ويحوله بالتالي من نظام للضرورة إلى حرية متعينة في الحاضر. إن كائن الحداثة هو ذاك الذي يعي جيدا أن زمن سعادته هو حاضره معقل تحقق رغبته، وأن هذه الرغبة هي المصنع الحقيقي للقيم ومعمل المستقبل ومحرك التاريخ. إننا نعتبر جميلا ما نرغب فيه يقول سبينوزا. والأشياء تظهر ذات قيمة عندما تنفتح في أفق الرغبة. لماذا لم يكن للحيوان تاريخ ؟لأنه لا يصنع مستقبلا، لأنه ظل محكوما بمنطق الضرورة الطبيعية، ولأنه ظل حاجة، أي افتقار، وليس رغبة، أي حرية.
ترى أية دلالة ستبقى للمستقبل إن لم يكن الأثر المباشر للرغبة؟ سيظل المستقبل مفتوحا أمام الإنسانية طالما ظلت كيانا راغبا يشكل التاريخ في تذبذبه وتردده وعنفه الأعمى وصخبه محاولة مستمرة لإشباعه. نعثر في ذلك على تكرار أبدي لأغنية تريستان: «لأي قدر ولدت؟ من أجل أن ترغب وتموت، من أجل أن تموت من الرغبة». تلك خلاصة ملحمة الإنسان.
حاولت الفلسفة المعاصرة القطع مع التاريخ الحزين للرغبة الذي كانت تظهر فيه اللذة باعتبارها فشلها الأبدي. حيث لا يكون للرغبة من قيمة إلا كعلامة على العجز البشري، وكدليل على انتصار العدم طالما أننا لا نرغب إلا فيما يعوزنا وينقصنا. يأتي ذلك حسب تصويب سبونفيل بسبب الخلط بين الرغبة والأمل الذي هو نقص لأننا لا نأمل إلا فيما لا نملك ولا نستطيعه(4). لذلك اعتبره سبينوزا قلقا وعجزا وجهلا. يجعل ذلك من الرغبة إمكانا يدور حول مبدأ يقول أن الحياة الحقيقية لا يمكن إثباتها إلا كغياب دائم، أي كنقص وحرمان.
يبدو التحرر من هذا التاريخ الحزين مستوعبا للمشروع الحداثي بكامله لأنه يحمل في عمقه إعادة الاعتبار للحاضر في مواجهة أي مستقبل أسطوري، وتمجيدا للجسد واللذة، وتثمينا للرغبة لأنها المجال الوحيد لأي اختبار جمالي للوجود، وإثباتا للحياة في مواجهة أي نزعة عدمية «هناك فعل، وهناك متعة، وهناك لذة، عندما نرغب فيما نفعل وفيما نملك وفيما نحن إياه، أي عندما لا نرغب إلا فيما لا ينقصنا» يقول سبونفيل: «إن الرغبة ليست نقصا. الرغبة قوة والحب متعة»(5)خلاصة ذلك أن الكائن الحداثي لا يعيش إلا باسم رغبته في الحياة، تلك الرغبة التي تجعل الأخلاق تجد نموذجها في الفن وليسفي العلم لأن الأخلاق في هذه الحالة ستكون استيطيقا تسمح للحياة بأن تكون محكا ممتعا للوجود. ولأنه كما قال ميشال أنفراي «ليس شرا أن نحيا، لكن أكبر الشرور هو أن نحيا على نحو سيء.» (6)
متعة اللحظة.. وجمالية الحياة
الجمال.. أية حاجة تدفعنا إليه ؟ إن ذلك لا يخص تحويرا في السؤال من ماهية الجمال إلى الحاجة إليه، من الموضوع إلى اندفاع الذات. بل يتعلق بفتح منفذ يتيح النظر إلى تجربة الإنسان المعاصر.
هناك دائما ما يؤسس لعطشنا اليومي للجمال لأن الإنسان في صلبه ندرة خالصة، كائن موسوم بعبوره السريع، وليس له سوى اللحظة لينتزع منها ما يجعل من وجوده متعة.
ترتسم الحاجة إلى الجمال بالنسبة لإنسان اليوم مهما تضخمت أشكال الفرجة أمامه من السينما إلى التلفزيون إلى الشاشات الإلكترونية الصغيرة والملاعب الشاسعة لكرة القدم وحلبات الرقص وخشبات المسرح وقاعات الأوبرا وألعاب الفيديو.. هناك ربما فرجة أكثر حتى من اللازم، لكن بالرغم من كل ذلك هناك حاجة للجمال وللمتعة التي يرسخها. لا تترجم هذه الحاجة في عمقها سوى بحث إنسان اليوم وهو كائن اللحظةعما يجعل من حياته في عبورها وتناهيها تحفة فنية.
إن تجريد السماء من أي حضور ثقيل قد سمح للأرض الممتلئة أن تثبت نفسها، أن تعمق بالمقابل حضور الإنسان وتقويه. ذلك ما يسمى في معجم بعض الفلاسفة المعاصرين (سبونفيل، أنفراي) بواقعية المحايثة، التي هي واقع الهنا والآن الذي فيه ومن خلاله تفتح المغامرة الجمالية لإنسان اليوم منافذ للتعبير عن نفسها.
لا يرتبط ذلك بالرغبة في ترميم مظاهر القرف التي قد تحيط بالتجربة، التي من خلالها يتحقق الوجود الإنساني ويأخذ مضمونا فعليا، أو تجليات البشاعة والقبح التي تستبد بالواقع. وإنما بالأحرى البحث عما يقوي الرغبة في الحياة، لأنها تتضمن إمكانات المتعة.
وخلافا للتفكير الكلاسيكي الذي يجعل من التجاوز والتعالي أساسا للفعل الفني الذي يبتغي تحقيق قيمة الجمال، فإن أساسه المعاصر الذي تكرسه تجربة الأجساد والحواس معا، يكمن في السعي الدائم نحو الحياة والتحفيز على ممارستها.
لقد تنبه الفلاسفة المعاصرون أن التحفة الحقيقية الجديرة بهذا الإسم، أي التحفة الفنية التي تستحق اعتناء وتمجيدا ومجهودا دائما لتجميلها، ليست هي اللوحة المعلقة على حائط ميت، أو تمثال، أو أغنية حتى، وإنما هي حياة الفرد عينه في عبورها وتلاشيها. إن الأثر الفني الحقيقي الذي يمكن للفرد إبداعه لا يمكنه أن يخلفه وراءه، هو حياته التي لا يمكن أن يغادرها وهو حي. والمجهود الفني الحقيقي الذي يبذل في هذا الصدد هو ابتكار أسلوب جمالي لممارسة هذه الحياة لجعل تجربة العبور والتناهي فضاء خاطفا وأبديا للمتعة.
فالمبدأ المعاصر للجمال يتركز في كون الحياة تتضمن إمكانات المتعة ولهذا بالضبط تستحق أن تعاش. فالخير لا يبرر أبدا سعينا للحياة، المتعة تفعل ذلك. بل وتمنح تحفيزا وقوة لهذا الشغف.
والممارسة الممتعة للحياة تفترض مصالحة مع الحواس وتمجيد إمكانياتها، وتجاوز منطق الأخلاق الحزينة بتعبير فورييه التي لا تجد خيرا إلا حيث تقمع الرغبة وتزدرى الحواس ويمجد الكبت ويرفع من شأن الحرمان فيسمى فضيلة. إذ ليس هناك من شر يصيب الإنسان أكبر من معاداة حواسه وتحقيرها.
إن الجمال في عمقه هو اعتراف بقيمة الحواس وسمو شهوتها. ما الذي يمكن أن تكونه لوحة جميلة إذا لم تكن مغازلة لشهوة العين واحتفاء بحاسة البصر،و ما الذي يمكن أن تكونه معزوفة رائعة من الموسيقى إن لم تكن تقربا من الأذن وفتنة السمع.. ومالذي يمكن أن يكونه جسد جميل إذا لم يكن أفقا لرغبة.. إن الجمال هو تحفة الحواس. لذلك ظل الفن في كل العصور حتى أكثرها ظلامية ممارسة تنويرية. لأن التنوير الحقيقي ليس هو الذي يجعلنا نعيش تحت هدي العقل ونوره، وإنما ذلك الذي يحرر الحواس ويرفع من شأنها ويمجدها لأنها هي التحقق الفعلي لتمجيد الإنسان والرفع من قيمته.
ليس للأعمال الفنية من عمر. فهي لا تشيخ، لأنها تمنح حواسنا خلودا وانتشاء أبديا. وتجعلنا نغادر الحياة ونحن ما زلنا أحياء. إن الفن هو الحامل الحقيقي للسمو الدائم للحواس وشهوتها، وللأبدية المفتوحة أمامها، لأن هذه الأخيرة ليست إقامة خارج الزمان، بل التقاطا خاطفا لنشوة حسية دافقة، تجعل الجسد يفيض خارج حدوده.. الأبدية إسم آخر للذة.
لماذا نحن، إذن، في حاجة إلى الجمال ؟ لأننا في حاجة إلى حواسنا، وإلى متعتنا الخاصة بالوجود وشغفنا الدائم بالحياة، في نزوع مضاد لما كان يسميه فورييه بالأخلاق الحزينة، التي تحمل قرفا من الجسد، وتجعل الموت مبدأ متحكما في الحياة. أو تحول هذه الأخيرة إلى تفرع جزئي من مشروع عام هو الموت، مشكلة بذلك امتدادا لتلك النزعة الأخروية التي تؤهل المثل الزهدي ليصبح نموذجا سياسيا للتحكم في الحياة والسيطرة على الأجساد فيعتبر أن كل ما يترتب عن الحواس مجرد خيال ووهم وكذب وخداع ليس له نصيب من الحقيقة، وأن الواقع الحقيقي الذي يستحق شرف هذا الإسم غير مرئي لا تطاله حواسنا، وأن الجمال الحقيقي هو جمال المفاهيم والأفكار والمثاليات، أي كل ما يفيدكما قال نيتشه في «أن يتعلم الإنسان احتقار أولى غرائز الحياة، وأن تبتدع أكذوبة الروح والعقل من أجل سحق الجسد، وأن يعلم النظر إلى أولى شروط الحياة، إلى الجنس على أنه دنس، وأن يسعى لاختلاق مبدأ للشر داخل أعمق شروط النمو..» (7)
الحاجة إلى الجمال هي الحاجة إلى ما يشتغل ضد الأخلاق التي تعمل لحساب الموت وتمنحه قوته، إنها الحاجة إلى إنصاف الجسد وإعادة تثمين رغبته وتقديس شهوته للحياة وتحرير حواسه. لذلك فالشكل هو أعمق ما في الإنسان. وفي ظل ذلك يمكن أن نفهم قول نيتشه في إرادة القوة «للفن قيمة أرفع من الحقيقة». لأنه النموذج الأقوى والأكثر ملحاحية لأخلاق الحياة، أي تلك الأخلاق التي لا تأمر ولا تنهى وإنما تمكن الإنسان من ابتكار أسلوب جمالي لوجوده الفردي ينعكس فيه تقديسه لحريته الخاصة محفزه الأساسي هو المتعة ونشوة الحياة المتاحة من خلال رغبة الجسد، شهوته ولذته…
الهوامش
1- : Michel Onfray Théorie de voyage : poétique de la géographie . paris 2007 /P : 56
2- : Miguel de Unamuno : Le sens tragique de la vie. Gallimard 1937
3- :André compte sponville : Petit traité des granes vertus. PUF 1995. P 385 .
4- :André compte sponville. P : 368
5- : Sponville.P 368
6- :Onfray : L’art de jouir . Grasset 1991 . P 136
7- : نتشه: هذا الإنسان. ترجمة علي مصباح دار الجمل ص 163.
عبد الصمد الكباص
كاتب وناقد من المغرب