«لقدْ أصبحَ القولُ بأنَّ الروايةَ هيَ كائنٌ مدينيّ»-
جورج هنري رالي- نظرية الرواية ص104.
«المدنُ مثلُ الأحلامِ مُكونةٌ من رغباتٍ ومَخاوفٌ»-
إيتالو كالفينو- مدن لا مرئية ص46.
«إنّ التذكرَ بمفهومهِ الشائعِ، والمتعلقِ بالسيرةِ أوْ الترجمة الذاتية،
يفترضُ مُسبقاً تقمصاً نفسياً»- جاك دريدا –أحادية لغة الآخرص43.
«سألتْ زينُ البومةَ : حدّثيني عن أُمّي !!
حدّقتِ البومةُ في زين وظلّتْ صامتةً، وعيناها تزدادانِ اتّساعاً وغموضاً..
خُيّلَ إلى زين أنّهُ لا توجدُ حقيقةٌ، بلْ حقائقُ بعددِ الناس»-
غادة السمّان – الرواية المستحيلة ص479.
قراءة شعر غادة السمّان تتمُّ بالقلبِ فقط ! فلغتهُ خلاصةُ كيمياءِ أحاسيس ٍ ومشاعرَ هادئة، وكأنّ الشاعرة تعيشُ بأحشاءِ نسمةٍ، أوْ وردةٍ تسهرُ على تشكيلِ لونها، أمّا نثرها – روايتها فانّها تُقرأُ بالعينِ والقلبِ معاً، لما فيها من حقائقَ، وتواريخ، وأحلام، وشاعرية، ورؤى بعددِ الناس.. و«الرواياتُ يمكنُ أن تكونَ ملاحمَ نثرية»– كما يقولُ ديفيد ميسن.. و(الرواية المستحيلة) الفسيفساء الدمشقية روايةٌ ملحمية بامتيازٍ !!
يقولُ ميلفل انّ «المدينةَ كيانٌ ميتافيزيقي»، والرواية المستحيلة رواية المدينة – دمشق التي تربتها من كرستالٍ وضوء..وقدْ تحولت هذهِ المدينة بفعل فسفور أصابع غادة السمّان وعسلِ قريحتها إلى قطعةٍ شعرية.. إلى سيمفونية.. إلى أُوبرا يُمتعُ الإصغاء لها،
ويصعبُ محاكاتها: (وحينَ عدتُ ووصلتُ إلى دمشقَ ليلاً، ودخلتُ «زقاق الياسمين» نصف المظلم ماشياً صوبَ البيت الذي لا تستطيع السيارة أنْ تبلغَ بابَه لضيق الزقاق، شعرتُ بشيءٍ من الراحةِ.. هذهِ مملكتي وغابتي التي أعرفها وأُحبُّها)- الرواية ص23.
وللمدينةِ وجهها الآخرُ، الأكثرُ شاعرية وحميمية، وهوَ (هند)- ذات الكاتبة.. والضمير الذي يحتفظُ بجميل التفاصيل في نسيج الحياة، لتبدو حُبّاً.. وذكرى.. وشعراً.. وأحلاماً، ولتتشكّل المدينة فسيفساء باهرة، كلُّها تجتمعُ في (هند) ومن بعدها (زين) امتدادها وحبلها الضوئيّ الموصل حتّى آخر الزمان.. ويشعُ بها جسدُ (أمجد الخيال) على العائلة الكبيرة.. وبينَ صوت (هند) المرأة الممتد عبرَ الزمنِ، وظل المدينة (دمشق) قاهر الحجر والزمن، ومبدع الكلمات والقصائد، تشتعلُ نار الحنين التي لا تنطفئ ولا تهدأ ومهمة الرواية «تعكسُ ولا تقلّد» كما يقولُ لوكاش: (إنّني بحاجةٍ إلى الانفراد بصوتِ جرحي، موت هند زلزلَ عالمي ونظرتي إلى نفسي ومن حولي، وما حولي.. إنّي بحاجةٍ إلى إعادة النظر في هذا العالم المرتّب الذي يرتّب لي شؤون حياتي وينومني إلى المدى الذي يسمحُ لي بأنْ يُفكر عنّي، ويغتال احبَّ الناس إليّ بمعونتي)-ص26.
يقولُ ج.هـ. رالي: «وليسَت مُبالغةً أنْ أقولَ أنّ المدينةَ كانت عدوَّ الرواية»- نظرية الرواية ص12.
وإذا كان بلزاك قدْ رأى في المدينة(خطيئة ورذيلة)، ولدى دستوفسكي (بيت نملٍ مُدمّر)
وميلفل (صحراء حجرية)، وبروست (سدوم وعمورية)، وريشارد جيرج (شأن أفعى أوربوس الخرافية)، وديكنز (حالة مشوشة من التفاصيل)، وتوماس هاردي (العجلة والوحش)، وكتّابٌ آخرون رأوها (تجمع سكانيّ) و(تجمع حشري) و(تكتّل طفيلي)، و(تجمع الاستبداد).. باستثناء فولتير الذي رآها عالماّ مخملياً لأنّها (موطن الحرية والتجارة والفنّ والصناعة والمتعة).. !!
فكيفَ هيَ المدينةُ لدى الكاتبة والروائية الكبيرة – غادة السمّان؟ كيف تبدو دمشقُ في حدقةِ عينيها، وعلى صفحة روحها المشتعلة شوقاً وحنيناً؟؟ والتي تماهت سيرتها مع سيرة الكاتبة (الراوية).. وهي صورة جانبية لـ (هند) وصورة متكاملة لـ(زين) وصورة شديدة الضباب لـ (أمجد الخيال) !؟؟
«كنتُ أتمنى أنْ أغطّيها بحجاب، وأزرعها في خيمةٍ تحيطُ بها صحراء، ولا ترى سواي، وفقط حينَ يتّسعُ وقتي لمشاهدتها، وكم كنتُ أشعرُ بالضيق في « منتدى سكينة» حينَ تتحدث هند بقولٍ كالسحر، وتغسلها العيونُ إعجاباً»- الرواية ص19.
أهيّ (هند) هذهِ التي تنشرُ ضوءها الباهرَ، وتفيضُ بأمطارها الروحيةِ، وعطر ربيعها الدافيء أمْ أنها دمشقُ– المدينة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.. قصصاً.. وحكايا..
وأناساً.. وتواريخَ.. أمْ أنّّ المدنَ نساء فاتنات، تغيبُ اجسادهنّ، وتظل صورهنّ تجدّد الأحاسيس والمشاعر والأيام والمواعيد، وإذا كانَ تاريخ العالم كما يقولُ شبنغلر هو «تاريخ مدن»، فانّ الشعراء والكتّاب المذبوحين عشقاً، يرونهُ تاريخَ نساءٍ.. وجمالٍ.. وشعرٍ.. وكلماتٍ، أليسوا هؤلاء مجتمعين مانحي «الجمال للفن» كما يرى فيرنن في (صنعة الكلمات)!!؟: (وهيَ مستمرةٌ في السرّاء كما في الضرّاء صلبة ومغروسة في مكانها كأنّها المرأة الأولى في التاريخ التي عرفت معنى الاستقرار في مكانٍ واحدٍ.. ولعلَ هذا الالتصاق بالمكان هوَ الذي قوّاها وأعطاها بعضاً من بركة العناصر الأولى : الماء والتراب والهواء والنار)- ص33.
تماهى سحر (هند) بسحر المكان – دمشق ، ولدى (أمجد الخيال) فانّهما توأمان، بلْ دنيا من الأحلام، والذكرى، والمواعيد الصباحية، .. تفاصيل حياة (هند) هيَ تفاصيل مدينة نضرة، و(هند) اسم بلْ هيّ كلّ الأسماء، ودمشق أميرة المدن، وجوهرة المكان والزمان معاً :(رحلت هندُ وبقيَ عبيرُها في الياسمين المتورد المُلون، والمدادة «المجنونة» بلونها الجميل الشرس، مثل سكين تقصّ قلبه على حدّ الرقة)-ص34
وتتماهى أيضاً رائحة الإنسان برائحة المكان، ولكنْ مَنْ يُخلّد الآخر؟ مَنْ يؤنث مَنْ؟
ربّما ما رآهُ الفيلسوف ابن عربي أنّ «المكان الذي لا يُؤنث لا يُعوّل عليه» هوَ عين الحقيقة !!
«أمّا الذي يُثيرنا فهوَ السايكولوجية التصويرية»- جون هولبرن – نظرية الرواية ص 73.
وما أثارنا في هذهِ (السايكولوجية التصويرية) أنّها جاءت بأصابع وقريحة الروائية غادة السمّان نستولوجيا شعرية.. موحية.. بانية.. موقظة.. متجدّدة، وليسَت حزينة مُحبطة، أوحى بها دفء المكان.. وسحر الأنثى (هند) الغائبة – الحاضرة، بكلّ حدائق الحنين التي لمْ يُبدّد عطرها، ويعبث في هندسة ألوانها جبروت ورعونة وغدر الأزمنة :
(خُيّلَ إلى أمجد أنّ البيت الكبير بأكملهِ قدْ تحوّلَ إلى رئةٍ هائلة ِ الضخامة، تتنفس بكلّ ما يضمهُ صدرها من عصورٍ وأشباحٍ وأرواحٍ، أجداد مرّوا بهِ، وخلّفوا فيه حضورهم، ودفنوا تحتَ ترابهم كنوزهم، رئةٌ تتنفسُ بروحِ هند التي تحولتْ إلى «ستيتية» بيضاء صغيرة)- ص 37.
«فالرواية تخلقُ الجمالَ أساساً في معالجتها لما هوَ داخلي وباطني»- فلوبير !
تُرى ماالذي كانَ يٌقلقُ (هند) روحياً وحياتياً وإنسانياً؟ أهيَ الحرية – عسل الوجود، والصّلاة التي لا تصيرُ ولاتُؤدّى قضاءً !؟ أمْ هوَ حبّ المكان الذي لا يبدو حقيقياً وشرعياً إلا بهبوب نسمات الحرية.. حيث تسقط كلُّ بلاغات التجبّر والتسلّط التي تبدعها الأعراف والتقاليد لأنّها بلا أبجدية.. والسعي إلى الحرية حتّى بالموت الوجه الآخر للولادة الأكثر فوضويةً وصخباً :(شاهدتها للمرة الأخيرة وهي تغادرُ ثوب الارتجاف والخوف الذي أرغمتها على اراتدائه، وتتحرّر منّي من كلّ شيء، وتمتطي حصانها الأبيض إلى حيث لا أدري.. آه !! كيفَ أمحو خطواتها عن أرض الديار وعن صحن ذاكرتي؟)- ص38.
«وضعت لها أُمّها جمرة مشتعلة في فمها، أحرقت لسانها، لأنّها قالت «أُحبّه» وأفهمتها أنّ هذهِ الكلمة عيب»- ص 54.
ترى الروائية الكبيرة غادة السمّان انّ الحبَّ حرية، كما الشعر والكتابة والحلم، ولهذا لا تستطيع سلطات الأعراف والتقاليد الزائلة أنْ تصدرَ مرسوماً جائراً في حقّهِ، وإذا أرادت شرطة الأعراف أنْ تبني سجناً، وتؤثث نعشاً لامرأةٍ مولودةٍ من رحم الصباح والربيع والكلمات، مثل (هند) كلّ النساء، فأنّ (زين) امتدادها بفوضاها الضرورية، وعبثيتها، ولا مبالاتها، وجنونها، تؤرّخ لامرأة كلّ العصور، و تضعُ حجر الأساس لمدن الحبّ والحرية من وردٍ، وريحان، وقُبل، وهي أخلد من(جهنم) الأعراف والتقاليد : (حر جهنم هبّ ذلكَ اليوم من ولادة البنت أكثر من القنبلة الذرية)- ص54
ودائماً لحظة ُ حبٍّ أخرى، هي منطاد النجاة، وأكثر أدوات المقاومة شفافيةً وصخباً ضرورياً : (أخذها هذهِ المرة بينَ ذراعيه القويتين، وضمها إليه كالمسعور حُبّاً، والتهمها بالقُبلات على وجنتيها، وفوق عينيها الزرقاوين وجبينها وشعرها الأشقر، وشدّ عن كتفها القميص القطني الأبيض والتهمَ عنقها، وانحدر صوب نهديها، وكانا يرتجفان في زلزال يرسلُ موجاته في جسديهما)- ص76.
هوَ حُبٌّ شعريّ !! هكذا أخلدُ وأجملُ.. وكلّما كانت (الفكرة جميلة كانت اللغةُ أعذب) !! ذلك هوَ موجز (ذكريات وهمية).. كلٌّ يكتبُ ما تختزن وتمليه ذاكرته.. وما تسمحُ بهِ لغتهُ وأبجديته، فللمكان ِ لغتهُ وشفرة أسرارهِ، كذلك الأشياء لها لغتها وأسرارها، ولا أحد في (الرواية المستحيلة) يكتمُ سرّاً !!
« إنّ الرواية العظيمة هيَ التي تصورُ الحياة بصفتها نمواً للذهن واتّساعاً له»- جورج بوليه – نظرية الرواية ص83.
حينَ يكونُ هناك متّسع من المجال للأحاسيس البشرية، يمكنُ أن تتيحهُ المدينةُ لشجرةٍ – امراةٍ تعطي ثمارها وظلالها وغناء عصافيرها بكلّ خجلٍ ياقوتي، ولكنها لا تجدُ من آلهة الأوهام.. وعبدة الأعراف إلاّ الظمأ والغبار والصقور الجارحة.. وفي (الدفتر السرّي) امرأةٌ من كلماتٍ، تقاومُ دفاعاً عن وجودها.. وأنوثتها.. وأحلامها غير آبهةٍ بمصانع الأغلال والأصفاد التي تفتتح بحضور الظلمة والقهر والأحزان باسمِ دولة وسلطان الذكورة..التي ترى في مملكة الأنوثة مبعث الخطيئة:
(تهمسُ عجوز : إنها مناكدة كصبي.. ولكن يا للخسارة فلوْ كانت زين صبياً لما ماتت أُمّها )-ص95 و(كلّ البلاء من البنات)- ص96..!!
والمرأة هيَ السبب أيضاً في التفكك الأسري، وإهدار الأموال والثروات، ليسَ هذا فحسب، فأنّها ربّما هي السبب في حدوث الزلازل والبراكين وحتّى الاحتباس الحراري..هذا ماتنصّ عليه دساتير الأعراف !!وعلى عكس ما تُخبرُ بهِ القصائد.. وأمطار الكلمات!
(فالبنت هيَ ألعوبة في يدِ أبيها لا كالصبي، وامتلأ صدرهُ نقمة على هند وعلى جنس النساء الذي يسبّب الأذى دائماً لثروة الأسرة بإدخال الغريب إليها)-ص103 و(قالت إنها تحبُّ، فعاقبتها أُمّها درية خانم) و(الغول الذي اسمهُ الحُبّ)-ص114 و(اللعنة على البنات لا يأتي منهنّ غير الإزعاج)-ص115.
لكنّ عطرَ (هند) يطغى على هذهِ اللعناتِ المبيتة، وفوضى وعبثية (زين) تحرسانِ لها ورود البراءة، ليبدو زحفُ قوارض الأعراف عبثاً، وإذا كانَ هناك ثمة ذنب للأُمّ ومأساة تؤرّق (زين) وتعبث في خطواتها الربيعية، فأنّ الإحساس بأنّهما متشابهان، ويكملان بعضهما، وهما كلّ النساء، هوَ كتاب الألفة.. والتواصل.. والحرية.. والوجود الذي تترجمُ (زين) سطوره إلى لغةٍ تتعدى الكلمات والتي لا تقوى التقاليد والأعراف على قراءتها، و(هند) و(زين) هما كتاب النور.. فمن أينَ للظلمة (الأعراف) القدرة على قراءة سطوره : (البنت لا تحبّ ولا تكرهُ، تأكل ما يُقدّم لها، هيّا كُلي)-ص137
و(تحبُّ زين الكتب، تشعرُ عبرها بفرحةٍ تشبهُ فرحتها حينَ تفتح النافذة في الشتاء فترى الشمس)-ص149. والاثنتان امتداد طبيعي لعطر وسحر المكان، الحافل بالذكريات، والأحلام، والمواعيد: (قالَ أمجد لابنتهِ: اغمضي عينيك، وتنفسي جيداً، دعي الهواء النقي يدخلُ عبرَ مساماتك حتّى روحك، تنفسّ سوريا.. تنفسّي رائحة بلدك)-ص161. و(دمشق) و(هند)- الأُمّ و(زين) – الامتداد والمستقبل تربتهم الأحلام المتلوة باليقظة العسيرة.. تُرى هلْ ترى وتؤكّد غادة السمّان وراثة الأحلام كما الجمال؟.. وهلْ ورثت (زين) الحلمَ كما ورثت قراءة الكتب والقصص عن أُمّها؟ أمْ أنّ للرواياتِ تفسيرها المتنوع للحياة أكثر من القصائد كما يرى ميسن: (قالت لها أُمّها الجميلة إنّ صوتَ الصّدَفة شيء عظيم لأنهُ صوت البحر، ويجب أنْ تتعلّمَ كيف تفهم لغته، ثمّ نامت على الشاطئ فحلمت بأنّها بنت صغيرة في دمشق، أُمّها مسافرة.. وهذا الحلمُ المزعجُ يضايقها.. أمْ تراهُ ليسَ حلماً؟)-ص179. وإذا كانت (زين) تجدُ في الحُلمِ مساحة من الحرية.. فهل تقوى على قراءة العائلة الكبيرة، وتحفظ ملامح دمشق – المدينة وفيها هذهِ الغابة المكتظة من الشخصيات شديدة التناقض والاختلاف في أفكارها وسلوكياتها!!.. وهل تبدو (زين) في عالمها الفوضوي العابث تغرّد خارج السرب في هذهِ الغابة الآدمية التي يلفها الغموض، وتعطي أشجارها الهرمة ثمار العُقدِ والممنوعات والمحرمات، حيث علامات الاستفهام والتعجب بلا عدد.. وبلا انتهاء !!: (استيقظ أمجد كأنّ يداً قلقةً هزّتهُ.. مضى إلى غرفة زين فلمْ يجدها نائمةً في فراشها.. خرجَ إلى الشرفةِ، فوجدها في منتصف النهر، وهيَ تصارع الماء عكس التيار بكلّ قواها، فتبدو واقفةً في مكانها) – ص210.
«للمرةِ الأولى تذوقُ زين طعم الفضاء والحرية المُطلقة.. أنْ تكونَ وحيدةً في الليل مع المجهول والأسرار، وتمشي بلا رسن في عنقها»- ص228
ترى (زين) – هند القادمة أنّ أولَ نسمات الحرية هي المغامرة.. لحظة تفوّق الأنوثة على سلطات الذكورة الأزلية، وشطب ما بقيَ من صيغ وتعاليم ووصايا الأعراف والتقاليد :
(ثمّ تذكرت أنّها ليستْ زين العابدين زعيم العصابة الذي لا ينطق بغير ما يبهج أتباعه، وتمنّت للمرة الألف لوْ كانَ دريد ولؤي هنا ليشاهدا كيف خرجت في الليل وحدها، وكيفَ لعبت دور زين العابدين تحتَ الشمس، والآن في ضوء القمر)- ص228.. و(إذا صحّ ذلك يجب أنْ نحاصرَ الفضيحة.. ونكتم السرّ، سيقولون إنّ بنتاً سبحتْ في الدوار، وليسَ بيننا مَنْ يجرؤ على ذلكَ)- ص231.
وفي خاتمة (الدفتر السرّي) للمراهقة التي تصنع نفسها، هذا الإصغاء لموسيقى المكان، وهوَ يبدعُ لغته ، لتصبحَ على أصابع الكاتبة والروائية ثماراً نادرةً من الكلمات الطازجة والبلاغات الساحرة والمقولات المأثورة، والأمثال الشعبية الدمشقية التي تمنحُ الرواية نكهة خاصة، عبر السرد الروائي المُحكم البناء.. والعميق الرؤى: (كمْ مرّ أمثالنا على هذهِ العين، ثمّ ذهبوا في غمضةِ عين )- ص250.
«لقدْ غذّينا القلبَ بالأوهام، ليصبحَ القلبُ غليظاً قاسياً»- و.ب. ييتس !!
تتحولُ هذهِ الغلظةُ والقسوةُ لدى المرأةِ في (الرواية المستحيلة) إلى ثورةٍ..إلى تمرّد على المألوف.. إلى قصيدة نثر مزعجة جدّاً، ولكنْ من أجل الحُبّ، «فهناك مشاعر وأفكار لا يُمكن أن توصفَ بالكلمات»– مكسيم غوركي.. ومن أجل الكرامة.. وردة الأنوثة التي تظل زاهيةً.. عطرةً..لا تعرف الذبول، حينَ تنتصرُ (جهينة ) لأنوثة تتجدّد.. وتتشكل حياةً جديدة:
(فقط أنْ أتركه حيث هوَ، وأمضي إلى عرس زوجي – الذي تسبّبَ به – كأنني لمْ أرهُ يموت، وأنتقم منهُ ومن بناتهِ ومن زوجتهِ ومن زوجي الذي ستتحول ليلة عرسهِ إلى مأتم لوالدهِ )- ص261.. ولكنّ في ثورة الأنوثة رحمة.. وفي عواصف الحُبِّ مطرٌ لؤلؤيٌ دافئ: (تنحني على الرجل العجوز، تحملهُ بينَ ذراعيها القويتين، وتعيدهُ إلى فراشهِ، وهوَ يُحدّقُ فيها بذهول..)- ص261.
«هلْ تريد أنْ أكملَ لكَ قائمةَ تواريخ النّحس؟ إنّ تواريخنا المأساوية بلا نهاية » – ص592…
هكذا ينبضُ قلبُ الروائية الموقوت على نبض قلوب أناسها ومواطنيها، وهم تتماهى همومهم الأزلية الثقيلة مع همومِ الوطن.. الموصولة شرايينه النحيلة بسطور التواريخ الحزينة.. أهو تماهٍ وحُبٍّ فحسب، أمْ أنها لحظة حساب أيضاً؟:
(ولِمَ لا؟ عيدٌ إضافيّ لا يُؤذي أحداً في وطنٍ نصف تواريخه مآسٍ وفجائع ومذابح»- ص 297.و«كانَ العدوُّ واضحاً..الانتداب الفرنسي وقبله الاستعمار العثماني..الآن دخلنا في التعقيد، وبدأنا نضل الطريق وصار دود الخل منهُ وفيه، وصرنا جاهزين لحرب أهلية صامتة بلا إطلاق نار»- ص293.
وحينَ يعظمُ الهمّ الاجتماعي، ويزكمُ صدأُ الأعراف والتقاليد أنوف الناس.. ويصبحُ الهمّ السياسي أكثرَ قلقاً، لا يحتاج المواطن لحظتها إلاّ إلى هواء نقي، طارد لرائحة النفاق والتملق السياسي، المفضي إلى المزيد من القلق والضياع والغياب.. ولمْ تعُد لغة الكتابة هيَ التي تتحدّث، بلْ قلوب الناس، ورئة وطنٍ ترتعش نحولاً.. وخوفاً: (ولكن كلّ الأنظمة فاسدة حينَ يطبقها أغبياء أوْ فاسدون)- ص 314.
رُبّما بدا الجانبُ السياسي والفكري نحيلاً أمام الجانب الاجتماعي والاقتصادي والوطني الصميم، كما تخبرُ بهِ سطور الرواية :(فلِمَ لا تخونين جدّكِ الإقطاعي والد أُمك، وتنحازين إلى ما يمثلهُ والدك.. وإلى الشعب.. وإلى حزبنا)- ص323.
«اللغةُ تفضحُ كلّ شيء»- هانيرش بول !!
ولا أجمل من اللغةِ حينَ تصبحُ (فهرست لروح المؤلف) كما يُعبّر جون هولبرن.. فالكاتبة – الراوية هي (هند) وهي (زين)، وهي المرأة التي تحلمُ، بلْ تسبقُ حلمها أحياناً، لتشكّل بإصبعٍ غير مرتعش، وبعسل البراءة لوحاتٍ للحياة «لقدْ استعملت الكلمات كما لوْ أنّها رِيَش لرسمِ لوحة»- إنطونيو تابوكي : (أنتِ ابنة ُهند !! رحمها الله كانتْ كاتبةً استثنائيةً) و(إذاً لماذا يغضب والدي، كلما قلت لهُ رأي أستاذة اللغة العربية التي تتوسمُ فيّ القدرة على أنْ اكونَ كاتبة)- ص 363و (وأنّ سوسة الكتابة ستقرضني ليل نهار، منذ عرفت أيضاً من جولييت أنّ أُمي كاتبة)- ص370.. لتبدو تلكَ اللوحات التشكيلية مرسومة بإتقانٍ، لا بالأصابع فحسب، بلْ برماد الجسد، وحبر القلب، حتّى تأخذ إيقاعَ وسحرَ القصائد، ومتعة الرواية ولذتها في كونها الشعري و«الرواية الجيدة تعيش» – أندريه مورو: (تحاول زين أنْ تخطو بعيداً عن سديم الذاكرةِ.. تركض في متاهاتِ ليلٍ مائيّ لزجٍ ثقيلٍ صامتٍ.. تضيقُ أنفاسها.. تحاولُ عبثاً ألاّ تغرق.. فضاءات لا متناهية من الفراغ المزدحم بخواء الغموض وغبار الليالي الغابرة المتساقطة على رأسها، وهي عبثاً تقتفي أثرَ أُمها وسط دياجير المنزلقات)- ص 376.
«فأنا امرأة تنزفُ كتابةً، وتعشقُ كتابةً، وتحتضرُ كتابةً»- البحر يحاكم سمكة ص10.
حتى لوْ كانت الكتابة (انتحاراً )، كما ترى الروائية الكبيرة غادة السمّان، ولكنّهُ الانتحار الذي تعقبهُ الولادةُ الأكثر صخباً، لأنّها امرأة (تشتعلُ حياةً)، ولهذا أورثت بطلتها (هند) وامتدادها (زين) ، وكلّ امرأةٍ تشتعلُ حُلماً وأملاً وحياةً هذا الميراث الذي لا ينفد، حتّى لوْ هرمت الأزمان، وتفتّت الحجر.. لأنّ الكتابة أداة مقاومة ومتنفس أيضاً : (لوْ كنتُ أجرؤ على الكتابة لاسترحت قليلاً، ولربّما صارَ التعايش مع العالمِ المضحك المرعب المحيط بنا ممكناً)- ص 386.
.«الروايةُ حكايةٌ» – الروائي صنع الله إبراهيم !!
و(الفسيفساء الدمشقية) أرادت لها الروائية الكبيرة – غادة السمّان أنْ تكونَ مجموعة حكايات..وأنّ «لكلّ كاتبٍ قدراً معيناً من الحكايات، ولا بدّ أن يدخرها ليستغلها من حينٍ إلى آخر»- أرنست همنغواي.. حكاية المدينة – دمشق التي تسابق التاريخ والزمن، وهي تؤرّخ لطفولتها.. وأحلامها..وقصص عشقها الأزلية.. ثمّ حكاية (هند) التي أرّخت بنزيف جسدها النحيل (الكتابة) لأجمل لحظات الحُبّ.. والصدق.. والنقاء.. وحكاية (زين) التي تشكّل المستقبل بأحلام طازجة، وأصابع حتّى وإنْ بدت خطوطها عبثيةً.. فوضويةً، لكنّها حالة إثبات وجود وإصرار على أنّ البراءة تحكمُ و«لا يوجد أخطر من فقدان البراءة»- ماركيز.
وعلاقة (زين) بصديقتها (ناريمان) لا تبدو علاقة صراع وتنافس، بلْ هي تفاعل واستجابة حضارية ضرورية، حتّى وإن لونتها البساطة والبراءة والتردّد.. وهي حكاية الكاتبة.. صورة الذات الحالمة الطموحة فـ«الأنا قدْ شكلتْ نفسَها» – حسب تعبير جاك دريدا.. ولتبدو الرواية» صورة للواقع كلّه»- أندريه جيد (منذ تعارفنا قبلَ أعوامٍ، أحببتُ ناريمان كثيراً، وأحبتني..ولا تزال نافذتي التي أطل عبرها على عالمٍ، لا أعرفُ عنهُ شيئاً)- ص 411.
«آهِ.. الحُبُّ هلْ هوَ مُجازفة النفسِ أمْ قوّتها»- آرتور رامبو – الأعمال الكاملة ص603!!
و(زين) – هند الصغيرة التي تكتشفُ كلّ يومٍ نافذةً ربيعيةً، تطلُ من خلالها على عالمها البريء.. وكونها المضطرب.. تُحبُّ أيضاً، ولكنها حالة بينَ الحُبِّ واللاحُبّ، ممغنطة بأحاسيس طفولية أحياناً.. وأحلام كبيرة أحياناً أخرى :(لمْ أعد واثقة من أنّ قصص الحبّ الكبيرة كلّها يجب أنْ تنتهي بالفراق..!! ألمْ تكنْ علاقتي بمظفر حكاية حبّ كبيرة، ولكن ليس معه بلْ بيني وبينَ أوهامي.. وكيف أقنع ناريمان بأنني عاجزة عن حُبّ أيّ مخلوق، لا يتطابق وجهه مع قناعه )- ص 433.
وبقدرِ ما في حُبِّ (زين) من نزقٍٍ.. وطيشٍ..وصبيانيةٍ.. وبراءة فيه من المشاعر الصادقة التي تتشعب أحياناً إلى قصائد دافئة في حُبِّ الوطن.. والحرص والخوف عليه،
وقدْ صيّرَ هذا الحبُّ (الصبياني) للصمتِ صوتاً.. وكلماتٍ، لا تعني غير الوطن.. والأرض.. والحرية: (أريدُ أنْ أشكو لكِ زين.. لقدْ أضربت المدرسة بكاملها بتحريض منها، وعطلت يوم دراسة بسبب «الضباط الأحرار» ومحمّد نجيب وعبد الناصر)- ص441.. الكلمة حرية.. والحُبُّ حرية.. والوطن حُريّة، والشعرُ والكتابةُ هما أقصى درجاتِ الحرية !! و(زين) تُحبُّ الوطن.. تُحبُّ الحرية :(وأنا أُحبُّ الحرية،
وأعرفُ أنّها مثل أُمّي تنقصني)- ص442.
«إنّ الكلماتِ أفعال.. والإنسان يستطيعُ أنْ يُؤثّر من خلال الكتابة في التّاريخ»- جان بول سارتر !!
الروائية غادة السمّان تغتال الموتَ بالكلماتِ..وتصنعُ للتاريخ والرواة معاً أبجديةً جديدةً، والمرأة (البطلة) حينَ تكتبُ تُرتّبُ سُرّراً أكثرَ دفئاً للحياة.. تُموسقُ الكون، لا أن تقترف ذنباً كما تنصّ لوائح الأعراف والتقاليد المتآكلة.. الباعثة للظلمةِ واليأس والموت، والكتابة سلاحٌ أشدّ فتكاً للرتابة.. والغياب.. والضّجر:(ماذا فعلت المسكينة غير اقتراف الأدب؟ إذا كانت تُحبُّ الكتابة مثلي، أوْ أنا مثلها، يمتليء قلبي غضباً وأقسمُ على الانتقام لها)- ص453.
«وعملُ الفنّان هوَ إيجادُ شكلٍ يحتوي الفوضى»- ب.س. جونسون !!
والروائية غادة السمّان هي روح (زين)، وهي (كونترول) حركتها، وأفعالها..
و(زين) كتلة من فوضى، وعبث، وتطلع، ونضوج، وفضول أيضاً !! ماذا تريدُ أنْ تعرفَ هذهِ الطفلة، وهيَ تقتحمُ حرمة الممنوع؟ لماذا تريدُ أنْ تعرف المزيد من الأسرار العائلية؟ لماذا تراوغ.. وتناور..وتسرق الوقت الحميمي.. وتجرحُ حتّى البراءة.. إنّها مجرّد أوراق قديمة.. ورسائل بلا تاريخ..ولا دفء في حروفها.. ربّما فقدت بلاغتها..
وفسفور حبرها.. ولا توحي إلاّ بالمزيد من الحزن وأنّها (حقائق كاذبة.. وأكاذيب حقيقية) في أقلّ تقدير :(حاولت أنْ تفتحَ طرف أحد الدفاتر لتتلصص، ولوْ على بعض العبارات، فقد تجد عبارةً – مفتاحاً، وقعت عيناها على جملٍ يمكنُ تفسيرها على الوجهين، وبدا لها ربع الحقيقة أكثر خداعاً من الكذب)- ص460.
(لنْ تجرؤ.. لنْ تجرؤ على أنْ تكرّر هذهِ الفعلة)- الرواية ص480.
ما هذهِ الفعلة؟ ما الخطأ؟ ما الذنب الذي ارتكبتهُ (هند) ، وأورثتهُ لـ (زين)؟
ما هذا الدرب المزروع بالألغام والأشواك الذي اختارتهُ (هند) ووجدت فيهِ (زين) حريتها.. وخلاصها.. أهوَ الحُبُّ (القوة الحقيقية) للكاتب؟ أهو الكتابة.. نشيد الغضب.. وإعلان الاحتجاج المنغم.. أمْ هوَ الحُلمُ – صانعُ الحياة؟
:(إنّها بنت مغرورة يجب وضع حدّ لها، خصوصاً وأنّها تمشي في دربٍ توسّخ سمعة الأسرة.. كيف ينشرون اسمها في بريد القرّاء في جريدة» النقاد»، وصورتها وقصّة قصيرة بقلمها، كلّها حُبّ وهيام وغرام).. و(لا نعرف إلى أين تقود هذهِ الدرب التي بدأت زين تمشيها.. ونخشى على اسم الأسرة من التلطخ بالوحل)- ص481.و(صارت ترتجف من الداخل.. ترى ما دخلُ أُمي؟ ما الذي فعلتهُ تلك المرأة التي لا تزال تركضُ في كوابيسهم)- ص 482
و(إنّني سعيدة لأنّهم نشروا مقالي.. سأصير كاتبةً كأُمّي)- ص485.
في (الرواية المستحيلة).. دمشق – المدينة هيّ رحمٌ خصبٌ للحرية.. للحُبِّ.. لأعذب القصائد.. والكلمات الرشيقة، وجمالُ المدنِ كونها تتيحُ متسعاً من الوقتِ للمزيد من المشاعر الدافئة.. والأحاسيس الصادقة.. و(هند ) و(زين) كانت الحرية العزيزة رغيفهما الحياتي.. وليسّ إلاّ الحرية :
(أتسلّق شجرةً ولستُ قرداً.. أزقزقُ ولستُ عصفوراً.. أطيرُ ولستُ فراشةً.. أطيرُ.. أطيرُ)- ص 500.
«ومهما كانت قصّة عودة المرء إلى ذاتهِ أوْ سكنهِ.. إلى سقف بيتهِ.. ومهما كانت الأوديسة و(الترحال الطويل)، أوْ رواية تكوين الشخصية، أوْ بأي شكل ابتكرَ المرء قصّة بناء الذات، الذوات أوْ النفس، فإنهُ يُتخيلُ دوماً أنّ الذي يكتبُ عليه ان يعرف كيف يقولُ : «أنا»- جاك دريدا- أحادية لغة الآخر ص 43.
قالَ فلوبير : «مدام بوفاري هي أنا».. ويحقّ للكاتبةِ والروائيةِ الكبيرة غادة السمّان أن تقولَ أيضاً : «الرواية المستحيلة هي أنا».. حتّى لوْ أنّ كلّ ركنٍ بعيدٍ أوْ قريبٍ من المدينة – دمشق بدا مموسقىا بفعلِ كلّ كلمةٍ.. وجملةٍ.. وسطرٍ من الرواية.. حتّى لوْ بدا قصيدة لم ترد تفعيلاتها في أشعار القدماء والمعاصرين.. «أليسَ العمل الأدبي أداة للإيحاء تماماً كالموسيقى»- كما يرى غارسيا ماركيز !!
« الرواية المستحيلة».. ليسَت سيرة الذات الحنون الجريحة، بلْ هي الذات نفسها، وهي تكتبُ بكلّ ما في اللغة من سحر بلاغة.. وكيمياء خيال..،
وعلى لحنِ ذاكرةٍ تتجدّدُ.. وعطرِ حنينٍ لا ينفدُ !!
عِذاب الركابيّ
شاعر وكاتب من العراق