إن الحكمة هي موصول التواصل المتأمل ما بين الروح والجسد، العقل والنفس. كلما ذكرناها عدنا بأذهاننا إلى الماضي السحيق، والأديان، وأهل العرفان والفلاسفة، وكلما ذكرناها اتجهنا إلى الشرق سواءً، شرقنا هذا أو الشرق البعيد وبلاد الهند والسند والصين. غير أن الحكمة ما زالت موجودة لمن يسعى إليها، وهي ليست شأناً ماضوياً، إنها موجودة ما وُجِدَ الإنسان وقدرته على التأمل والتواصل مع الكون بحثاً عن ذوبانه فيه لا انفصاله وسيطرته عليه. كما أن الشرق ما زال ينجب الحكماء، فيما الغرب، في بعضه القويم، يتبنى أفكارهم ويسعى إلى نشرها والى تطويرها لتناسب الإنسان الحديث بكل ما يرضخ تحته من أعباء الحضارة المادية المفرطة في ابتعادها عن حالة التأمل وذوبانها في حالة الاستهلاكية والمتعة والسعار المادي الذي يمنح امتيازاته للأقوى والأغنى والأكثر سلطة وجبروتاً في هذا العالم.
وكما تبنى الغرب الحديث تأملات وأفكار جبران خليل جبران، فإنه تأسست مؤسسات وطبعت كتب لأوشو، وديباك شوبرا، وجوردجين، وسي بابا، وكريشنا مورتي، والمهاريشي، وغيرهم، وهم في معظمهم قد أعادوا إحياء علوم قديمة للتأمل والصفاء الروحاني والنفسي والجسدي للإنسان بما يناسب عقلية الإنسان الحديث، وتجاوزوا جغرافيتهم عبر الغرب ليصلوا إلى أرجاء العالم الأربعة. وتنتشر مراكزهم الروحية في كل القارات، ما عدا، وللأسف العالم العربي الذي لم يترجم لهم إلا الشذرات رغم أن ميراثهم الروحي ورؤيتهم للعالم تتقاطع مع ميراثنا الروحي وعلومنا القديمة التي تخلينا عنها، أو نسيناها، أو ألبسناها لباس الجمود والتقليد دون إحياء لها لتكون معاصرة لاحتياجات إنساننا الحديث في المنطقة العربية، اليوم.
وكريشنا مورتي الذي أقدم كتابه الذي ترجمته إلى القارىء العربي بعنوان «التعليم وأهمية الحياة»، هو أحد أهم المتأملين الروحيين والفكريين في هذا العالم. وقد عاش ما يقارب القرن من الزمن (1895 – 1986م) وكان معلماً روحياً شهد له العالم وأفاد منه، ولأكثر من خمسين عاماً جاب الأرض، مشاركاً رسالته وتأملاته البشر من كل الأعمار والأقطار. ولد جيدو كريشنا مورتي في مادان بالا في ولاية زندرا براديش في الهند وتوفي في مدينة أوجيه، في كاليفورنيا حيث يقوم مركزه اليوم المدعو باسمه والذي يحرص على طباعة كتبه وترجمتها الى مختلف اللغات، وإقامة مقام للحكمة يستطيع أن يذهب إليه أي إمرء ليقضي زمناً للتأمل والتعلم. كان أبواه من طبقة البراهما الهندية وهي أعلى الطبقات الروحية والاجتماعية في الهند، وقد تبناه مجتمع الثيوفيلوسفي وتولت السيدة آني بيسانت تنشأته فيما تصوروا فيه أنه سيكون معلم العالم القادم وأنه المسيح يولدُ من جديد في الغرب وبوذا الجديد في الشرق. لقد تبنته السيدة بيسانت وأخذته، إلى بريطانيا ليتم إعداده لهذا الدور المنشود من قبل مجتمعها.
غير أن كريشنا مورتي رفض هذا الدور الرسمي في عام 1922 وأعلن:
«إن الحقيقة لا طريق لها وأنت لا تستطيع الوصول إليها عبر أي طريق، عبر أي دين، عبر أي طائفة، إن الحقيقة كونها غير محدودة، غير مُقولبة، لا يمكن الوصول إليها عبر أي طريقٍ كان، لا يمن تنظيمها، إن أي منظمة يتم تشكيلها لتقود أو لتُخضِع البشر يسيروا على طريق واحد. إن اهتمامي الوحيد هو أن أطلق سراح حرية الإنسان بشكل مطلق، دون قيود أو قولبة. والإنسان لا يستطيع أن يصل إلى ذلك عبر أية منظمة، أو عبر أية دوغما أو كاهن، ولا عبر المعرفة الفلسفية، أو التكنيك النفسي. إن عليه أن يجد ذلك عبر فهم محتوى عقله الخاص، عبر الملاحظة والمراقبة ويلس عبر التحليل والتشريح الجزئي».
لقد آمن كريشنا مورتي بأهمية التعليم والتفكير الحر والتخلص من التعصب بكل أشكاله، وقد سعى لتأسيس مدارس كثيرة في الهند، وبريطانيا وأمريكا على أساس حرية التفكير والمعتقد ومعرفة الذات. كما قام بالكثير من المحاضرات والمناقشات والأحاديث حول العالم ومن أهم كتبه: تعليقات على الحياة، الحرية الأولى والأخيرة، التعليم وأهمية الحياة، فكر في هذه الأشياء، السؤال المستحيل، مستقبل الإنسانية، المستقبل هو اليوم، نهاية الزمان، أن تكون إنساناً وغيرها مما يحمل عناوين كلها تعنى بإنسانية البشر. ومن أقواله:
«إن التعليم والتعاليم ليست شيئاً ما موجود هناك في الخارج في كتاب، إن ما تقوله التعاليم هو: «أنظر الى نفسك، ادخل فيها، إبحث فيما هو هناك، إفهم ذلك، واذهب الى ما هو أبعد منه»، وهكذا. إن التعاليم هي مجرد وسيلة للإشارة، للتفسير، غير أنه عليك أن تفهم، لا التعاليم، بل نفسك».
وكتاب «التعليم وقيمة الحياة»، هو كتاب قديم نسبياً إذ صدر في ام 1953 وقد اقترحه السيد مايكل لوميل من مؤسسة كريشنا مورتي لكي أترجمه إلى اللغة العربية في بحثه الدؤوب عن نقل أفكار وتأملات كريشنا مورتي إلى اللغات الأخرى تواصلاً مع الإنسانية في كل مكان. ورغم بساطة لغة الكتاب، وقدمه النسبي، إلا أنه لا يزال كتاباً مهماً ويطرح واقع ما زال مستمراً حول إشكالية تنشئة الشباب في ظل عالم الاستلاب المادي، والحروب، والتعصب، والانغلاق العقلي والروحي الذي ضاعفت منه حضارة الزمن الجديد تحت وطأة تسطيح الكائن الإنساني وانشغاله الدائم بالتحقق المالي والمادي واضعاً احتياجاته الأسمى على هامش وجوده أو مخضعاً عقله وروحه لمعتقدات متصلبة لا يحاورها بل يتبعها تحت وطأة الخوف من المؤسسات الدينية، والاجتماعية والسياسية. إنه كتاب على بساطته يسعى لوضع الإشارات من أجل تحرير النفس والوعي والارتقاء بالوجود الإنساني كذات متأصلة ومدركة لنفسها لا تنفصم عن الكل ولا تقع تحت غير استبداد العام والمتعارف عليه.
وفي رأيي أن كتاب «التعليم وقيمة الحياة»، مهم للإثنين معاً الأفراد والمؤسسات، التلاميذ والمعلمين، الأهل والأبناء، وأرجو أن أكون قد قدمت إضاءة صغيرة من قبس أفكار وروح الإنسان العظيم كريشنا مورتي.
التعليم وقيمة الحياة
عندما يرتحل المرء حول العالم فإنه يلاحِظ إلى أي مدى غير عادي هو درجة التشابه في الطبيعة البشرية، سواء كان في الهند أو أمريكا، أوروبا أو أستراليا. وهذا ملحوظ بشكل خاص في الجامعات والكُليات. إننا ننتج، وكما هو شكل من أشكال التنميط، نوعاً من الكائنات البشرية يدور اهتمامها الرئيسي حول العثور على الأمان، أن يصحبوا بشراً مهمين، أو أن يحصلوا على أوقاتٍ طيبة بأقل عناء فكري ممكن.
إن التعليم التقليدي يجعل من الفكر المستقل أمراً صعباً للغاية. وهذه التقليدية تقود إلى رداءة الوسطية. أن تكون مختلفاً عن المجموعة أو أن تقاوم البيئة المحيطة هو أمر غير سهل وغالباً ما يشكل خطورة ما طالما أننا نعبد النجاح. النزعة إلى النجاح، والذي هو السعي إلى المكافأة سواء كانت مادية أو ما قد يدعى المجال الروحي، البحث عن الأمان الداخلي والخارجي، الرغبة في الراحة – كل تلك العملية تثير عدم الرضا، وتضع حداً للتلقائية وتُربي الخوف، والخوف يحجب ذكاء فهم الحياة. ومع تطور العُمرْ فإن بلادة العقل والقلب تطغيان.
في البحث عن الراحة، فإننا عموماً نجد زاوية هادئة في الحياة حيث أقل القليل من المصادمات، ومن ثم نصبح خائفين من الخروج من ذلك الـمُعتَزَلْ. إن هذا الخوف من الحياة، هذا الخوف من الصِراع والتجارب الجديدة، يقتلُ فينا روح المغامرة، إن كامل تنشئتنا وتعليمنا قد جعل منا كائنات خائفة من أن تكون مختلفة عن جيرانها، خائفة من أن تفكر بشكل مُغاير للأفكار المؤسسة في المجتمع، تحترم بزيفٍ السلطة والعادات والتقاليد.
ولحسن الحظ، هنالك قِلة من الصادقين، والمستعدين لإعادة النظر في مشاكلنا الإنسانية متخلصين من التعصب لوجهات نظر اليمين أو اليسار، غير أنه في أكثرية الأغلبية منا، ليس هنالك روح حقيقية للتذمر أو عدم الرِضا، لكي يثوروا، على القائم والمؤسساتي.
عندما نخضع دون فهم للبيئة المحيطة بنا، فإن روح الثورة التي قد تكون بداخلنا تموت، ومسؤولياتنا سريع ما تصنع نهايةً لها.
إن الثورة نوعان: هنالك الثورة العنيفة، والتي هي مجرد رد فعل، وهنالك الثورة النفسية العميقة للذكاء. أن هنالك الكثيرين ممن يثورون ضِد المحافظة التقليدية ليقعوا في فخ أنواع جديدة من التقليدية، أوهام جديدة، ونوع من الاهتمامات الذاتية الخفية. ما يحدث عموماً هو أننا ننفصل عن مجموعة معينة أو منظومة أفكار وننضم إلى مجموعة أخرى، ونتخذ لنا أفكاراً أخرى، خالقين بذلك نمطاً جديداً من الأفكار ضِدَ ما سوف نثور عليه فيما بعد من جديد. إن رد الفعل يُنمي المعارضة، والإصلاح يحتاجُ الى المزيد من الإصلاح.
غير أن هنالك ثورة ذكية ليست برد فعل، وهي تتأتى من معرفة – الذات عبر الوعي بأفكار المرء وأحاسيسه. إنه فقط عندما نواجه التجربة كما تأتي ولا نتجنب الإزعاج نستطيع أن نحافظ على الذكاء موقداً بشدة، والذكاء اليقظ والمتوقد هو الحدَس، والذي هو الدليل الحقيقي الوحيد في الحياة.
والآن، ما هي قيمة وأهمية الحياة؟ ما هو الشيء الذي نعيش ونكافح من أجله؟ إذا كنا نتعلم من أجل أن نحقق التميز فقط، أن نعثر على عمل أفضل، أو نكون أكثر كفاءة، وأن يكون لدينا مجال أوسع للسيطرة على الآخرين، فإن حيواتنا ستكون خاوية وسطحية. إذا كنا نتعلم فقط لكي نكون علماء، أو أساتذة متزوجين من الكتب، أو متخصصين مدمنين للمعرفة، فإننا آنئذ سوق نساهم في خراب وبؤوس العالم.
وبالرغم من أنه هنالك قيمة أعلى وأوسع للحياة، فما هي قيمة تعليمنا إذا لم نكتشف تلك القيمة أبداً؟ قد نكون على قدر كبير من التعليم، غير أننا اذا لم نكن على مستوى عميق من المزج بين الفكرة والإحساس، فإن حيواتنا تكون ناقصة، متناقضة وممزقة بالكثير من المخاوف، وطالما يعجز التعليم عن تنمية وجهة نظر متكاملة للحياة فإنه يغدو بلا قيمة.
في حضارتنا الحالية قمنا بتقسيم الحياة إلى أجزاء كثيرة بحيث أن التعليم بات له القليل من المعنى، فثما عدى تعلم تقنية أو مهنة محددة. وبدلاً من إيقاظ الذكاء المتجانس للفرد، يقوم التعليم بتشجيعه على الإنخراط في تقليدية النموذج ويمنعه بذلك من استيعابه لذاته كعملية مكتملة. أن نحاول أن نحل المشاكل الكثيرة للوجود في مستوياتها المختلفة، منفصلة الى تقسيمات متعددة، يشير الى فقد كُلي للفهم والاستيعاب.
إن الفرد مصنوع من عددٍ من الكينونات، غير أن التركيز على الاختلافات والتشجيع على تطوير نمط محدد يقود الى الكثير من التعقيدات والتناقضات. إن التعليم يتوجب أن يجلب التمازج والتكامل بين تلك الكينونات المنفصلة – ذلك انه دونما ذلك التمازج، فإن الحياة سوف تتحول إلى سلسلة من الصدامات والأحزان. ما هي قيمة أن نتدرب كمحامين اذا كان ذلك يحفز الخروج على القانون؟ ما هي قيمة المعرفة إذا استمرينا في الفوضى والتشوش؟ ما هي قيمة القدرات التقنية والصناعية اذا كنا نستخدمها من أجل تدمير الآخرين؟ ما هي قيمة وجودنا اذا كان يقود الى العنف والبؤس الـمُطلق؟ بالرغم من أننا قد نملك النقود أو قادرين على جنيها، بالرغم من أننا نمتلك ملذاتنا وأدياننا المنظمة، فإننا في حالٍ من الصِدام الذي لا ينتهي.
يتوجب علينا أن نُميز بين الشخصي والفرد. إن الشخصي هو الحدَثي والعارِض، وأعني بذلك ظروف الولادة، والبيئة التي تصادف أن نشأنا فيها، بكل مفاهيمها عن الوطنية، والخرافات، والتميز الطبقي والتعصب. إن الشخصي أو العَرَضي هو لحظي، بالرغم من أن تلك اللحظة قد تدوم عُمراً كاملاً، وبما أن النظام الحالي للتعليم يعتمد على الشخصي والعرضي، واللحظي، فإنه يقود الى تشوش الأفكار، وتلك المخاوف التي لا تُحصى من الدفاعات عن النفس.
إننا جميعاً قد تدربنا عبر التعليم والبيئة أن نسعى الى المكاسب الشخصية والأمان، وأن نحارب من أجل أنفسنا، وبالرغم من أننا نغطيه بالجُمل اللطيف، فإننا قد تعلمنا لمهنٍ مختلفة داخل نظام مبني على الاستغلال وتنمية المخاوف. ومثل هذا الإعداد والتدريب من المحتم ان يجلب التشوش والارتباك والبؤس إلينا والى العالم، ذلك انه يخلق داخل كل فرد تلك الحواجز النفسية التي تفصله وتبقيه بمعزل عن الآخرين.
إن التعليم ليس مجرد تدريب للعقل. إن التدريب يقوم من أجل القدرة والاكتفاء، غير أنه لا يجلب معه الاكتمال. إن العقل الذي تم مجرد تدريبه هو الاستمرارية للماضي، ومثل هذا العقل لا يمن له أبداً أن يكتشف الجديد. وهذا هو السبب، لكي نعثر على التعليم الصحيح. سوف يتوجب علينا أن نبحث ونُسائل كامل المعنى لأهمية وقيمة الحياة.
بالنسبة الى معظمنا، فإن معنى الحياة ككل ليس بتلك الأهمية القصوى، وتعليمنا يركز على القيم الثانوية، صانعاً منا متكأين في بعض فروع من المعرفة. وبالرغم من أن المعرفة والقدرة ضروريتان، غير أن وضع الثقل الرئيسي عليهما فقط يؤدي الى التصادم والتشوش.
إن هنالك قدرة مُلهمة بالحب والذي يذهب أبعد بكثير، وهو أعظم من القدرة القائمة على الطموح، ومن غير الحب، الذي يجلب فهماً متجانساً للحياة، فإن القدرة تنجب الفظاظة. أليس هذا هو الذي يحدث في الواقع في شتى أنحاء العالم؟ أن تعليمنا الحالي يهدف نحو التصنيع والحرب، هدفه الرئيسي هو تنمية القدرة، ونحن أسرى لهذه الآلة الفظة من التنافس والتدمير المتبادل. إذا كان التعليم يقود الى الحرب، إذا كان يعلمنا أن نُدمِر أو نُدَمَر، ألا يكون بذلك قد فشل فشلاً ذريعاً؟
لكي نحقق التعليم الصحيح، يتوجب علينا، بديهياً، أن نفهم معنى الحياة ككل، ومن أجل ذلك يتوجب علينا أن نكون قادرين على التفكير، ليس بشكل مُلِح، ولكن بشكل مباشر وحقيقي. إن المفكر الـمُلِح والـمُنظَم هو شخص لا فكر له، لأنه يستسلم لنمط من التفكير، أنه يكرر جُملاً ويفكر بقولبة. إننا لا نستطيع أن نفهم الوجود بشكل تجريدي أو نظري. أن نفهم الحياة هو أن نفهم أنفسنا، وهذا هو الاثنين معاً البداية والنهاية للتعليم.
إن التعليم ليس مجرد تحصيلٍ للمعرفة، ليس تجميعاً وتنسيقاً للوقائع والحقائق، أنه أن نرى قيمة وأهمية الحياة ككل. غير أن الكل لا يمكن مقاربته عبر الجزء – وهذا هو ما تحاول أن تفعله الحكومات، الأديان المنظمة، والأحزاب السلطوية.
إن مهمة التعليم أن يخلق بشراً متجانسين وبذلك يكونون أذكياء. من الممكن لنا أن نحصل على درجات علمية ونكون أكفاء بشكل آلي دون أن نكون أذكياء. إن الذكاء ليس مجرد معلومات، أنه لا يتأتى من الكتب، ولا يتكون من استجابات متذاكية للدفاع عن النفس أو من عنف التأكيد عليها.
قد يكون شخص ما لم يذهب للدراسة أكثر ذكاءً بكثير من شخص متعلم. لقد صنعنا امتحانات ودرجات لمستويات الذكاء وطورنا عقول ماكرة تتجنب القضايا الانسانية الحيوية. إن الذكاء هو القدرة على استيعاب الضروري والمهم، ذلك الماهو، وأن يوقِظ تلك القدرة، في الشخص والآخرين، هذا هو التعليم.
إن على التعليم أن يساعدنا في اكتشاف قيم دائمة وبذلك لا نتمسك فقط بالمعادلات او الشعارات المكررة، يتوجب معليه أن يساعدنا في كسر حواجز القوميات والحواجز الاجتماعية، بدلاً من التركيز عليها، ذلك أنها تُولِدُ الحزازيات والتوترات ما بين الإنسان والإنسان. ولسوء الحظ، فإن النظام الحالي للتعليم يجعل منا خانعين، آليين ومنعدمي التفكير بشكل عميق، وبالرغم من أنه يوقظنا ذهنياً، فإنه داخلياً، يتركنا ناقصين، غير مكتملين، مخنوقين، وغير مبدعين.
بدونما فهم متجانس للحياة، فإن مشاكلنا الفردية والجماعية سوف تزداد عمقاً وامتداداً. إن الهدف من التعليم ليس مجرد إنتاج للأكاديميين، والتقنيين وقناصي الوظائف، لكن رجالاً ونساء متجانسين ومتحررين من الخوف، لأنه فقط بوجود مثل هؤلاء البشر يمكن أن يكون هنالك سلام دائم وممكن.
إنه عبر فهمنا لذواتنا يمكن للخوف أن ينتهي. إذا كان للمرء أن يتعامل مع الحياة من لحظةٍ الى لحظة، إذا كان عليه أن يواجه تعقيداتها، أحزانها وطلباتها المفاجئة، فإنه يتوجب عليه أن يكون منفتحاً وبذلك حُراً من النظريات والأنماط المحددة للتفكير.
لا يتوجب على التعليم أن يشجع الفرد لكي يخضع للمجتمع أو يكون على انسجام سلبي معه، ولكن عليه أن يساعده ليكتشف القيم الحقيقية التي تتأتى عبر البحث غير المنحاز وعبر الوعي بالذات، عندما تنعدم المعرفة بالذات، فإن التعبير عن الذات يصبح تأكيداً للذات، بكل ما يصحب ذلك من عنف وصدامات للطموح. يتوجب على التعليم أن يوقِظ القدرة على الوعي بالذات وليس مجرد الإنغماس في إرضاء هواجس التعبير عن الذات.
ما هو التعلم الجيد، إذا كنا أثناء عملية الحياة نقوم بتدمير أنفسنا؟ وبما أننا نعيش سلسلة متنامية من الحروب المدمرة، الواحدة تلو الأخرى، فإن هنالك بشكل واضح شيء ما خطأ بشكل فادح في الطريقة التي نربي بها أطفالنا. إنني أظن أن معظمنا على وعي بهذا، غير أننا لا نعرف كيف نتعامل مع ذلك.
الأنظمة، سواء أكانت تعليمية أو سياسية، لا تتغير بشكل غامض، إنها تتحول عندما يكون هناك تغير أساسي فينا. إن الفرد هو المهم في المقام الأول، وليس النظام، وطالما أن الفرد لا يفهم العملية الكاملة لنفسه، فلا نظام، سواء كان يسارياً أو يمينياً، يستطيع أن يجلب الأمن والسلام الى العالم.
النوع الصحيح من التعليم
إن الشخص الجاهل ليس هو الأُمي، بل هو الشخص الذي لا يعرف نفسه، والشخص المتعلم يكون غبياً عندما يعتمد كُلياً على الكتب، على المعرفة والسلطة لمنحه العِلم. إن الفهم يتأتى فقط عبر معرفة الذات، والتي هي الوعي بعملية الشخص الكاملة النفسية. وهكذا فإن التعليم، في معناه الحقيقي، هو إدراك الذات، ذلك أنه في كل فردٍ منا يجتمع الوجود بأكمله.
إن ما ندعوه بالتعليم اليوم هو مسألة تراكمية للمعلومات والمعرفة من الكتب، وهذه مسألة يستطيع القيام بها أي شخص قادر على القِراءة. مثل هذا التعليم يمنحنا شكلاً مبطناً للهروب من أنفسنا، ومثل كل أشكال الهروب، سسيؤدي بالضرورة الى خلق المزيد من البؤس. إن التصادم والتشوش هما صنيعة علاقاتنا الخاطئة مع الناس، الأفكار والأشياء، وإلى أن نفهم هذه العلاقات ونبدلها، فإن مجرد التعلم، جمع الحقائق والحصول على المهارات المختلفة، سوف يقودنا فقط إلى ازدياد فجوة الفوضى والدمار.
وبحسب تنظيم مجتمعنا اليوم، فإننا نرسل بأطفالنا إلى المدرسة لكي يتعلموا بعض التقنيات التي سوف يستطيعون عبرها، فيما بعد، أن يكسبوا معيشتهم. إننا نرغب في أن نجعل من الطفل بشكل خاص متخصص، آملين بمنحه وضعاً اقتصادياً آمناً في المستقبل. ولكن هل يؤدي تطوير التقنية الى قدرتنا على فهم أنفسنا؟
وفيما هو جلياً ضرورة أن نعرف كيف نكتب ونقرأ، وأن نتعلم الهندسة أو أية مهنة احترافية أُخرى، هل سيمنحنا مجرد معرفة التقنية القدرة على فهم الحياة؟ بالتأكيد، إن التقنية هي ثانوية، وإذا كانت التقنية هي الشيء الوحيد الذي نسعى إليه، فإننا نتجاهل بوضوح ما هو أهم بكثير كجزء من الحياة.
إن الحياة هي ألم، بهجة، جمال، قُبح، حُب، وعندما نفهمها ككل، على كل مستوى، فإن هذا الفهم يخلق آليته الخاصة. غير أن العكس ليس صحيحاً: إن التقنية والآلية لا تستطيع أبداً أن تجلب الفهم الإبداعي.
إن التعليم المعاصر هو فشل مُطلَق لأنه قام بالتركيز المبالغ فيه على قيمة التقنية. وفي هذه المبالغة نحن ندمر الإنسان. أن ننمي القدرة والكفاءة دون أن نفهم الحياة، دون أن يكون لدينا إدراك ووعي لطرائق الفكر والرغبات، سوف يدفعنا الى المزيد من القسوة والفظاظة، مما يعني خلق المزيد من الحروب وتهديد وجودنا وأمامنا الجسدي.
إن الرعاية الحصرية للتقنيات قد أنتجت علماء، رياضيين، بناة جسور، غزاة فضاء، لكن هل يفهمون العملية الكُلية للحياة؟ هل يستطيع أي عالم متخصص دقيق أن يختبر الحياة ككل؟ فقط عندما يتوقف عن اعتبار نفسه متخصصاً.
إن التقدم التكنولوجي يقوم بحل أنواع معينة من المشاكل لبعض الناس على مستوى معين، ولكنه يقدم أيضاً قضايا أخرى أعمق وأكثر إتساعاً. أن تحيا على مستوى معين، متجاهلاً العملية الكلية للحياة، هو أن تدعو إليك البؤس والخراب. إن أعظم احتياج وأكثر مشكلة ضاغطة لكل فرد هي أن يمتلك استيعاباً منسجماً للحياة، والذي سوف يمكنه من مواجهة تعقيداتها الآخذة في الازدياد.
إن المعرفة التكنولوجية، مهما كانت ضرورية، لن تحل بأي شكل من الأشكال ضغوطنا النفسية الداخلية وصراعاتنا العميقة، ولأننا قد امتلكنا المعرفة التقنية دونما الاستيعاب للعملية الكلية للحياة فقد أصبحت التكنولوجيا وسيلة لتدمير أنفسنا. إن الشخص القادر على شطر النواة ولا يمتلك حُباً في قلبه يتحول إلى وحش.
إننا نختار مهنة بحسب امكانياتنا، ولكن هل اللهاث وراء المهنة سوف يقودنا خارج الصراع والتشوش؟ بعض أنواع الدُربة التقنية يبدو ضرورياً، ولكن عندما نصبح مهندسين، أطباء، محاسبين – ماذا بعد؟ هل الممارسة الاحترافية لمهنة ما تُشكل إشباعاً لمعنى الحياة؟ من الواضح أن هذا هو الحال بالنسبة لمعظمنا. إن أعمالنا المختلفة قد تجعلنا منشغلين لمعظم الوقت في وجودنا الحياتي، غير أن الشيء نفسه ذلك الذي ننتجه والمنغمسين فيه هو ذاته ذلك الذي يتسبب في الدمار والبؤس. إن مواقفنا وقيمنا تجعل من الأشياء والأعمال أدوات للحسد، المرارة والكراهية.
بدونما فهم لذواتنا، فإن مجرد الوظيفة ستقود إلى الإحباط، بكل وسائل الهروب عبر مختلف الأنشطة الإجرامية. إن التكنولوجيا مجردة من الفهم تقود الى الضغينة، العداوة، والقسوة، والتي نعطيها جميعاً بجمل لطيفة ورنانة. ما هي القيمة في أن نركز على التقنية وأن نصبح كائنات متمكنة اذا كانت النتيجة هي الدمار المتبادل؟ إن تطورنا التكنولوجي رائع، لكنه قد زاد فقط من قوتنا على تدمير بعضنا البعض، وهنالك ايضاً المجاعات والبؤس في كل أرض. اننا لسنا أناساً سعداء أو مسالمين.
عندما يكون العمل هو محور ا لحياة، فإن الحياة تصبح بليدة ومملة، وروتينا آليا وعقيما نهرب منه إلى كل شكل من أشكال الهروب. إن تراكمية الحقائق وتنمية القدرات، والذي ندعوه بالتعليم، قد حرمنا من الامتلاء بحياة متجانسة ومن العمل. إنه بسبب عدم فهمنا للعملية الكلية للحياة نتمسك بالقدرة والكفاءة، واللذين يتخذان أهمية مبالغ فيها. غير أن الكُلي لا يمكن فهمه عبر الجزئي، إنه يمكن أن يُفهم فقط عبر العمل والخبرة المباشرة.
إن عاملاً آخر في تنمية التكنولوجيا هو أن ذلك يمنحنا إحساساً بالأمان، ليس الاقتصادي فقط، ولكن النفسي، أيضاً. إنه من المطمئن أن نعرف أننا قادرون وأكفاء. أن نعرف أننا نستطيع أن نعزف البيانو أن نبني منزلاً يمنحنا الشعور بالحيوية، بالاستقلالية العنيفة، لكن أن نركز على القدرة بسبب رغبة في الأمان النفسي هو أن نرفض امتلاء الحياة. إن المضمون الكلي للحياة لا يمكن رؤيته مسبقاً، لا بُد من المرور بخبراته من جديد لحظة بلحظة، غير أننا نشخى المجهول، ولذلك فإننا نؤسس لأنفسنا مناطق نفسية محددة للأمان بشكل أنظمة، تقنيات ومعتقدات. طالما أننا نسعى إلى أمان داخلي، فإن العملية الكلية للحياة لن تكون مفهومة.
إن النوع الصحيح من التعليم، فما يتم تشجيع تعلم التقنية، يتوجب أن يحقق شيئاً ذا أهمية أكبر: أنه يتوجب أن يساعد الإنسان في أن يجرب العملية المتاجنسة والكلية للحياة. إن هذه الخبرة هي التي سوف تصنع القدرة والتقنية في مكانهما الصحيح. إذا كان لدى المرء حقاً شيئاً ليقوله، فإن القول في حد ذاته يخلق أسلوبه الخاص، لكن تعلم الأسلوب بدونما الخبرة الداخلية سوف يقود الى السطحية فقط.
عبر أنحاء العالم كله، المهندسون يصممون بجنون الآلآت التي لا تحتاج الى البشر لتشغيلها. وفي حياة تدور في معظمها عبر الآلات، ما الذي سيحل بالكائنات البشرية؟ سوف يكون لدينا المزيد والمزيد من أوقات الفراغ دون أن نعرف بحكمة كيف نستخدمها، ولسوف نسعى نحو الهروب عبر المعرفة، وعبر الـمُتع الزائفة، أو عبر المثاليات.
إنني أعتقد أن الكثير قد كُتب حول مثاليات التعليم، غير أننا في ارتباك وتشوش أكبر بكثير من قبل. ليس هنالك طريقة يمكن عبرها تعليم طفل بأن يكون منسجماً وحُراً. وطالما أننا مهمومون بالمباديد، والـمُثل، والطرائق، فإننا لا نساعد الفرد على أن يكون حُراً من نشاطه الذاتي المتركز حول نفسه بكل ما يحمل ذلك من مخاوف واضطرابات.
إن المثاليات والتصاميم الجاهزة لليوتوبيا الكاملة لن تجلب أبداً التغيير المتطرف للقلب والذي هو ضروري إذا كان سيكون هناك نهاية للحرب والدمار الكوني. المثاليات لا تستطيع أن تغير من قيمنا الحالية: إنها تستطيع أن تتغير فقط عبر النوع الصحيح من التعليم، والذي سوف يتبنى الفهم لماهية الشيء.
عندما نعمل سوية من أجل المِثال، من أجل المستقبل، فإننا نُشكل أفرادا بحسب مفاهيمنا للمستقبل، أننا غير معنيين بالكائنات البشرية على الإطلاق، ولكن بأفكارنا حول كيف يتوجب أن يكونوا. إن ما يتوجب أن يكون يصبح أكثر أهمية بكثير بالنسبة إلينا مما هو كائن، وبالتحديد، الفرد بكل تعقيداته. إذا بدأنا بفهم الشخص مباشرة بدلاً من النظر إليه عبر شاشة ما نفكر أنه يتوجب أن يكون، فإننا عندئذ نكون مهتمين بما هو الشيء. عندئذ لا نعود نرغب في أن نحول الفرد إلى شيء ما آخر، سوف يكون اهتمامنا منصباً فقط على مساعدته ليفهم نفسه. وفي هذا لا يكمن أي دافع شخصي أو ربح. إذا كنا واعين تماماً لما هو الشيء، سوف نفهم ذلك ونتحرر منه، ولكن أن نكون واعين بما نحن عليه، يتوجب علينا أن نتوقف عن الصراع وراء شيء ليس هو نحن.
إن المثاليات لا مكان لها في التعليم لأنها تمنع استيعاب الحاضر. بالتأكيد، نحن يمكن أن نعي ماهية الشيء فقط عندما لا نهرب منه نحو المستقبل. أن ننظر الى المستقبل، أن نتشبث بالمثاليات، ذلك يشير الى كسل في الدماغ ورغبة في تجنب اللحظة الراهنة والحاضر.
أوليس البحث عن اتباع يوتوبيا مصنوعة سلفاً هو إنكار للحرية وانسجام الفرد؟ عندما يتبع الشخص نموذجاً مثالياً، قالباً، عندما يكون لديه معادلة لما يتوجب أن يكون ألا يكون آنذاك يعيش حياة شديدة السطحية والآلية؟ إننا لسنا بحاجة الى مثاليين أو كائنات ذات عقول ميكانيكية، ولكن الى بشر متكاملين ومتناغمين أذكياء وأحرار. أن يكون لدينا تصميم لمجتمع مثالي وكامل هو أن تصارع وتذرف الدماء من أجل ما يتوجب أن يكون متجاهلاً ما هو كائن.
لو أن البشر كانوا كائنات ميكانيكية، آلات مبرمجة، فإن المستقبل آنذاك سيكون قابلاً للتنبؤ به والخطط لليونوبيا أو المجتمع الفاضل يمكن أن توضع، ومن ثم سوف نتمكن من التخطيط بعناية لمجتمع مستقبلي ونعمل من أجله. غير أن البشر ينسوا الآلات ليتم تصميمها بحسب نموذج محدد.
بين الحاضر والمستقبل هنالك فجوة رهيبة تعمل من خلالها الكثير من المؤثرات وتؤثر على كل فرد منا، وفي التضحية بالحاضر من أجل المستقبل نحن نتبع طرقاً خاطئة بهدف نهاية محتملة. غير أن الوسائل تحدد النهاية، إلى جانب، من نكون نحن لنقرر ذلك الذي يتوجب أن يكون عليه الإنسان؟ أي حق ذلك الذي نمتلكه لقولبة الإنسان بحسب نموذج محدد، تعلمناه عبر الكتب أو قررناه عبر طموحاتنا، آمالنا ومخاوفنا؟
إن التعليم الصائِب لا يُعني بالأيديولوجيات، بغض النظر عما تعد به من يوتوبيا مستقبلية: إنه لا يقوم على أي نظام، بغض النظر عن مدى الدقة التي صمم بها، ولا هو وسيلة لبرمجة الفرد بطريقة أو كيفية محددة. إن التعليم بالمعنى الحقيقي هو مساعدة الفرد لكي يكون ناضجاً وحُراً، أن يزهر بعظمة في الحب والطيبة. هذا ما يتوجب أن نكون معنيين به، وليس بأن نُشَكِل الطفل بحسب تصاميم مثالية جاهزة.
إن أية مقاييس تصنف الأطفال على أساس أمزجتهم ومستويات ذكائهم هي مجرد تركيز على الاختلافات، إنها تُنمي الاستفزاز والضدية، وتشجع التقسيمات في المجتمع ولا تساعد على تطوير كائنات بشرية ذات كرامة. من الواضح أنه ليس هنالك طرق ومقاييس أو أنظمة تستطيع تقديم النوع الصحيح من التعليم، وإن التكريس الصارم لطرق محددة يُشير الى تكاسل بَبين من قبل المنوط بدور التعليم. طالما أن التعليم يعتمد على مبادىء مفصلة وجافة، فإنه يستطيع أن يُنتج نساء ورجالاً أكفاء وقادرين، غير أنه لا يستطيع أن يُنتج بشر مبدعين.
إن الحب وحده يستطيع أن يجلب فهم الآخر.
أينما وُجدَ الحب يكون هنالك تواصلاً تلقائياً بين البشر، على نفس المستوى وفي نفس الوقت. وبسبب أننا أنفسنا قد أضحينا حافين جداً، خاوويين بدونما حب سمحنا للحكومات والأنظمة بأن تستولي على تعليم أطفالنا وتوجهاتهم في الحياة، لكن الحكومة تبحث عن سد حاجتها للتقنيين الأكفاء، لا البشر، لأن الكائنات البشرية تصبح خطيرة بالنسبة للحكومات – وللأديان المنظمة، أيضاً. وهذا هو السبب الذي يجعل الحكومات والأديان المنظمة تبحث عن السيطرة على التعليم.
إن الحياة لا يمكن إخضاعها لتتناسب مع نظام ما، لا يمكن إجبارها وتقنينها داخل إطار عمل محدد، بغض النظر عن مدى النُبل الذي يكمن وراء ذلك، والعقل الذي تم تدريبه فقط عبر المعرفة المعلوماتية هو عقل غير قادر على لقاء الحياة بتنوعها، الباطني فيها، أعماقها وذراها العظيمة. عندما ندرب أطفالنا بحسب نظام معين للأفكار أو بحسب اجتهادات محددة، عندما نعلمهم أن يفكروا بشكل جزئي ومعولب، فإننا نمنعهم من النمو لكي يكونوا بشراً ذوي كرامة إنسانية متناغمة، ولذلك فإنهم عاجزون عن التفكير الذكي، وهو القادر على مقابلة الحياة ككل.
إن الهدف الأسمى للتعليم هو أن يستطيع خلق عقلية لفرد متكامل يستطيع مواجهة الحياة ككل. إن المثالي، مثل التخصصي، غير معني بالكل، ولكن بالجزئي، فقط. لا يمكن أن يكون هنالك تمازج وتكامل طالما أن الشخص يَتَبعُ نموذجاً مثالياً للعمل، ومعظم المعلمين المثاليين في رؤاهم قد وضعوا الحب، جانباً، إن عقولهم جافة وقلوبهم متصلبة. أن ندرس طفلاً، على المرء أن يكون متيقظاً، مراقباً، واعياً بذاته، وهذا يتطلب ذكاءً أعلى بكثير وعاطفة لتشجيعه على اتباع مثال.
الدور الآخر للتعليم هو أن يخلق قيماً جديدة. إن مجرد زرع القيم القائمة في عقل الطفل، أن تجعله خاضعاً للنموذج، هو مجرد برمجة له دونما إيقاظ لذكائه. إن التعليم مرتبط بحميمية بأحداث العالم الراهنة، وعلى المعلم الذي يرى أسباب هذه الفوضى الكونية أن يسأل نفسه كيف يمكن له أن يوقظ الذكاء الكامن في التلميذ، مساعداً إياه والجيل القادم كي لا يجلبوا المزيد من الفوضى والصدامات والخراب الى هذا العالم. إنه يتوجب عليه أن يمنح كل أفكاره، كل اهتمامه وعواطفه لخلق البيئة الصحيحة لتطوير التفاهم، وذلك من أجل أنه عندما يكبر الطفل ويصبح ناضجاً فإنه سيتمكن من التعامل بذكاء وفطنة مع المشاكل الإنسانية التي تواجهه. ولكن من أجل تحقيق ذلك، على المعلم أن يفهم نفسه أولاً بدلاً من الاعتماد على الأيدلوجيات، الأنظمة والمعتقدات.
دعونا لا نفكر بصيغة المبادىء والمثاليات الجاهزة، بل أن نكون مهتمين بالأشياء كما هي، ذلك أن وضع الاعتبار لما هو ذلك الذي يوقظ الذكاء، وأن ذكاء المعلم هو أكثر أهمية بكثير من علمه بالطرق الجديدة للتعليم. عندما يتبع المرء كيفية أو طريقة، حتى لو كانت قد وُضعِت عبر شخص عبقري أو حاد الذكاء، فإن الطريقة تصبح شديدة الأهمية، ويصبح الأطفال مهمين فقط بدرجة تناسبهم مع تلك الطريقة. يقوم الشخص بقياس وتصنيف الطفل، ثم يمضي في تعليمه بحسب المؤشرات والمقاييس. إن هذه العملية في التعليم قد تكون مناسبة للمعلم، غير أنه لا الممارسة للنظام أو طغيان وجهة النظر أو التعليم يمكن لهما أن يخلقا بشراً متجانسين ومتناغمين.
إن النوع الصحيح من التعليم يتكون من فهم الطفل كما هو دون إرغامه على مثال لما نفكر أنه يتوجب أن يكون عليه. أن نضعه في إطار محدد لنموذج أو مثال هو أن نشجعه على القولبة، والتي تولِدُ الخوف وتنتج في داخله تضارباً مستمراً ما بين ما هو وما يتوجب عليه أن يكونه، وكل الصراعات الداخلية يكون لها تجسيداتها الخارجية في المجتمع. إن الأنموذج هو معطل حقيقي لفهمنا لطفلنا ولفهم الطفل لنفسه.
إن مربياً يرغب حقيقة في فهم طفله لا ينظرُ إليه عبر عدسة المثاليات. إذا كان يحبه، فإنه يراقبه، ويدرسه لرؤية توجهاته، أمزجته وخصوصياته. إنه فقط عندما ينعدم الحب للطفل يستطيع المرء أن يخضعه للنموذج، ذلك أن طموح الشخص آنذاك يحاول أن يملأ ذاته عبره، راغباً في أن يصبح هذا أو ذاك. إذا كان المرء مُحباً، لا للنموذج، ولكن للطفل، فإنه يمكن آنذاك له أن يساعده لفهم نفسه كما هي.
إذا كان الطفل يكذب، على سبيل المثال، فما هي قيمة أن نصنع أمامه نموذج الصدق؟ على المرء أن يحاول أن يعرف لماذا يكذب ذلك الطفل. أن يساعد الطفل، على المرء أن يراقبه ويدرسه، وهذا يقتضي الصبر، الحب والعناية، ولكن عندما لا يكون المرء مُحباً، فلا منهم، ويقوم بإجبار الطفل على التقولب في نموذج للسلوك ندعوه آنذاك بالمثالي.
إن الأنموذجية هي وسيلة هروب مناسبة، والمعلم الذي يتبعها عاجز عن فهم تلاميذه والتعامل معهم بذكاء، بالنسبة إليه، فإن نموذج المستقبل، الذي يتوجب أن يكون، هو أهم بكثير من طفل الحاضر. إن اتباع النموذج يفصل شروط الحب، ومن غير الحب فإن مشاكل البشر لا يمكن أن تُحَلْ.
إذا كان المعلم من النوع الصحيح، فإنه لن يعتمد على طريقة، ولكنه سوف يدرس كل تلميذ من تلامذته بشكل فردي. في علاقتنا بالأطفال والشباب، أننا لا نتعامل مع أجهزة ميكانيكية يمكن إصلاح عطبها بسرعة ولكن مع كائنات حية هشة سريعة الانطباعية، حساسة، خائفة، عاطفية، وللتعامل معهم، يتوجب أن يكون لدينا الكثير من الفهم، ومن قوى الصبر والحب. عندما نفتقد لذلك، نبحث عن الحلول السريعة ونأمل في نتائج رائعة وأوتوماتيكية. إذا لم نكن واعين، وميكانيكيين في مواقفنا وأفعالنا، فإننا نحارب متخلين عن أي طلبات تزعجنا وهذا لا يمكن مواجهته برد الفعل التلقائي، وهذا هو أحد أهم المعضلات في التعليم.
إن الطفل هو نتيجة لكل من الماضي والحاضر وهو لذلك قد تمت برمجته مسبقاً. إذا مررنا خلفيتنا للطفل، فإننا نكرس الاثنين معاً قولبتنا وقولبته معاً. إن هنالك تحولاً كبيراً يحدث فقط عندما نفهم برمجتنا الخاصة ونتحرر منها. إن نناقش ما يتوجب أن يكون عليه التعليم الصحيح في حين أن ضحايا ما زلنا لبرمجيتنا يعتبر محض هباء.
حين يكون الأطفال ما زالوا صغاراً، يتوجب علينا بالطبع أن نحميهم من الخطر الجسدي، ونمنعهم من الإحساس بالتهديد والخطر المباشر. غير أنه لسوء الحظ نحن لا نتوقف هناك، إننا نرغب في تشكيل طرائق تفكيرهم وإحساسهم، نريد أن نقولبهم بحسب ميولنا ونوايانا. نسعى الى إرضاء أنفسنا عبر أطفالنا، نحقق ذواتنا من خلالهم إننا نبني جدراناً من حولهم، نكيفهم بحسب معتقداتنا وأيديولوجياتنا، مخاوفنا وآمالنا – ثم نبكي بعد ذلك ونصلي عندما يُقتلون أو يُشوهون في الحروب، أو يخضعون لعذاباتهم في تجارب الحياة.
إن مثل هذه الخبرات لا تجلب الحرية، على العكس، إنها تقوي إرادة الذات. الذات مكونة من سلسلة من الدفاعات وردود الفعل التوسعية، وإشباعها هو دائماً في انعكاساتها وتحديدها المتميز. وطالما أننا نترجم الخبرة بمفردات الذات، الأنا وما هو لي، طالما الأنا، الأنوية، تكرس ذاتها عبر ردود فعلها، فإن الخبرة لا يمكن لها أن تتحرر من الصدامات، الارتباك، التشوش والألم. إن الحرية تتأتى فقط عندما يفهم المرء طُرُق النفس، صاحب الخبرة. إه فقط عندما تكون النفس، بتراكمية ردود أفعالها، ليست هي صاحب الخبرة، أن الخبرة تتخذ أهمية مختلفة تماماً وتصبح إبداعاً.
إذا ساعدنا الطفل لكي يكون حُراً من الطرق للذات، والتي تسبب الكثير من المعاناة، فإن كل واحد منا يستوجب عليه أن يتخذ موقفاً بديلاً بشكل عميق في علاقته بالطفل. الأهل والملعمين، عبر أفكارهم وسلوكهم، يستطيعون مساعدة الطفل لكي يكون حُراً ولكي يتفتح وعيه في بيئة من الحب والخير.
إن التعليم كما هو في الحاضر لا يشجع بأي شكل من الأشكال، الفهم للميول الموروثة والتأثيرات البيئية التي تُشكل العقل والقلب وتحتفظ بالمخاوف، وبذلك لا تساعدنا لأن نتجاوز تلك القولبة لإنتاج كائنات بشرية متجانسة، أن أي شكل من التعليم معني بالجزء وليس بالكل في البشر يقود حتماً إلى المزيد من الصدامات والمعاناة.
إنه فقط عبر الحرية الفردية يمكن للحب والخير أن يزدهرا، والنوع الصحيح من التعليم وحده قادر على تقديم مثل هذه الحرية. لا الاستسلام لمفاهيم المجتمع الحالي ولا الوعد بالمستقبل المثالي يمكن لهما أن يمنحا الفرد هذه الرؤية بدونما أن يخلق المشاكل باستمرار.
إن النوع الصحيح من المعلمين، يرى الطبيعة الداخلية للحرية، يمد يد المساعدة لكل طالب لكي يرقب ويفهم قيمه الخاصة المنعكسة وآراءه، إنه يساعده لكي يصبح واعياً بالتأثيرات المقولبة له، وبرغباته وآماله، حيث أن كلا العاملين يسهم في الحد من ذهنيته ويولد المخاوف، إنه يعينه، فيما يكبر ليدخل مرحلة الرجولة، أن يلاحظ نفسه ويفهمها فيما يتعلق بكل الأشياء، ذلك أن التعطش لتحقيق الذات وإشباعها هو الذي يجلب الصدامات والأسى غير المحدود.
من المؤكد، إنه بالإمكان مساعدة فردٍ على فهم القيم الدائمة للحياة، دونما حاجة الى برمجته. البعض قد يقول إن هذا النمو الممتلىء للشخص قد يقوده الى الضياع والفوضى، هل هذا ما يحدث؟ إن هنالك تشوشا وضياعا قائما بالفعل في هذا العالم، ولقد عم بسبب أن الفرد لم يتم تثقيفه ليفهم ذاته. فيما قد تم منحه بعضاً من الحرية السطحية والخاوية، فقد تم تعليمه، أيضاً، لكي يتأقلم وأن يقبل القيم القائمة.
إن هنالك الكثير ممن يثورون ضد الأنظمة والقمع، غير أنه لسوء الحظ فإن ثوراتهم هي مجرد ردود فعل ذاتية، مما يزيد من ظلام وجودنا. إن النوع الصحيح من المعلمين، يعي ميل العقل لرد الفعل، يساعد الطالب كي يحول القيم القائمة، لا كرد فعل، ولكن كفهم للعملية الكاملة للحياة. إن التعاون الكامل ما بين الإنسان والإنسان هو غير ممكن دونما الاندماج والذي يستطيع النوع الصحيح من التعليم أن يوقظه في الفرد.
لماذا نحن متأكدون من أنه لا نحن ولا الجيل القادم، نعتبر النوع الصحيح من التعليم، يمكن أن يجلب التحولات الأساسية في العلاقة الإنسانية؟ إننا لم نحاول ذلك، قط، كما أن معظمنا يبدو خائفاً من النوع الصحيح من التعليم، فإننا نتهيب محاولة ذلك. دونما التساؤل وإعادة النظر حقاً في السؤال بكامله، فإننا نؤكد على أن الطبيعة البشرية لا تستطيع التغير، إننا نقبل أشياء كما هي ونشجع الطفل لكي يتسق مع المجتمع الحالي، نبرمجه على طرق الحياة القائمة، ونأمل في الأفضل. ولكن هل يمكن لاتساق مثل هذا مع القيم الحالية، والذي يقود إلى الحروب والمجاعات، أن يُعتبر تعليماً؟
دعونا لا نخدع أنفسنا بأن مثل هذه البرمجة يمكن لها أن تصنع الذكاء أو السعادة. إذا ما بقينا خائفين، خاوين من العاطفة، لا مبالين بشكل مزر، فإن هذا يعني بأننا غير معنيين بتشجيع الفرد لكي يُزهِر في المحبة والخير، ولكن نفضل بأن يستمر في تحمل مآسيه التي قد أثقلنا كواهل أنفسنا بها والذي هو جزء منها، أيضاً.
أن نبرمج الطالب لكي يقبل البيئة الحالية هو شيء في منتهى الغباء، بوضوح. ما لم نقم، اختياريا، بجلب تغيير حاد في التعليم، فإننا نكون مسؤولين لاستمرارية توليد الفوضى والبؤس، وعندما تحدث ثورات ما دموية ووحشية، فإن ذلك سوف يمنح فرصة فقط لمجموعة أخرى من البشر ليستغلوا الأوضاع ويمارسوا قسوتهم. كل مجموعة في ميزان القوى تطور طرقها الخاصة في الظلم والاضطهاد، سواءً عبر الضغوط النفسية أو القوى المباشرة.
لأسباب سياسية وصناعية، فإن التخصصات قد أضحت عاملاً مهماً في البنية الاجتماعية الحالية، وبسبب رغباتنا في أن نكون آمنين نفسياً فإننا نقبل ونمارس أشكالاً متنوعة من الاجتهادات. إن الاجتهاد يضمن نتيجة، وبالنسبة لنا فإن النتيجة أهم بكثير من الوسيلة، غير ان الوسيلة تقرر نوع النتيجة تلك.
إحدى مخاطر الاجتهاد ان النظام يصبح اكثر أهمية من البشر الذين يطبق عليهم. الاجتهاد، إذن، يصبح بديلاً عن الحب، ولأن قلوبنا صارت خاوية فإننا نتشبث بالاجتهاد. إن الحرية لا يمكن أن تأتي عبر الاجتهاد، المقاومة، إن الحرية ليست هدفاً في حد ذاته، أو نتيجة لمخطط. إن الحرية هي في البداية،
وليس في النهاية، أنها ليست بشيء يمكن العثور عليه في نهاية نفق من النموذج أو المثاليات.
إن الحرية لا تعني الفرصة في الغرق في إشباع الذات أو وضع الاعتبار للآخرين، جانباً. ان الأستاذ الذي هو مخلص وصادق سوف يحمي الأطفال ويساعدهم بكل طريقة ممكنة لكي ينمو ويتطوروا باتجاه النوع الصحيح من الحرية، غير انه سيكون من المستحيل بالنسبة إليه اذا ما كان هو نفسه مدمناً للأيدلوجية، إذا ما كان هو نفسه دوغمائي وأناني وراء مصلحته.
إن الحساسية ورقة المشاعر لا يمكن إيقاظها عبر الجبر والإرغام. قد يستطيع المرء أن يُرغم طفلاً على أن يكون هادئاً خارجياً، غير ان الشخص لم يواجه وجهاً لوجه ذلك الشيء الذي يجعله عنيداً، متمرداً، وغير ذلك من أمور. ان الإجبار يولد الاستفزاز والخوف. الثواب والعقاب بأي شكل من الأشكال يجعل العقل خاملاً ومنافقاً ومستسلماً، وإذا كان هذا هو ما نرغب فيه، فإن التعليم عبر الإرغام هو طريقة مثالية لتحقيق ذلك.
غير أن مثل هذا النوع من التعليم لا يمكن له أن يساعدنا في فهم الطفل، ولا يستطيع أن يبني بيئة اجتماعية صحيحة حيث الانفعال والكراهية يمكن لهما ان يختفيا. في محبة الطفل، يكمن التعليم الصحيح. غير ان معظمنا لا يحب أطفاله، لدينا طموحات من أجلهم – مما يعني اننا طموحين من أجل أنفسنا. لسوء الحظ، نحن مشغولون جداً بمشاغل العقل بحيث انه ليس لدينا الوقت الكافي من أجل القلب. بعد كل شيء فإن الجد والاجتهاد يعني المقاومة، وهل ستستطيع المقاومة أن تجلب الحب أبداً؟ الاجتهاد يمكن له فقط أن يبني الجدران من حولنا، إنه دائماً انتقائي، جاهزاً على الدوام من أجل الصراعات. إن الجد والاجتهاد غير ملائمين لعملية الفهم، ذلك أن الفهم يتأتى من الملاحظة، والبحث حيث يوضع كل تعنت أو تعصب جانباً.
إن الاجتهاد طريقة سهلة في السيطرة على الطفل، غير أنه لا يعينه على فهم المشاكل المتعلقة بالحياة. بعض أشكال الجبر والضغط، العقاب والثواب، قد يكون ضرورياً للمحافظة على النظام والهدوء السطحي ما بين عدد كبير من الطلبة متجمعين كقطعان في قاعات الدرس، غير انه بوجود النوع الصحيح من المعلمين، وعدد قليل من الطلبة، أيكون مطلوباً وجود أي نوع من الرهاب الذي نسميه، أدباً، بالاجتهاد؟ اذا كانت قاعات الدرس صغيرة، والمدرس قادر على منح كامل انتباهه لكل طالب، ملاحظاً ومساعداً إياه، آنذاك فإن الإجبار والإخضاع بأي شكل من الأشكال لا يعود ضرورياً. إذا ما حدث، في مثل تلك المجموعة، أن أحتر الطالب على عدم النظام أو قام بمشاغبات في غير مكانها، فإنه يتوجب على المعلم آنذاك، أن يبحث عن السبب وراء مثل سوء السلوك ذلك، والذي قد يكون نظاماً غذائياً خاطئاً، إرهاق، مشاكل عائلية، أو مخاوف خفية أخرى.
يتضمن التعليم الصحيح زرع مفاهيم الحرية والذكاء، والذي هو غير ممكن تحت أي شكل من أشكال القسرية، والمخاوف المصاحبة لها، بعد كل شيء، فإن اهتمام المعلم هو في أن يساعد الطالب على فهم تعقيدات وجوده بأكمله. أن يُطلَبْ منه كبت جزء من طبيعته لمصلحة بقية الأجزاء هو أن يُخلَق فيه صراع دائم ينجم عنه الصراع الاجتماعي. إن الذكاء هو الذي يجلب النظام، لا التأديب والاجتهاد القسري.
التأقلم والطاعة لا مكان لهما في النوع الصحيح من التعليم. إن التعاون ما بين المعلم والطالب مستحيل ما لم يكن هناك نوع من العاطفة المتبادلة، والاحترام المتبادل. عندما يكون إظهار الاحترام للكبار مطلوباً من الأطفال، فإنه عموماً يصبح عادة، مجرد أداء سلوكي خارجي، والخوف يتخذ له شكل الواجب. بدونما احترام واعتبار، لا علاقة حيوية ممكنة، خصوصاً عندما يكون المعلم مجرد أداة للمعرفة.
إذا طالب المعلم طلبته بالاحترام وكان لديه القليل من ذلك بالنسبة لهم، فإن ذلك من الواضح أن يتسبب بالاختلافات وعدم الاحترام من جانبهم. بدون احترام للحياة البشرية، فإن المعرفة تقود فقط الى الخراب والبؤس. إن زرع الاحترام للآخرين هو جزء أساسي للتعليم الصحيح، لكن لو كان المعلم نفسه يفتقر لذلك، فإنه لا يستطيع أن يساعد طلبته في الاندماج في الحياة.
إن الذكاء هو تحليل للضروري ولتحليل الضروري يتوجب أن يكون هنالك حرية من تلك المعوقات التي يعكسها العقل في البحث عن أمانة وراحته. إن الخوف لا بد منه طالما كان العقل لا يسعى إلا وراء الأمان، وعندما يكون البشر متجمدين بأي طريقة كانت، فإن الوعي الوثاب والذكاء يتم تدميرهما.
إن الهدف من التعليم هو تنمية العلاقة الصحيحة، ليس بين الأفراد فقط، ولكن بينهم وبين المجتمع، ايضاً ولهذا فإنه من الضروري أن يكون التعليم قادراً، قبل أي شيء آخر، على مساعدة الفرد ليفهم عمليته النفسية في حد ذاتها. إن الذكاء يكمن في فهم النفس والذهاب الى ما يعلوها وما هو أبعد منها، لكن لا يمكن أن يكون هنالك ذكاء طالما هنالك خوف. إن الخوف يُعطل الذكاء وهو أحد الأسباب للعمل المتمركز على مصلحة الذات. إن الاجتهاد يمكن له أن يكبح الخوف ولكنه لا يمحوه، والمعرفة السطحية التي نتلقاها في التعليم الحديث تزيد من إخفاء ذلك وتمويهه.
عندما نكون صغاراً فإن الخوف يتم غرسه في معظمنا في البيت والمدرسة. لا الأهل ولا المعلمين يملكون الصبر، الوقت أو الحكمة. لإزالة المخاوف الغريزية للطفولة، والتي فيما نكبر، تسيطر على مواقفنا وأحكامنا وتخلق مشاكل كثيرة بسببها. إن النوع الصحيح من التعليم لا بد أن يأخذ في اعتباره سؤال الخوف هذا، ذلك أن الخوف يُغلف كامل نظرتنا للحياة. أن تكون بلا خوف تلك هي البداية للحكمة، والتعليم الصحيح فقط يستطيع أن يجلب الحكمة خارجاً عن الخوف حيث يكمن الإبداع والذكاء.
الثواب أو العقاب لأي عمل يقوي الغرق الذاتي. العمل من أجل شيء آخر، باسم الوطن أو الإله يقود الى الخوف، والخوف لا يمكن أن يكون هو القاعدة للعمل الصحيح. إذا ما ساعدنا طفل على أن يكون مدعياً للآخرين، فإنه لا يتوجب أن نستخدم معه الحب كرشوة، ولكن أن نأخذ وقتنا معه ونكون صبورين لشرح طرق ذلك الاحترام والاعتناء.
ليس هنالك احترام للآخر عندما يكون الأمر مقروناً بالمكافأة أو المصلحة الذاتية، ذلك أن الرشوة أو العقاب يصبحان أهم بكثير من الإحساس الحقيقي بالاحترام. إذا لم نملك الاحترام للطفل ولكننا مجرد نقدم له المكافأة أو التهديد بالعقاب، فإننا نشجع حب التملك والخوف. ذلك أننا نحن أنفسنا قد تربينا على العمل بهدف النتيجة، نحن لا نرى أنه يمكن أن يكون هنالك عمل حُر من الرغبة في التربح.
إن النوع الصحيح من التعليم سوف يشجع التفكير المتأني والاحترام للآخرين دونما التحفيز أو التهديد من أي نوع. إذا ما عدنا نسعى الى النتائج السريعة، سوف نبدأ في رؤية كم هو مهم ذلك بالنسبة للطالب والمعلم بأن يكونوا متحررين من الخوف والعقاب والأمل في المكافأة، ومن أي شكل آخر من أشكال السلوك المضطرب، لكن الاضطراب سيستمر طالما أن السلطة هي جزء من العلاقة.
إن الخضوع للسلطة والتبعية لها يملك الكثير من الاستفادات اذا ما فكر المرء ضمن الواعز الشخصي والتربح، غير أن التعليم يقوم على التطور الفردي والتربح يمكن له فقط أن يُبنى على تركيبة اجتماعية تقوم على التنافس، الصراع والقسوة. إن هذه هي نوعية المجتمع الذي تربينا فيه، وشعورنا بالكراهية والضغينة والتشوش واضح جداً.
لقد تعلمنا أن نتأقلم مع سلطة المعلم، الكتاب، الحزب، للاستفادة الربحية المتضمنة في ذلك. إن المتخصصين في كل قسم في الحياة، من الكاهن الى البيروقراطي، يطمحون في السلطة والسيطرة علينا، ولكن أية حكومة أو معلم يستخدمان القوة لا يمكن لهما أن يجلبا ظاهرة التعاون والتكاتف في العلاقة والذي هو من مقومات سلامة الحياة في المجتمع.
إذا ما رغبنا في العلاقة القويمة ما بين البشر، فلا يجب أن يكون هنالك إرغام أو إغراء. كيف يمكن أن يكون هنالك عاطفة أو تعاون حقيقي ما بين أولئك الذين هم في السلطة وأولئك الخاضعين لسطوتها؟ عند الأخذ بالاعتبار هذا السؤال حول السلطة والكثير مما ينتج عنها، وعبر رؤية أن الرغبة في حد ذاتها في القوة هي مدمرة، يتأتى الفهم التلقائي للعملية الكاملة للسطة. في اللحظة التي لا نمنح فيها أي اعتبار للسلطة نصبح شركاء، وهنالك فقط تتأتى إمكانية التعاون والتعاطف.
إن المعضلة الحقيقية في التعليم هي المعلم. وحتى مجموعة ضئيلة من التلاميذ يصبحون أداة لغروره وأهميته الشخصية إذا استخدم سلطة كوسيلة للتنفيس عن نفسه، إذا كان التعليم بالنسبة إليه مجرد إشباع لتضخم الذات. غير أن مجرد الاتفاق الذهني أو اللفظي فيما يتعلق بالتأثيرات المعوقة للسلطة هو شيء غبي ونوع من الهباء.
لا بد أن يكون هنالك رؤية عميقة في الأسباب الخفية للسلطة والسيطرة. إذا رأينا أن الذكاء لا يمكن أبداً إيقاظه عبر التسلط، فإن الوعي في حد ذاته بهذا العامل سوف يحرق كل مخاوفنا، ومن ثم سنستطيع أن نبدأ في تطوير بيئة جديدة سوف تكون مغايرة وتتجاوز بأكثر بكثير النظام الاجتماعي.
أن نفهم قيمة الحياة وأهميتها بكل صراعاتها وآلامها، لا بد أن نفكر بشكل مستقل عن أية سلطة، بما فيها سلطة الدين المنظم، ولكن في حالة رغبتنا في مساعدة طفل نضع أمامه الأمثلة السلطوية، سوف نكون نشجع فقط الخوف، التقليد وأشكال مختلفة من الخُرافة.
أولئك الذين يميلون الى التدين، يميلون أيضاً الى فرض المعتقدات بشكل قسري على الطفل، كما يفرضون عليه مخاوفهم وآمالهم التي ورثوها من آبائهم، وأولئك المضادين – للدين يمتلكون تأثيراً متوازياً في سلبيته على الفل ليقبل طريقتهم الخاصة في التفكير والتي صادف أن اتبعوها. إننا جميعاً نرغب في ان يقبل أطفالنا طريقة وشكل عبادتنا أو اتباع أيديولوجيتنا المختارة. إنه من السهل للغاية التورط في صور وخيالات، سواء كنا قد اخترعناها أنفسنا أو قام بذلك آخرون، لذلك فانه من الضروري أن يكون المرء يقظاً جداً ومتنبهاً.
إن ما ندعوه بالدين ما هو إلا معتقدات مُنظَمة، بكل صنوف التعصب، الطقوس، الغموض والخرافات. لكل دين كتابه المقدس، وسطائه، كهنته وطرقه في التهديد والقبض على البشر. إن أغلبنا قد تم برمجته لكل ذلك، وهذا يعتبر ضمن التعليم الديني، غير أن هذه البرمجة تضع الانسان في حرب مع الانسان، إنها تخلف الحزازيات والصراعات، ليس فقط بين المؤمنين، ولكن ضد أولئك الذين يمتلكون معتقدات أخرى. وبالرغم من أن كل الديانات تؤكد على أنها تعبد الإله وتتدعي أنه يتوجب علينا أن نحب بعضنا البعض، غير أنها تولد الخوف والرعب عبر قوانينها الصارمة للثواب والعقاب، وعبر التعصب التنافسي يتولد الشك والعدائية.
التعصب، الغموض، والطقوس ليست أشياء جيدة للحياة الروحانية. إن التعليم الديني في معناه الحقيقي يتوجب أن يشجع الطفل على فهم علاقته الخاصة بالناس، الأشياء والطبيعة. ليس هنالك وجود من غير العلاقة، ودونما المعرفة بالذات، فإن كل العلاقات مع الواحد أو الكثيرين تجلب معها الصراع والأسى. بالتأكيد، أن يتم شرح ذلك كاملاً للطفل هو أمر من ضروب المستحيل، لكن لو أن المعلم والأهل استطاعوا أن يمسكوا بعمق بالمعنى الكلي لأهمية العلاقة، فسيستطيعون عبر سلوكهم ومواقفهم وطريقة كلامهم بأن يوصلوا تلك الرسالة للطفل، دونما حاجة للكثير من الكلمات والشروحات، معنى الحياة الروحية.
إن ذلك الذي ندعوه تدريبنا الديني يُحبط التساؤلات والشكوك ويقمعها، ولكن فقط عندما نتساءل ونبحث في أهمية القيم التي يضعها الدين والمجتمع حولنا، حينها فقط نبدأ في العثور على الطريق لما هو صحيح وقويم. إنه دور المعلم وعمله أن يختبر، عميقاً، أفكاره ومشاعره وأن يضع جانباً تلك القيم التي وفرت له الطمأنينة والراحة والأمن، إذ أنه عند ذلك فقط يستطيع أن يساعد تلاميذه لكي يمتلكوا الوعي – بالذات وأن ينفهموا دوافعهم ومخاوفهم.
الزمن المناسب للتطور والنمو باستقامة ووضوح هو عندما يكون المرء يافعاً، أما نحن والذين أكبر عُمرا نستطيع، إذا امتلكنا الفهم، أن نساعد اليافعين في أن يحرروا أنفسهم من المعوقات التي يفرضها الجتمع عليهم، وكذلك من أولئك الذين هم في حد ذاتهم تمثيل متجسد لتلك المعوقات والضغوط. إذا كان عقل الطفل وقلبه غير مُنمَطَ ومقولب بالمفاهيم الدينية المسبقة والتعصبات، فإنه سيغدو آنذاك حُراً، طليقاً، ليكتشف عبر معرفة الذات ما هو أبعد وأقصى من نفسه.
إن الدين الحقيقي ليس مجرد منظومة من المعتقدات والطقوس، الآمال والمخاوف، وإذا استطعنا أن نسمح للطفل أن ينمو دونما تلك المعوقات والمؤثرات فلربما، فيما ينضج وينمو يمكن له أن يبدأ بالبحث والتقصي عن طبيعة الحقيقة الإلهية. ولهذا يكمن السبب في أن التعليم للطفل يتوجب أن يكون عميقاً في الرؤية والفهم.
إن معظم الناس المتدينين في ميولهم، والذين يتحدثون عن الإله والخلود، لا يؤمنون بشكل أساسي في الحرية الفردية والانسجام، غير ان الدين هو راعٍ للحرية في البحث عن الحقيقة. لا يمكن ان يكون هنالك تساهل في الحرية وحلول وسط. إن الحرية الجزئية للفرد هي ليست بالحرية على الإطلاق. إن البرمجة والتنميط من أي نوع سواء، كان سياسيا أو دينيا، ليس بالحرية ولن يجلب السلام، أبداً.
إن الدين ليس نوعاً من البرمجة أو التنميط. إنه حال من السلام المصحوب الحقيقة الإلهية، غير أن هذه الحال من الإبداع يمكن أن تتأتى الى الوجود فط عبر معرفة النفس والحرية. إن الحرية تجلب الفضيلة، ومن غير الفضيلة لا يمكن أن يكون هنالك سلام وانسجام. إن العقل الساكن ليس بالعقل المبرمج أو المنمط، إنه ليس السكون في أن يكون العقل مجتهدا، أو مدرباً. إن السكون يتأتى فقط عندما يفهم العقل طرقه الخاصة، والتي هي طُرق النفس.
إن الدين المنظم هو الفكرة المتجمدة حول الإنسان، والتي منها يتم بناء المعابد والكنائس، والتي أصبحت مرتعاً للخائفين، وملجأ للآسفين والمحزونين. غير أن الإله أو الحقيقة أبعد ما يكونا عن الفكرة والمطالب العاطفية. ان الأهل والمعلمين الذين يعترفون بالعملية النفسية التي تبني الخوف والحزن يتوجب عليهم أن يكونوا قادرين على مساعدة النشء في أن يرقبوا ويفهموا مصاعبهم الشخصية وتجاربهم.
إذا استطعنا نحن الأكبر سناً مساعدة الأطفال، فيما يكبرون، في التفكير بجلاء، وبهدوء، في أن يحبوا لا أن يربوا الضغينة والكراهية، ما الذي هنالك بعد ذلك لنفعله؟ لكن إذا كنا على الدوام نخنق بعضنا البعض، إذا كنا عاجزين عن جلب النظام والسلام الى العالم عبر تحويلنا عميقاً لذواتنا، فما هي القيمة الحقيقية للكتب المقدسة، آنذاك والأساطير التي تحفل بها كل الأديان؟
إن التعليم الديني الحقيقي هو في أن تساعد الطفل ليكون واعياً بذكاء، أن يميز لنفسه بين ما هو وقتي وما هو حقيقي، وأن يمتلك القدرة على مواجهة الحياة دون فكرة الربحية، ألن يكون أكثر بالاً ومعنى أن نبدأ كل يوم في البيت أو في المدرسة سلسلة من الأفكار الجدية، أو بقراءة لها عُمق وأهمية، بدلاً من التمتمة بكلمات وجهل مكررة وجامدة؟
إن الأجيال الماضية بطموحاتها، تقاليدها، ومثالياتها، قد جلبت الأسى والخراب الى العالم، لربما استطاعت الأجيال القادمة بالنوع الصحيح من التعليم أن تضع حداً لكل ذلك الخراب، وأن تبني نظاماً اجتماعياً أفضل وأكثر سعادة. إذا كان لأولئك الأصغر سناً روحاً من التساؤل والبحث، إذا كانوا دائمي البحث عن الحقيقة في كل الأشياء، السياسية والدينية، الشخصية والبيئية، فإنه عند ذلك سيستطيع الشباب أن يمتلك أهمية كبرى وسيكون هنالك الأمل في عالم أفضل.
معظم الأطفال فضوليون، يرغبون في أن يعرفوا، غير أن توقهم للمعرفة يتبلد بسبب مواقفنا منهم، عدم صبرنا ووضعنا جانباً لأسئلتهم وفضولهم. إننا لا نشجع أسئلتهم وبحثهم، ذلك أننا نتوجس مما يمكن أن يسألوا عنه، إننا لا نتبنى عدم راحتهم، ذلك إننا أنفسنا قد توقفنا عن السؤال.
إن معظم الأهل والمعلمين يخافون من عدم الرضا ذلك إنه من المزعج لكل أشكال الأمان، وهكذا فإنهم يشجعون الصغار للتغلب على ذلك عبر العمل الآمن، الإرث، الزواج وتلك الراحة الوهمية للمطلقات والتعصب الديني. إن الكبار، يعرفون جيداً، الطُرُق الكثيرة لمخادعة العقل والقلب، ويشرعون في جعل الطفل بليداً فيما يفرضون عليه سلطاتهم، تقاليدهم ومعتقداتهم التي قد قبلوها هم أنفسهم.
إنه عبر تشجيع الطفل ليسائل الكتاب، أياً كان ذلك الكتاب، زن يبحث في مدى صحة القيم الاجتماعية القائمة، العادات، تشكيلات الحكومة، المعتقدات الدينية وهكذا، يستطيع المعلم والأهل أن يأملوا في إيقاظ واتقاد حسه النقدي اليقظ ورؤيته الثاقبة.
إن الشباب، إذا كانوا أحياء، فإنهم يكونون ممتلئين بالأمل وعدم الرضا، لا بد أن يكونوا كذلك، وإلا فإنهم قد أصبحوا عجائز شائخين أو أمواتا. أما العواجيز فإنهم هم أولئك الذين كانوا يوماً ما ساخطين، غير انهم نجحوا في إطفاء ذلك اللهب ووجدوا الرضا والأمان والراحة بطرق متعددة. إنهم يتوقون إلى الدوام والثبات لهم ولعائلاتهم، إنهم يحبذون الرغبة في الثبات في الأفكار، والعلاقات، والممتلكات، لذلك فإنهم في اللحظة التي يشعرون فيها بعدم الرضا، فإنهم يغوصون في مسؤولياتهم، أعمالهم، أو أي شيء آخر بهدف الهروب من الشعور المزعج بعدم الرضا.
حين نكون شبابا فإنه ذلك هو الزمن لنكون ساخطين وغير راضين، لا مع ذواتنا فقط، ولكن أيضاً مع الأشياء من حولنا. يتوجب علينا أن نتعلم التفكير بوضوح ومن غير تعصب، لكي لا نكون من الداخل اعتماديين ومذعورين. إن الاستقلال ليس هو ذلك الشيء من أجل ذلك الجزء الملون من الخارطة والذين ندعوه ببلدنا، ولكن من أجل أنفسنا كذوات، وبالرغم من أننا خارجياً نعتمد على بعضنا البعض، فإن هذا الاعتماد المتبادل لا يصبح قاسياً او اضطهاديا اذا ما استطعنا داخلياً أن نكون أحراراً من شهوة القوة، المنصب والسلطة.
لا بد لنا من تفهم عدم الرضا، والذي يخشاه معظمنا، عدم الرضا او السخط من الممكن أن يجلب ما قد يبدو فوضى، غير أنه لو كان سيقود، كما يتوجب، الى معرفة – الذات وتطويرها فإن ذلك سوف يخلق نظاماً اجتماعياً جديداً وسلاما مستمرا. مع تطوير الذات يتأتى بقدر كبير من البهجة.
إن عدم الرضا هو الوسيلة للحرية، غير أنه من أجل أن تبحث دون انحياز أو تعصب، يتوجب أن لا يكون هناك أي محفزات عاطفية، والتي غالباً ما تشكل التجمعات السياسية الصراخ والهتاف بالشعارات، البحث عن قائد أو زعيم روحي، والتجمعات الدينية بكل أشكالها، إن مثل هذا التفريغ يُبِلدْ القلب والعقل، جاعلاً إياهما عاجزين عن الرؤية وبذلك يسهل تشكيلها عبر عنصري الظروف والخوف. إنها الرغبة الحارقة في البحث، وليست المحاكاة السهلة للجموع، تلك التي تجلب الفهم الجديد لطرق الحياة.
إن الشباب يسهل جداً أن يقوم بقيادته شيخ دين أو سياسي، من الأغنياء أو الفقراء، في التفكير بطريقة محددة، غير أن النوع الصحيح من التعليم يتوجب أن يساعده في أن يكونوا متنبهين لتلك التأثيرات لكي لا يكرروا الشعارات مثل الببغاوات، أو يسقطوا في مصائد ماكرة من الجشع، سواء كان جشعهم أو جشع الآخرين. يتوجب أن لا يسمحوا للسلطة أن تعتقل عقولهم وقلوبهم. أن تتبع آخر، أياً كانت عظمته، أو أن يخضع المرء، الى أيديولوجية محددة، لن يجلب ذلك السلام إلى العالم.
عندما نترك المدرسة أو الجامعة، فإن الكثيرين منا يضع الكتب جانباً والبعض يشعر بأننا قد انتهينا من التعليم وهنالك أولئك الذين يفكرون في المدى الأبعد، يستمرون في القراءة وملاحظة ما يقوله الآخرون، ويصبحون مدمنين للمعرفة. وطالما أن هنالك عبادة للمعرفة أو التقنية كوسيلة للنجاح والسيطة، فإنه سيكون هنالك منافسة وحشية، حروب وصراعات من أجل لقمة العيش.
طالما أن النجاح هو هدفنا فإننا لا نستطيع التخلص من الخوف، إن الرغبة في النجاح تُولِدُ حتماً، الخوف من الفشل. ولهذا لا يتوجب أن نعلم الصغار عبادة النجاح. معظم الناس يبحثون عن النجاح بشكل أو آخر، سواء في ملعب التنس، عالم الأعمال، أو في السياسة. نحن جميعاً نرغب في أن نكون على القمة، وهذه الرغبة تخلق صراعاً دائماً داخل أنفسنا ومع الجيران، إنها تقود إلى التنافس، العداواة، وأخيراً الحرب.
ومثل الجيل الأكبر، فالشباب ايضاً يبحث عن النجاح والأمان، بالرغم من أنه في البداية قد يكونون غير راضين، إلا أنهم سريعاً ما يصبحون محترمين ويخافون من قول لا للمجتمع. إن جدران رغباتهم تبدأ في الانغلاق عليهم، ويسقطون في الخط الجاهز ويقبضون على أدوات السلطة. إن سخطهم والذي هو لهب البحث، والتساؤل، والفهم، يضحي بليداً ويخفت، وفي مكانه تتأتى الرغبة في عمل أفضل، زواج غني، عمل ناجح، وكل ذلك هو شهوات من أجل أمان واستقرار أكثر.
ليس هنالك من فوارق أساسية ما بين الكبار والشباب، ذلك أن كليهما عبيد لرغباتهم وتحققها. إن النضوج ليس مسألة عمر، إنه يتأتى مع الفهم. إن روح البحث الوثابة قد تكون أسهل، ربما، للشباب، ذلك أن الجيل الأكبر قد هزمته الحياة، والصراعات قد أنهكتهم والموت بأشكاله المختلفة في انتظارهم. إن هذا لا يعني أنهم غير قادرين على البحث المجدي، لكنه أصعب بالنسبة إليهم.
إن الكثير من الراشدين غير ناضجين وأقرب الى الطفولية، وهذا سبب يساهم في الارتباك والبؤس الذي يعم العالم. إنه الجيل الكبير ذلك المسؤول عن الاقتصاد السائد والمشاكل الأخلاقية، وأحد فقط ضعفنا، غير المحظوظة، إننا نرغب في وجود شخص آخر ليعمل من أجلنا ويغير مسار حيواتنا. إننا ننتظر من الآخرين أن يثوروا ويبنوا الجديد، ونبقى سلبيين حتى نتأكد من نتائج ذلك.
إنه النجاح والأمان ذلك الذي يسعى معظمنا وراءه، وعقل يبحث عن الأمان، يتوق الى النجاح، هو عقل غير ذكي، ولذلك فإنه غير قادر على عمل متجانس. يمكن أن يكون هنالك عملاً متجانساً فقط إذا ما كان الشخص واعياً بحالته الخاصة، واعياً بتحفظاته وتعصباته العرقية، الوطنية، السياسية، والدينية، مما يعني إنه فقد عندما يلاحظ الشخص أن طُرُق الذات دائماً انفصالية.
إن الحياة هي بئرٌ من المياه العميقة. يستطيع المرء أن يأتي إليه بجرادل صغيرة ويسحب القليل من المياه، أو أن يأتي بأوان كبيرة ويسحب الكثير من الماء الذي يغذيه ويكفيه. عندما يكون المرء شاباً فإنه يستطيع آنذاك أن يستخدم الوقت للبحث والتجريب في كل شيء. إن على المدرسة أن تساعد الشباب في أن يكتشفوا مواهبهم، مهنهم ومسؤولياتهم، وليس فقط أن تحشوا أدمغتهم بالوقائع والمعرفة التكنولوجية، يتوجب أن تكون التربة المناسبة لينموا من غير خوف، بسعادة وانسجام.
أن تُعِلَمَ طفلاً هو أن تساعده ليفهم الحرية والانسجام. لكي تملك الحرية لا بد أن يكون هنالك نظام، تستطيع الفضيلة وحدها أن تصوغه، والانسجام يمكن أن يتم فقط عندما يكون هنالك بساطة عظيمة. من التعقيدات التي لا تحصى علينا أن ننبت البساطة، علينا ان نصبح بسيطين في حياتنا الداخلية واحتياجاتنا الخارجية.
إن التعليم في الوقت الحاضر يهتم بالكفاءة الخارجية، ويهمل بشكل كلي، أو يتقصد ذلك، الطبيعة الداخلية للإنسان، إنه يُطور فقط جزءاً واحداً منه ويترك البقية في أن تتبعها بقدر ما تستطيع. إن تشوشنا الداخلي، العدوانية والخوف دائماً ما يغلبون على التكوين الخارجي للمجتمع، بغض النظر عن مدى النبل الذي بدأ به والمكر الذي بُني به. عندما لا يكون هنالك النوع الصحيح من التعليم فإننا ندمر بعضنا البعض، والأمان الجسدي لكل فرد يصبح مرفوضاً. أن تُعلم الطالب جيداً هو أن تساعده في فهم العملية الكلية لذاته، ذلك أنه فقط عندما يكون هنالك انسجام بين العقل والقلب في كل عمل يومياً يمكن للذكاء والتحول الداخلي أن يُولداً.
فيما يمنح التعليم المعلومات والتدريب التقني فإنه عليه فوق كل شيء أن يشجع النظرة المنسجمة الى الحياة، عليه أن يساعد الطالب أن يلحظ ويكسر بداخله كل التمييز الاجتماعي والتعصب، وأن يقلل من أهمية السعي وراء التملك للقوة والسيطرة. إن عليه أن يُشجع النوع الصحيح من مراقبة – الذات واختبار الحياة ككل مما يعني عدم اعطاء الأهمية القصوى للجزئي، «للأنا»، ولما هو «لي»، ولكن في مساعدة العقل ليرتقي فوق الذات ويكتشف الحقيقي.
إن الحرية تتحقق في الوجود فقط عبر معرفة – الذات في العمل اليومي للمرء، وهذا يعني في علاقته بالبشر، الأشياء، الأفكار والطبيعة. إذا كان المعلم يساعد الطالب في التجانس والانسجام، فلن يكون هنالك ضرورة للتركيز الجنوني وغير المبرر على أية مرحلة محددة من مراحل الحياة. إنه الفهم للعملية الكلية للوجود ذلك الذي يجلب التجانس. عدنما يكون هنالك معرفة بالذات، فإن قوة خلق الأوهام تتلاشى، وعندئذ فقط يمكن للحقيقة أو الإله أن يكون.
على البشر أن يتجانسوا ليخرجوا من أية ورطة أو أزمة، وخصوصاً في العالم الحالي من الكوارث، دون أن يكونوا منكسرين، لذلك فإنه بالنسبة للأهل والمعلمين المهتمين فعلاً بالتعليم فإن المشكلة الرئيسية هي كيف لهم أن ينموا بشراً متجانسين مع ذواتهم والعالم. من أجل عمل ذلك، على المعلم نفسه، بديهياً، أن يكون متجانساً، وهكذا فإن النوع الصحيح من التعليم هو الأكثر أهمية، ليس للشباب فقط، ولكن للأجيال الأكبر أيضاً اذا ما كانوا مستعدين للتعلم وليسوا متصلبين في طرائقهم. ما هو نحن في ذواتنا أهم بكثير من السؤال التقليدي لما نعلمه للطفل، وإذا كنا نحب أطفالنا سوف نرى كيف نوفر لهم النوع الصحيح من المعلمين.
التعليم لا يتوجب أن يكون مهنة المتخصصين. إن ما يفعله ذلك، في اغلب الحالات، أن الحب يتلاشى والحب ضروري لعملية التجانس والانسجام. لكي تكون متجانساً لا بد أن يكون هنالك حرية من الخوف. إن الشجاعة تجلب الاستقلالية بدونما فظاظة، بدونما استفزاز وكراهية للآخر، وهذا هو العامل الأكثر ضرورة في الحياة. بدونما حب لا يمكن لنا حل الكثير من مشاكلنا المتضاربة، بدونما حب فإن امتلاك العلم فقط يزيد من التخبط ويقود الى تدمير الذات.
إن الإنسان المتناغم والمتجانس سوف يصل الى التقنية عبر الخبرة والتجربة، ذلك أن الدافع الإبداعي يصنع تقنيته الخاصة – وهذا هو الفن العظيم. عندما يكون لدى الطفل الدافع الابداعي ليرسم فإنه يرسم، ولا يقلق حول التكنيك. وهكذا فإن البشر الذين يجربون، وبذلك يعلمون، هم المعلمون الحقيقيون الوحيدون، وهم سيخلقون ايضاً تقنياتهم الخاصة.
إن هذا يبدو بسيطاً للغاية، غير أنه في الحقيقة ثورة عميقة. إذا ما فكرنا فيه يمكن لنا أن نرى التأثير غير العادي الذي يمكن له على المجمع. في الحاضر معظمنا ينتهي به الأمر في سن الخامسة والأربعين أو الخمسين لأن يكون مستعبداً للروتين، سواء عبر الانصياع، أو الخوف، أو القبول، نكون قد انتهينا، بالرغم من أننا نكافح في مجتمع ليس فيه غير القليل من المعنى، باستثناء علاقة أولئك المسيطرين عليه به والآمنين لنظامه. إذ استطاع المعلم ان يرى ذلك وكان هو نفسه يعيش ذلك، عندئذ فأياً كان مزاجه وقدراته، فإن تعليمه لن يكون مسألة روتينية، ولكن سيصبح أداة للمساعدة.
لكي نفهم طفل ما يتوجب علينا ان نراقبه وهو يلعب، ان ندرسه في أمزجته وحالاته المختلفة، لا يمكن لنا أن نعكس عليه تعصباتنا وتحيزنا، آمالنا ومخاوفنا، أو أن نقولبه لكي يتناسب مع نماذج رغباتنا. إذا كنا، وباستمرار، نحكم على الطفل بحسب أهوائنا وما نحبه أو نكرهه، فإننا بالضرورة سوف نخلق حواجز ومعيقات في علاقتنا به وفي علاقته بالعالم. ولسوء الحظ، فإن معظمنا يرغب في تشكيل الطفل بطريقة تشبع أهواءنا ومفاهيمنا، نحن نجد درجات متراوحة من الراحة والرضى في الملكية الخاصة والسيطرة.
من المؤكد، أن هذه العملية ليست علاقة ولكن اجبار وإخضاع، ولذلك فانه من الضروري فهم الصعوبات والرغبة المركبة في السيطرة. إنها تتخذ أشكالاً كثيرة مبطنة، وفي جوانبها التي تحمل الجنوح الذاتي، تكون متصلبة جداً. إن الرغبة في أن «تخدم» ممتزجة مع التوق في اللاوعي في السيطرة هو صعب للفهم. هل يمكن أن يكون هناك حب حيث هنالك تملك؟ هل يمكن لنا أن نكون على تواصل مع أولئك الذين يرغبون في السيطرة؟ أن تسيطر هو أن تستخدم الآخر للإشباع الذاتي، وحيث يكون هنالك استخدام لا يكون هنالك حب.
عندما يكون هنالك حب يكون هنالك اعتبار، ليس فقط من أجل الأطفال ولكن لكل انسان. ما لم تكن قد أحسسنا عميقاً بالمشكلة، فإننا لن نجد أبداً النوع الصحيح من التعليم. إن مجرد التدريب التقني لا بد أن يؤدي الى الفظاظة والقسوة، ولكي نعلم أطفالنا لا بد أن نكون حساسين لكامل حركة الحياة. ذلك الذي نفكر به، الذي نفعله، الذي نقوله مهم جداً، لأنه يخلف البيئة، والبيئة إما أن تساعد أو تعرقل الطفل.
من الواضح، إذن، إن أولئك المهتمين بعمق منا بهذه المشكلة سوف يتوجب عليهم البدء في فهم الذوات وبذلك يساعدون على تحويل المجتمع، سوف نجعل من ذلك مسؤوليتنا المباشرة لكي نحقق كيفية جديدة للتعليم. إذا كنا نحب اطفالنا، ألن نجد طريقة لوضع نهاية للحرب؟ ولكن اذا كنا مجرد مستخدمين لكلمة «حب» بدونما مضمون، فإن كامل المشكلة المركبة للبؤس الإنساني سوف تبقى. إن الطريق للخروج من هذه المشكلة يكمن في ذواتنا. لا بد أن نبدأ في فهم علاقتنا ببني جنسنا من البشر، بالطبيعة، بالأفكار والأشياء، ذلك انه من دون هذا الفهم لا يوجد هنالك أمل، ولا طريق خارج الصراع والمعاناة.
أن تنشئة طفل تتطلب المراقبة الذكية والاهتمام. إن الخبراء ومعارفهم لا يمكن أن يحلوا محل حب الوالدين، غير أن معظم الأهالي يُفسدون ذلك الحب بمخاوفهم وطموحاتهم، مما يقولب ويشوه منظور الطفل. وهكذا فإن قلة منا معنية بالحب، غير أننا مأخذون أكثر بمظاهر الحب.
إن التشكيل التعليمي والاجتماعي لا يساعد الفرد نحو الحرية والتجانس والانسجام، وإذا ما كان الأهل صادقين ويرغبون في أن ينمو الطفل الى أقصى قدراته الداخلية، فإنهم يتوجب عليهم أن يبدأوا في استبدال تأثير البيت ويخلقوا مدارس فيها النوع الصحيح من المعلمين.
إن تأثيرات كل من البيت والمدرسة لا يجب أن تكون متناقضة بأي شكل منا لأشكال، وهكذا فإن كلا الوالدين والمعلمين لا بد أن يعيدوا تعليم ذواتهم. إن التناقضات التي كثيراً ما توجد ما بين الحياة الخاصة للفرد وحياته كعضو في المجموعة تخلق معركة لا تنتهي في داخله وفي علاقاته.
إن هذا الصراع يشجعه ويغذيه النوع الخاطىء من التعليم، وكلاهما الحكومة والدين المنظم يضيفان الى ذلك الاضطراب عبر نظمهم المتضاربة. إن الطفل ينقسم ما بين نفسه منذ البداية، مما ينتج عنه نتائج كارثية على المستوى الشخصي والاجتماعي.
إذا استطاع أولئك منا الذين يحبون أطفالهم ويرون الضرورة الماسة لمواجهة هذه المشكلة ان يصححوا ذلك بعقولهم وقلوبهم، بغض النظر عن قلة العدد، عبر النوع الصحيح من التعليم وأجواء بيتية ذكية، فإننا نستطيع أن نساعد في تنشئة بشر منسجمين ومتناغمين، ولكن إذا، ومثل كثير من الآخرين، ملئنا قلوبنا بالأشياء الماكرة للعقل، فإننا سوف نستمر في رؤية اطفالنا مدمرين في الحروب، والمجاعات، وبصراعاتهم النفسية الذاتية.
التعليم الصحيح يتأتى مع التحولات في ذواتنا. يتوجب علينا أن نعيد تعليم أنفسنا أن لا نقتل أحدنا الآخر لأي سبب، بغض النظر عن مدى صحة ذلك، ولا لأي أيديولوجية، بغض النظر عن مدى الوعود البراقة فيها عن مستقبل سعيد للعالم. يتوجب علينا أن نتعلم أن نكون انسانيين ويكون لدينا رحمة وعاطفة، أن نرضى بالقليل، وأن نسعى الى السمو، عند ذلك فقط يمكن أن يكون هنالك خلاص حقيقي للبشرية.
الثقافة، والسلطة والذكاء
يبدو أن الكثيرين منا يفكر بأنه عبر تعليم كل فرد بشري ان يقرأ ويكتب سوف نحل بذلك مشاكلنا الانسانية، غير ان هذه الفكرة قد أثبتت أنها خاطئة، إن أولئك المدعوون بأنهم متعلمون ليسوا من عشاق – السلام، ولا بشر متجانسين مع ذواتهم، وهم ايضاً مسؤولون عن الفوضى والبؤس الذي يعم العالم.
إن النوع الصحيح من التعليم يعني إيقاظ وعي الذكاء، وبناء حياة متجانسة، وهذا هو فقط التعليم الذي يستطيع أن يخلق حضارة وثقافة جديدة وعالم مليء بالسلام، ولكن لكي نجلب مثل هذا النوع الجديد من التعليم، يتعين علينا أن نصنع بداية جديدة على أسس مختلفة تماماً.
مع تساقط العالم الى خرائط من حولنا، نحن نناقش النظريات والأسئلة السياسية المتعالية، ونتلاعب بالإصلاحات السطحية. هل هذا يؤشر الى خواء كلي من جانبنا؟ البعض قد يوافق على ذلك، غير أنهم سوف يمضون تماماً في عمل ما قد اعتادوا على عمله دائماً – وهذا هو حزن الوجود. عندما نسمع حقيقة ولا نتبعها، فإن ذلك يتحول الى سم في دواخلنا، وهذا السُم ينتشر، جالباً معه انزعاجات نفسية، فقدان توازن وصحة عليلة. فقط عندما يتم إيقاظ الذكاء – الخلاق في الفرد يكون هنالك إمكانية ما لحياة مليئة بالسلام والسعادة.
لا يمكن لنا أن نكون أذكياء فقط عبر استبدال حكومة بأخرى، حزب أو طبقة بآخر، مستغل ومتسلط بآخر. إن الثورة الدموية لا يمكن لها أبداً أن تحل مشاكلنا. وفقط، ثورة داخلية عميقة تقوم باستبدال كل قيمنا يمكن لها أن تخلق بيئة مختلفة تشكيل اجتماعي ذكي، ومثل هذه الثورة يمكن إحداثها فقط عبرك وعبري. لا يمكن لنظام جديد أن ينشأ إلى أن نقوم فردياً بتكسير حواجزنا النفسية ونصبح احراراً.
على الورق يمكن لنا أن نرسم المخطط الأزرق ليوتوبيا رائعة، عالم جديد شجاع، غير أن التضحيات بالحاضر لمستقبل غير معلوم سوف لن تحل ابداً، بالتأكيد، أياً من مشاكلنا. إن هنالك الكثير من العوامل التي يمكن لها التدخل ما بين الآن والمستقبل، بحيث أنه ليس هنالك إنسان ما يستطيع أن يتكهن بمعرفة ما الذي سيكونه ذلك المستقبل. إن ما نستطيع ويتوجب علينا عمله اذا كنا صادقين، هو أن نواجه مشاكلنا الآن، ولا نؤجلها الى المستقبل. إن الديمومة والخلود ليسا في المستقبل، إن الأبدية هي الآن. إن مشاكلنا توجد في الحاضر، وفقط في هذا الراهن يمكن لها أن تُحَلْ جميعها.
أولئك الجادون منا يتوجب عليهم إعادة إحياء أنفسهم ولكن لن يكون هنالك أي إعادة إحياء دون أن نتخلص من تلك القيم والمفاهيم التي اختلقناها عبر ذواتنا المحمية ورغباتنا العدوانية. ان المعرفة بالذات هي بداية الحرية، وفقط عندما نعرف أنفسنا يمكن لنا أن نجلب الى العالم النظام والسلام.
الآن، البعض قد يسأل، «ما الذي يمكن لشخص بمفرده أن يفعله ليؤثر على التاريخ؟ هل يمكن له إنجاز أي شيء على الإطلاق عبر الطريقة التي يعيش بها؟». بالتأكيد يمكنه ذلك. أنت وأنا من البديهي أننا لن نقوم بإيقاف حرب حالية، أو نخلق تفاهماً مباشراً ما بين الأمم، ولكن على الأقل نستطيع أن نجلب في عالم علاقاتنا اليومية تغييرا جذرياً سيكون له تأثيره فيما بعد.
إن الاستنارة الذاتية لا تؤثر على مجموعات ضخمة من الناس، ولكن ذلك فقط ما لم يكن الشخص متعطشاً للنتائج. إذا كان المرء يفكر بطريقة الربح والتأثير، فإن التحول الصحيح في داخله غير ممكن.
إن مشاكل الإنسانية ليست بتلك البساطة، إنها معقدة جداً. إن فهمها يتطلب الصبر والرؤية الثاقبة، وإنه في أقصى الأهمية أن نفهم نحن كأفراد ونحل تلك المشاكل لأنفسنا، لا يتوجب أن نفهمها عبر المعادلات السهلة أو الشعارت، ولا يمكن أيضاً حلها على مستوى عمل المتخصصين في خط معين، والذي سيقود فقط الى المزيد من التشوش والارتباك والبؤس. إن مشاكلنا الكثيرة جداً يمكن فهمها وحلها فقط عندما نكون واعين بأنفسنا كعملية كُلية، مما يعني، أنه عندما نفهم كامل تركيبتنا النفسية، وليس هنالك قائد ديني أو سياسي يستطيع أن يمنحنا المفتاح لذلك الفهم.
أن نفهم أنفسنا، يتوجب علينا أن نعي علاقاتنا، ليس فقط بالناس، ولكن ايضاً بالممتلكات، الأفكار، والطبيعة. إذا أردنا أن نجلب الثورة الحقيقية في علاقاتنا البشرية، والتي هي أساس المجتمع بكامله، لا بد ان يكون هنالك تغيير جذري في قيمنا ورؤانا، غير أننا نتجنب التحول الضروري، والأساسي في ذواتنا، ونحاول أن نحقق ثورات سياسية في العالم، والتي دائماً ما تقود إلى ذرف الدماء والخراب.
إن علاقة تقوم على الاستثارة لا يمكن لها أبداً أن تكون وسيلة للخلاص من الذات، ومع ذلك فإن معظم علاقاتنا مبنية على الإثارة، إنها نتائج رغباتنا في الاستفادة الشخصية، الراحة، والأمان النفسي. ومع أنها يمكن لها أن تمنحنا الهروب اللحظي من الذات، فإن مثل هذه العلاقات تمنح القوة فقط للذات، بنشاطاتها المغلقة ذات الوشائج. إن العلاقة هي مرآة يمكن رؤية الذات وكل أنشطتها فيها، وإنه فقط عندما يتم فهم طرق الذات في ردود أفعال العلاقة يمكن أن يكون هناك خلاص ابداعي من الذات.
لتحويل العالم، لا بد أن يكون هنالك إعادة إحياء بدواخلنا لا يمكن إنجاز أي شيء عبر العنف، عبر الإبادة السهلة للآخر. قد نجد نوعاً من الراحة المؤقتة في الانضمام الى مجموعات، عبر دراسة مناهج الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، عبر تفعيل تشريعات قانونية، أو عبر الصلاة، غير أنه أياً كان ذلك الذي نفعله، دون معرفة – بالذات والحب المبني على ذلك، فإن مشاكلنا سوف تتوسع وتتضاعف. فيما، لو أننا استخدمنا عقولنا وقلوبنا بهدف معرفة الذات، سوف نحل، بلا شك، الكثير من صراعاتنا، وأحزاننا.
إن التعليم الحديث يصنع منا كائنات خاوية، إنه يفعل القليل من أجل أن يساعدنا لنعثر على مهامنا الفردية. إننا ننجح في امتحانات محددة، ثم إذا حالفنا الحظ، نجد عملاً – مما يعني في الغالب روتين لا نهائي لبقية حياتنا. قد لا نحب أعمالنا، غير أننا نكون مرغمين للاستمرار فيها لأنه ليس لدينا وسائل أخرى للعيش. قد نرغب في عمل شيء مختلف، تماماً ويمنعنا عن ذلك قلقنا ومخاوفنا. ونظراً لأننا أصبحنا متوترين، نبحث عن الهروب عبر الجنس، الكحول، السياسة، أو التطرف الديني.
عندما تذبل طموحاتنا، نمنح أهمية مبالغ فيها لذلك الذي يتوجب أن يكون عادياً، ونطور التواءات نفسية. والى أن يصبح لدينا فهم مركز لحياتنا وللحب، ولرغباتنا السياسية، الاجتماعية، والدينية عبر متطلباتها وموانعها، سوف يكون لدينا المزيد من المشاكل المتنامية في علاقاتنا، تقودنا الى البؤس والدمار.
إن الجهل هو افتقاد المعرفة بطرق الذات، وهذا الجهل لا يمكن حله عبر الأنشطة السطحية والمفرغة والإصلاحات، إنه يمكن أن يواجه فقط عبر وعي الشخص المستمر للحركات وردود الفعل للنفس في كافة علاقاتها.
ما يتوجب أن نلاحظه هو أننا لسنا مكيفين عبر البيئة وحدها، ولكن اننا نحن البيئة – ولسنا شيئا منفصلا عنها. إن أفكارنا وردود أفعالنا تم تكييفها عبر القيم التي فرضها علينا المجتمع، والذي هو نحن جزء منه.
نحن أبداً لا نرى أننا البيئة بكاملها بسبب وجود عدد من الكينونات فينا، كلها تدور حول «الأنا»، الذات. إن الذات مصنوعة من تلك الكينونات والتي هي مجرد رغبات بأشكال مختلفة. ومن هذه الممثليات للرغبات يبزغ الشخص الأساسي، المفكر، إرادة «الأنا» وما هو «لي»، ويتكون بذلك انقسام ما بين ما هو الذات وما هو ليس – بالذات، بين «الأنا» والبيئة أو المجتمع. إن هذا الانفصال هو بداية الصراع، بين الداخل والخارج.
إن الوعي بهذه العملية الكاملة، على مستوى الوعي واللاوعي، هو تأمل، وعبر هذا التأمل فإن الذات، برغباتها وصراعاتها، يمكن لها أن تسمو. إن معرفة الذات ضرورية إذا ما كان الشخص ليصبح حُراً من تأثيرات القيم التي تمنح الحماية للذات، وفي هذه الحرية وحدها يكمن الخلق، الإبداع، الحقيقة والله، أو ما قد تكونه.
إن الآراء والتقاليد تقولب أفكارنا ومشاعرنا من السن المبكرة. إن التأثيرات المباشرة والانطباعات تنتج تأثيراً قوياً للغاية ودائماً، والذي يشكل كامل مجريات وعينا ولا وعينا في الحياة. إن التأقلم والخضوع يبدأ من الطفولة عبر التعليم وتأثير المجتمع.
إن الرغبة في التقليد هي عامل قوي في حيواتنا، ليس فقط على المستويات السطحية والشكلانية، ولكن أيضاً في العمق. من النادر أن يكون لنا أفكار مستقلة، أو مشاعر مختلفة. وعندما تحدث، فإنها تكون مجرد ردود فعل، وبذلك لا تكون متحررة من النماذج السائدة، ذلك أنه ليس هنالك حرية في ردود الفعل.
إن الفلسفة والدين يضعان طرقاً محددة يمكن لنا عبرها أن نصل الى إدراك الحقيقية أو الإله، ولكن مجرد اتباع تلك الطرق هو أن نبقى خاويين وغير متجانسين، أياً كانت فائدة الطريقة وهي تبدو لنا في حياتنا الاجتماعية اليومية. إن الرغبة في التأقلم، والتي هي رغبة في الأمان، تبنت المخاوف وتسيد السلطات السياسية والدينية، القادة والأبطال الذين يشجعون الخضوع، والذين يسيطرون علينا، ولكن عدم التأقلم هو مجرد رد فعل ضد السلطات، ولا يمكن له بأي طريقة من الطرق أن يجعل منا بشراً متجانسين. إن رد الفعل لا نهائي، وهو يقود فقط إلى المزيد من ردود الفعل.
إن التأقلم، بما يجري فيه من مخاوف، هو معطل، ولكن مجرد الوعي الفكري بهذه الحقيقة لن يحل ذلك الإشكال، إنه فقط عندما نكون واعين بالإشكال بكامل وجودنا نستطيع أن نكون أحراراً منه دون أن نخلق المزيد من السدود الأعمق.
عندما نكون اعتماديين، داخلياً، فإن العادات والتقاليد يصبح لها سطوة كبيرة علينا، وعقل يفكر ضمن الخطوط التقليدية لا يمكن له أن يكتشف ذلك الجديد. عبر تقولبنا وتأقلمنا نصبح مجرد مقلدين وسطيين، أتراس في آلة اجتماعية رهيبة وقاسية. إنه ذلك الذي نفكر فيه هو المهم، وليس ذلك الذي يرغب الآخرون لنا في أن نفكر به. عندما نخضع للعادات، فإننا سريعاً ما نصبح نُسخاً لما يتوجب علينا أن نكونه.
إن هذا التقليد والمحاكاة لما يتوجب علينا أن نكونه، يربي الخوف، والخوف يقتل ملكاتنا الفكرية الإبداعية. إن الخوف يُبلد العقل والقلب وهكذا لا نكون متيقظين للأهمية الكبرى للحياة، نصبح منعدمي الحس بآلامنا، بحركة الطيور، بابتسامات وأحزان الآخرين.
إن الخوف الواعي، وغير الواعي، له أسبابه الكثيرة، ويحتاج الى مراقبة يقظة للتخلص منه كله. إن الخوف لا يمكن القضاء عليه عبر الاجتهاد، المثابرة، أو أي عمل آخر للإرادة: إن مسبباته يتوجب أن تُبحَث وأن تُفهم. هذا يقتضي الصبر والوعي حيث لا يوجد فيه أية أحكام من أي نوع. إنه سهل نسبياً أن نفهم ونواجه مخاوفنا الواعين بها.
غير أن المخاوف على مستوى اللاوعي ليست حتى مكتشفة عند معظمنا، ذلك أننا لا نسمح لها أن تخرج الى السطح، وعندما تطفو في مناسبات نادرة على السطح، نسرع بتغطيتها، والهروب منها. إن المخاوف الخفية غالباً ما تجعل حضورها معلوماً لنا عبر الأحلام والأشكال الباطنية الأخرى، وهي تتسبب في انهيارات وتحللات وصراعات عظمى أكبر بكثير من المخاوف السطحية.
إن حيواتنا ليست فقط على السطح، إن الجزء الأعظم منها محجوب عن الملاحظة العادية. إذا رغبنا في أن تخرج مخاوفنا الملتبسة الى النور وتذوب، فإن العقل الواعي يتوجب أن يكون ساكناً نوعاً ما، غير مشغول للأبد، ومن ثم، وفيما تطفو تلك المخاوف على السطح، لا بد من مراقبتها دون عجلة أو كبح لها، ذلك أن أي نوع من المصادرة أو التبرير يقومان بتقوية تلك المخاوف. لكي نتحرر من كل المخاوف، يتوجب أن نتيقظ لتأثيراتها المظلمة، والمراقبة المستمرة هي الوحيدة القادرة على كشف أسبابها الكثيرة.
إحدى نتائج الخوف هي تقبلنا للسلطة في الشؤون الإنسانية، إن السلطة تُخلق عبر رغبتنا في أن نكون على صواب، أن نكون آمنين، أن نكون مرتاحين، أن لا يكون لدينا صراعات أو ازعاجات واعين بها، لكن لا شيء ينتج عن الخوف يمكن له أن يساعدنا في فهم مشاكلنا، بالرغم من أن الخوف من الممكن له أن يتخذ شكل الاحترام والخضوع لما يدعى بالحكمة. إن الحكمة لا تسعى لأية سلطة، وأولئك اللذين هم في السلطة ليسوا بالحكماء. إن الخوف في أي شكل من الأشكال يمنع الفهم لذواتنا ولعلاقتنا بكل الأشياء.
إن اتباع السلطة هو رفض للذكاء. إن تقبل بالسلطة هو أن تخضع للسيطرة أن تستعبد نفسك لفرد، لجماعة، أو لأيديولوجية، سواء كانت دينية أو سياسية، واستعباد الذات هذا لسلطة هو إنكار ورفض ليس للذكاء فقط، ولكن لحرية الفرد، أيضاً. إن الخضوع لقانون أو لنظام أفكار هو رد فعل لحماية – النفس. إن قبول السلطة قد يساعدنا مؤقتا لتغطية مصاعبنا ومشاكلنا، ولكن لتجنب المشاكل أنت تقوم بتركيزها، وخلال هذه العملية، تتخلى عن معرفة الذات والحرية.
كيف يمكن أن يكون هنالك حل وسط بين الحرية وقبول السلطة؟ إذا كان هنالك حل وسط، فإن أولئك الذين يقولون إنهم يسعون الى معرفة – الذات والحرية ليسوا صرحاء حول أهدافهم. إننا يبدو أننا نفكر بأن الحرية هي غاية في حد ذاتها، هدف، وأنه من أجل ان نصبح أحرارا يتوجب علينا الخضوع أولاً لأشكال مختلفة من الاضطهاد والاستفزازات. إننا نأمل في أن نحقق الحرية عبر التأقلم، ولكن أليست الوسائل في حد ذاتها هي في أهمية غاياتها أيضاً؟ أليست الوسائل هي ما يساعد على تشكيل الغايات؟
أن تحصل على السلام، يتوجب على المرء أن يستخدم وسائل السلام، ذلك انه اذا كانت الوسائل عنيفة، كيف يمكن للغاية أو الهدف أن يتمتع بالسلام؟ اذا كانت الغاية هي الحرية فإن البداية يجب أن تكون حرة، ذلك أن البداية والنهاية هي واحدة. يمكن أن يكون هنالك معرفة – بالذات وذكاء فقط عندما يكون هنالك حرية للبدء بها، والحرية يتم رفضها عبر قبول السلطة.
إننا نعبد السلطة في أشكال متعددة: المعرفة، النجاح، القوة، وهكذا. اننا نمارس السلطة على الشباب، وفي الوقت نفسه نحن نخاف من سلطات أعلى. عندما يكون للشخص نفسه انعدام في الرؤية الداخلية، فإن القوى الخارجية تفرض نفسها وتتخذ لها أهمية كبرى، ومن ثم فإن الفرد يصبح عبداً أكثر فأكثر للسلطة واستبدادها، إنه يصبح أداة في أيدي الآخرين. نحن نستطيع أن نرى هذه العملية تدور من حولنا: في لحظات الكوارث تقوم الأمم الديمقراطية بالعمل كدول متسلطة، تنسى ديمقراطيتها وتجبر الشخص على الخضوع.
إذا استطعنا أن نفهم ميولنا وراء رغباتنا في أن نسيطر أو يسيطر علينا، فإنه عند ذلك من الممكن لنا أن نتحرر من التأثيرات المعيقة للسلطة. إننا نتشوق لليقين، لأن نكون على صواب، لأن نكون ناجحين، لأن نعرف، وهذه الرغبة في اليقين، في الديمومة، تبني نفسها في دواخلنا سلطة الخبرة الشخصية، فيما في الخارج تخلق سلطة المجتمع، العائلة، الدين، وهكذا. غير أن مجرد تجاهل السلطة، هز رموزها الخارجية هو شيء قليل الأهمية.
أن يقوم الشخص بالتخلص من عادات معينة ليخضع لعاداتٍ أخرى، أن يترك هذا القائد ويتبع آخر، هو مجرد تصرف سطحي، إذا أردنا أن نعي العملية الكاملة للسلطة، إذا أردنا أن نرى ما بداخلها، إذا أردنا أن نفهم ونتجاوز رغبتنا في اليقينية، فإنه يتوجب علينا آنذاك أن نمتلك وعياً مكثفاً وبصيرة، يتوجب أن نكون أحراراً، لا في النهاية ولكن من البداية.
إن شهوة اليقين، الأمان هي أحد أهم نشاطات الذات، وإن هذه الرغبة المستعرة هي التي يتوجب مراقبتها على الدوام، وليس فقط توجيهها أو إرغامها على اتجاه آخر، أو إخضاعها للتأقلم لنموذج مرغوب فيه. إن الذات، «الأنا»، وما هو «لي»، أمور قوية جداً في معظمنا سواء في اليقظة أو النوم، إنها صاحية دوماً، وتقوي نفسها باستمرار. لكن عندما يكون هناك وعي بالذات وملاحظة لكل أنشطتها، مهما كانت ضئيلة، لا بد أن يقود ذلك إلى الصراع والألم، ومن ثم فإن الشهوة لليقين، لاستمرارية – الذات تأتي لنهايتها. على المرء أن يكون دائماً يقظ لمراقبة الذات للكشف عن طرقها وألاعيبها. ولكن عندما نبدأ في فهمها، وفي فهم معاني السلطة وكل ما يدخل في ذلك ضمن قبولنا ورفضنا لها، فإننا نكون عند ذلك جاهزين لتفكيك وشائجنا مع السلطة.
طالما سمح العقل لنفسه بأن يكون مُسيطراً، ومهيمنا عليه بالرغبة في أمانه الذاتي، فلن يكون هناك تحرير للنفس ومشاكلها، ولهذا لا يكون هناك خلاص من الذات عبر الدوغما والمعتقدات المنظمة، والتي ندعوها بالأديان. إن الدوغما والمعتقد ليسا إسقاطاً من عقولنا. إن الطقوس، البوجا الهندوسية، الأشكال المتعارف عليها للتأمل، الجمل والكلمات التي نترنم بها ونعيدها باستمرار، بالرغم من أنها قد تنجح نوعاً من الاستجابات المشبعة، غير أنها لا تحرر العقل من النفس وأنشطتها، ذلك أن النفس هي بالضرورة المحصلة النهائية للمحفزات.
في لحظات الأسى، نتوجه لما ندعوه بالإله، والذي هو صورة لعقولنا، أو نجد شروحات ترضينا، وهذا يمنحنا نوعاً من الراحة المؤقتة. إن الديانات التي نتبعها تم ابتداعها عبر آمالنا ومخاوفنا، عبر رغبتنا في الأمان الداخلي والرعاية، ومع عبادة السلطة، سواء أكانت للمخلص، أو السيد أو الكاهن، يتأتى الخضوع، القبول والتقليد. وهكذا، يتم استغلالنا باسم الإله، كما يتم استغلالنا باسم الأحزاب والأيديولوجيات – ونستمر في المعاناة.
إننا كلنا بشر، أياً كانت الأسماء التي قد ندعو أنفسنا بها، والمعاناة هي قدرنا. إن الأسى مشترك ما بين الجميع، هو نفسه للمثالي والمادي. إن المثالية هي هروب من ما هو، والمادية هي طريقة أخرى لإنكار الأعماق التي لا يمكن قياسها للحاضر. وكلاهما المثالي والمادي يمتلكان طرقهما لتجنب المشاكل المركبة والمعقدة للمعاناة، كلاهما يُستهلك عبر رغباتهما، الطموح، والصراعات، وطرقهما في الحياة لا تقود الى الهناء والسلام. كلاهما مسؤول عن التشوش والبؤس في هذا العالم.
الآن، عندما نكون في مرحلة أو حالة صراع، معاناة، لا يكون هنالك استيعاب: في هذه الحالة، أياً كانت أفكارنا ماكرة أو دقيقة لرصد ردود أفعالنا، فإنها تقود فقط الى مستقبل مشوش، والى الأسى. لكي نفهم الصراع ولنتحرر منه، لا بد أن يكون هنالك وعي بطرق العقل الواعي واللاواعي.
لا أيديولوجية، ولا نظام أو نموذج من أي نوع، يمكن له أن يساعدنا في سبر أغوار أعمال العقل، بل بالعكس، إن أي تشكيل أو استنتاجات سوف تعوق تلك الاكتشافات، ان السعي وراء ما يتوجب أن يكون، التعلق بالمبادىء، بالمثاليات، إنشاء هدف ما – كل ذلك يقود الى الوهم. إذا أردنا ان نعرف أنفسنا، لا بد ان يكون هنالك نوع من التلقائية، حرية الملاحظة، وهذا غير ممكن عندما يكون العقل منغلقاً على السطحي، عبر لاقيم المثالية، أو المادية.
إن الوجود هو علاقة وسواء كنا ننتمي الى دين منظم أو لا، سواء كنا متحوطين أو في مصيدة المثاليات، فإن عذاباتنا لا يمكن لها أن تُحل إلا عبر فهمنا لذواتنا في العلاقة. إن معرفة – الذات لوحدها يمكن أن تجلب السعادة والهناء للإنسان، ذلك أن معرفة – الذات هي بداية للذكاء والانسجام. إن الذكاء ليس محض توازن سطحي، إنه ليس تربية العقل، ولا امتلاك المعرفة. إن الذكاء هو القدرة على فهم طرق الحياة، إنه استيعاب القيم الصحيحة.
إن التعليم الحديث، في تطويره للذكاء، يقدم المزيد والمزيد من النظريات والوقائع دون أن يجلب معه الفهم للعملية الكلية للوجود الإنساني. إننا بالغي الذكاء، وقد طورنا عقول ماركة، ونحن في مصيدة التفسيرات. إن الذكاء راضٍ بالنظريات والشروحات، غير أن العقل لا يرضى بذلك، ومن أجل فهم العملية الكلية للوجود، لا بد أن يكون هناك تناغم وانسجام بين العقل والقلب في العمل. إن الذكاء غير منفصل عن الحب.
بالنسبة لمعظمنا فإن تحقيق الثورة الداخلية أمر صعب للغاية. إننا نعرف كيف نتأمل، كيف نعزف البيانو، كيف نكتب، غير اننا لا نملك المعرفة بالمتأمل، العازف والكاتب. إننا غير خلاقين، ذلك أننا قد ملأنا قلوبنا وعقولنا بالمعرفة، المعلومات والغرور، نحن نمتلىء بالاقتباسات لأقوال قالها أو فكر فيها آخرون. غير أن التجربة تأتي أولاً، وليست طُرق الخبرة. لا بد أن يكون هناك حب قبل أن يكون هناك التعبير عن الحب.
من الواضح، إذن، أن مجرد رعاية الفكر، والذي هو تطوير القدرة أو المعرفة، لا ينتج عن الذكاء. إن هنالك فرق ما بين الفكر والذكاء. إن الفكر يُظن أنه يعمل بمعزل عن العواطف، أما، الذكاء فإنه القدرة على الإحساس والمسببات على السواء، وإلى أن نتعامل مع الحياة بذكاء بدلاً من الفكر لوحده، أو العواطف لوحدها، فإنه لن يكون هناك أي نظام سياسي أو تعليمي في العالم يستطيع أن يحمينا من عواقب الخراب والدمار.
إن المعرفة لا تقارن بالذكاء، ان المعرفة ليست هي الحكمة. الحكمة غير قابلة للتسويق، إنها ليست بضاعة يمكن أن تشترى بثمن التعلم أو الاجتهاد. الحكمة لا يمكن العثور عليها في الكتب، لا يمكن مراكمتها، أو تخزينها. إن الحكمة تتأتى من نبش الذات. أن يكون للمرء عقل منفتح أهم بكثير من التعليم، ونحن يمكن لنا أن نمتلك عقلاً منفتحاً، لا عبر حشوه بالمعلومات، ولكن عبر كوننا واعين بأفكارنا ومشاعرنا، عبر ملاحظتنا الدقيقة لأنفسنا والتأثيرات من حولنا، عبر الاستماع للآخرين، عبر مراقبة الفقراء، الأقوياء والضعفاء. إن الحكمة لا تتأتى عبر الخوف والظُلم، ولكن عبر الملاحظة والفهم للأمور اليومية في العلاقة الإنسانية.
في بحثنا للعلم، في رغباتنا التملكية، نحن نفقد الحب، نحن نكتب مشاعر الجمال، الحساسية تجاه القسوة، نحن نصبح أكثر وأكثر تخصصا وأقل وأقل انسجاماً. إن الحكمة لا يمكن لها أن تستبدل بالمعرفة، وليس هناك أية كمية من الشروحات ولا تراكمية للوقائع تستطيع أن تحرر الإنسان من المعاناة. إن المعرفة ضرورية، وللعلم مكانه، لكن اذا كان العقل والقلب محشورين بالعلم والمعرفة، وإذا كان السبب في المعاناة قد تم تبريره بذلك، فإن الحياة تصبح عبثية وخاوية من المعنى. أوليس هذا هو الذي يحدث لمعظمنا؟ إن تعليمنا يزيد من خوائنا يوماً إثر يوم، إنه لا يساعدنا في كشف الطبقات الأعمق لوجودنا، وحيواتنا تزداد خواء، وتشوهاً.
المعلومات، المعرفة بالوقائع، بالرغم من أنها تتنافى، غير انها محدودة في طبيعتها. إن الحكمة لا نهائية، إنها تتضمن المعرفة وطريقة العمل، غير أننا نتمسك بفرع ونظن أنه هو الشجرة بكاملها. عبر معرفة الجزء، لا يمكن لنا أن نرصد أبداً متعة الكلي. إن الذكاء لا يمكن أن يقود أبداً الى الكلي، ذلك انه شذرة، جزء.
إننا قد قمنا بفصل الذكاء عن الشعور والإحساس، وقد طورنا الذكاء على حساب المشاعر. إننا مثل شيء له ثلاث أرجل مع وجود ساق أطول بكثير من البقية، ولا يوجد لدينا توازن. لقد تدربنا على الذكاء وكيف نكون مفكرين، إن تعلمنا ينمي الذكاء ليكون حاداً، ماكراً، متعطشاً للمعرفة التراكمية، وهكذا فإه يلعب أهم دور في حياتنا. إن النباهة أهم بكثير من هذا الذكاء، ذلك أنها امتزاج السببية بالحب، ولكن يمكن أن يكون هنالك ذكاء فقط عندما تتوفر معرفة – الذات، الفهم العميق للعملية الكلية للنفس.
ما هو ضروري للإنسان، سواء كان كبيراً أم صغيراً، هو أن يعيش بالكامل، بانسجام، وهذا هو السبب في مشكلتنا الرئيسية تلك التي تتمثل في رعاية الذكاء الذي يجلب معه الانسجام. إن التركيز غير الضروري على الجزء فقط من تركيبتنا الكلية يمنح رؤية جزئية وملبدة للحياة، وهذا التشويه الذي يتسبب في معظم مصاعبنا. إن أي تنمية جزئية لمزاجنا الكلي بالضرورة سوف يكون خطيراً سواء علينا أو على المجتمع ككل. وهكذا فإنه مهم جداً فعلاً، أن نقوم بمعالجة المشاكل البشرية عبر وجهة نظر متناغمة ومنسجمة.
أن تكون إنساناً منسجماً ومتناغماً يعني أن تفهم العملية الكاملة للوعي الذاتي، الإثنين معاً الباطني والظاهر. إن هذا غير ممكن إذا ما وضعنا تركيز غير ضروري على الذكاء فقط. إننا نضع أهمية متضخمة لرعاية العقل، غير أننا داخلياً مضطربون، فقراء ومشوشون. إن الحياة داخل الذكاء المعرفي هي الطريق الى التفكيك، وعدم الانسجام، ذلك أن الأفكار، مثل المعتقدات، لا يمكن لها أبداً أن تجعل البشر مجتمعين معاً إلا ضمن المجموعات المتصارعة.
طالما أننا نعتمد على الأفكار كوسيلة للتناغم والانسجام، فلا بد أن يكون هنالك تشتت، ولنفهم فعل التشتت هذا للأفكار هو أن نكون واعين بطرق النفس، طرق رغبات الذات الشخصية. يتوجب علينا أن نعي أحوالنا وردود أفعالها، على المستويين معاً الجماعي والفردي. إنه فقط عندما يكون المرء واعياً كلياً لأنشطة الذات برغباتها المتناقضة وطموحاتها، آمالها ومخاوفها، يمكن أن يكون هناك إمكانية للذهاب الى ما هو أبعد من الذات.
إن الحب والتفكير الصحيح فقط يجلب معه الثورة الحقيقية، الثورة بدواخل ذواتنا. ولكن كيف يمكن لنا أن نملك الحب؟ ليس عبر السعي وراء نموذج الحب، ولكن فقط عندما لا يكون هنالك كراهية، لا يكون هنالك طمع وجشع، عندما يكون حس الذات، والذي هو سبب الاستفزازات، يتأتى الى نهايته. إن الانسان الذي يقع في مصيدة الاستغلال، الجشع والحسد لا يمكن له أبداً أن يحب.
بدونما حب وتفكير صحيح، فإن الظلم والقسوة سوف يزدادان باستمرار. إن مشكلة العداء والاستفزاز بين الانسان وأخيه يمكن لها أن تُحل، ليس عبر السعي وراء نموذج السلام، ولكن عبر فهم أسباب الحرب التي تكمن في مواقفنا من الحياة، تجاه اخواننا البشر وهذا الفهم يمكن له أن يتأتى فقط عبر النوع الصحيح من التعليم. من دون تغيير في القلب، من غير النوايا الحسنة، من غير التحول الداخلي، والذي يتولد من الوعي بالذات، لا يمكن أن يعم السلام ولا السعادة بين البشر أجمعين.
كريشنا مورتي تقديم وترجمة: ظبية خميس
شاعرة و كاتبة من الامارات