خالد الضنكي
كاتب عُماني
من الصعب إيجاد تعريف محدد للزّار إذا اعتمد الإنسان على تحليل فكري مجرد، هو الشكل في ذاته، والشكل في المعنى، بالنسبة لجماعته فإنه يشبه عادةً مقدسةً رغم أنها تمتنع عن اتخاذه لاهوتا خاصا، إن ممارسي الزَّار يعتمدون على بعضهم بعضا اعتمادا كبيرا، حتى إنه ليس سهلا أن يُحدث إنسان بينهم شقاقا، لقد اتخذوا منه وسيلة لضبط تنفسهم ونبضهم وحالتهم النفسية، ولحقهم في مناداة القوى الأبدية، وأخذ الزَّار يلازمهم زمنا أطول من بقائه يلازم الفنون الأخرى، بما فيه من حشد مربك من الإيقاعات والأغاني الدالة على الحركة والزمن. علاقة ولع عميق شديد الجذور مفعمة بشغف خارق للمألوف، فالزَّار لا يتكون فقط من تلك الحركات والأشكال الجسدية البحتة، وإنما يتكون من الفرحة بما هو حسّي منساب في النفس بوقع الإيقاعات والإثارات التي تنشأ عند مزج الأصوات في لحن مشترك والروح هي العنصر فيه.
الحديث هنا يجري بالشأن المتعلق بالزَّار في مدينة صور العُمانية على وجه الخصوص، وذلك لخصوصيِّته المميزة في هذه المدينة، هذا يجعلنا نتعرض لبعض من خصائصه، أشكاله، مكوناته، وطقوسه في صور. بوصفه شكلا من أشكال الفنون ما زالت تمارسه طائفة معينة كان لها وما زال دور فاعل في صيرورة المجتمع العُماني في تحولاته المادية بأشكالها الفنية وطبيعتها الثقافية وهنا تأتي أهمية هذا الشكل الفني لما له من سمات اجتماعية عاطفية وجدانية، تنطلق من:
أولاً: الرغبة في التحرر من أشكال القيود التي فرضت على طائفة معينة دون غيرها، وهو الأمر الذي على الرغم من ذلك جعلها تتمسك به أكثر..
ثانيًا: الهروب من رتابة المدينة إلى حيث يتوفر الماء، الشجر، ورؤوس الجبال، ما شكل انفلاتا من أسر الواقع وسعيا للحق في الحرية والحيوية والاستمتاع بمزيج من التنوع. وهذا الانفلات لم يكن عملية سهلة، ولم يكن ليتم دفعة واحدة.
ما من شك يعد الزار فنا ترفيهيا وروحانيا في الوقت ذاته على نحو فريد من نوعه، وقد ميزه هذا عن بقية الفنون الأخرى المشابهة كفن “الشَّرحْ” وفن “سْعْده” اللذين اندثرا تماما، بكل طقوسهما وأزيائهما الجميلة الخاصة بهما. فالزّار أشد إثارة للدهشة من الفنون الأخرى كافة، ويحظى باهتمام بالغ، إنه يتطلّب كثيرا من التجهيز والوقت، فعملية الإعداد تستغرق قرابة عام كامل لبعض الحالات وتتسم بحرص وبدقة قصوى، وتمر بمراحل متتالية من أجل أداء الزار. كل عمل من تلك الأعمال لا يخلو من جهد كبير، وصعوبة بالغة إزاء تصورات توصف بالمهمة. إنه ذو طبيعة أكثر توهجا من غيره من الفنون، ينشأ من الرؤية الغامضة والحدث المفاجئ، ولهذا يعمل على إقصاء كل من لا يستطيع مماراته. بسبب هذه الطقوس غير المعتادة التي ينتهجها الزَّار واجه انتقادات حادة، كونه دخيلا ولا يمثل سوى شريحة معينة، بالرغم من أنه يقام على فترات متباعدة، حيث لا بد من حالة محددة يجري العمل بشأنها..
قبل المضي في التفاصيل ينبغي التأكيد على أن الفنون بصفة عامة ذات أهمية كبيرة في الوجود، فهي تجعل الفنانين يعبّرون عن مشاعرهم تجاه مجتمعهم والطبيعة وما تظهره الحياة لهم من خلال استخدام وسائل فنية، فهي تحرر الإنسان من المشاعر المكبوتة في داخله أكان القلق، أم الاكتئاب، أم الغضب، أم الخوف، فتقوده إلى الاستقرار النفسي، وتعمل على إقامة التوازن بين المشاعر الروحية الداخلية، مع الجوانب المادية في الحياة، لأن كبت المشاعر والأحاسيس لزمن طويل يسبب بعض العقد النفسية، ليس هذا فحسب بل إن الفنون من خلال فعل التوازن النفسي تفتح آفاقا نحو الابتكار والإتقان، وهما لا غنى عنهما في تطور الشعوب وتقدمها.
تعرف مدينة صور العُمانية بأنها مدينة ذات أنماط فنية متعددة، وكما وصفها الدكتور يوسف شوقي خبير الفنون، مؤسس “مركز عُمان للفنون التقليدية” بأنها “أم الفنون” وهي أي مدينة صور، ذات أبعاد تاريخية بحرية فيما يتعلق بأدوات العمل، وقوى العمل، وعلاقات العمل التي امتدت إلى السواحل الأفريقية وغيرها، ونتيجة لتلاقح الثقافات وتفاعلها حضرت بعض الفنون الشعبية ذات الأصول الأفريقية بشدة في مدينة صور بأنواع وأشكال مختلفة. من هذه الفنون “الزَّار” كعمل ترفيهي روحاني بالغ التعقيد، إنه مختلف من نواحٍ عدة، فعملية التحضير لرحلة الزار تأخذ وقتا من التعاملات والترتيبات المعقدة، وعملا شاقا منهكا قبل وأثناء الرحلة، وهي عادة ما تكون على أرض فضاء خاوية حيث ينصب مخيم الزَّار بعيدا نسبيا عن المدينة وقريبا من البحر، ويفضل أن يكون بين الجبال لحماية المخيم من الرياح العاتية، وكذلك لمعتقد يقوم على الاتحاد بين الشكل والمضمون، بين المعلوم والغيبي المتمثل في الانبعاثات اللاشعورية، وبما أن المخيم يقام بين الجبال فإن الصوت يحدث صدى في تردده وتصاعده فيثير تفاعلا قويا ويولد حماسا، ومن ثم يساهم في الشعور بالغياب في حالات تبدو جنونية.
يتكون مخيم الزَّار من خيمة تقام فيها جلسات الزَّار فقط، وخيمة لاستراحة ومبيت النساء، وأخرى للرجال، بيد أن أعمال الطبخ وأدواته تستقر تحت ظل شجرة، وحالما يتوقف الزَّار أثناء الصلاة، أو لتناول الوجبات، أو عند منتصف الليل، فإنه لا يسمح لأحد مهما كانت مكانته بدخول خيمة الزار عدا المسؤول عنها، فالخيمة تحتوي بداخلها على عصي فضية ومذهبة، ومشغولات أخرى فضية، والكثير من المنسوجات الحريرية الثمينة، وكذلك عدة الزار من طبول تقليدية وغير ذلك. لا اختلاط مباشر في مجتمع الزَّار، ولا ممارسات خارجة عن المألوف، العلاقات الحميمية محرمة أثناء رحلة الزار أيا كانت فهي تفسد طبيعة الزار حسب رؤية أعضائه. وبحكم طقوس الزار الغرائبية في مجتمع متحفظ تجاه أي ظاهرة غير مألوفة، فقد تعرض الزّار لانتقادات قاسية بأنه شكل من أشكال الشعوذة وممارسة السحر، والأدهى من ذلك اتهامه بأنه ينتهج الشرك!! ومن ثم سعى المجتمع لمحاربته ومحاصرته في كيانه، إلّا أنه استطاع أن يفلت من القيود التي فرضت عليه، ليستمر حتى الآن ممارسا على فترات. إنه نظام قديم يجاهد للبقاء، فهو على وشك أن يندثر، لأن الذين كانوا يقيمون الزّار باحتراف رحلوا، ولم يعد للجيل الحالي من اهتمام بهذا الفن، ولهذ السبب فقد الزَّار كثيرا من رونقه، وانتهى به الأمر أن يقام في البيوت بدلا من الفضاء الرحب وبتحفظ شديد، ناهيك عن تعرّض طبيعته في بعض المناطق للتشويه.
تستمر رحلة الزار قرابة الشهر أو أقل حسب مغزى “الجلسة” وتهدف بالدرجة الأولى كما بدت في الماضي إلى التحرر من رتابة العادة، ونمط الحياة اليومي.
إن عملية استحضار “الزّيران” موغلة في الغموض، وحينما تكتمل الاستعدادات ويصبح الجميع تحت مظلة الخيمة السعفية، وتبدأ الإيقاعات الصاخبة لطبول الرحماني والكاسر، في الوقت الذي يشكّل فيه بخور اللبان في المجامر سحابة رمادية كثيفة، مع دوي التصفيق الحاد وعُلوّ الأصوات الأنثوية تارة والذكورية تارة أخرى، في تناغم مشترك ومتبادل للأصوات بين الرجال والنساء في صفوف متباعدة بين الجنسين تفصل بينهم الطبول، تتبدل “الشَّلاّت” وتختلف الألحان بينما الإيقاع يحافظ على نفس الوتيرة، والكلمات تبدو مبهمة يصعب إيجاد معنى لها، وهي غالبا ما تأتي لمناداة الزِّيران، تسمى تلك الألحان الغنائية محليا “الشَّلَّه”، إنها تمثل خصوصية معينة لهم، فهم يباشرون بترديد كلمات من بينها قولهم مثلا: (وا دوييه وا دوي دو ييه – يو ورار يو ورار هييه – ماما، يو ماما هيه – يو ورار يو ورار هييه) لغة مبهمة لكنها توقظ المكبوت وتشعل الوجدان فيهم بانسجام وصلوا إليه عبر العمل المتجانس.
تتصاعد الأصوات الغنائية في الزَّار حتى تبلغ الذروة بكل ما فيها من ضحيج الطبول وحدة التصفيق ليتحول الوجود إلى هيجان، ما يشبه عاصفة لا تكف عن اجتياح المكان كله، تجذب نحوها بسطاء الناس، وهم على استعداد لدفع آخر ما يمتلكون لرحلة العبور إلى عالم الأرواح، إن هذا العبور لا يخلو من كدح يعطي للرغبة مداها، ولا يأخد منها غير الشكل، وهو اعتقاد راسخ ومتوارث، لطقوس قديمة مرتبطة بمفهوم القرابين، فالأضحية في الزَّار مسألة أساسية بوصفها رمزا ينبني عليه الرباط الاجتماعي، على الرغم من أنه لم يتضح أبدا أسباب إراقة الدماء عوضا عن أي وسيلة أخرى، الرباط الاجتماعي هو ما يتجلى في الأساس فيما يمنح الدفء الإنساني الذي لا يتعلق بالجسد بقدر تعلقه بالقلب، ومع ذلك أضحت الأضاحي صيغة سلوكية لديهم إلى يومنا هذا، وقد تكون السياقات والممارسات التي يتبعها أعضاء الزَّارعلى النقيض من السلوكيات المندمجة مع الأخلاق التي يشدد عليها المجتمع المحافظ، الأمر الذي ساهم في عزلة الزَّار بشكل غذى عناصره وأكسبه اهتماما ونقاء وقداسة، وتحفظا، فالخير بالنسبة لهم دوما النهاية المطلقة للأضاحي.
عالم يكتنفه الغموض بين هيجان الحواس، وانتفاضة الجسد، شحنات عالية تضبَّب الرؤُية من أشكال الغموض الذي لا يمكن لأحد أن يفسره، كونه يتسم بالمشاعر الكامنة فيه بالمراوغة حيث تكتسب التصورات اللاواعية مكانة الأشياء المألوفة، ومضات مجهولة تحدث الانفعالات عند الشخص المعني “بالنَّعيش” أي تطويح رأسه يمينا وشمالا ثم يبدأ بالاهتزاز والتمايل وهو يؤدي رقصته الهستيرية بحركات متشنجة، وإيماءات غامضة، ولغة مرتعشة، ظنا بأنه يتمتع بها، في حين أنه في حقيقة الأمر عبدها.
من شروط الزَّار في المدينة التي ذكرتها تحديدا، ضرورة وجود الأضحية بمواصفات خاصة وهي عبارة عن “جدي مولود” يقوم الرًّاعي بالاعتناء به وتغذيته على نحو جيد لمدة عام كامل حتى يصل لأعلى درجات التَّسمين، فكلما زاد وزن “التَّيس” ارتفع شكل العمل، وزاد من أداء طبائع الزًّار.
قد يظن الآخرون أن الزَّار شكل من أشكال السحر والشعوذة، وهذا الادعاء لا يناسب حالات الزَّار، ولا حتى القائمين عليه، فليس هناك من طلاسم معينة، أو سلوكيات مربكة يتبعها الأعضاء، فالزار عند معتقديه أساسا يقوم بوظيفة علاجية فهو يعمل على طرد الجني المتسلط الذي يتقمص إنسانا ما. هو فن روحاني يحظى باهتمام بالغ بين الأعضاء الفاعلة من حيث دقة التنظيم، وعملية الإعداد المرهقة، والتي غالبا ما يسودها الكثير من الوقار واحترام الآخر كل في حدود عمله ونشاطه على نحو يكاد يشبه خلية نحل.
يتحمَّل من يقع عليه اللعب في الزَّار كافة الأمور المتعلقة بالغذاء والماء والقهوة والشاي المضاف إليه جذور الكرفس، أما الحلوى العُمانية والفشار فدائما للضيافة، وذلك مدة أسبوعين، قد تزيد المدة أو تنقص حسب طبيعة الأشياء ومقتضيات الحالة، فهناك لعب أول، وثان، وثالث الخاتمة، وعندما يحضر الزار ينتفض الجسد كطائر مذبوح، ويغطى الوجه برداء من حرير، ويسند المعني يده بعصىا مخضبَّة بالحناء، ومزينَّة بحلقات صغيرة من ذهب، يغيب من يتلبسه الزَّارعن الوعي ثم يستفيق، وهكذا دواليك، وفي اللحظة التي ينزل فيها الشخص الممارس إلى اللاوعي يكرَّم بحلوى مخلوطة بالفشار، وقهوة بالهال، وأنت لن تجد مفاتيح جاهزة للدخول إلى عالمه، باستثناء الأم أو الأب اللذين يديران العملية، ويشرفان على تنظيم التخييم، وتحديد الاحتياجات الأساسية، وهما اللذان يقومان باستنطاق الزَّار أثناء الجلسة ليتعرفا على مطالب الذي تتقمصه الزِّيران التي ربما قد تكون على شكل لعب آخر جديد، أو زيادة في القرابين.
من الضرورات التي لابد منها والتي يحرص عليها القائمون على الزَّار لتقديمها إلى الأعضاء:
– عجينة الدَّغُّوسْ: التي تتكون من الفلفل الأسود أساسا وبعض البهارات اللازمة. تحمَّص المكونات وتقلَّب على نار هادئة حتى يتحول لونها إلى السواد، ثم تطحن بعدئذ وتصفى، ثم يضاف إليها البصل والثوم والسمن البلدي وكذلك الهال الحبشي. يعجن هذا الخليط ثم يشكَّل بحجم كرات المضرب. تستخدم هذه الخلطة لتحسين الطعام سيما حين يخلط القليل منه بالرّز الأبيض واللبن ويؤكل مع السمك المقلي أو المشوي، أو أي شيء آخر، فيضفي على الطعام مذاقا شهيا مميزا، وله فوائد عديدة للبدن، لما يحتويه من مكونات نافعة.
ـ المـِريسة: من ضمن مكوناتها حبيبات القمح المطحون، التمر، الملح، الماء، والسكر، يمزج الخليط في سرداب ويغطى بإحكام ويترك يوما واحدا فقط كي لايتحول إلى مشروب مسكر ثم ينقى من الشوائب ليشرب في نهاية المطاف في أَقداح من فُخار وذلك لإحداث النشوة فقط، ولكن الوضع مختلف في فن “الشَّرْح” فذات الخلطة تخمر وتعتَّق زمنا محددا، ليصبح شأنها كأي مشروب كحولي.