تقف هذه الدراسة على حركة الزمن ارتدادًا واستباقًا كما اصطنعها السارد في رواية (الباغ) للروائيّة العُمانيّة بشرى خلفان. تتكئ الرواية على تين التقنيتين اللتين كان لها دور بارز في إطالة السرد والتلاعب بحركة الزمن ليضفي السارد على أحداثها النشاط والحيويّة، ويستميل المسرود له، «وليحقق غايات فنية أخرى كالتشويق وإبعاد الملل والإيهام بالحقيقة(12)..
عن الرواية:
تتكون رواية الباغ من 31 مقطعًا في 334 صفحة، وتتناول رواية الباغ ثورتي الجبل الأخضر(1954-1959) والجنوب العمانيّ «الثورة في ظفار» (1962- 1975) معتمدةً على حركة ثلاث شخصيات فيها: راشد وأخته ريّا وولدها زاهر، وبين هذه الشخصيات هناك شخصيات أخرى اعتمد عليها السارد في تنقله بين الأحداث، هذه الشخصيات هي علي الذي صار زوجا لريّا،والعود والعودة اللذان آويا راشد وأخته بعد هجرتهما من قريتهما السراير، وشخصية البيبي التي صارت صديقة لريّا، وبجانب هذه الشخصيات فهناك شخصيات تظهر فجأة في سير الرواية وكان لها دور في تحرك الشخصيات الرئيسية وما جرى لها من أحداث.
المقاربة:
تتبع هذه الدراسة حركة السارد داخل المتن الحكائيّ (القصة)؛ للوقوف على المفارقة الزمنيّة بين الحاضر والعودة للماضي والتنبؤ بالمستقبل. لقد أضفت التقنيّة التي اصطنعها السارد في الرواية حرية واسعة للحركة «عبر أعماق شخصياته دون قيود كانت تفرضها أساليب السرد المنطقي والالتزام بعنصري الزمان والمكان وتبرير المشاعر وردود الأفعال بشكل منطقيّ؛ إذ جعلته يتجاوز هذه القيود ليغوص في أعماق الإنسان ويرصد أزماته وصراعاته وتناقضاته كما يشعر بها في داخله لا كما تخرج مبرمجة مفتعلة مصنوعة»(13).
الارتداد والاستباق:
أولًا: الارتداد
تقوم المفارقة الزمنية بتقطيع استمرار السرد بين الحين والآخر وهي تحدث عبر الذات الساردة التي تتحرك إلى الوراء؛ لتحكم على الماضي أو لتتذكره أو من الماضي إلى المستقبل. إنّ المفارقة نوع من التضاد(14). وقد أصطلِح عليها بالارتداد والاستباق.
1 – تعدّ اللحظة الحاضرة من أهم محفزات الارتداد بما تتضمنه من شخصيات وأحداث وأمكنة وأشياء تثير ذكريات الماضي، ونجد هذا واضحا في رواية الباغ كما سيأتي لاحقا، ولعل المقارنة بين الحاضر والماضي تدفع الشخصية إلى استحضار الماضي ورؤيته من منظور زمني جديد، ونجد هذه المقارنات في الرواية كثيرة من ذلك عندما اشتغل راشد في الفرضة وما لامسه من ذل وعبودية تذكر عمله في نخل والده والحرية التي كان فيها ولا آمر عليه سوى نفسه(15).
2 – تؤدي الحواس دورا أساسيّا في تحفيز الذاكرة لتتم عملية الارتداد إلى الماضي،فالرؤية البصرية لشخص ما أو شيء ما قد تدفع إلى استحضار الزمن الماضي،فعندما رأى راشد الثياب التي تلبسها نساء مسقط تذكر نساء قرية السراير، وأنهن يختلفن عما شاهده من الثياب على أهل مسقط(16).
3 – تعد اللغة من محفزات الارتداد، فقد تقال كلمة ما تعمل على إثارة الذاكرة لتقوم بعملية استرداد الماضي في لحظة الحاضر، ونجد هذا في رواية الباغ عندما دخل زاهر المدرسة السعيدية طالبا فيها وسمع الطلاب ينادونه بالغريب فلم يفهم معناها وعندما رجع إلى البيت وأخبر أباه قام أبوه بالارتداد إلى الماضي ليشرح له معنى الغريب الذي لقبه به زملاؤه(17).
ومن وظائف تقنية الارتداد في الخطاب السرديّ:
أ) يساعد الارتداد الخارجي على ملء فراغات زمنية تساعد في فهم مسار الأحداث، ويرتكز هذا في الافتتاحية أو عند ظهور شخصية جديدة للتعرف إلى ماضيها وطبيعة علاقتها مع الشخصيات الأخرى. ونجد هذا جليا في الموقف التي تعرضت له ريّا من معاملة البيبي لها في أول لقاء بينهما وعندما عرفت ماضيها سامحتها وعرفت سر المعاملة التي عاملتها بها(18).
ب) يحتاج السارد إلى العودة إلى الماضي الخارجي في بعض المواقف في الافتتاحية وكذلك إعادة بعض الأحداث السابقة لتفسيرها تفسيرا جديدا في ضوء المواقف المتغيرة أو لإضفاء معنى جديد عليها مثل الذكريات، ويمثل المقطع السادس(19) من الرواية افتتاحية وسببا في فهم مغادرة راشد وأخته ريا لقريتهما السراير الذي بدأت به الرواية في المقطع الأول.
ت) يستخدم السارد أسلوب الارتداد عندما يعود إلى شخصيات ظهرت بإيجاز في الافتتاحية ولم يتسع المقام لعرض خلفيتها أو تقديمها ومن هنا يمكننا فهم شخصية أبي راشد ولماذا يذكره ابنه راشد بشيء من اللوم والعتاب في المقطع الأول.(20)
ثانيا: الاستباق:
يمكننا تحديد أنواع الاستباق على النحوالآتيّ:
1 – استباق خارجيّ: وهو الذي يتجاوز حدود الحكاية ويمتد ليكشف مآل بعض المواقف أو الشخصيات، وهذا ما نجده في الرواية من تحذير راشد لعلي في ذهاب زاهر للدراسة في الكويت لوجود القوميين والشيوعيين فيها وتأثر زاهر بهذه الأفكار (21) كما سنحلله لاحقا.
2 – استباق داخليّ: وهو الذي لا يتجاوز خاتمة القصة ولا يخرج عن إطارها الزمني ووظيفته سدّ ثغرة لاحقة مقدما، وهذه هي الاستباقات التكرارية وتوجد في تلميحات وجيزة،ونجد هذا بوضوح في تكرار السارد لزواج زاهر من مزنة في أكثر من موضع وهما يلعبان في طفولتهما كقوله: «كبرا وكبر الشوق بينهما «(22) وقوله» مع الأيام كانت رسائلهما تصبح أطول، والكلمات تتكاثر، وتصنع لهما جسرا ورؤية»(23). فهذا تلميح بزواجهما معا والذي سيتحقق لاحقا لكن بالخطوبة فقط.
السارد وحركة الزمن في رواية الباغ:
عمد السارد إلى إعطاء تفاصيل دقيقة عن هذه الحقبة التاريخيّة من خلال الولوج إلى أعماق الإنسان العماني وهو يكابد آلام تلك الحقبة وإلى تفاصيل البيت العمانيّ بكل مكوناته – رجالا ونساء، صغارا وكبارا، شيبًا وشٌبّانا – وهم يعيشون تفاصيل تلك المدة، والسارد يقدّم تلك الحقبة من خلال شخصيات متنوعة في الجنس والثقافة والفكر والحالة الاجتماعية والاقتصادية مما أعطاه مجالا رحبا يتحرك فيه بين شخوص روايته.
يمكننا إجمال الملاحظات الآتية في علاقة السارد مع الزمن في الرواية:
1 – يسير السرد في الرواية في خطين متجاورين الأول روائي والثاني تاريخي توثيقي يتصلان مع بعضهما من خلال السارد الذي حاول أن يربط بينهما ببعض التقنيات الفنية لكنهما ظهرا في الرواية ببعض الانفصال فنرى السارد يبتدئ مقاطعه بسرد تاريخي ومنه يلِج في تفاصيله ببعض الشخصيات مثل شخصية راشد أو شخصية زاهر ففي المقطع التاسع(24) مثلا نجد السارد يبدأ بسرد تاريخي لاحتلال ابن عطيشان للبريمي ويستمر ثلاث صفحات في أسلوب تقريريّ، وبعدها ينتقل إلى السرد الروائي من خلال ربطه بشخصية راشد، ومثل ذلك الانفصال يظهر في المقطع (14)؛ إذ يبدأ بسرد تاريخي توثيقي في التاريخ والأسماء التاريخيّة بأفعال ماضية مثل (انطلقت رصاصة مسلم بن نفل – بدأت الثورة في إبريل 1963)، وبعد هذا التوثيق يعود السرد لمجراه الروائي، ولكن – والحقيقة تقال- أن السارد قد نجح في ربط سرده الروائي بسرده التاريخيّ من خلال دمجهما معا في أكثر مقطع(25) حتى يخيل لنا أنّه حقيقة وهو ضرب من الإيهام بالواقع.
2 – شرع السارد في توجيه شخوص روايته نحو قطيعة مكانية بأصولها، يظهر هذا منذ أولها حيث بدأ بمغادرة راشد وأخته ريّا قريتهما السراير وانفصالهما عنها،وفعل مثل ذلك ببقية الشخوص، فالعود والعود تركا بلادهما قريات لينتقلا إلى مسقط، وعليٌّ يترك مدينة نزوى منتقلا مع والده، وكذلك شخصية البيبي تترك بلادها البحرين لتنتقل مع زوجها إلى مسقط، وزاهر لما يكبر يبدأ في التفكير مباشرة لمغادرة مسقط للدراسة في الكويت، وهكذا نرى السرد يسير بهذه الوتيرة في ترك شخصياته لجذورها المكانية مما كان سببا في توقف الزمن في شخوص الرواية فالعُود والعودة يحصرهما السارد في بيتهما دون أن يتحركا خارجه، بل إن العودة لم تظهر في السرد إلا في غرفتها ومثلها شخصية البيبي التي لم تغادر بيتها المسمى الباغ إلا لضرورات دعت إليها كزيارة ريّا لما انقطعت عنها في زيارتها(26)، ومثل ذلك شخصية علي الذي انحصر بين بيته ومكان عمله في برزة السيد ولم نجد له حركة حتى أصيب بالشلل وتوقف سرده في الرواية (27).
3 – تعامل السارد بحيوية في ثنائية الحاضر والماضي. إنّ السرد يسير سيرًا تصاعديًّا في أحداثه الحاضرة وبين الفينة والأخرى يصاب بتقطيع زمني نحو الماضي أو ما يطلق عليه بالانحراف والتشويه والتنافر الزماني(28).
4 – هناك ما يمكن أن نسميه رموزا صغيرة تلازم السارد في الحركة الزمنية للأحداث ينتبه لها القارئ ولا يكاد يتناساها أو يغضّ عنها الطرف وهي تمر به بين الفينة والأخرى في سرد الرواية وقد توزعت بين أول الرواية ووسطها وآخرها. وسنأتي على ذكرها حسب تسلسلها الزمني على النحو الآتي:
أ) وردت هذه الجملة (نخوض، ويا نوصل رباعة،ويا يشلنا الوادي رباعة) ثلاث مرات(29) في أول الرواية ووسطها وآخرها وهذا الترتيب له مدلوله الزمني الذي قصده السارد فكأنه يريد تأكيد شدة الآصرة التي تجمع بين بطلي الرواية راشد وريّا، وقد أوردها السارد باللهجة العامية ومعناها ( إما نصل معًا أو نموت معًا).
ب) رؤية راشد لقلعة الجلالي وما أثارها منظرها من هواجس نفسية عادت بها للارتداد إلى الماضي حين كان يجلس في السبلة ويسمع من الجماعة في قرية السراير عن السمعة السيئة لهذه القلعة(30) لكن الزمن له حركة أخرى مع راشد وهو هذه المرة في قلعة الجلالي ضد ابن أخته يحقق معه في انتمائه للثورة في ظفار وقد تعرض زاهر للتعذيب الشديد من قبل الحُراس وراشد لا يستطيع فعل شيء لمساعدته(31).
ت) صرة فلوس الناقة نميصة : عندما وصل راشد وأخته إلى مسقط تاركين قريتهما السراير يضطر راشد لبيع الناقة نميصة بسبب عدم السماح له بإدخالها،وقد باعها بثمن بخس 200قرش(32)، لكن فلوس هذه الناقة سيكون لها شأن في الأحداث ولذلك سيصادف القارئ صرة المال هذه في مقاطع الرواية ولها في كل مقطع مدلول خاص مما يعني أن حركة الزمن الروائي تغيرت بسببها،وأكثر مقطعين يؤثران في القارئ هما مقطع الحلم الذي شاهدته ريا في نومها33،والمقطع الأخير حيث تستعمل ريّا هذه الصرة فداء لولدها زاهر وهي تريد مناولتها لأخيها راشد كي ينقذه من الموت حيث يدور حوار بينهما تختمه ريا بقولها:» هذه قروش بنت الخواضة،عطيتني ياهن وقلت ضميهن حال زاهر يوم يكبر، تتذكر؟ خذهن…خذهن فدية عنه»(34).
ث) شجرة الرمانة بين زاهر ومزنة: تلتقي بنا حبة الرمانة هذه بنا ونحن نرى زاهرا ومزنة يلعبان في بستان الباغ وهما طفلان صغيران تجمعهما براءة الطفولة ويقطف زاهر لمزنة حبة رمانة وتدور بينهما محاورة(35) طفولية على حبة الرمانة تلك، ويفعل الزمن فعلته فيهما ويكبر الشوق بينهما(36) يكون ختامها خطبة زاهر لمزنة لكن الأحداث تتصاعد وتدور عكس ما نتوقعه من زواجهما وأخيرا يبتعد زاهر عن مزنة بعدا نهائيا بالتحاقه بالثورة في جنوب عُمان ويُعتقل زاهر ويحقق معه خاله راشد دون أن يقتنع زاهر بالعودة وهنا يستغل السارد ليخصص المقطع (28) للحديث عن مزنة وذكراها مع زاهر.
5 – المونولوج أو الحوار الداخلي:
استخدم السارد في الرواية الحوار الداخلي، الذي يعرّفه دوجاردين «بأنه وسيلة إلى إدخال القارئ مباشرة في الحياة الداخلية للشخصية بدون أيّ تدخّل من الكاتب عن طريق الشرح أو التعليق»(37) ويظهر في النصوص والمقاطع السرديّة بضمير المخاطب، ويتميّز بإقامة وضع تلفظي مشترك بين المتكلم والمخاطب دون أن يحدث بينهما تبادل كلام وهو يسمح بالانتقال بين الأزمنة ويتيح وصف العالم الخارجي دون قطع الاسترسال(38).
استعمل السارد هذه التقنية بكثرة في وقف حركة الزمن وتصوير الحالة الداخلية للشخصيات وما يعتلج في دواخلها ما يضطرم في ذواتها ويستخدم السارد المونولوج لشخصياته على شكل استفهامات متتالية، نرى هذا مثلا في الأسئلة التي طرحها السارد على لسان زاهر ( هل ستمتد الثورة – هل ستتحرر البلاد)(39) وعلى لسان ريّا : ( من هم الشيوعيون – ما الذي يفعلونه في ظفار- ما الذي يفعله زاهر معهم)(40) وعلى لسان راشد: (أي الرجلين على حق)(41)وقوله: ( لماذا تعمدت إذلالي يا أبي؟ – هل كنت خائفا – هل كان صدقا ما يقولونه)(42).
راوح السارد بين ضمير الغائب الذي يكشف خبايا نفسيات شخصياته ومكنوناتها وبين ضمير المتكلم الذي يكون على لسان الشخصية نفسها بدون فصل سردي مما يدل على مهارة السارد في الانتقال من الغيبة إلى المتكلم. ومنه كلام راشد في هذا المقطع « هو الغضب يا أبي،الغضب الذي حذرتني منه، قلت لا تغضب فلم أغضب …..»(43).
محمد بن حمد الناعبي