أحمد الفيتوري
كاتب وباحث ليبي
-1
الرواية الأولى بنية سردية، تشبه حجر الأساس في البيت، ما عادة يتجلى في ذهن المهندس كتجريد على خارطة البناء، ويغيب في البناء، بمجرد الانتهاء منه كحجر أساس، لذا فإن حجر الأساس ماهيته أنه الحجر المنسي، المدسوس في كل بناء. إن الرواية الأولى المنسية فيما بعدها، حاضرة بقوة في الذاكرة أس كل عقل، ومتشعبة في كل وجدان، ومن ناحية أخرى هي الطفولة، ما يقول القائل إنها البئر الأولى، التي يسميها فرويد العقل الباطن “المشاعر الحقيقية للإنسان هي الموجودة في عقله الباطن أو اللاوعي”، ما يرتكز عليه التحليل النفسي، وما بين التحليل النفسي والعملية الإبداعية من وشائج لا حصر لها.
لكن لا يهم صحة التشبيه، بين العقل الباطن والرواية الأولى، لأن الأهمّ إدراك أن السردية الأولى قريبة من النفس، غضة منفلتة، يقينية وغير دَرِبة، تمسك بكل الجمرة لتدرك لسعتها، فعودها أخضر مثلما خيط العنكبوت الوهِن المتين، كما تشبيه عبد الله القويري للكتابة بأنها نسج عنكبوت. وقد عبر فنانون كثر، عن أن اللوحة ترسم نفسها كما أشار بيكاسو، وإن لم يحدد أنها السردية الأولى، لكن في تقديري أن السياق السردي كما تجربة أولى، لابد أن كينونتها مميزة ونسقها خارج السياق، ما يشبه السليقة والعفوية، بغض النظر عما يفعله المبدع من جهد ومثابرة، ومن نجاح وإخفاق، وأؤكد على أن للرواية الأولى سياقًا مختلفًا من حيث التصنيف، لكن لا اختلاف له في العملية الإبداعية فمساقه مساق كل فن.
الرواية الأولى كما الأنثروبولوجيا السردية، حيث يعتبر العديد من علماء الأنثروبولوجيا -ومنهم (جريجوري ريك)- “أن البشر حيوانات تخلق القصص وتروي القصص”، وهكذا الرواية الأولى مسرود في الغالب بضمير المتكلم، يتغيَّا قول كل شيء، يسرد سيرة كاتبه، بمعنى أن السارد، حتى ولو كاتب خيال علمي، يغرف من سيرته/ جرابه. ودون أي قصد يحشد معارفه ويخوض في سرديّته بكل عنفوان، فإن تمكن من سردية النص في الرواية الأولى، وبرع في السباحة فإنه كما السباح لأول مرة، من يرمي بنفسه في اليم، حتى ولو تلقى دروسا في السرد، فإن العوم لا تشفعه الدروس كثيرا، لكن شفيعه أن الإنسان حيوان سارد، ومن ذا فإن سرد القصص له جذور عميقة في طبيعتنا البشرية، ريكور فيلسوف السردية يؤكد أن السرد يكمن في كل منطوق البشر. هذه الطبيعة السردية للبشر، ما تسهل على الكاتب خلق الرواية الأولى، مكمن هوية الرواية الأولى بأنها حجر الأساس، ما فيه يتجلى الكاتب بذاته القريبة من النبع.
الناقد، الذي هو كاتب حسب بارت، من خلال درسه التطبيقي ساهم في مبحث نظرية الرواية، التي تشعبت حتى غمرتها الرواية بتنوعها، فخروجها عن التصنيف النظري، ومنهم من رأى الرواية ملحمة مدنية، مثل لوكاتش من اعتبرها لسان حال الصراع الطبقي. ومنهم من رأى أن كاتب الرواية بحاجة لنضجٍ اجتماعيٍّ نفسيّ، مثل يوسف القويري، من اعتبر كاتب الرواية لابد أن يكون في العقد الرابع من عمره، وقد قيس ذلك من خلال إحصاء لمشاهير كتاب الرواية.
ثمة مضافات أُخَر. ولكن هذا مبحث خارجي يضع قاعدة لكتابة الرواية الأولى، مجحف من خلال نظرة تتسربل بالعلم لقوننة العملية الإبداعية، لكن من ناحية أخرى ينبه إلى خاصية تنفرد بها الرواية والرواية الأولى بالأساس. وهذا التنبيه يؤكد أن الإشارات، التي وضعناها لماهية الرواية الأولى، إشارات نابعة من بنيتها، ومن سياقها السردي الذي هو ليس قاعدة لها استثناءات، لكنه نسقٌ سرديٌّ مستخلص من كل كتابة أولى، ما وضحنا بأنه اللوحة التي ترسم نفسها بيد مبدعها.
الرواية الأولى من خلال ما طالعته لعدد من الكتاب، في الفترة الأخيرة، وما كتبت عنها، وكنت أجد من خلال ما أكتب أنني كمن يكرر نفسه. ومرة انتبهت لنفس الملاحظات حول رواية، ليست الأولى في سيرة كاتبها، لكن ثمة ممن كتب عنها، أن لاحظ أنها الرواية الأولى لكاتبها، بغض النظر عما نشر قبلها، ما استبعدته وغيري من نتاج الكاتب، فقد كان نشرا وحسب، الغريب أن الكاتب أخذ ذلك في الاعتبار، وكأنه يؤكد ما جال بنفسه حول نصوصه السردية. واستنتجت أن التكرار نابع من السياق السردي المنقود، وكأن ثمة نسق سردي مشترك بين أولئك الكتاب، كتاب الرواية الأولى.
ما قرأت فقط، وما قرأت وكتبت عنها وقد شاركني غيري في الكتابة عنها، فتشاركنا في اعتبارها رواية أولى بغض النظر عن تقويمنا لها. وإذا سلمنا أن السياق السردي الروائي لم تعد له حدود، فإن هذا لم ولن يمنع أن ثمة سياقا سرديا، يجعل من كتابة ما رواية، فيكون هذا السياق بنية داخلية يفرضها النص، خاصة عند البنيويين على تعدد نظراتهم، ومن هذا فالنص مرجعه النص، وهذا لا يجبّ قطعا غيره من النظرات، لكن يؤكد عليها من خلال السياق النصي وليس من خارجه.
-2
الرواية الأولى التي طالعتها مؤخرا لكتّاب من مصر ومن ليبيا، وقد كتبت ونشرت ما شاركت به بندوات عدة، حول عدد من روايات الكتّاب المصريين. ثم لما قرأت روايات الكتاب الليبيين، عزمت عن الكتابة عنها فرادة، لكن هنا والآن، أكتب عنها في سياق الرواية الأولى، باعتبارها النموذج المميز للرواية الأولى لكتاب رواية جدد، شباب منهم الشاعر، وثمة فيهم المفارق من ناحية العمر، وقد انغمست في قراءتها تباعا، من رواية لرواية، دون قصد ولا تخطيط، لكنها توفرت بين يدي مرة واحدة، والرواية منها تحفزني إلى قراءة رواية أخرى، وما أشرت إليه من أنها الرواية الأولى دفعني إلى التأمل في المسألة فالبحث فيها، وقد كُتبت أو نُشرت على الأقل في نفس السنة، غير رواية واحدة.
إذًا ما تقدم من أن الرواية الأولى بنية سردية، تشبه حجر الأساس في البيت، استنتاج من سياقات النصوص ونسقها السردي، وأيضا من تشابك أحداث هاتيك الروايات ودلالة مسرودها، وأي مقاربة في تقديري ستتكشف المشترك الفصيح بينها، وعلى التحديد فيما يخص الخطاب السردي، لكن هذا لن يحجب تنوعها وتفرد كل رواية، وهو ما أسهم في إغناء إمكاناتها السردية، وساهم في توجيه مساراتها الحكائية، وفق ما تقتضيه تحولات النص الدلالية.
وهذه الروايات، حسب ترتيب اطلاعي عليها، وأولها آخر ما طالعت:
قصور الشعير– رواية: أوسمان بن ساسي- مخطوط
مقبرة المياه– رواية محمد عبد المطلب الهوني –الطبعة الثانية– المؤسسة العربية للدراسات والنشر– بيروت
غاندي– رواية حمزة الفلاح –الطبعة الأولى 2021م – براح للثقافة والفنون– بنغازي.
جاييرا– رواية سراج الورفلي –الطبعة الأولى 2021م- براح للثقافة والفنون– بنغازي.
سمعان القوريني الليبي الذي حمل الصليب- رواية محمد عبد الله الترهوني -الطبعة الأولى 2021م – براح للثقافة والفنون– بنغازي. (طالعت في نفس الوقت، روايته الثانية:عشاء فرناندو بيسوا الأخير -الصادرة في نفس السنة ومن نفس الناشر).
خبز على طاولة الخال ميلاد– رواية محمد النعاس– جائزة بوكر 2022م – مسكيلياني للنشر.
هذه الروايات الأولى لكتابها، تصادف أن قرأتها تباعا وفي نفس واحد. كنت كعادتي أطالع ما أحب وأكمل ما يمتعني. لكن هذه الروايات كما غيرها، أثارت عندي معنى الكتابة، ما يشرحها بارت: بـ”أن فعل الكتابة، لا يتم دون أن يصمت الكتّاب. فعل الكتابة كأن يصمت الكاتب، خافت الصوت كالميت، أن يصير للإنسان الذي رفض الإجابة الأخيرة، وأن يكتب يعني أن يهب، منذ اللحظة الأولى، الإجابة الأخيرة للآخر”.عند نفسي أني الآخر، القارئ الذي وهبت هذا الحق، والسبب في ذلك يكمل بارت: “أن معنى عمل أدبي (أو نص) لا يمكن أن يتكون وحيدا. فالمؤلف لا ينشئ، أبدا، إلا افتراضات معنى، أو أشكالا، يعود العالم فيملؤها”. وما فهمته دائما أن النص يتملص من مؤلفه، من ساعة أن يطالعه الآخر، حتى لو كان الكاتب نفسه، من يعود من العالم الذي يملأ فراغات النص.
وقبل أن أعيد التأكيد أن ما يجمع هذه النصوص، كونها الرواية الأولى لكتابها، الذين هم ليبيون لكن هذا ليس له أي معيار في الجمع بينها. فالكتابة المستقلة عن كاتبها، بالضرورة لا تحمل جنسيته، لكن يمكن الإشارة لخلفية جامعة، ما تومئ إليها الجنسية، التي هي التراث السردي الروائي في ليبيا، وعلى التحديد فيما يخص مبحثنا (الرواية الأولى).
كانت رواية “من مكة إلى هنا” الرواية الأولى لصادق النيهوم: التيمة الرئيسة، عند النيهوم كمفكر المسألة الدينية وعلائقها الاجتماعية، ما تظل مسألة مركزية في الرواية، حيث الشخوص الروائية، تلبس لبوس الفكرة ضمن البنية السردية، فـ (مسعود الطبال)، شخصية رواية “من مكة إلى هنا”، زنجي محنك يتخذ من زنوجته أيقونة للوجود؛ وجوده هو معنى هذا الوجود. وأن الراوي العليم، يجعل من هذا الزنجي مُعاركًا شرسًا، في مواجهة الفكرة الدينية والمسألة العنصرية، كما لو كان نبيا جديدا، يبشر برؤيا، وليس برؤية في هاتين المسألتين. ومن هذا فإن الخطاب السردي الروائي، اشتق سياقه من النسق الفكري، الذي يشغل الكاتب، بحيث كانت “من مكة إلى هنا”، وكأنها تملأ فجوات أو تتحدث في مسكوت عنه، ما لم يتناوله المفكر في كتاباته أو الأمرين معا، أي أن السارد النيهوم، كان يغرف من قرب النبع/مشاغله الفكرية. ولقد أثارت الرواية جدلا ساعة نشرها منجمة بصحيفة الحقيقة ثم في كتاب، سنة 1970م، وصدرت قبلها روايات مثل الرواية الوجودية “في المنفى” لرجب بودبوس، لكن ما أثارته “من مكة إلى هنا”، باق صداه في الثقافة العربية حتى الساعة، عند من يدرسون نتاج المفكر صادق النيهوم.
لا صدى مباشر لرواية النيهوم فيما طالعت من روايات، لكن تنبهت لعلاقة تخص البنية السردية في الرواية الأولى، ومن أهمها، أن المعين السردي للكاتب يكون قرب النبع، ما يؤشر إلى كتابة سيروية. فكأن الرواية الأولى من هذه الناحية رواية سيروية، أي أن الرواية الأولى نسق سردي منسي، يستعاد من الذاكرة، من مسامرة الجدة في الليالي الشتوية. وهذا “على الرغم، من أن العالم يعتبر عمل الكاتب الأدبي شيئا جامدا، أعطى إلى الأبد، معنى ثابتا، فالكاتب ذاته لا يمكنه أن يعيش عمله الأدبي كتأسيس، بل هو يعيش مغادرة ضرورية”. حسب نظرة بارت، النظرة التي تؤكد عليها الرواية الأولى بالذات.
إن البديهة التي تشير إلى أن كاتب الرواية الأولى لا يتناص مع نفسه، هي ما تؤكد أن للرواية الأولى تناصات طالعة من مطالعاته، ومن هذا أيضا، تشف الرواية الأولى عن الجانب السيروي، فمثلا كثير من قراء رواية “من مكة إلى هنا”، أشاروا إلى تناصها مع رواية أرنست همنجواي الأشهر”الشيخ والبحر” ترجمة منير البعلبكي. رغم أن الصادق النيهوم لابد أنه طالعها بلغتها الأصلية، حيث لغته الإنجليزية تتيح له ذلك، أما الإشارة إلى المترجم، فتوحي بوجود علاقة بين لغته وأسلوبه كمترجم، ومنحى النيهوم عند كتابة روايته الأولى.
-3
لا قراءة لنص دون تعاطف معه. ومن هذا فإن كل نص حامل تناقضاته في مجمل مستوياته، ومن ثم، كل نص ناقص، فمهمة القراءة الاستمتاعية، ألا تغفل عن الجمال في القبيح، وعن الخطأ في سياق الصواب. الرواية بالضرورة حمالة أوجه، ليس للقارئ المُؤول فحسب، بل لكل قارئ، فتنوع التلقي لا يأتي بتعدد المتلقين، ولكن يأتي قبلا من الكتابة الصفر، من صنف الكتابة، ومن هذا أيضا كل قراءة لرواية زاوية رؤية، لا يصح النظر إليها من معيار الصحيح والخطأ، ولكن يجب النظر إليها بمعيار الجدية والشغل الدؤوب.
(قصور الشعير) رواية (أوسمان بن ساسي)، آخر ما طالعت من روايات القائمة أعلاه، طالعتها كمخطوط، وأعتبرها -كمطالع- الرواية الأولى لـ(أوسمان بن ساسي)، وهي رواية في مطلعها استرسال حكائي سردي، ومشهد حواري متدفق، في لغة تقريرية متوالية، كما ديالوج تمهيدي، ثم كما في سيناريو سينمائي ينتقل بالقطع (ما يشبه المونتاج)، مع الحرص على استراتيجية سردية لعدم الفصل بين المشاهد/الفصول.
هذا النسق الروائي الأول، يعقبه حشد من مشاهد متتالية، على خلاف النسق الأول، ما هو حوار ثقافي بين الشخصية الرئيسة (جاد ميزران) وزوجته (سارة)، وفي المتواليات السردية المشهدية التالية، ليس ثمة سياق معقول، فالنسق تتداخل فيه المشاهد، حيث ثمة أجواء حرب أهلية، وعراك بين خصوم “كابو” زعيم ميليشيا وميليشيا “القبعات الحمر”، فمطاردة للبروفيسور (جاد ميزران) من يملك شريحة (قصور الشعير) الغامضة، التي يطارد من أجلها. وفي أجواء القتال والانفجارات والسجون والخطف والقتل العشوائي يسترسل السرد، في جمل تقريرية ولغة خبرية. فتبدو الرواية “ديستوبيا” أدب المدينة الفاسدة أو عالم الواقع المرير، هو مجتمع خيالي، فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما. ومعنى الديستوبيا باللغة اليونانية المكان الخبيث، وهي عكس المكان الفاضل” يوتوبيا”. ومكان هذه الديستوبيا هو (طرابلس الغرب)، وهناك إشارة لمدن أُخَر كـ(مستردام)، لكن هذه المدن في السياق السردي مجرد علامات تستحث ذاكرة القارئ، والزمان زمن الأحداث يستقي من السياق ودلالته مثل (الهجرة غير الشرعية).
ومن حيث أن، (قصور الشعير) رواية (أوسمان بن ساسي)، ديستوبيا روائية فإن هذا الخطاب السردي قماشة لـكل من: (غاندي– رواية حمزة الفلاح) و(جاييرا– رواية سراج الورفلي) و(مقبرة المياه– رواية محمد عبد المطلب الهوني)، والمشترك بينها أيضا الحشد الحكائي الاسترساليّ، ما يتغيّا قول كل شيء ومرة واحدة. وهذا النسج الحكائي أسه “ميتا سرد” مشترك في كتابة الرواية الأولى ، ومن ثم مركزه تحارب أهلي بما تعنيه الكلمة، فتختلط الأساليب باختلاط الوقائع، الواقعية الفجة والسريالية الرومانسية والفنتازيا التراثية، وأن هذه الروايات شخصيتها الرئيسة، تعاني من مطاردة تحت أحداث ماطرة غزيرة.
(غاندي– رواية حمزة الفلاح) رواية سيروية، من حيث إن الشخصية الروائية تكتب رواية عن جدها، السياق السردي يبين أن (غاندي) كنية، حملها الشاعر الغنائي (عبد الحميد الشاعري)، كاتب أغنية ليبية شهيرة “سافر ما زال”، الذي هو جد الروائي (حمزة الفلاح)، النسق السردي نقلات بين سيرة الجد والراوي العليم، من كاتب يتغيّا كتابة رواية سيروية عن جده، لكن بنية الرواية ليست مستقيمة وليست سيرة، من حيث إنها تتحول إلى ديستوبيا، سردية المدينة الفاسدة أو عالم الواقع المرير، حتى أن تلتبس مسألة الكتابة مع مسألة الذاكرة، والرسم البنائي السردي متعرج ومتقاطع، دون أي سياق غير السياق الديستوبي، والنقلات والأحداث تتقاطع بشكل حاد، فتبدو كما قصة منفردة أو مقاطع سردية، أو أن الحدث لم يكتمل، ما تعلق عليها شخصية هامشية في الرواية، هي حبيبة الراوي/الروائي “…عثرت أخيرا على الكلمات التي أريدها، عندما وجدت، مصادفة، رواياتك في رفوف المكتبات، فأحضرتها معي لأقرأها بجانبك. أعرف أنه لا لن يهمك كثيرا، ولكن هل يمكنني أن أبدي رأيا متواضعا فيها. لا أعرف فأنا مشوشة مثلك، ولكنني أحسست بأنها لم تكتمل بعد”.
أن تكتب الرواية الأولى، مسرودها حرب أهلية، كحدث تعيشه ككاتب أثناء الكتابة، فإن هذا الإطار السردي يساهم في انفلات النسق السردي، ومن هذا تلتحم سيرة الكاتب بالسياق السردي وبدلالاته، ما مركزه خطاب ديستوبي. و(جاييرا– رواية سراج الورفلي) جملتها المفتتح “كان جدي يريدني أن أكون شيخا، أبي كان يريدني أن أكون تاجرا، وحين ضبطني هاربا من المدرسة، تقلصت آماله إلى أبعد حد، قال على الأقل كن وكيل نيابة. أمي لم أعرف ماذا كانت تريدني أن أكون، فقد اعترضت دائما وبشدة على أي شيء أصيره، كانت ترى أن لدي نزعة شيطانية نحو الأخطاء..”. هذه الشخصية الرئيسة، هي الراوي، وفي سياق السرد يدخل معسكرا للتدريب العسكري، هروبا من نفسه ومحيطه، المعسكر هو المكان بكل إيحاءات الفاشية، في بلاد العسكر فيها السلطة/ الجلاد الملاذ. في هكذا مكان تنحشر الشخصية/الراوي، حيث يتمكن إلى حد بعيد الروائي من النسق السردي، لكن الحشد الحكائي يأتي في سياق منولوجات وسرد سيروي للشخصيات الأُخَر. وديستوبيا الورفلي، معسكر هو المكان المدينة الفاسدة، هو الواقع المرير الذي تعايشه الشخصية الرئيسة الهشة، التي تعيش محاصرة/مطاردة، كما شخصية شعرية ملاذها الشعر”خرجت من عنبر السجن وأنا مشوش، كان كل شيء هادئا في الخارج، الضجيج كله في داخلي، كان صوت صرصار الليل مدهشا، وهو يرافقني كموسيقى تصويرية…”. وهذه الشخصية الجامحة الخيال تركن في (جاييرا– رواية سراج الورفلي) لحي الصابري، حي الفن الشعبي بمدينة بنغازي، كما في (غاندي– رواية حمزة الفلاح)، وكأن المفارقة أن الفن الملاذ. وفيما تبدو روايتا جاييرا وغاندي كمنولوج، فإن قصور الشعير ديالوج، التي فيها الحرب في خضمها فيما جاييرا وغاندي، على شفا انهيار النظام، وفيهما المكان/المدينة معتمة وقابضة في سياق السرد والنسق الدلالي.
إذا كان مدخلنا أن الرواية الأولى حجر الأساس، فإن المعماري يرسم تجريدا للبيت بأبعاد محكمة، تتقاطع والكتابة الإبداعية التي لا قواعد لها، كما أكد بارت على أن “الكاتب ذاته لا يمكنه أن يعيش عمله الأدبي كتأسيس، بل هو يعيش مغادرة ضرورية”، وكما وضحنا أن الرواية الأولى حجر الأساس المنسي، فتكون مغادرته فيه، فكأنه رواية لروايات. وفي الروايات الثلاث التي تناولنا، إستراتيجية سردية لاهثة في نقلاتها، تحدث كمن يقلب الصفحات، وفعل (كان) الماضي الناقص عكاز هذه النقلات، ما يشكل الذاكرة القريبة من التراث السردي العربي، ويسوغ التوليد السردي العفوي، فتنسج الرواية الأولى بصيغة السرد الحكائي القريب من النبع، وتتدفق ذاكرة الكاتب في مسارب عدة، بغض النظر عن سياق السرد الروائي، لكن هذه ما يبين أنه حجر أساس لمعمار روائي.
إبراهيم الكوني الروائي، من فوجئ بالرأي الأوروبي، أن الرواية للمتعة والتسلية، فإن الرواية عنده رسالة ومتعة، كتب ما نشر على الغلاف الأخير، لـ(مقبرة المياه– رواية محمد عبد المطلب الهوني): “أبشرك بأن عملك أصاب، هذين العصفورين العصيين، بضربة واحدة، مما يعني أنك استطعت، في أول عمل روائي تكتبه، أن تشيع فضولنا للمتعة الجمالية، إلى جانب أداء واجب أعظم شأنا هو: الروح الرسالية، وهذا وحده أكثر من كاف”.
وهذا يلفت النظر إلى أننا نعيد الكلام في الكلام، لكن لنتحقق منه في كلام آخر، الذي هو نسق سردي في حال الرواية الأولى. لقد جعلت من رواية (مقبرة الماء) الرواية الرابعة، في هذا المبحث، لأسباب شكلية تخص كاتبها، من كتب الرواية في عقد متقدم من العمر، من ناحية، ومن أخرى فإن المكان تعدد بقدر خبرة الكاتب من عاش في بلدان ومدن عدة. وأن للهجرة كسياق سردي، نسق جمالي وسياق دلالي خاص، لكنها رواية ديستوبيا كما الروايات السابقة، ورقعة الديستوبيا فيها ميناؤها سوريا ومحطتها ليبيا ومرساها جزيرة ايطالية، و(زكريا) الشخصية الرئيسة سورية مستقاة من الخبر العاجل، ما عاشه كـ(مهاجر غير شرعي!).
رواية (مقبرة الماء) سفر هذه الهجرة، تراجيديا الألفية الثالثة. وإن أخذت الروايات الثلاثة مساق فوضى الحواس، من حيث انفلات السياق السردي، والخطاب الهجائي العبثي، فإن لـ(مقبرة الماء) بنية سردية كلاسيكية ودلالة متسقة وهذه البنية، محمولها رسالة كما أشار إليها إبراهيم الكوني، باعتبار أنه “لا يمكن لأحد أن يكتب، دون أن يتخذ موقفا انفعاليًّا، مهما بلغ تجرّد الرسالة الظاهر، مما يحدث في العالم…” حسب بارت، لكن (مقبرة الماء) يقسمها مكونها من عالمين متضادين ثنائيين أبيض وأسود مثل زكريا المطارد المستقيم وابن عمه مراد الشاذ على كل مستوى، وغير ذلك من تقسيم في الخطاب السردي المحكم، بين جلادين يفتقدون لأي حس إنساني وضحايا مغلوبين على أمرهم.
وهذا التباين بين رواية (مقبرة الماء) و(جاييرا– رواية سراج الورفلي) و(غاندي– رواية حمزة الفلاح) و (قصور الشعير- رواية أوسمان بن ساسي)، لا يخفي المشترك بينها كرواية أولى، السارد فيها سياقه الدلالي قول كل شيء ومرة واحدة، في لغة سرد بلاغتها الهجاء والسخط. وكل رواية حامل هذا الخطاب فيها، الشخصية الرئيسة ما عرف في النقد القديم بالبطل، من يستحوذ على كل المساحة السردية كمقهور مطارد ومطرود في آن. والناقد في هذا ككاتب الرواية، يكرر تيماته، حيث التكرار السمة السردية الأولي لهذه الرواية الديستوبيا، وتعليل ذلك أن المسار السردي التصاعدي في الرواية الأولى تيمة واحدة مكررة، أي إن المتواليات الحكائية، كما حكاية ترتكز على حكاية محمولها واحد في الأخير، حروب أهلية فاجعة انشطارية، تحرق الأخضر واليابس.
مقاربة (سمعان القوريني الليبي الذي حمل الصليب- رواية محمد عبد الله الترهوني)، تختلف مع الروايات السابقة، فإن كان السياق السردي والدلالي في تلك الروايات كما نزعم أنه سياق رواية الديستوبيا، فقد تكون رواية محمد عبد الله الترهوني الأولى عكس تلك الروايات. أي إنها رواية يوتوبيا، التي عيارها أدب المدينة الفاضلة أو الطوباوِية أو المثالِية، وقد يكون ذاك في الماضي، أي في تاريخ مجتمع ما، أو في سيرة شخصية مميزة مثل (سمعان القوريني الليبي)، من هو بوصلة السياق الدلالي لهذه الرواية، أو ضلع رئيس في مثلثها: (مرقس)، (بوزيد)، (بوشيحة). هذه الرواية الأولى، شخصيتها الرئيسة كاتب يعاني عجزا ككاتب، فيعتزل بمدينة شحات التاريخية بالجبل الأخضر بليبيا، حيث يلتقي الشخصية الساردة (بوزيد)، التي تسرد له سيرة (بوشيحة) المعتزلة!، من درس وبحث في سيرة وفكر (سمعان القوريني الليبي).
وهذه الرواية تكتظ بمحاورات بين مثقفين، واستدعاء لسرود أسطورية وقصص شعبية، ووقائع تاريخية وانثروبولوجية وفكرية فلسفية ومعلومات استطرادية، وفي نصها “كنت دائما، أستغرب خروج بوشيحة، من موضوع إلى آخر بشكل مفاجئ”، وإذا كان هذا ما يحدث من (بوشيحة) فإنه السياق السردي للرواية، دون نسق سردي غير التداعي الاسترسالي، ما تنبئ به منذ صفحتها الأولى “تقول الأسطورة: أبسثوس الليبي أراد أن يكون إلها، لكن على الرغم من كل الجهود والتجارب، فشل في الوصول إلى مبتغاه. هذا ما جعله يغير قليلا في طموحه، هذه المرة أراد أن يعتقد الناس، أنه قد أصبح إلها. ومن أجل هذه الغاية جمع الكثير من الببغاوات، فقد كانت موجودة في ليبيا بكثرة، وتقلد صوت الإنسان بشكل واضح. احتفظ أبسثوس بالببغاوات إلى أن تعلمت قول: أبسثوس إله، وعندما أتقنت الببغاوات قول ذلك، فتح الأقفاص وترك الببغاوات تذهب في كل اتجاه. أخذت الببغاوات تصرخ أثناء طيرانها قائلة: أبسثوس إله، أبسثوس إله، وقد سمع كل من في ليبيا هذه الكلمات، كان الناس البسطاء مندهشين، لم يعرف أحد بخدعة أبسثوس، ولهذا فقد أصبح إلها لهم …”.
ومن ذاك فإن (سمعان القوريني الليبي الذي حمل الصليب)، رواية استراتيجية السرد فيها الاسترسال وسياقها التداعي، وخطابها بحث في التاريخ الفكري من جهة، ومن أخرى هي سردية سيروية لشخصيات النصوص الثلاثة المشار إليها، ومن هذا تشبه الحفريات التي يمارسها علم الآثار، خاصة وأن مكان الرواية: مدينة (شحات) التي هي موقع مدينة قورينا، والتي أنشأها الإغريق سنة 631 ق.م تقريبا. ولكن هذه الإستراتيجية السردية المثقلة بالاستطراد، لا ينفك نسقها ولا يشتت القارئ، بيد أنها لسان حال الرواية الأولي الفصيح، كما وضحنا، أن السارد فيها سياقه الدلالي قول كل شيء ومرة واحدة.
الرواية الأولى: (خبز على طاولة الخال ميلاد– رواية محمد النعاس)، أول رواية قرأتها في هذه السداسية الروائية، ما تناولتها بالبحث ضمن مسألة الرواية الأولى، لكن اتخذتها كختام، لأنني أردت من خلالها الإشارة إلى علامة تخصها (الجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر 2022”)، ما رقش ناشرها أعلى غلافها الأول، ثم ما كتبه على غلافها الأخير:”تتناول هذه الرواية تعريفات، مجتمع القرية المختلفة للرجولة، لكنها تحتفظ بتعريف واحد، للرجل أو (اللارجل) الذي يكون ميلاد الأسطى رمزا له. تعيد هذه الرواية، مُساءلة التصورات الجاهزة لمفهوم (الجندر)، وتدين القوالب النمطية الجاهزة، التي تحصر وظائف كل من المرأة والرجل في أطر محددة، إذا تخطاها أحدهما، تخطى الحد الذي سطر له”، وبالرقش والكلمة أراد الناشر إظهار محاسنها وفتنتها. لكن بطبيعة الحال، لا تمنح أية جائزة الرواية أن تكون رواية، التي هي ما تمنح الجائزة مصداقيتها، ولا يكفل ذلك (الجندر) ولا أي دلالة اجتماعية أو غيرها، والأهم أنها رواية، وهذه البديهة التي عرفها كل قارئ مجد للروايات، قد تغيب عن قارئ مبتدئ.
المفردات السردية: الخبز، ميلاد ذو الرجولة الاستثنائية، اليهودي، تمثل نسقا سرديا دلاليا، القاعدة في المثلث: الخبز مشكلا بحرفية سياق الرواية، فيكون الوجه الآخر لميلاد، وهو قماشة هذه الرواية، فيما ميلاد الشخصية الرئيسة يمثل عمودها، بينما اليهودي -وإن كان شخصية جانبية في السياق السردي- فإنه في سياق الدلالة ميلاد آخر، فما يجمعهما أعمق مما يفرقهما. وهذا يأتي في حبكة صارمة، لها بداية ووسط وخاتمة، فيجد القارئ بنية الرواية الكلاسيكية، كما نسق سلس تيماته غير اعتيادية ولكنها معقولة، ومسارها السردي تصاعدي، دون متواليات سردية كثيرة، وفي لغة تقريرية خالية من أي محسنات لفظية وبلاغة شعرية. وتكسر السياق السردي (المدام) ما تبدو شخصية خارج نسق الرواية، ليس في السياق الدلالي فحسب بل وفي السياق السردي، فقد حيكت من خيوط ليست من نسج شخصيات الرواية، فبدأت كما (العزول) في هذا النسيج. وبالإضافة إلى ذاك، فإن تفصيل الرواية تحت مسميات (فصول)، لم يمثل إضافة مثل: “المعسكر- تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة، مثل ليبي عن الرجولة. أن يعيش المرء رجلا صاحب مواقف وشجاعا يوما واحدا، أفضل له من أن يعيش عشرة أضعافه خائفا ذليلا كالدجاج”. وهذا ما يبين أيضا أن الرواية الأولى تنزاح عن نسقها السردي، لأن ثمة إرادة قوية في قول كل شيء وفي مرة واحدة، لكن (خبز على طاولة الخال ميلاد)، رغم أنها رواية أولى، تنفرد بأن لم يثقلها كثيرا ذاك الانزياح السردي.
وفي الختام
لست أعتقد في الرواية الوطنية، فالإبداع كما الفكر لا يحمل جنسية كاتبه، وإن حمل بالضرورة رؤيته الفكرية ونظرته للإبداع، وبالتالي مسألة الرواية الأولى نابعة من الكاتب، مشروطة من حالتها التي بيناها في هذا البحث. لكن ذا لا يقتلع الكاتب من محيطه، ما هو جذر رؤيته ونظرته، ولست بهذا على مذهب (لوسيان غولدمان) في بنيويته التكوينية، ما تبحث البنية الاجتماعية للمؤلف والنص. أما داعي هذا التوضيح أنني تناولت الرواية الأولى، من خلال الروايات الست المذكورة، لتوفر عناصر تخص النصوص وتخصني، فهذه الروايات كرواية أولى كتبت ثم نشرت في زمان واحد تقريبا، وكنت أشرت إلى جانب آخر يخص كتابها، وأعني معرفتي أنها الرواية الأولى بدقة نسبية عالية. أما حول محلية الإبداع، التي كثيرا ما تثار، فهي مسألة ليست من سياق هذه القراءة كما أظن، وبخاصة أن العصر السيبراني قد ساهم في تشكيل سردية منفلتة ونثر العالم، بحيث بدا وكأن كل قارئ مساهم في نسج النص، بطريقة مباشرة عبر ما ينشر منه، أو غير مباشرة من خلال علائق الكاتب بالعالم الفسيح والحداثة السائبة، ولدرجة فيها القارئ بالعربية مثلا متعدد الأرومة ويسكن هذه الأرض، ومتاح له ما لا يتاح بشكل لم يخطر في بال ولا تخيله مخيال.