جميل الشبيبي
كتب الروائي رواية (الضفاف الأخرى- دار العودة ط1 1973) في الكويت، في العام الذي نشرها فيه، وفق الرسالة التي أرسلها لي في 1974/1/15، بعد أن استقر في الكويت إثر هجرته من البصرة ابتداء من عام 1966، وهي كما يذكر الروائي في (كلمة) في مقدمة الرواية: (محاولة لمتابعة بعض شخوص الروايات الثلاث السابقة ضمن خط زمني واحد متطور) والروايات الثلاث التي يقصدها هي: كانت السماء زرقاء، الحبل، والمستنقعات الضوئية، وكلها كانت قد أنجزت في مدينة البصرة قبل هجرته إلى الكويت.
وقد صدرت الطبعة الأولى من هذه الرواية عام 1973، ولم تنل –على وفق متابعتي لكتابات الروائي إسماعيل– المكانة التي تستحقها من النقد بوصفها نقطة تحول في وجهة نظر الروائي عن الحياة، وجدارتها في تجريب نمط جديد من الكتابة الروائية لم يكن مألوفا في بدايات سبعينيات القرن العشرين، ومن أهم أسباب عزوف النقاد عن ذلك أن هذه الرواية، تنعطف انعطافة كبيرة نحو اليسار وتمجد الالتزام وتهجر الأفكار العبثية والتساؤلات الوجودية التي كرستها الروايات الثلاث وخصوصا رواية (كانت السماء زرقاء)، وتعمد في شكلها الجديد إلى تقديم شخصيات ثانوية تصنع الأحداث بصمت وفاعلية ولا تتحدث عن نفسها كالعاملين الفنيين: احمد عبد الله وجعفر علي بالتعاون مع فاطمة عشيقة بطل كانت السماء زرقاء التي كانت ضحية بطل الرواية سابقا، أما هنا فهي شخصية فاعلة متضامنة مع المضربين عن العمل، في حين يهمش الروائي شخوصه الناطقين في كل فصول هذه الرواية، ويجعل منهم شخوصا ثانويين على هامش الحدث الروائي (الإضراب) مثل كاظم عبيد بطل رواية الحبل، وكريم البصري المستوحى من شخصية كريم الناصري بطل رواية الوشم للروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، أما فاطمة (ذات الثوب الأزرق في كانت السماء زرقاء) فهي تسرد الماضي المضبب عن أفكار عشيقها بطل كانت السماء زرقاء، وترسم من خلال تداعياتها أفكاره الكاذبة عن الحرية ومقولاته عن الالتزام: (المشاغل الفردية تنمحي في مشاغل المجموع ص 17) أو (المواجهة الفعلية تخلق الوعي ص 17) بوصفه كلاما فارغا لا معنى له حين يقرر الهروب إلى جهة مجهولة قبل أربع سنوات من زمن الأحداث الجديدة ويتركها مع ولده من امرأة أخرى.
البداية: الوقوع في شراك مستنقع الذات
كانت بدايات مشروع الروائي إسماعيل في الكتابة في البصرة، بداية ستينيات القرن العشرين، إصداره مجموعته الأولى (البقعة الداكنة) عام 1965، من منشورات مكتبة النهضة، وقبل مغادرته إلى الكويت بأكثر من سنة، وتضم هذه المجموعة في طبعاتها المختلفة ست قصص هي (البقعة الداكنة، يوم في حياته، لأكن قنوعا، المهمة الثقيلة، المرأة الحارس، أنا إنسان) وكان صدور هذه المجموعة قد سبق العديد من المجموعات القصصية التي صدرت بعد ذلك لمجموعة القاصين الذين شكلوا جيل الستينيات وهم: القاص والروائي عبدالرحمن مجيد الربيعي، وجليل القيسي ومحمد خضير وجمعة اللامي ومحمود جداري وعبدالستار ناصر، وأحمد خلف، وعبد الإله عبدالرزاق وغيرهم الذي شكلوا البدايات الأولى في كتاباتهم بما سمي جيل الستينيات في العراق.
وتكشف قصته الأولى (البقعة الداكنة) حيرة الشخصية وعجزها وشعورها الحاد بالعزلة وهي تتساءل: (أين أنا؟! وما الذي جاء بي إلى هنا ص5) وحين يكتشف أن قاربه قد سرق، وأنه مقيد الرجلين واليدين وملقى على ساحل شط العرب، تتداعى في نفسه معاني الوحدة والغربة (داخله شعور بأنه الوحيد في هذا العالم، وأن جميع من في العالم ماتوا منذ سنين ص12)، وسوف يتضح هذا الشعور بالوحدة في قصص المجموعة الأخرى، وسيكون ثيمة أساسية في رواياته الثلاث كانت السماء زرقاء– الحبل– المستنقعات الضوئية.
لقد كان الروائي في بدايات حياته الأدبية في البصرة متأثرا بالأفكار الوجودية التي أفرزتها كتابات: سارتر وألبير كامو وسيمون دي بوفوار وغيرهم، وخلال تلك الفترة كتب رواية (كانت السماء زرقاء) التي كللت وقت نشرها مشروعا روائيا جديدا على ساحة الإبداع الروائي العربي مقطوعا عن ماضي السرد الروائي العربي وتجديدا غير مسبوق في هذا السرد وفي تقنياتها وشكلها المكثف الجديد. وقد أكد ذلك الشاعر صلاح عبد الصبور حين أشار في مقدمته التي كتبها للرواية حين صدورها عام 1970 أي بعد زمن كتابتها بخمسة أعوام مندهشا من هذا النمط من السرد الروائي الجديد مؤكدا أنها (من أهم الروايات التي صدرت في أدبنا العربي حتى الآن ..) وعدها (رواية جديدة كما أتصور. رواية القرن العشرين. قادمة من أقصى المشرق العربي. حيث لا تقاليد لفن الرواية …)
وقد كشفنا تقنيات هذه الرواية وعالمها الضاج بالأسئلة واحتدام الذات وهي تواجه خارجا مشاكسا ضد تطلعاتها الإنسانية في قراءة مفصلة نشرتها مجلة « » العمانية عام 2007 (1) أشرنا فيها إلى السمات الأساسية في النزعة التجريبية في هذه الرواية ..
لقد اكتمل مشروع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل التجريبي في كتابة الرواية القصيرة (كانت السماء زرقاء) على أرض مدينة البصرة، وعلى خلفية أحداث واقعية عاش الروائي أجواءها المشاكسة، متأثرا بالأفكار الوجودية والعبثية التي استقاها من قراءاته، ثم عززها بكتابة روايتيه القصيرتين (المستنقعات الضوئية ) و(الحبل) في الفترة نفسها، وقد صدرتا على التوالي عامي 1971 و1972 إضافة إلى مجموعة قصصية مخطوطة تنتمي لنفس الفترة ولنفس الإنجاز الشكلي أسماها (الكرة والباص) كتبها عام 1966 وقد صدرت بعد رحيله، وبهذا المعنى فإن الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ومنذ منتصف ستينيات القرن العشرين قد أنجز خلالها مشروعه الروائي (كانت السماء زرقاء، المستنقعات الضوئية، الحبل) في البصرة ثم أكملها في الكويت بروايته (الضفاف الأخرى) التي جمعت بين أبطال الروايات الثلاث وأحداثها الجديدة.
العبور إلى الضفة الأخرى
بعد هجرته إلى الكويت عام 1966 تعرف على مجتمع جديد وتجربة حياتية لم يألفها، جعلته ينصت إلى قاع المجتمع الجديد وإلى اختلاف الهويات والمصائر والشخوص فيه، وبهذا المعنى تمت ولادة رواية (الضفاف الأخرى) كاستجابة واعية من الروائي،لإضاءة وجهة نظره ورؤيته الجديدة في الكتابة والالتزام، وكانت بداية التحول الكبير في كتاباته الروائية والمسرحية والنقدية التي حملت التزاما إنسانيا بالمهمشين دون الوقوع في النظرة الحزبية الضيقة، بل التزاما إنسانيا تؤطره عبارته البليغة (الفعل الكتابي وظيفة إنسانية بالأساس).
لقد سعى الروائي إسماعيل فهد إسماعيل في رواية (الضفاف الأخرى) إلى تجاوز أنانية الذات ونرجسيتها التي كانت واضحة في رواياته الأولى وتكريس كتاباته الجديدة بمرحلة جديدة أنصت فيها إلى ذوات الآخرين من المهمشين وفاقدي الهوية والضائعين وسط الصراعات الخفية في هذا المجتمع الجديد، الذي حفز موهبته على إضاءة هذه الإشكالية المتمثلة بالآسيويين والإيرانيين والعرب من مختلف الأمصار العربية، والانتباه إلى تلك العلاقة بينهم وبين حاملي الجنسية الوطنية الكويتية بما يشكل ذلك الصراع الخفي بين الهويات والشخوص، وكل ذلك قد شكل النقلة المهمة في وجهة نظره عن الحياة تجاه عالم المهمشين والجياع وكان واضحا في رؤيته لهذا المجتمع الهجين، تعينه وجهة النظر التي تأثر بها بلقائه بمجموعة مثقفي مدينة البصرة التي تحمل الفكر اليساري، منتصف ستينيات القرن العشرين قبل هجرته إلى الكويت، التي أسهمت في الحد من تطلعاته الذاتية التي تأثرت بالموجة الوجودية وأنتجت مجموعته القصصية الأولى ورواياته الثلاث التي أشرنا إليها تكليلا لهذا التأثر.
وفي هذا المجال نشير إلى أن الروائي في ضفافه الجديدة، قد أنهى عقده مع الذات وبدأ يتطلع إلى الآخر المهمش الذي تأكد حضور شخوصه بشكل واضح في رواياته التي كتبها منذ منتصف السبيعينيات منها: ملف الحادثة 67 ومجموعته القصصية (الأقفاص واللغة المشتركة) وصولا إلى روايته (بعيدا إلى هنا) التي تناولت إشكالية الخدم الآسيويين، ثم روايتيه اللتين خصصهما لإشكالية فاقدي الهوية الوطنية -البدون- (في حضرة العنقاء والخل الوفي) و(صندوق أسود آخر) اللتين ختم بهما حياته الإبداعية وكأنهما وصية أخيرة بهم!!
تجري أحداث رواية (الضفاف الأخرى ) في سبعة أيام (لاحظ رمزية العدد) ويتولى السرد فيها شخوص الروايات الثلاث: كاظم عبيد، وفاطمة مع كريم البصري، أما مكان الحدث فهو مصنع كبير غير مشخص باسم يضم 1200 عامل يقع في مدينة البصرة.
يستثمر الروائي ثيمة جديدة في أدبه بتوظيف جو الإضراب في المعمل للمطالبة بتحسين ظروف العمل وزيادة أجور العمال، وحافزا على استجابة أبطال الرواية للمشاركة في الإضراب أو الوقوف ضده أو استغلاله لمصلحة خاصة.
وأثناء تحقق الحدث (سبعة أيام) يكشف الروائي موقفهم من الإضراب من خلال تداعيات شخوص الرواية وحواراتهم ووجهة نظرهم عن الآخرين العاملين معهم من العمال والموظفين.
يستثمر الروائي السارد المصاحب للشخصية في سرد أحداثها، ولكنه يسارع لإلغاء شخصيته لصالح صوت الشخصيات التي تتمرد على سلطته، وتبوح بما يعتمل في أعماقها من أفكار وهموم وتداعيات وحوارات بشكل مباشر، وقد اتخذ من تجزئة العالم الروائي باعتماد المؤلف على تقنية المونتاج التي استثمرت الخط الغامق لسرد أحداث الحاضر والخط الفاتح لسرد التداعي، تقنية لإيضاح هذا التمزق، وهي تقنية خارجية استثمرها في روايته الأولى (كانت السماء زرقاء بشكل خاص) وبصورة معكوسة.
يقدم الروائي شخوصه المأزومين في الصفحة الأولى والثانية من الرواية، دون ذكر الاسم بل عن طريق تداعٍ حر ومَنتجة تكشف الشخصية فيه عن عالمها الخاص:
كاظم عبيد: أنا عاجز حتى عن مضاجعة زوجتي
كريم الناصري: أنا لم أتزوج بعد، الزواج يحتاج إلى مال، والمال…
فاطمة: ثوب العيد الماضي ما زال صالحا!!
ويبنى عالم الرواية على ثنائية: الإضراب/البراءة(2): إضراب عمال المعمل الذي تعمل فيه شخوص الرواية، والبراءة التي دمغت اثنين من شخوص الرواية الرئيسيين: كاظم عبيد وكريم البصري، وجعلتهما شخصيتين مزدوجتي الشخصية: أعماق معذبة وادعاءات بطولية فارغة أمام الآخرين!!
ويتكشف عالم هؤلاء الشخوص المأزومين، من خلال حواراتهم مع أنفسهم واعترافهم بالهزائم التي وقعوا فيها، التي جعلت من حياتهم سلسلة من الادعاءات التي تروم تغطية تلك الهزائم والتصرفات الفارغة من كل معنى بغية تجاوزها والسكوت عن التشهير بها كالبراءة من الحزب التي يصفها كاظم عبيد (3) كنت قد عرفت ما هي البراءة. الشهور الستة علمتني بأن البراءة صفة دبقة تلازم الإنسان إلى الأبد. ص95) وكان كريم البصري قد أعلنها أيضا في زمن آخر، ومحاولاتهما العديدة لتبريرها، لكنها بقيت وصمة عار في الجبين، تحرك سلوكهما وتشي بتصرفاتهما التي تروم السيطرة على الإضراب وتوجيهه نحو مصالحهما الشخصية، غير أن كل ذلك يفشل وتتكلل سرقة مدير المعمل التي مارسها كاظم عبيد انتقاما منه ولصالح الإضراب كما يدعي، إساءة أخرى لشخصيته ونبذه من قبل فاطمة والعمال المضربين، أما كريم البصري فقد حاول السيطرة على الإضراب وقيادته مستثمرا ثقافته وموقعه موظفا، لكن تزلفه إلى مدير المصنع ووشاياته بالعمال الذين يقودون الإضراب، الذين منحوه صفة (الجاسوس) التي دمغت حياته وقضت على تطلعاته في ارتداء ثوب نظيف. وجاءت تداعيات فاطمة لتنتشل ذاتها المعذبة من علاقتها الفاشلة مع بطل كانت السماء زرقاء الذي تخلى عنها وعن ادعاءاته الفكرية وتركها نهبا للأسئلة والظن، وهي في وضعها الحالي تعمد إلى تجاوز نكستها تجاه الضفاف الأخرى التي أضاء الإضراب طريقها، من خلال إعجابها بمنفذيه أحمد عبدالله وجعفر موسى.
إن شروط العبور إلى الضفاف الأخرى، قد اتضحت من خلال علاقة شخوص الرواية ببعضهم وحواراتهم التي كشفت تطلعات بعضهم عن الإضراب في تحقيق هذه التطلعات على حساب الآخرين الذين ينظرون إلى الضفاف الأخرى حلا مصيريا لهم ولعوائلهم، ولذا فإن العبور في نهاية الرواية يشمل شخصية فاطمة من الشخوص المأزومة التي ترفض الضفة التي يقف عليها عشيقها السابق، وتعلن لنفسها (أما الآن فهناك ضفاف أخرى، ضفاف مضيئة تجذبني إليها، ليس كما تجذب الفراشة إلى اللهب …ص282.
أما كريم البصري وكاظم عبيد فقد بقيا في عالم الضياع يحملون عارهم: الأول بصفة جاسوس في نظر العمال والثاني بوصفه لصا، أي أن تاريخ الشخصية يبقى ملازما لها ولا يفارقها، هذا ما تؤكده وقائع الحياة العراقية وهذه الرواية.
لقد قدمت رواية (الضفاف الأخرى) شخصيتين جاهزتين كانتا قد أفصحتا عن ذاتهما وعن عالميهما في روايتي (الحبل) و(الوشم)، الأولى منجزة من قبل الروائي نفسه، والثانية من قبل روائي آخر، وقد قدمت الشخصيتان في رواية (الضفاف الأخرى) عاجزتين وخاويتين عن فعل أي شيء، بسبب ماضيهما المشوه، على الرغم من حضورهما في معظم أيام الحدث، إلا أنهما لم يكونا فاعلين في الحدث المركزي (الإضراب)، ومعزولين عن مجتمع الرواية، الذي كان قائما على رفض واقع الحال في المعمل والاتجاه إلى التغيير والانتقال إلى الضفة الأخرى.
يهمنا في نهاية قراءتنا لهذه الرواية الجادة، أن نتأمل شخصية (كريم البصري/كريم الناصري) فهو شخصية مخلقة ومصنوعة في مخيلة وواقع كاتبين: عبد الرحمن مجيد الربيعي وإسماعيل فهد إسماعيل، وكلاهما أنجز صنعة هذه الشخصية في بداية حياته الإبداعية.
كتبت رواية (الوشم) عام 1967 كما يؤكد الروائي الربيعي في كتابه أصوات وإشارات(3) ونشرها عام 1972، وهي انعكاس مباشر لأجواء نكسة حزيران عام 1967، واستجابة لانكسارات الذات العراقية وهي تواجه العسف والاضطهاد بسبب الانقلابات الدموية التي أدت إلى تعميق الشعور بالغربة والضياع في المجتمع العراقي.
تسرد رواية (الوشم) أشكال العسف والمعاناة التي تحيط بشخوصها، مرة بلسان الشخصية الرئيسة فيها، كريم الناصري، ومرة أخرى من وجهة نظر السارد المحايث للشخصية، ويتضح فضاء المكان المعادي للشخوص من شعورهم الحاد بقسوة هذا المكان وخيانة ارضه لهم فهم (حفاة قطنوا الناصرية، بعد أن خانتهم الأرض، ولم يكن بينهم من يطيق تناول وجبة طعام واحدة في اليوم) لذا هجروا أرضهم وتوجهوا إلى المدينة لعلهم يجدوا ما يسد رمقهم، فوقعوا في بلاء أشد!!
وتظهر شخصية كريم الناصري في هذا الفضاء المشاكس، شخصية متمردة، متناقضة وانهزامية أيضا تحمل تناقضات الذات الواقعة تحت سطوة الكابوس بما يحيط بها من أحداث وشخوص، فهو شخصية رافضة للخضوع للسلطة قبل اعترافه وبراءته من الحزب حين يصرح (الرجولة هنا في أن نقاوم عذابنا الخاص ص91) ويشكل رفضه إعلاء لنفسه وإحاطتها بالمتاعب والانتكاسات (أنا أدرك جيدا أن رفضي عريق، متمرد أصيل لا آبه بشيء، لذا كانت حياتي سلسلة متصلة من المتاعب والانتكاسات وكنت أخرج دائما بلا موعظة ص41) لكنه حين وقع (البراءة) ووشى على رفاقه، اعترف لنفسه عبر تداعياته: (إنني أدور في طرق لا يعرفني فيها أحد، وأجلس في مقاه منزوية، اقرأ صحفا قديمة،(…) وأنا بينهم يا حسون رجل خسر وظيفته والتزامه ومدينته ص32 من الرواية) ويكمل في صفحة أخرى صارخا: (لماذا تتركونني هكذا دابة عجفاء خلفتها القافلة وعلى مقربة منها تربض الكلاب السائبة منتظرة موتها ومتلصصة إليها بعيون تكبت جوعها السحيق ص113).
وحين يقرر الرحيل إلى الكويت يكتب إلى حبيبته بشرى قائلا: (لا أريد أن تربطي حياتك بشريد مثلي مرمي على السواحل كالخشبة التي تقذف بها الأمواج من بقايا السفن الفارغة ص107 من الرواية).
لقد جسد الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي، في شخصية كريم الناصري المثقف الحائر والمتردد بين الالتزام الذي يمثل من وجهة نظره (علاقة دامية مع الأشياء، علاقة تلوي العظام وتهرس الأعصاب كلها ص 41) أو الهروب إلى فضاء آخر، وهو ما قرره أخيرا.
إن كريم الناصري نموذج للثوري الحالم الذي فقد بكارته في أجواء مرعبة ودامية وهو يرى أحلامه مجرد أوهام غائمة على شاشة ذاكرة مشوشة.
في حين رسم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل شخصية كريم البصري المستوحاة من كريم الناصري، شخصية جاهزة،لا موقع لها ولا دور أساسي في الرواية سوى حضورها السلبي الذي تظهر فيها شخصية جاهزة تدور حول أزمتها التي رسختها براءته من الحزب واعترافه على رفاقه كما فعل كريم الناصري، لكن كريم الناصري في الوشم يتجلى شخصية منفتحة على إشكالات الوجود وجدواه عبر تساؤلات وجودية وليست شخصية، مما يرفع رتبته إلى رمز يجسد العلاقة غير المتوازنة بينه وبين وجوده في مستنقع آسن لا يستطيع الخروج منه، في حين رسم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل شخصية كريم البصري، شخصية مسطحة تحمل أزمتها الشخصية، وسط تبريرات وحوارات مع النفس والآخرين هدفها تبرير سقوطه السياسي، الذي يدفعه في سبيل خلاصه الشخصي من أزمته الى سقوط أخلاقي أكثر عمقا وتشويها لشخصيته، حين يصبح جاسوسا لمدير المصنع!!.
لقد جاءت شخصيتا كريم البصري وكاظم عبيد مجردتين من الملامح، وكان وجودهما في مجتمع الرواية لتكريس إدانة الذات وتطلعاتها الأنانية في مجتمعات الروايات الثلاث، التي جاءت هذه الرواية للعبور ببعض شخوصها إلى الضفاف الأخرى، التي اتضحت في الروايات التي أنجزها الروائي إسماعيل بعد هذه الرواية بفترة وجيزة وفي رواياته التي تناولت مشكلة الآخر وتساؤلاته وسط مجتمع الهويات المتنوعة في الكويت.
وقد اعترف الروائي نفسه في رسالة خاصة كتبها لي بعد صدور هذه الرواية بسنة (1974/1/15)، بالضعف الفني في روايته (الضفاف الأخرى) الذي لاحظه أصدقاؤه في البصرة بعد صدورها، وأكد ذلك عبر تسع فقرات، كشفت عن وعي دقيق في نقد الذات لتجاوز هذه الأخطاء تجاه أعمال روائية ناضجة، وختم الرسالة قائلا (أنا لا أنكر بأني قصرت في الكثير لكنها يجب أن تكون بالنسبة إلى الضفاف الفنية التي يجب أن أعبر إليها في أعمال قادمة.)
وقد تأكد هذا العبور في رواياته التي أشرنا إليها وغيرها من الإبداعات التي أنجزها بعد سبعينيات القرن العشرين وحتى تاريخ وفاته منها: ملف الحادثة 67، الشياح، النيل يجري شمالا -بأجزائها الثلاثة-، بعيدا إلى هنا، في حضرة العنقاء والخل الوفي، وغيرها كثير.
الهوامش
(1) الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ونزعة التجديد في تقنيات السرد العربي -مجلة العمانية– العدد التاسع والخمسون يوليو 2009.
(2) كانت (البراءة) التي اخترعتها وروجتها السلطات بعد ثورة (14) تموز 1958، سلاحا ماضيا بيد السلطات القمعية لإسقاط معارضيها من الأحزاب التي تقف ضدها، مستغلة وضع السياسي المعارض وهو يبعد عن عائلته ويتركها بلا معين خلال فترة طويلة دون عناية من أحد. والبراءة عبارة عن إعلان ينشر في الصحف المحلية، يقر به المناضل تخليه (براءته) من الحزب الذي ينتمي إليه معبرا بذلك (عن حبه لوطنه وإخلاصه له ولشعبه)، وكأن انتماءه السابق هو انتماء ضد الوطن. وكان موقف الحزب فصل المنتمي له من الحزب بعد تقديمه البراءة، وبذا تكسب السلطة ويخسر الحزب والشعب.
وكانت البراءة في تاريخ السياسة في العراق إهانة قاسية لمن يقدمها، فهي قيد ثقيل يكبل الإنسان ويعزله عن رفاقه ومجتمعه، ويجعله وحيدا يكابد نظرات السخرية والصدود والمقاطعة من قبل الآخرين..
وقد استثمرت البراءة في الأدب العراقي: في الشعر والقصة القصيرة والرواية، ويمكن أن نؤكد أن معظم النتاج الستيني في العراق كان نتيجة للسقوط السياسي، ووعيا أدبيا بأعماق الإنسان الذي يتخلى عن أفكاره قسرا، بعد السقوط السياسي.
ومن أهم النتاجات الأدبية التي استثمرت إشكالات إعطاء البراءة، قصيدة الشاعر مظفر النواب الشهيرة بهذا الاسم، ورواية (الوشم) للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي.
(3) نشرت رواية الوشم للروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي عام 1972 بعد نشر رواية كانت السماء زرقاء بسنتين وقد أشار الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي إلى أن عام 1972 (الذي نشرت فيه لم يكن عام كتابتها، بل إنها كتبت قبل ذلك التاريخ بخمس سنوات. وفي الشهور الأولى التي أعقبت نكسة حزيران- يونيو عام 1967 ولم ينتبه إلى هذا الأمر إلا قلة من نقاده).
–أصوات وخطوات- إشارات في مسيرتي الروائية ص16– مقالات في القصة العربية عبد الرحمن مجيد الربيعي المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1984)