محمود حمد
يبقى الشعر ذلك الفن الأول في القدرة على البحث عن المجهول ومراوغته؛ فيمكن للشاعر أنْ يمر بجانب ما يبحث عنه لكنه لا يقبل الوصول إليه بالمتاح في المحسوس وغيره. يتعلّق الأمر بحساسية الذات التي قد يشترك فيها الفنّ التشكيلي مع الشّعر أو يشبهه في بعض الأدوات الفنيّة، لكن اللغة الشعريّة بفاعليّة الانحراف تجدد طاقة التلقي بالمشترك ذاته بين الناس في خطاب ثقافيّ له هيمنته التي تتجاوز نظام الخطاب عند فوكو في استحواذها بغير فكرة الولاء والانتماء؛ إنها التّحدي، أو ما أسمّيه في الغالب استفزاز اللغة، كما كنت أقول كلما كان الشعر أكثر استفزازا للمتلقي -المؤمن بهذا الاستفزاز والاختلاف- كان أكثر قدرة على تفجير طاقات الانحراف العامل الأوّل في تحقيق الشعريّة، وهذا يتجاوز الأدوات الفنية سواءً أكانت قديمة أم حديثة، فالشعر هو القدرة على أن يضعك الشاعر حيث أراد وأنت في غير منطقته ومناخاته.
الذات هي من أكثر موضوعات الوجود تماهيا واختبارًا رغم قربها الفسيولوجي من الإنسان عقليّا، لكن مسافتها الوهميّة تتجاوز معايير القياس المحسوس؛ هذا لأنها ليست الشعور الذي يرضى الكثير من الناس أنْ يمتلئ بتحقيق النظام اليوميّ الذي تنتمي إليه الرغبات المتنوعة بين الحضور والاستهلاك؛ لكنها الحقيقيّ في اختلاف الموقف تجاه المتغيّرات المختلفة، تلك الخارجة من دوائر اهتمامات الكثيرين والمكررة فيها، وثمن اختلاف الفنّان/ الشّاعر أنْ يجد هذا الحقيقيّ القلِق.
بهذه الثيمة نحاول الوصول إلى مقاربة تجربة الشاعر عبدالله البلوشيّ ( الرَّفة الفاتنة للنَّجم) الصّادرة عن ( نَثْر ) هذا العام، في أربع وتسعين صفحة بسبعة عناوين شعريّة. والشاعر في تجاربه باحث عن ذاته في عوالم مختلفة بمشتركات متعددة الأوجه مع الحاضرين فيها بمستويات تتعلّق بالمسافة المتحققة بوعي الموقف والمؤثّرات المتولّدة من حساسية الشاعر تجاه المحيط وتأثيره في هذه العوالم.
(ينْكت .. الجذر الناطق للشمس، غواية الهضبة، طفل الداخل، فتنة النجم، خُطا العَدم، غِواية العالم العلويّ، الشّفرة الغامضة)؛ هذه عناوين نصوص المجموعة، والتي تبدو من الخارج أنها لا ترتبط ولا تشترك مع بعضها بأي ثيمة؛ لكنها العوامل التي يستمر فيها عبدالله البلوشي في تشكيل ذاته المتجددة والمستعصية، وسنحاول أنْ نضع الخطوط تحت هذه التشكيلات الفنيّة مقاربة لتجربة الشاعر المختلفة.
في النص الأول (ينْكت.. الجذر الناطق للشمس) تتماهى الذات مع المحدد المختبئ/ المكان في رسم شكل للذات أمام محسوس يصعب الإمساك به وإن تحققت ملامحه وأخذت الأشياء مساحتها فيه :
هناك .. هتفتُ في الدرب المضيء
حيث تصطف طيور وادعة بشرود
وحيث في الأسفل هناك..
من السدرة التي تطلق نحيبها بصمت جسور
هذه الملموسات تتشكل أمام ذات في معنى الطفولة التي تعكس تعدد العوامل في ولادتها الأولى؛ لكنها تتصل عبرها للوصول إلى موقف مغاير تؤسس الكثير من الوجوه في المحسوسات الأكبر، تلك التي تحوي أشكال وجود حتميّ تنتمي إليه الذات بقلقها من متغيّراته، ولهذا لا ترتوي الذات بتعيين محيطها الحالم، فكل هذه المتغيرات لا تتساوى وعطش الذات ورغبتها في اكتناف القاسي والخفيّ، كان ذلك في عطش النشأة الأولى.
ثم فتحت عينيَّ على اتّساعهما
لكنني لم أجد -يا للأسى-
غير بيوت تنام حالمة كمهود
أو كأنها مِنح البذرة المتأهبة
هكذا يضمّن المهد قدم العودة إلى نشأة أولى للأشياء بأشكال أخرى لكنها ترسم الزمن عاجزا عن منح المتصل بها معنى قريبا من الذات. إنه شعور بيُتم الأشياء حين تبدو عاجزة عن تحقيق ملموسها المتوقّع في مساحته التي هي أقل ما يمكن تعيين زوايا هذا المحيط.
الكثير من هذه المحسوسات تستنزف متوقّع الروح والجسد، ولكنها تقع في لحظة الخذلان الشعوريّ بها؛ فما لا يحقق مساحة الذات يعجز عن منحها شعور الزمن والنشأة
لكن كل ذاك ..
لم يكن لينمو
إلا في اللحظة التي كانت تنسلخ فيها روحي
من نعومة ردائها الأوحد
إننا نحمّل الأشياء مسؤولية تصالحنا مع الوجود بين الولادة والموت؛ هذا الضعف هو خلق تصدّع يقينا بشاعة النهايات المحفوفة بالمزيد من الانكسارات، ومن الطفولة إلى الموت يقترب الشاعر من الكثير من المتغيرات التي تصنع الفارق في حياته، وفي هذا النص يتكفّل المكان الملموس الخفي بحمل رتابة الجسد الهشّ على الأرض والنجاة بروح تتماهى مع الوجود في حضور الأم الحياة.
في النص الثاني (غواية الهضبة) يتجاوز المكان فضاءه ومساحة مكوّناته إلى علاقة فاعلة في تكوين تمظهر مختلف للملموس؛ ليس الحاوي الصّلب أو الهش بل نبش عن غواية تعود إلى الولادة الناشبة في المُستعاد من استكناه زمن خدر في الذاكرة يتقاطع مع تحولات أخرى تعود إلى الرغبة في الخلاص والنفاذ في آن واحد؛ وإذا بالأشياء تجدد وجع المقاومة للوصول إلى الذات وحدها من بين كل الحيوات، وكل شيء من أجل الصمود بقلق الشعور بكل ما يوازي الولادات المتكررة.
لقد تعلمت الصمود من الأرض
من الهامة الرائعة للشجرة في أعلاها
من الارتواء الزاهد تعلمته
هكذا يؤكد الشاعر نزوع الملموسات والمشاهدات إلى تحقيق ولادات متكررة تنجز المختلف في تشكيل علاقته بالمكان؛ الحاوي والحاني والمكتظّ بتفاعلات متجددة يجسد الشعر بأدواته الفنية استمرارية الخروج بهذه التفاعلات من دائرة الجامد المعني بفضاء جميل يراه الجميع مكررا بين الصباح والمساء إلى دائرة انتزاع القيمة بتأثير خفي يحققه موقف الشاعر ورؤيته الحساسة تجاه المحيط. الأرض بطبيعتها الأم، الشجرة بعلوها، الشمس بخلقها للوقت، الدمعة بصدقها، المياه وبعثها الكريم، القمر بضوئه المستدير؛ كلها المختلف في رؤية الشاعر إلى معنى حقيقي للذات في وجعها بالنشأة الحاسرة من اختيار موعد الولادة والتماهي مع الوجود
ولم يكن يقودني في تلك الساعة أي سائس بارع أبدا
سوى هذه المضغة التي كانت تعذبني
فأغدو خلفها منقادا كما الأعمى
ومن هذا الشعور بحافة خضراء ينتصر الشاعر لذاته أمام غواية المكان، ويعيد كينونة الملموسات الخفيّة لتصير ولادة أخرى لروح لا تهجع في الخروج بالمصير إلى معنى أكثر استفزازا للحزن لكنه مع ذاك ..
كان يسبر أغوار الكون المنمّقة
بحجره النفيس الماثل في حاسته المتبرعمة.
في النص الثالث (طفل الداخل)؛ يسترجع طفولته في محاولة الاحتماء بها وهو يستعيد ذاته في ممرّاته المتجددة في مسارات الوجود وتقلباته بين القريب منه والأقرب إلى المجهول الذي يستشعر التماهي به طفلا يتحسس بفعل الانقياد إلى رغبة جامعة في التداخل والامتزاج.
(الشمس المختلفة والودودة، العوالم الخفيّة، المطر، لغة الجبال في حضور القمر عليها وحرية الرياح، الاحتفاء بالورد، الطيور في بهجتها، المدى المتّسع، الظلال الممدودة، الألوان الساطعة، خُطا الأمهات على السلالم الدروب إلى الماء، الطفولة وبراءتها في تقلباتها المحسوسة واللامحسوسة، الأمكنة وتشكيلاتها المتنوّعة بالمباني والحجارة والرمال) كلها أوجه استعادات الطفولة في استعادة الذات من هشاشة الحاضر واتساع الرغبة الجامحة في تمثّل الاقتران بالحياة.
في صغري..
كانت تدهشني العوالم المحبوسة في الأطر البيضاوية كالمرآة
إذ الجمال مقدّس..
هذا اللجوء إلى الطفولة تحقيق للحياة لحظة مقاومة ألم الروح كما كان يفعل الشعراء الرومانسيون في فهم المحيط، وإذا كان هذا اللجوء نوع من الخروج من سطوة الواقع؛ فلأن الطفولة طاقة فذة في الإنصاف إلى التغيير من ناحية، ومحاولة فهم لهذا الواقع بشكل بسيط من ناحية أخرى؛ وهذا المعنى ينعكس على الشعر في استعاداته المختلفة لمقاومة الرماد. وعبدالله البلوشي في استعادة الطفولة يؤسس فهما مختلفا للواقع عبر الانطلاق من طفولة يجد فيها وعيا مبكرا بالتماهي مع الكون، فالشمس لا تؤذيه وهي رحيمة به على العكس من شمس حاضره، والظهيرة اختلفت اليوم كثيرا فهي صنو أمه الحنون؛ لطيفة به.
نعم كل شيء يختلف فكان عليه أنْ يستعيد طفولته ليعبر واقعا لم يعد يفهم تغيراته لأنه قرأه بعين طفل.
لقد كان كل ذلك..
عند انبثاق طهر الكلمة الأولى من فمي ببراءتها الخالصة
كانت الشمس تتنزل بهدوئها الوافر على فجاج الأرض لتكشف قبالتي
عن أكوان ملغَّزة بسحرها العذريّ مثلما كان
في نصّه (فتنة النجم) يستعيد الشاعر أوجه الليل ملموسة ومحسوسة في حضور النور الحامل لكثير من الذكريات التي التفتت إلى الروح الهائمة في الآفاق.
كانت السماء حانية تبدو
بينما كان ميلها الأكبر بيّنا على جسدي
هذه الألفة تخترق العوالم المشحونة بالكائنات لتصل إلى الشاعر؛ فإذا عينه والنجوم في سموّ الشعور بالأمن والصدق. كل الحلم مفتوحا على الآفاق كلها لتجتمع في غفوة الشاعر الكثير من نوافذ الحياة التي لامست حساسيته الممتلئة بمواقف زرعت في داخله امتداد المشاعر المتنوعة بين الحب والفقد والدفء العاطفي؛ البحر والنجاة الوضّاءة في حلم يشحن التفاصيل بصور متعددة يضايف بينها الشاعر في لوحات تتصل ببعضها بملامح الطبيعة التي تشكل المصدر الأول في تجربة الشاعر، وكل تلك الصور يمثل فيها الشاعر محور التوجيه في بناء علاقات تمتد إلى بعيد الشاعر.
كانت تتبدّى على الفسحة الواطئة للشرق
أبواب تنطق بعتاقتها الطافحة كما رُقع أقمطة طفل أغر
مثالب خلجان ملتمعة كالفضّة المخطوفة
وأشْرعة متسامية تبدو وكأنها مرفوعة للأعلى
لكنّه كان نافذا في هذه التفاصيل في سن مبكرة؛ يخرج منها إلى عمق روحه بتشكيلات ترسم له الكثير من العلاقات المرتبطة بموضوعات الوجود؛ الفجاج والعصافير في وجه الريح والأكواخ على الربى تنوّع المشاهد بلغة التأثير الخاصة. وكان البحر ومازال مسرح الوجود الأزرق بتقلبّاته الملموسة والمحسوسة عبر الزمن في روح الشعراء، ينبت في استعادة الشاعر لطفولته فتنة الأمواج المتلاطمة؛ تلك المتغيرات التي تسمح للضوء أن يخاطب قلبه ويعيد له تعدد أوجه البشر في لحظات الحزن واليتم والمعاناة والصبر؛ نادبات وبحّارة أيتام وغباء.
يكتب في نصّ (خُطا العدَم) إلى آرثر رامبو/ إليه نابشا تلك المسافة المخبّأة في العدم، يجاري ذاته في اكتناه عوالم يشعر بخطا الزمن عليها. المتعدد والمتغيّر وجهان لذات واحدة بجزئين ومكان متخيّل في الداخل. تبدو المنطلقات وولادات الأشياء واحدة تجمعها جغرافيا الذات المتماهية مع الموجودات ذاتها بشكل مقارب له/ له.
سعيدا كنت .. من يدري؟
وأنت توزّع للطفولة لذائذها الفاخرة
وتتركها معلقة
كما الأساطير في وجه الريح
الشعور الذي يتولّد لحظة مشاركة الشاعر وطأة أي معنى هو بمثابة امتداد حياة أخرى في عالم نفسي وزمنيّ آخرين. قريبا من فاعليّة الشعر عند إليزابيث درو؛ هذه المعاني هي جرأة الألم في تخطي عتبات الإنسانيّة المضرّجة بأوجاع طبيعتها. ما يراه الشاعر في رامبو الإنسان هو هذه الجرأة، تفسّرها جرأة أخرى تتعدى النبش إلى الالتباس الفنّي مدخلا إلى المعنى ذاته بشكل آخر في الغالب، لكن عبدالله البلوشي يخفف هذه الوطأة المتكررة بصنع عالم موازٍ لا يحق لرامبو أن ينكره؛ لأنه فرضيّة مشتركة في الجمع بين الواقع والمتخيّل في بناء صورة المقاربة الشعريّة إذا شئنا توظيف خيال عاطف جودة في الفن.
كانت تنبثق من أمامك الموجودات كلها جاذبة وملغّزة
تلك الشفة التي تملك حكرا حقائق الكشف المغيّبة
حين يكون مرور بعضهم إزاءها سريعا وعابرا
عندما يكون الاقتراب من أزمة شعرية هو إعادة تفعيلها بصنع واقع خاص لها منفصلة أو متصلة بالذات الشاعرة والجانب المقابل لها؛ تتحوّل الأزمة إلى مادّة بناء فنيّة تكسب التجربة جرأة وحساسية نافذة إلى عوالم أخرى ترتبط بالكائن الشعريّ في كل متغيّر يعود إلى القدرة على الاستمرار في توظيف ثيمات الذوات. ليس مهمّا أن ندرك طبيعة تلك العوالم بقدر ما يهمّنا الاختلاف في فتح آفاقها لتكون المفترق الجامع بين الذوات أمام الألم والفن، فيصير أنا/ هو أو هو/ هم ذلك الشكل المتغيّر لثيمة ألم أو نجاة تُبنى بها صورة اختلاف شعري ينفذ عبرنا / عبره إلى المعنى.
ها هم يرفعونك مبجًّلا على نقّالة الموتى
ويتهامسون فيما بينهم بعاطفة وافرة
إنها المسحة المتجلّية
تلك التي لم يختلفوا على إقرارها أبدا.
إلى فرناندو بيسوا في نصّه السادس (غِواية العالم العلوي) تختفي الذات الشاعرة هنا إلا في بعض إشارات الجمعيّ؛ ليس هربا من محاولة إيجاد الذات لأنها مادة التجربة كلها؛ لكنّها تفرض مسافة المشاركة في هذا التيه الجمعيّ؛ حيث تتشكّل المعاناة أمام مسؤوليّة التتابع على دروب الحياة.
الأرض هي والسماء كذلك هي الأخرى
هكذا يبصرهما البعض بحدقة متماثلة
بعيدتين عن كل نشاز يستوجب الالتفات الأصيل
الذات الشاعرة في بحثها تحتمي بعمق الأخرى لتوظيف الكثير من المجهول على بياض التجربة لحظة إعادة المعنى بشكل وجع أو نجاة آخرين. ولا يمكن أنْ تنجو الأولى من ضحالة الوجع إلا بجرأة الاستعادات التي لا تسلّم مادّتها إلا بالتّأمل في المسافة المجهولة بين الملموس والمحسوس، حيث تقف الذات الشاعرة على ألمها ونجاتها في المشترك الخام للمادة الشعوريّة والشعريّة، هنا يصير الفن عطاء إنسانيّا؛ لقدرته على تفعيل مكنونات الحلم والحب والوجع وغيرها من المشاعر الإنسانيّة؛ تلك التي استمرّت بها الفنون على الرغم من تغيّر أو تطوّر أدواتها. لهذا يستعيد الشاعر ذاته باعتراف جماعيّ؛ مجازفا بمصداقيّة الشعريّة الذاتيّة.
آهٍ.. ليس ثمة ما يوجب لنندب حظوظنا.
بهذا اليقين وحده كنتَ تحدس بوثوق
وأنت تزحزح جسدك السَّديميّ
في منفذ معبّد بأحجار مزجّجة
في نصّ المجموعة الأخير (الشفرة الغامضة) إلى هولدرلين الذي يتقاطع ببعض الاحتمالات مع النص السابق؛ يضع الشاعر شبه حوار صامت مع فلسفة هولدرلين الشعرية لتحقيق استعادة ملموسة بشيء من الخروج عن اللاعقلانية الشعرية.
ما الضنى برأيك إذن ؟
قد يبدو الفرادة بعينها مثلما ارتضيتها أنت وكما أخفيتها
إلا أنها أبت إلا أن تشرق عليك كما النجم
إذ تكاد تنقذف من مسامك المتخشّبة سيم الطهر
مثلما الدموع حين تشفّ عن الأسى العظيم
لا يبدو العالم بتلك البراءة أم هذا الانخطاف من صورة ذات تقف متّهمَة بشكل من أشكال الألم الرّوحي، وهنا لا تبرئ الذات الشاعر الآخر في شكل البحث هذا من احتراق مدوٍّ يجعل الروح أمام فيض معرفيّ نقيّ، يحمّلها مسؤولية التوازن بين القبح والجمال بكل ضدٍّ تختار منه أنْ يمرّ العالم شفيفا بين الأشواك التي طالما آذته وتركته نازفا بلا خيار. الذات هنا تحضر أمام هيبة التضحية بولادات الجمال من هذا الألم العظيم. إنها خلاصة التعب الذي تحمله الذات منعكسا على التائه في عوالم الحساسية تجاه متغيّرات تترك أثرها على الروح.
وإذا بالذات تحمل هذا العبء كينونة سلام هذا الوجود بما خفي عن مستهلكي الآلام بلا مسؤولية تجاهه. تبقى الذات الشاعرة الألق بصحبة هولدرلين البعيد المرجوّ ملاكا بريئا طفلا مضيئا بالطهر كالقمر.
يا للإشعاع الذي كان يسري دافئا في أضلاع
الهشّة
-بهكذا كنتُ أشعر حقا-
حيث لم يكن ليتورّع أحدهم
عن أنْ يجذبك نحو مهجة قلبه الظامئ
لا شيء يعني للذات في هذه السرمديّة الخفيّة أكثر من التّأزم بفعل موضوعات الوجود التي تخفي ثيمات ألم وامتنان؛ إذ فضل أن تشعر بمعنى كل هذا التّماس وهذا التّواطؤ مع أشكال لا يعرف بعيدها من لا يؤذيهم أن تتوقف عن جرح الذوات بأي طريقة كانت. كل هذه البنيات لا تتوقف عند إضمامة المحسوسات أو الابتهاج بها؛ بل ترى الذات الشاعرة سعيا حثيثا للموجودات إلى فنائها المحترم مجاورة هذه الطفولة النقيّة؛ صورة الكون البهيّ في إصراره على الاستمرار دون الالتفات إلى الفناء. الشجرة تصنع ظلا للغرباء ولو بأغصان وجذع مجرّد، والجدول يصنع الاخضرار ولو كان معكّرا في مجراه. هذه أصوات الاستمرار تستمرئ الذات الشاعرة في البحث بها عليها. هنا كان هولدرلين ذات الشاعر وحضوره الفلسفيّ القريب من هذه المفردات التي شكلت حمالات النص بتقارب المعاني والرؤى.
إذن هل يتوجب عليك أنْ تعلم
بأنني كنت قد أيقنت حقا
أن الشجرة ليست حميميّة مع أغصانها فحسب
فها هو ذا يحتضنك من كان يحمل المشعل بيده
كل الأشياء كانت تبدو مهشّمة من حولك
حاولت ملاحقة بعض آثار هذا البحث عن الذات في تجربة عبدالله البلوشي (الرّفة الفاتنة للنجم). تملك التجربة الكثير من المستودَع الفنّي؛ لكنني أردت أن أنظر إليها من نافذة الذات إلى تنوّع المتغيّرات بين الحسّي واللاحسّي. ويبقى أنها كغيرها عصيّة على الاستنطاق.