في بني مدار، هناك ثكنة للجنود، إنها مؤلفة من عدة صفوف من البنايات الصغيرة، مطية بالملاط تقع وسط صخور ضخمة على سفح الجبل، خلف المدينة، مكان هادىء عندما لا تهب الريح. بعض الاسبان مازالوا يعيشون في البيوت المحاذية للطريق، انهم يملكون الدكاكين. لكن اغلبية الناس في الشوارع هذه الايام. عرب من الجبال يسوقون العنز والخراف. او جنود من الثكنة يبحثون عن الخمر. الاسبان لا يبيعون الخمر الا لمن يعرفونهم. هناك يهودي يبيعها لأي كان لكن ليس هناك ما يكفي من العمر ليسقي جميع الراغبين. لبني مدار شارع وحيد يخترقها نازلا من الجبل، ويتعرج قليلا بين البيوت، كالأفعى، يمنة ويسرة، يستمر ليختفي ثانية في الجبل، الاحد يوم سيئ، ذلك الزمان المشاع الذي يملكا الجنود، عندما يسيرون جيئة وأهابا، طوال النهار، بين الدكاكين والبيوت، في نفس الساعة التي يسوق فيها اصحاب الحي مطيهم خارجين من السوق، يذهب الاسبان الى الكنيسة وهم يرتدون السواد، فيما بعد يخرجون ليذهبوا الى بيوتهم. ولا يحدث شيء آخر لان جميع الدكاكين مغلقة. ليس هناك شيء واحد يمكن ان يشتريه الجنود..
كان ادريس قد قضى ثمانية اشهر في بني مدار، ولان العريف الذي يرأس وحدته جار له من تطوان، لم يكن بالغ الشقاء، كان للعريف صديق له دراجة. بخارية، وكانا يذهبان معا، مرة في الشهر، الى تطوان، هناك كان العريف يرى أخت ادريس دائما، التي كانت تربط له بعض الطعام في صرة كبيرة ليوصلها اليه في الثكنة، وكانت ترسل له الدجاج والكعك، والسجائر والتين. وعدة بيضات مسلوقة دائما، فكان يشاركه صديقان او ثلاثة في اكل البيض، ولم يكن يشكو من حياته في بني مدار.
حتى المباغي لم تكن مفتوحة في يوم الأحد، كان الجميع في مثل هذا اليوم، يسيرون من بداية البلدة الى نهايتها، غدوا ورواحا، عدة مرات، احيانا كان ادريس يمشي هكذا بصحبة اصدقائه. وغالبا ما يأخذ مسدسه ويهبط الى الوادي ليصطاد الارانب. واثناء عودته وقت الغسق كان يتوقف في مقهى صغير في حافة البلدة ويسرب كأسا من الشاي ويدفن عدة غلايين من الكيف. لو انه لم يكن المقهى الوحيد لم يكن ليرتاده، اشياء مخجلة كانت تجري هناك. رأى رجالا جبليين ينهضون من جلستهم، على الحصر، في عدة مناسبات، وينخرطون في رقصة لا تنتهي الا بعد أن يكونوا قد نزفوا دماءهم على الأرض. هؤلاء كانوا من الجيلالة، ولم يخر أحد، ولا حتى ادريس، أن يهم بايقافهم، فهم لم يكونوا يرقصون لانهم يحبون ان يرقصوا، وكان هذا ما يستثير حفيظته فيشعر بالنقمة والعار، كان يبدو له ان العالم يجب ان يكون على شاكلة، يمكن فيها للانسان ان يشعر بأنه حر في أن يرقص أو لا يرقص. اعتمادا على شعوره، لكن الجيلالي لا يستطيع ان يقاوم ما تأمره به الموسيقى. عندما يعزف الموسيقيون، الذين هم جيلالة أيضا، موسيقى معينة ذات سطوة، تنغلق عينا الرجل وينهار فجأة على الأرض، وحتى يكون قد شرب من دمه واثبت جدارته، لن يبدأ الى الموسيقيون ذلك المقطع الذي سيعيده ثانية الى العالم، يجب ان نفعل شيئا ما، كان يقول ادريس للجنود الآخرين الذين يرتادون المقهى، فكانوا يومئون موافقين برؤوسهم.
تكلم بهذا الشأن مع عريفه في المنتزه العام، قال العريف ان جميع اطفال البلد عندما يذهبون الى المدرسة كل يوم، لن يكون هناك مكان للخرافات. ستعجز النساء عن التأثير على أزواجهن بواسطة السحر. وسوف يكف ابناء الجيلالة والحمادشة وجميع الآخرين عن عادتهم هذه في تجريح أنفسهم، على الساقين والذراعين والصدر. فكر ادريس بهذا مطولا. سره ان السلطات لا تجهل هذه الامور، وكم هي سيئة، لكن اذا كانوا يعرفون، لماذا لا يفعلون شيئا الآن؟ يوم ان يذهب الاطفال الى المدرسة، سأكون مسجى في قبري الى جانب سيدي علي المندري، كان يفكر بالمقبرة في باب سبتة بتطوان. عندما التقى بالعريف ثانية قال: "اذا كانوا يستطيعون أن يفعلوا شيئا، عيهم ان يفعلوه الآن، لم يبد الاهتمام على وجه العريف. وقال: «بلى».
عندما أخذ ادريس اجازته وذهب الى البيت، أخبر والده بما قال العريف، فصاح والده: «تعني ان الحكومة تظن نفسها قادرة على ان تقتل الارواح الشريرة؟
قال ادريس: «هذا صحيح، انها قادرة، وستفعل ذلك».
كان أبوه شيخا هرما ولا ثقة له بالشبان الذين يمسكون بزمام الامور في هذه الايام. قال: «هذا مستحيل، عليهم ان يتركوهم في سلام. دعوهم وشأنهم، لقد ذهب الاطفال الى المدرسة من قبل، وكم منهم أصيب بالاذى من هذا الجنون؟ لكن اذا بدأت الحكومة تتدخل في حياتهم، فسترى ما يحدث، سيصرعون الاطفال اولا».
كان ادريس يتوقع من والده أن يتكلم هكذا، لكنه عندما سمع كلماته هذه استبد به الخزي، ولم يحر جوابا. ان بعض اصدقائه لا يخشون الله. يأكلون في رمضان ويتشاجرون مع آبائهم، سره الا يكون واحدا منهم، لكنه كان يعرف أن أباه على خطأ.
ذات أحد صيفي ساخن، كانت السماء فيه شديدة الزرقة، استلقى ادريس في فراشه الى وقت متأخر، كان الرجال الذين يشاركونه النوم في هذه الغرفة من الثكنة. قد خرجوا. اخذ يستمع الى الراديو، وكان يفكر: "سيكون من الجميل أن أنزل الى الوادي، في نهار كهذا". رأى نفسه يسبح في أحد الغدران الكبيرة، وفكر بالشمس المحرقة تلسع قفاه فيما بعد، نهض وفتح الخزانة المقفلة باحثا عن المسدس، وحتى قبل أن يأخذه قال: «يا لطيف». لانه تذكر.انه لا يملك إلا خرطوشة واحدة، وكان اليوم أحدا. صفق باب الخزانة وعاد الى فراشه. بدأ الراديو يذيع نشرة الاخبار، فاستقام جالسا، وبصق الى أبعد ما يستطيع عن السرير، وأسكت المذياع، كان يسمع طيورا كنيرة تفرد في شجرة الصفصاف، وراء النافذة في الصمت، حك رأسه ثم نهض فارتدى ثيابه، رأى مهدي في الباحة يوشك ان يصل الى الدرج، كان مهدي في طريقه الى اتخاذ نوبة الحراسة في الصندوق الواقع خارج البوابة الكبيرة.
خي! ماذا لو قلت أربعة ريال؟
فنظر مهدي اليه "النمرة دي ايه؟" كان هذا اسم أغنية مصرية تذاع من الراديو في كل يوم تقريبا.. وكانت الاغنية تنتهي بكلمة عدم، عدم، عدم كانت الاغنية تردد دون انقطاع. عدم لم لا؟ وبينما يسيران متجاورين، اقترب ادريس أكثر، بحيث احتكت ساقه بساق مهدي.
– السعر عشرة يا خوي.
– مع كل الخراطيش؟
– أتريدني أن أفتح وأريك؟ كان صوت مهدي مشوبا بالغضب، كفظ بالكلمات من جانب فمه. لم يقل ادريس شيئا، وصلا أعلى الدرج، كان مهدي يسير بسرعة. قال: «يلزم أن تعيده الي في الساعة سبعة، هل تريده؟»
في رأسه كان ادريس يرى النهار الطويل يمتد ل البلدة الفارغة، قال: نعم.
«ابعد مكانك» وأسرع قافلا الى الغرفة، وفتح الخزانة، ثم تناول مسدسه، ومن الرف التقط غليونه، وكيفه، ورغيفا من الخبز، أحل برأسه من الباب، لم يكن في الباحة أحد غير مهدي الجالس على جدار في النهاية،الاخرى، ركض حاملا في يده مسدسه القديم، حتى وصل الى مهدي، أخذه مهدي منه ونزل الدرج تاركا مسدسه هو على الجدار. التقط ادريس المسدس وانتظر لحظة، ثم تبعه، وعندما مر عبر صندوق الحراسة سمع صوت مهدي يقول من الداخل بنعومة:
– احتاج للعشرة في السابعة، لا تنسى يا خوي.
زفر ادريس. كان يعرف كم عميق هو الظلام هناك، ثم ليس هناك ضاهه واحد يطل برأسه الى داخل الباب، في الأحاد، عشرة ريالات، كان يفكر، ولا يجازف بشيء، استدار بأنظاره نحو العنزات التي تحتشد بين الصخور كانت الشمس حارة، لكن الهواء هيب الرائحة، وكان يسعده أن يهبط سفح الجبل، خفض حافة قبعته فوق عينيه أكثر وبدأ يصفر، وسرعان ما أصبح في مقدمة البلدة، تحتها، على الجانب الآخر من الوادي. كان يمكنه أن يرى الناس جالسين على مصاطب المتنزه الواقع في أعلى الجرف، صفارا ولكنهم واضحون يلتفون بالسواد، كانوا هم الاسبان الذين يتلكأ ون بانتظار أن يدق جرس الكنيسة.
وصل الى أول الغدران العالية والشمس في كبد السماء، وعندما اضطجع على الصخور، فيما بعد، يأكل الخبز. احرقته الشمس فكر. "لن تتحرك الحيوانات قبل الثالثة" ارتدى سراويله وزحف الى الفيء تحت احدى اشجار الدفلى لينام. عندما استيقظ كان الهواء منعشا أكثر. دخن بقية الكيف الذي معه. وأخذ يتنزه في الوادي، كان أحيانا يفني، لم يجز أي أرنب لذلك أخذ ينصب حجارة صغيرة على قمم الصخور ويطلق عليها النار، ثم عاد فتسلق الجانب الآخر وأخذ يتبع الطريق السيار الذي يؤدي الى البلدة.
عندما وصل الى المقهى سمع الموسيقيين يعزفون وينشدون وصلة من الفناء وهو يدخل، وكان الرواد يصفقون مع الموسيقى، وصاح جندي: "ادريس" تعال فأجلس معنا،. جلس مع جماعته، وشاركهم في تدخين ما لديهم من الكيف، ثم ابتاع ما قيمته أربعة ريالات من الدلال الذي يجلس على المنصة مع العازفين، واستمر يدفن، أخبرهم قائلا: «لم يتحرك ولا شيء في الوادي اليوم، كان كل شيء ساكنا كالأصوات».
أغمض عينيه رجل على رأسه عمامة صفراء، كان يجلس قربهم، وسقط فجأة على الرجل الذي يجلس الى جانبه وتحرك الآخرون مبتعدين عنا نحو رقعة أخرى من الحصر. وانهار الرجل الى الارض حيث مد جسمه.
صاح ادريس: "واحد آخر أيضا؟ لماذا لا يبقون في جبل حبيب؟ انني لا أطيق أراه"
استغرق الرجل وقتا طويلا حتى انتصب على قدميه. كانت الطبول قد أسرت ذراعيه وساقيه، لكن جسده كان مايزال يصارع. وأخذ يجأر حاول ادريس الا يوليه أي اهتمام.. دفن غليونه وهو ينظر الى اصدقائه، متظاهرا أن الجيلالي ليس أمامه. لكن وعندما اسل الرجل سكينه، لم يعد يطيق أن يتظاهر بشيء. نظر الى الدم الذي كان يسيل في عيني الرجل. كان ينسج ستارا أحمر داكنا فوق كل من وقبيه، وفتح الرجل عينيه اكثر، كأنه يحاول أن يرى من خلال الدم. كانت الطبول صاخبة.
نهض ادريس ونقد القهوجي ثمن الشاي، ودع الآخرين وخرج، قريبا ستغوص الشمس تحت قمم الجبال، كان ضياؤها يجعله يغمض عينيه، فقد كان الكيف يملأ رأسه، تجول في انحاء البلدة حتى بلغ نهايتها الاكثر علوا ودلف الى ممر ينفتح على واد آخر، وفي هذا المكان لم يكن هناك أحد. كانت أشجار الصبير تنمو عاليا على جانبي الممر، وكانت العناكب قد شيدت بين أشواكها عالما من الانسجة. وسرعان ما أحس بالجوع الشديد، إلا ان الفاكهة كانت قد قطفت كلها من الصبيرات التي تحاذي الطريق. وجد نفسا عند مزرعة صغيرة لها سقف من القش. وخلفها، على سفح الجبل الخالي، كان هناك مزيد من الصبير مازال مثقلا بالمئات من الثمار الهنديات الارجوانية. بدأ كلب ينبر في سقيفة بجانب البيت. لم تكن هناك أية علامة على وجود أحد. وقف ساكنا بعض الوقت يصفي الى نباح الكلب. ثم سار نحو دغلة الصبير. كان موقنا أن البيت خال من الناس. كانت أخته قد علمته منذ سنوات طويلة كيف يقطف الهنديات دون أن تنغرز الابر في لحم يديه. مدد مسدسه على الأرض خلف جدار حجري صفير وبدأ بجمع الثمار. وبينما هو كذلك، كان يرى في رأسه وقبي العينين الحمراوين العمياوين في وجه الجيلالي يغمرهما الدم، فشتم جميع الجيلالة في سره، وعندما صارت لديه كومة كبيرة من الفاكهة على الأرض جلس وبدأ يأكل. راميا من فوق كتفه بالقشور. وكلما أكل اشتد جوعه.، لذلك قطف المزيد. أخذت صورة الرجل، بوجهه الذي يشع دما، تتلاشى من رأسه بالتدريبى، لم يفكر بغير الهنديات التي كان يلتهمها، كان الظلام يكاد يخيم على السفر، تطع الى ساعته وقفز ناهضا، فقد تذكر ان مهدي يتوقع المسدس في السابعة. وفي النور المعتم لم يستطع ان يرى المسدس، في أي مكان، بحث وراء الجدار، حيث كان يعتقد أنه تركه، لكنه لم ير غير الحجارة والشجيرات وقال:
«استر يا رب، لقد اختفى»، وخفق قلبه، ركض عائدا الى الممر ووقف هناك لوهلة. كان الكلب ينبح بلا توقف، كان الظلام سائدا حين وصل الى بوابة الثكنة، وفي صندوق الحراسة رجل آخر، كان العريف ينتظره في الغرفة، والمسدس القديم الذي كان هدية من والد ادريس، كان مطروحا على سريره، ماله العريف:
هل تعرف أين مهدي؟
قال ادريس: لا.
– انه في بيت الظلام، وهل تعزف لماذا هو سجين؟
جلس ادريس على السرير، كان يفكر، العريف صديقي، وقال: «لقد اختفى» ثم أخبره كيف وضع المسدس على الأرض، وكان هناك كلب ينبر، ولا أحد في الجوار، ومع ذلك فقد اختفى، ربما كان الكلب من الجن. قال عندما انتهى، لم يكن يصدق نقا أن للكلب أية علاقة بالموضوع، لكنه كان عاجزا عن التفكير، بأي شيء آخر يقوله في تلك اللحظة.
تطلع اليه العريف مدة طويلة ولم يقل شيئا، هز رأسه. وقال أخيرا: «كنت أظنك صاحب عقل». ثم بدا على وجها غضب شديد. وجر ادريس بالقوة الى الباحة حيث أمر جنديا آخر باعتقاله.
في العاشرة من تلك الليلة ذهب ليرى ادريس. وجده يدخن اسسي في الظلام. كانت الزنزانة مليئة بدخان الكيف. «قذارة»! صاح العريف، واقتطف منه الغليون والكيف، وقال لأدريس:
– قل الحقيقة. لقد بعت المسدس. صحيح أو لا؟
– ورأس أمي. أقسم ان هذه هي الحكاية ! لم يكن هناك سوى الكلب.
لم يستطع العريف أن ينتزع منه كلاما آخر. صفق الباب وراءه ومضى الى البلدة ليشرب في مقهاها كأسا من الشاي، جلس يصفي الى الموسيقى، وبدأ يدخن الكيف الذي أخذه من ادريس. اذا كان ادريس يقول الحقيقة. فالكيف هو الذي لعب بعقله بحيث فقد المسدس، وفي تلك الحالة لابد أن هناك احتمالا في العثور عليه. لم يكن العريف قد دخن منذ وقت طويل، وما ان بدأ الكيف يملأ رأسا، حتى أخذ يشه بالجوع. وتذكر أيام فتوته، عندما كان يتعاطى الكيف مع أصدقائه. كانوا دائما يذهبون، فيما بعد، ليبحثوا عن الهنديات، لأنها كانت أشهى مذاقا من أي شيء آخر ولا تكف شيئا، وكانوا يعرفون دائما أين يجدونها. «قفة مليئة بالهنديات». كان يفكر، أغمض عينيه ومضى في تفكيره.
في الصباح التالي خرج العريف باكرا ووقف على صخرة عالية خلف الثكنة، يستطلع بعناية امتداد الوادي والسفح الجبلي الأجرد، فرأى ممرا تحيط به أشجار الصبير، على مسافة ليست بالبعيدة، كيها مباشرة غابة كاملة من الصبير. وخاطب نفسه: «ها هي ذي».
أخذ يمشي بين الصخور الى ان وجد الممر. ثم تبع الممر حتى انتهى به الى المزرعة، بدأ الكلب ينبح، وخرجت الى المجاز امرأة اخذت تتطلع اليه، لكنه لم يعرها اهتماما بل ذهب مباشرة نحو الصبيرات العالية التي تملأ جانب التلة الواقعة خلف البيت، كانت هناك فاكهة كثيرة تفري بالأكل، لكن العريف امتنع عن ذلك، كان رأسه خاليا من الكيف ولم يعد يفكر إلا بالمسدس. كانت هناك كومة كبيرة من قشور الهنديات بجانب جدار من الحجر. لقد أكل أحدهم كمية هائلة. ثم رأى الشمس تتألق على جزء من ماسورة المسدس تحت القشور. صاح: «هه !» وقبض على المسدس فأخذ يمسحه بمنديله مطولا. وفي طريق عودته الى الثكنة كان سعيدا الى حد ما فقرر أن يداعب ادريس بلعبة يلعبها على حسابه.
أخفى المسدس تحت فراشه، وذهب ليرى، ادريس آخذا اليه كأسا من الشاي وقطعة من الخبز. وجده نائما على الارض في الظلام فصاح به:
«صح النوم !» وضحك وهو يرفس قدم ادريس ليوقظه، جلس ادريس على الارض يشرب الشاي ووقف العريف في المدخل يحك ذقنه، خفض عينيه نحو الأرض ولكن ليس باتجاه ادريس. وبعد وهلة قال: "قلت لي بالأمس ان الكلب لم يكف عن النباح؟".
أيقن ادريس ان العريف سيهزأ منه. وأحس بالألفة لانه جاء على ذكر الكلب. لذلك قال بصوت غير واثق: «نعم».
فتابع العريف: «اذا كان الكلب، فأنا اعرف كيف استعيد المسدس. ولكن عليك أن تساعدني؟»
رفع ادريس عينيا متمليا، لا يصدق أن العريف جاد في كلامه. واخيرا قال بصوت خفيض: «كنت أمزح عندما قلت ذلك لعب الكيف برأسي».
غضب العريف: «هل تعتقد أنك تمزح اذا ضيعت مسدسا من مسدسات الحكومة؟ اعترف انك بعته ! رأسك خال من الكيف الآن. ربما أمكنك أن تقول الحقيقة». وخطا خطوة نحو ادريس، ففيل لأدريس انه سوف يضربه. وقف على قدميه بسرعة. وقال «أخبرتك بالحقيقة، لقد اختفى».
هرش العريف ذقنه، وعاء ينظر الى الارض قليلا. قال له: «عندما يرقص أول جيلالي. في المرة القادمة، سنفعلها»، ثم اغلق الباب وترك ادريس وحده.
بعد يومين عاد العريف الى بيت الظلام، كان معه جندي آخر، وقال لأدريس: «عجل ! هناك واحد يرقص الآن».
خرجوا الى الباحة وادريس يرمش بعينيه ليعتاد على الرؤية. قال العريف: «اسمع عندما يشرب الجيلالي من دمه. تكون عنده سطوة. عليك أن تطلب منه الايعاز للجن بأن يعيدوا الي المسدس. سأجلس في غرفتي وأحرق عيدان البخور، قد ينفع».
فقال ادريس: «سأفعل ما تريد، لكن ليست هناك فائدة».
ذهب الجندي الآخر مع ادريس الى المقهى، كان الجيلالي ريفيا فارعا من الجبال، وكان قد شهر سكينه في تلك الآونة، وأخذ يلوح بها في الهواء، اشار الجندي الى ادريس بالجلوس قريبا من العازفين. فانتظر حتى بدأ الرجل يلعق الدم من ذراعيه. وآنذاك، لأنه كان واثقا انه سيتقيأ اذا راقبه لحظة أخرى، رفع ادريس، ذراعه اليمنى صوب الجيلالي وقال بصوت خفيض: «باسم الله يا أخي، تكرم فاجعل الجن الذي سرق المسدس من مهدي، أن يعيده الآن الى العريف عزيز». بدا ان الجيلالي يحملق فيه، لكن ادريس لم يكن واثقا ما اذا سمع كلماته أم لا.
وعاد به الجندي الى الثكنة. كان العريف يجلس تحت شجرة خوخ محاذية لباب المطبخ، صرف الجندي ونهض من مكانه. قال: «تعال» وقاد ادريس الى الغرفة، كان الهواء أزرق يملأه دخان البخور والشمع المحترق، اشار الى وسط الأرض. وصاح: «انظر!» كان هناك مسدس. هرع ادريس فالتقطه، وبعد أن تفحصه جيدا، قال: «هذا هو المسدس ». واعتلا صوته بالخوف، كان بوسع العريف أن يرى اضطراب ادريس، ويدرك انه لم يكن يصدق الأمر. لكنه الآن يؤمن به تماما.
اغتبط العريف لأنه احتال عليه بهذه السهولة، وضحك قائلا: هل ترى، كيف حدث الأمر. أنت سعيد الحظ لأن مهدي سيقضي اسبوعا آخر في بيت الظلام».
لم يرد ادريس، كانت حاله أسوأ مما هي عليه اذ يرقب الجيلالي، عندما يجرح لحم ذراعيه بالسكين.
تلك الليلة استلقى على فراشه قلقا. كانت المرة الاول التي يتعاطى بها مع الجن، بالخطر لذلك لم يعد يثق بالعريف. فكر: «ماذا سأفعل؟» كان جميع من حوله نائمين. لكنه لم يغمض عينا. بعد قليل نهض واقفا وسار الى الخارج. كانت أوراق الصفصافة تهس في الريح. وكان هناك نور في نافذة على الجانب الآخر من الباحة. سمع بعض الضباط هناك. سار ببطء في الحديقة حتى كان في وسطها ونظر الى السماء وهو يفكر كم ستكون حياته مختلفة منذ هذه اللحظة. وحين وصل الى النافذة المضاءة، سمعهم يضحكون ضحكا صاخبا، كان العريف يروي حكاية كف ادريس عن السير ووقف يصفي.
وبعد ذلك قال للجيلالي: من فضلك، يا سيدي، هل تتكرم فتطلب من الكلب الذي سرق المسدس.
ضحك الرجل ثانية، وغطى ضحكهم على صوت العريف، عاد ادراجه بسرعة وانسل في فراشه، اذا عرفوا انه سمع العريف، فلن يزداد ضحكهم الا صخبا. استلقى على فراشه يفكر، وأحس بالسم يسري الى قلبه. العريف هو الذي أدخله هذا المطب، فدعا الجني، وها هو يتظاهر أمام رؤسائه بانه بريء لا يد له في الامر. عاد العريف فيما بعد الى الغرفة ونام، لكن ادريس بقي ساهرا لمدة طويلة قبل أن ينام.
في الأيام التي تلت ذلك، عاد العريف يتودد اليه، كن ادريس كان يكره ان يرده يبتسم. كان يفكر بحقد: «يظن انني أخاف منه، بينه وبين نفسه، لانه يعرف كيف يستدعي الجن. يمزح معي الآن لانه يملك السحر». كان يعجزه أن يضحك او يشعر بالمتعة عندما يكون العريف قريبا منه. ل كل ليلة كان يبقى يقظا مدة طويلة عندما يكون الأخر ون قد استسلموا للنوم. كان يصفي الى الريح التي تحرك أوراق الصفصافة الصلبة، ولا يفكر الا في شي ء واحد.، كيف يكسر السحر الذي في حوزة العريف.
عندما خرج مهدي من بيت الظلام أخذ يتحدث ضد العريف. دفع له ادريس ريالا ته العشرة، تمتم مهدي متذمرا: «يا لها من ثروة مقابل عشرة أيام في بيت الظلام ». ونظر الى الورقة النقدية في يده، تظاهر ادريس انه لا يفهم.
تمخط مهدي شامتا وقال: "وأنت لك رأس بحجم الابرة. كل هذا بسببك، الكيف يطير من أذنيك في الريح !".
صاح ادريس: "تعتقد انني انا ايضا لم أكن في بيت الظلام؟" لكنه لم يستطع ان يخبر مهدي بقصة الجيلالي والكلب. فردد ثانية: "انه ابن قحبة".
ضاقت عينا مهدي وتجمدت نظرته: "سأجازيه بما يستحقا. عندما انتهي منه، سيظن نفسه في بيت الظلام هو أيضا".
مضى مهدي في طريقه، ووقف ادريس يراقبه وهو يمضي.
في يوم الأحد التالي استيقظ ادريس باكرا ونزل الى بني مدار. كانت السوق مليئة بصفوف من السكان الجبليين بثيابهم البيضاء، سار بين الحمير وارتقى الدرج المؤدي الى الاكشاك. وهناك قصد رجلا يبيع العقاقير والبخور، كان من حوله يسمونه الفقيه. أقعى أمام الفقيه وقال: «أريد علاجا لابن القحبة».
نظر اليه الفقيه بغضب "افك وبهتان !". ورفع سبابته فهزها من جانب الى أخر. «لا شأن لنا بالافك والبهتان». فلم يقل ادريس شيئا. تكلم الفقيه بلهجة اكثر هدوءا، «علما ان الحكمة تفتح المغاليق، وهناك عقار لكل شي ء في هذه الدنيا. فلتعلم ان هناك العقار الرخيص والعقار الذي يكلف غاليا» وسكت.
انتظر ادريس ثم سأله: "وكم سيكلف هذا؟" امتعض الشيخ لانه كان يريد أن يتكلم اكثر. لكنه قال: "مقابل ثلاثة ريالات سأعطيك اسما". وحدج ادريس بصرامة. ثم انحنى الى الامام وهمس في اذنه باسم ما. وقال بصوت عال: «في الزنقة خلف المنجرة. كوخ الصفيح الازرق وفلقا سيقان القصب «. دفع له ادريس وركض ينزل الدرج.
وجد البيت. كانت العجوز تقف في المجاز وعلى رأسها نمطاه منضدة مقلم بالخطوط كانت عيناها بيضاوين كالحليب الرائب، بدتا لادريس كعيني كلبة عجوز. قال: أنت أنيسة؟".
فأخبرته: "أدخل الى البيت" كان النور شحيحا في الداخل. خبرها انه يريد شيئا يكسر قدرة الختم السحري في يدي ابن حرام -. قالت: «ناولني عشرة ريالات أولا، وعد في المغرب بعشرة أخرى. سيكون العقار جاهزا.
بعد وجبة الغداء خرج الى الباحة. التقى بمهدي فطلب منه ان يرافقه الى المقهى في بني مدار. سارا عبر البلدة في شمس الظهيرة القائظة. كان الوقت ما يزال باكرا عندما بلغا المقهى، وكان شبه خال. جلسا في ركن معتم، أخرج ادريس السبسي والكيف فأخذا يدخنان عندما بدأ الموسيقيون يعزفون. قال مهدي: "عادت المهزلة !" لكن ادريس لم يكن يرغب بالحديث عن الجيلا لة. تكلم عن العريف. ناول الغليون لمهدي عدة مرات، وكان يراقب ملامحه فيراها تزداد سخطا على العريف، كلما دخن أكثر، لم يدهش عندما صرخ مهدي: "سأنهي المسألة هذه الليلة".
قال ادريس: «لا يا أخي، انت لا تعرف، لقد أصبح عالي المقام، انه صديق للضباط الآن. يأتون له بقناني الخمر».
قال مهدي: «سينزل من مقامه قبل العشاء هذه الليلة، في الباحة، يجب أن تكون هناك وترى بأم عينك».
ناوله ادريس الغليون ودفع للشاي، ترك مهدي هناك وخرج الى الشارع ليسير جيئة وذهابا، لانه لم يعد يطيق أن يبقى ساكنا. عندما احمرت السماء خلف الجبل، ذهب الى الزنقة الواقعة خلف المنجرة، كانت العجوز تقف في المجاز.
"تفضل بالدخول" قالت كما في السابق، وعندما أصبحا داخل الغرفة، أعطته كيسا من الورق. قالت: «يجب أن يأخذه كله». تناولت منه النقود وسحبت ردنه وهي تقول: "لا رأيتك ولا رأيتني.. بالسلامة ".
ذهب ادريس الى غرفته واخذ يستمع الى الراديو. عندما حان وقت العشاء، وقف داخل المجاز وهو يتطلع الى الباحة. خطر له أنه رأى مهدي وسط الظلال في الطرف الآخر. لكنه لم يكن واثقا، كان الكثير من الجنود يتمشون في الباحة بانتظار العشاء. وبعد قليل ارتفع الصياح في أعلى الدرج. بدأ الجنود يتراكضون نحو الطرف الآخر من الباحة. تطلع ادريس من المجاز لكنه لم ير غير الجنود الراكضين. صاح بالرجال الذين في الغرفة "وقع حادث !". ركضوا كهم الى الخارج. آنذاك عاد الى الغرفة وفي يده كيسر الورق الذي يحتوي على المسحوق. وذهب الى سرير العريف فرفع قنينة النبيذ التي أهداه أياها أحد الضباط قبل يوم. كانت مليئة تقريبا. سحب سدادة الفلين وسكب المسحوق في الزجاجة. ثم هز الزجاجة وأعاد اليها السدادة. كانوا ما زالوا يصيحون في الباحة، ركض الى الخارج، وعندما اقترب من الجمع، رأى ثلاثة جنود يجرون مهدي بالقوة على الأرض، كان يرفس وينطح. كان العريف يجلس على الجدار ورأسه الى الأسفل، يتحمس ذراعه، كان الدم يلطخ وجهه وقميصه.
مرت أكثر من نصف ساعة قبل أن يأتي العريف ليأكل العشاء. كانت الخدوش، تفعلي وجهه وذراعه ملفوفة بالضماد ومعلقة بمشد من رقبته. كان مهدي قد طعنه فيها بسكينه في اللحظة الاخيرة عندما بدأ الجنود يفرقون بينهما. لم يتكلم العريف كثيرا. ولم يحاول الآخرون أن يكلموه. جس على سريره يأكل. وبينما هو يأكل شرب كل النبيذ في الزجاجة.
في تلك الليلة أخذ العريف يثن في نومه، والريح اليابسة تهب بين الجبال، وتضج لها أوراق الصفصاف ضجيجا عاليا خارج النافذة، كان الهواء يهدر والأوراق تفرقع. لكن ادريس كان يسمع صوت العريف يصيح. في الصباح أقبل الطبيب ليفحصه، كانت عينا العريف، مفتوحتين لكنه لا يرى شيئا، وكان فمه مفتوحا لكنه لا يستطيع أن يتكلم حملوه الى خارج الغرفة التي يعيش فيها الجنود، ووضعوه في مكان آخر، فكر ادريس: "لعل السحر انكسر الآن".
بعد عدة أيام جاءت الى الثكنة شاحنة ورأى رجلين يحملان اليها العريف على محفة. وآنذاك تأكد ان روح العريف قد انطلقت خارج جسده وأن السحر حقا مكسور. وتلا صلاة بينه وبين نفسه يحمد بها الله وقف مع بعض الجنود الآخرين على الصخرة التي تطو الثكنة يرقب الشاحنة التي تهبط الجبل تصفر شيئا فشيئا حتى اختفت.
قال لرجل كان يقف قربه: "ما أسوأ حالي الآن، فقد كان يجلب لي الطعام من البيت". هز الجندي رأسه.
نص: بول باولز
ترجمة: سركون بولص (شاعر ومترجم من العراق يقيم في لندن)