إذا كان بناء الكل الباطني لدى الصوفي هو الصيغة الفردية لتمثل الكل الثقافي في الطريق، فإن استظهار هذا الكل الباطني في القول والفعل هو أسلوب الابداع الخاص لديه. وهو الأمر الذي يجعل من أقواله وأفعاله محلا للمعاني وللألغاز. ويصبح هو نفسه فلك دورانها الدائم. كما عبر الحلاج عن ذلك مرة في شعره :
لأنوار نور النور في الخلق أنوار
وللسرد في سر المسرين أسرار
ذلك يمني أن للمطلق تجلياته في الكل الثقافي أو لأنواره أنوار في الابداعات التي هي ذاتها الأسرار القائمة في سر المبدعين (المسرين )، فالسر في نهاية المطاف ها هو إلا الحقيقة. وبهذا المعنى يمكن الاستخلاص من قوله أن للحقيقة المطللقة تجليات في ابدا ء المبدعين وأسرارهم. فهي تتجلى في المقول والفعل والمصير. والكل سر لأنه يحوي في ذاته مكنون الأقوال وغاية الافعال وخاتمة المصير. وعلى قدر أسرار المبدعين أو حقيقة ابداعهم تتوقف معاني أقوالهم وأفعائهم ولغز مصيرهم ولهذا بإمكان الحلاج أن يهيم في أسراره نحو تلك المعاني بالشكل الذي جعله يقول :
سرائر سري ترجمان الى سري إذا ما التقى سري وسرك في السر
وما أمر سر السر مني وأنما أهيم بسر السر منه الى سري
أي بالقدر الذي يصبح هو محلا للمعاني وللألفاظ، يتحول أيضا الى فلك دورانها الدائم، إذ ايقني الهيام بسر السر منه الى سره سوى البقاء في الحقيقة المطلقة أو معاييرها الذائبة في ذاته. وهذا بدوره ليس إلا التمثل الدائم للسر، أو الحقيقة والبقاء في إشكالياتها وألغازها اللامتناهية، باعتبارها العملية الدائمة للجمع والفرق أو (الوحدة والافتراق ) أو المعنى والغز، التي عبر عنها الحلاج في أحدى مناجاته قائلا:
قد تحققتك في سر ي فناجاك لساني
فاجتمهنا لمعان وافترقنا لمعاني
فالاجتماع في الممنى هو الاجتماع بالحقيقة، والحقيقة سر لأنها ذات الأشياء
والظواهر والأقوال والأفعال. وهو الأمر الذي يجعلها محلا ومحكا لتجلي الأسرار. ففي القول كان يمكنه التعبير :
ما تراني أصغي إليك بسـري كي أعي ما يقول من الكلمات
كلمات من غير شكل ولا خاطر ولامثل نغمة الأصوات
إن الدوران في فلك المعاني والألغاز هو النتيجة المترتبة على بقاء الصوفي في الكل الثقافي ومواجهته إياه بمعايير المطلق. فبلوغ الصوفية تعظيم السر أو تحويله الى غاية كمالهم يعكس أولا وقبل كل شيء بلوغ الروح المبدع تحسس وادراك معاناته المتسامية بمعايير المطلق. فهو الأسلوب الذي يحدد حكمة ابداعه في لغزه ومعناه. واذا كان السر يتعارض في مظاهره مع الحقيقة، فإن حقيقته هي التمثل والتمثيل الأمثل لها. لأن الحقيقة في جوهرها سر. والسر يعريها من كل لباس ويكشفها أمام أنظار المشاهدة باعتبارها "أنا" نيتنا نحن فيما ننوي ونريد قوله وفعله ولهذا قالوا "السر هو ما لك عليه إشراف ". أي ذاك الذي يشكل حقيقة المعاناة المتراكمة في مجرى تحت كيان الأنا المبدعة. لأن كيان الأنا المبدعة هو صيرورة ارادتها. فإذا كان السر في ظاهره يتعارض مسه كل ظاهر فليس ذلك إلا لعدم صيرورته بمعايير المطلق وعندما يقول الصوفي بأن "صدور الأحرار قبور الأسرار" فانهم لم يقصدوا بذلك الاستخفاف بقيم الشجاعة والمواجهة والتحدي وما شابه ذلك، بل نفيها التام بمعايير الارادة المتسامية. أي تلك التي تصل من خلال تربية السر (أو الارادة ) الى أنه لاسر بمعنى تحريرها من كل عبودية باستثناء "عبوديتها" للحق والحقيقة، ولهذا قالوا "ان أسرارهم معتقة عن رق الأغيار". وليس الأغيار (أو الغير) سوى ذاك الذي يترامى فيما وراء كيان الارادة الصوفية أو صيرورتها المتحررة في كيان الحقيقة.
فالسر الحقيقي هو الوجدان المشحون بقيم المطلق. ومن هنا قول الصوفية "السر يطق على ما يكون مكتوبا مصونا ما بين العبد والحق في الأحوال ". وليس المكتوب ما بين الانسان والخلق (آتو أو المطلق ) في الأحوال، الا لحظات الابداع الخالص المتقلبة في كيان الحقيقة والتي أطق الصوفية عليها عبارة "تقلب القلب بين أصابع الرحمن ". ولا يعني ذلك سوى ما دعيته بمبدأ الثبات في التغير. وذلك لأن تقلب القلب بين أصابع الرحمن هو ثباته على التغير بمعايير الحق. أما تجليات هذا التغير (أو المبدأ) فمتنوعة. فهي تتخذ صيغة تربية الإرادة وتسويتها في قطع المقامات أو نفيها التام في بناء الروح المبدع، وفي ميدان المعرفة تتخذ هيئة قطع أشواطها المترامية ما بين المعرفة والمشاهدة. أي تجسيد المساعي الدائبة صوب المجهول باعتبارها قدر اليقين الباحث عن يقين أو بلوغ السر سر السر. وهذا بدوره ليس إلا تجسيدا ما أسميته بمبدأ الغير في الثبات أو البقاء في الحقيقة واستظهارها في القول والفعل.
وقد وضعت الصوفية مبدأ التغير في الثبات باعتباره القوة السارية لتنقية القلب في ثلاثية المعرفة والمحبة والمشاهدة أو ثلاثية القلب والروح والسر، وطابقت بينها بالشكل الذي جعل من وحدتها (الثلاثية ) أسلوب وحدة السر (أو الحقيقة ). فالقلب هو المعرفة والروح هو المحبة، والسر هو المشاهدة. وفي تقلبا يتدرج الى الروح، وفي ارتقائه يرتقي الى السر. أو أن تقلب القلب بين أصابع الرحمن يؤدي به الى معرفة الوجود ومحبة كل ما فيا عل أنه تجل للحق. ويكشف بدوره عن مشاهدة السر أو المعنى في جزيئا ته اللامتناهية. وهذه العملية تضع الصوفي على الدوام أعاد مهمة تذليل الخلافات بين الروح والجسد. والظاهر والباطن، وتوليفهما في إدراك أسرار المتضادات ووحدتها على أنها أكوان لامتناهية. وهو الإدراك الذي جعل الصوفية تتكلم عن الأكران بوصفها حجبا، ومن ثم ليس الكون إلا حجبا لا هتناهية هي صيرورة كل ما فيه. بل إن الحجاب واحد إلا أن الأسباب التي تقع بها الحجب متنوعة، كما يقول النفري. لهذا وجد في نفس المرء وني علمه ومعر فته وأسمائه حجبا تحجبه عن المطلق. ومع ذلك حصر هذه الحجب في خمسة هي حجاب الأعيان (الدنيا والآخرة وما فيهما من خلق لأن كلا منها حجاب لنفسا ولغيره ) وحجاب العلوم (باعتبارها حجاب نفسها وغيرها) وحجاب الحروف (وهو حجاب الحكم وكل ما يقع وراء العم ) وحجاب الأسماء، وأخيرا حجاب الجهل (الذي أسماه النفري أيضا بحجاب الحجب. انطلاقا من أنا ليس بعد الجهل حجاب ).
وليس الحجاب هنا سوى الحد الفاصل الذي يقف عنده المرء في مساعيه صوب الحقيقة. لأن الحقيقة تفترض في منطقها ومعاناتها باعتبارها خلاصة الابداع أو الاخلاص فيه انعدام الوقوف. انها تستلزم الخروج والتحدي والمجاهدة لأن كل ما في الأعيان حجب ينبغي تجاوزها، كما أن كل علم هو حد في الجهل. وأن لكل علم حدودا، بين كل حدين جهل. وبهذا المعنى، فإن "الجهل حجاب الرؤية والعلم حجاب الرؤية " كما يقول النفري. ومن هناك استنتاجه القائل : أدمن عرف الحجاب أشرف على الكشف " وبهذا المعنى أيضا قال الكتاني "رؤية الثواب حجاب عن الحجاب ورؤية الحجاب حجاب عن الاعجاب وهو الاستنتاج الذي بلوره النفري عن ضرورة اخراج كل ما في القلب ورميه من أجل رؤية الحق. وذلك في موقفه القائل :
اخرج من الحجاب تخرج من البعد
اخرج من البعد تخرج من القرب
أخرج من القرب تر الله!
وهو المطلب الذي يتلألأ في أحد مواقفه القائلة :
"ذا رأيتني استوى الكشف والحجاب ".
ولا يعني استواء الكشف والحجاب سوى الخلاص من بقايا الرواسب المتطايرة في روح الاخلاص للحقيقة. فكون الأكران كلها حجبا يعني أيضا ضرورة تذليل تجلياتها التي لا حصر لها في العلائق والعوائق (الظاهرة والباطنة، والمادية والروحية ) من أجل بلوغ وحدة الذات أو حقيقتها على مثال الواحد الحق. ولهذا كان السري السقطي يقول : "يا الهي مهما عذبتني فلا تعذبني بذل الحجاب ". وبهذا الصدد أيضا يمكن القول بأن الابداع نفسه حجاب ما لم يبلغ حقيقة السر. أي ما لم يبلغ درجة كسر قناعاته المستعلية في النفس والآفاق، أو الأنا والعالم. ولهذا قال التستري "اغلظ حجاب بين الانسان والله – الدعوى". ومن هنا تكلم المتصوفة عما أسموه بالمكر الالهي. أي ذاك الذي يشكل في "سريته " اختبارا أبديا للمرء في مساعيه الحثيثة صوب اليقين. فاليقين هو المجهول أيضا. وتذليل المجهول هو تذليل أحد حجبه لا غير. وهي العملية التي تستلزم تذليل القناعة التامة في انجازات المبدعين. والبقاء في الهيام المسحور بسر السر. واذا كان سر السر هو ما لا اطلاع عليه لغير الحق، فإن مضمونه في العلم (المعرفة ) هو الحيرة، وفي الوجد ( الحال ) هو الدهشة. وهي النتيجة المترتبة على سكون الحق قلب العارف في صحبته كل ما هو موجود، وجده إياه على أنه معنى الحكمة ولغزها الخالد. وذلك لأن إزالة الحجب أو غشاوة القلب هي التي تجعل منه في نهاية المطاف مرآة الوجود ومستودع الأسرار. أو ما أسميته بمحل المعاني ومحك الالغاز وفلك دورانهما الدائم فيه.
إن تحول قلب الصوفي ال مستودع للأسرار يلازمه تنقيتها الدائمة وذلك لأن كل تصفية للقلب هي تصفية للأسرار. ولا يعني ذلك سوى تنقية وتصفية الحقيقة ببلوغ سرها الخالص الذي يوصل الصوفي الى حال الفناء في المشاهدة. فإذا سكن الحق السريرة، كما يقول الخلاج، ضوعفت ثلاثة أحوال لأهل البصائر:
فحال يبيد السر عن كنه وصفه ويحضره للوجد في حال حائر
وحال به زمت ذري السر فانثنت الى منظر أفناه عن كل ناظر
فإبادة السر ثم الحيرة فالفناء هي الأحوال الثلاثة المترتبة على سكون الحق سريرة العارف. بمعنى تنقية السر بابادته أمام مهمة استكناه المعنى، ثم البقاء في دهشة الفناء في الحق. أي كل ما يوصله الى المشاهدة بقواعد الوجدان لا المنطق. وبقوا عد الذوق لا العقل. والتعبير عنها بكلمات السر أو الحقيقة الخالصة.
ان التعبير عن معاناة الحقيقة الخالصة هو الحيرة ذاتها. وبالتالي فإن وقوعا في فلك الحيرة هو "إجباره " على خوض المعرفة الخالدة للغز والمعنى. لأن حيرة الصوفي (أو الروح المبدع ) ليست حيرة الحائرين بل حيرة العارفين. ولهذا فإنه لا دليل فيها، لأنها نفسها دليل. فالأبداع الحقيقي حيرة دائمة لأنه لغز. وهو لغز لأنه حقيقة وحقيقة لأنه سر. وسر لأنه إسراء لا ينتهي صوب المجهول. والمجهول هو فلك الصوفي في بحثا عن اليقين وهو الأمر الذي يضع أسرار الصوفي في سرير ته (ابداعه ) الدائم صوب سماواته ( عوالمه) (1).
واستنطق الصوفية في اسرائهم صوب الحق الروح الثقافة، وحولوه الى سر من أسرارهم العميقة. ولهذا وقفوا في ابداعهم مندهشين منبهرين متحيرين فيا فقد لفوا حيرتهم بوجدان الدهشة، وأبدعوا في هجراها حقائق متسامية في الأقوال والأفعال. وبهذا المعنى فإن إبداع كل منهم تعبير عن السر (الحقيقة ) في نماذجه المثل ولقد تذوقوا في كل ما أرادوا قوله وفعله معنى الحق. وليس تجارب شيوخهم سوى التجسيد المتنوع للنماذج المثل في تاريخ الروح المبدع، باعتباره اللفن والمعنى أو الحيرة والاندهاش أمام حقائق المطلق (2).
التستري : استنطاق السر في الاخلاص(3)
ان استنطاق السر الصوفي هو استنطاق الحق فيه. وهو الاستنطاق الذي يمنى بحد ذاته التجسيد الفردي لما أسميته بالنماذج المثلى في تاريخ الروح ابدع. واذا كان تاريغ الروع المبدع في التصوف هو تاريخ تجارب الفناء في الحق والبقاء في الحقيقة. فإن استنطاق أسراره يتطابق مع فردانية الانا المتصيرة فيه. أما تصيرها فهو إسراؤها صوب الحق في الكل الثقافي. ولهذا أجاب التستري مرة على سؤال وجهوه اليه عن شر النفى قائلا : "للنفس سر! ما ظهر ذلك السر عي أحد من خلقه إلا علي فرعون فقال (أنا ربكم الاعلى ). ولها سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية. فكلما يدفن العبد نفسه أرضا. سما قلبه مساء. فإذا دفنت النفس تحت الثرى وصلت بالقلب الى العرش »!
فالاسراء صوب الحق هو الصيغة العامة لاسراء الروح المبدع صوب سماواته أو عوالمه المثلى. وهو ما يستلزم في كل فعل تذليل مقدماته باعتباره شرطا لسموه الدائم. ففي ميدان النفس يعني بلوغ حقيقة الربوبية لأنها الدرجة التي تتمثل في إمكانياتها تجسيد النموذج الأمني والواقعي للواحد الحق. وليس فرعون هنا سوى الرمز الممثل للأنا المتعالية باعتبارها ربا. أما حقيقتها ففي إسرائها صوب الحق بوصفه تذليلا لحجب الإرادة في أرضها وسماواتها (أو الروح والجسد، والظاهر والباطن، أو العقل والوجدان ). أي في كل المكونات الجوهرية للأنا من أجل بلوغ عرشها أو تمامها. فعلى مقدار تجانس الاسراء في مكوناته تترقى النفس. وهو التجانس الذي وضعه التستري فيما أسماه بدفن النفس في أراضيها مقابل ارتقائها في سماواتها. وسواء أعانت السبعة استجابة رمزية لما في تصورات القدماء والقرآن عن السماوات السبع. أو تعبيرا عن جميع الاحساسات الظاهرة (الخمس ) والعقل وما وراء العقل او الحدس ( الباطنه )، أو المقامات (4)، فإن مضمونها الخاص في الاسراء الروحي يكمن في استلهام الحقيقة القائلة، بأن بلوغ القلب العرش ليس ممكنا الا في حال تذليله الدائم للعوائق.
وليست وحدة الأرضي والسماوي في الاسراء الروحي سوى وحدة الأنا في تاريخ صيرورتها. واذا كان من الصعب تحليل بداية الأنا المبدعة. فلأن مقوماتها الأول تختبيء وراء حجب الأزل أما الممكن الوحيد هنا فيقوم في تتبع صيرورة روحها المبدع، لأن في "خاتمة " الصيرورة مفتاح تاريخها المعقول (الروح المبدع ). وبما أن معقولية التاريخ في البداية، أصبح تصنيف الأحداث وترتيبها الأساس الطبيعي لرسم المسيرة الشخصية. أما في الواقع فإن الطبيعي فيها هو وجودها فقط. وما عدا ذلك فهو معاناة الإرادة في بناء ذاتها ما بين مجهولين (الأزل والأبد).
فقد تراكمت معاناة الأنا التسترية في بناء ارادتها وذاتها وروحها المبدع منذ اللحظات الأول لاستماعها معنى الاخلاص في الأنفاس والهواجس والخواطر. وليس اعتباطا أن ينظر ابن عربي الى التستري بوصفه "ممن ولد محفوظا قبل التكلف، فلم يرزأه الله في عهده الذي أخذه عليه وهو في صلب أبيه أدم بشيء. فبقي عهده على أصله خالصا". أي أنه أخرجه من فحدودية التاريخ الشخصية وأدرجه في "البداية الأزلية " للوجود. وهي المفارقة الكبرى للابداع، بفعل احتضانها الحنون للحيرة في اليقين، إذ لا يعني حفظه قبل التكليف سوى إخلاصا الأزلي. ولا يعني عدم رزئه في عهده الذي أخذ عليه منذ الأزل سوى إخلاصه الأبدي. وهما المجهولان المتناغمان في رعد الوجود التاريخي للتستري عندما التقطت أذنا، للمرة الأول، وهو ابن ثلاث سنين دعوة خاله بأن يقول في قلبه عند تقلبا في ثيابه ليلا ثلاث مرات من غير أن يحرك لسانه : "الله معي ! الله ناظر إلي ! الله شاهدي!". وهي الثلاثية الرمزية للمعية والمراقبة والمشاهدة التي أنتجت بعد عشر سنين من ترسخها في أعماله رؤية "سجود القلب "(5).
إن ترسخ اليقين في أعماقه هو ما أثار حيرة المعنى فيه. وعندما تجول في بحثه عن معنى سجود القلب، لم يعثر عليه إلا عند الشيخ العباداني في اجابته حين سأله التستري: أيها الشيخ ! أيسجد القلب ؟ فقال : الى الأبد! وهي الأبدية الكامنة للحيرة في بحثها عن اليقين واليقين الباحث عن تجل له في الاخلاص لها فقد أوصلته تجربة الفناء في الحق والبقاء في الحقيقة الى أن السر القائم ما بين الأزل والأبد هو سر الاخلاص لا غير. والاخلاص بدوره ليسر إلاشكالية الكبرى للمعني. ومن هنا لغزه في العرفان واثارته في الوجدان. فقد وضعه هذا السر أمام تجلياته الكبرى المترامية ما بين العرش والثرى أو ما بين الطبيعي والماورا طبيعي، بحيث جعله يقول في أحد استنتاجاته القصية على التأويل المباشر.
للالوهية سر لو ظهر لبطلت الالوهية
وللربوبية سر لو ظهر لبطلت الربوبية
وللربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة
وللنبوة سر لو ظهر لبطلت العلم
وللعلم سر لو ظهر لبطلت الاحكام(6)
فهي الأسرار التي يؤدي اكتشافها ال زوالها وذلك لأن انكشاف السر هو زوال حجابه. ومن ثم ادراكه بمعايير المشاهدة المتجددة. فانكشاف سر الالوهية هو زوالها كألوهية. وينطبق هذا على الربوبية والنبوة والعلم والأحكام. بمعنى زوالها كأسرار (مجهولة ) وظهور حقائقها باعتبارها مشاهدات متجددة للروح المبدع. وهو أمر يترتب عليه تخلص الرؤية العادية والتقليدية والمحجوبة بالمصالح مما هو "متعال " في مفاهيم الالوهية الربوبية والنبوة والعلم والأحكام وغيرها. آنذاك تضمحل حقيقة هذه المفاهيم في ابداع الروح المبدع وتزول أو تكف عن أن تكون كيانات قائمة بحد ذاتها متحدية للأنا أو مستعبدة إياها أو متكهنة بما فيها أو متوعدة إياها. انها تزول أو تكف عن أن تكون وسائط مستقلة وتذوب في فعل الروح الساعي الى ازالتها باعتبارها حجبا. عندئذ لا تعد الألوهية ألوهية العوام ولا ربو بيتها ربوبية السيطرة والاخضاع، ولا النبوة واسطة الوجود المتعال بين الأزل والأبد، ولا العلم محصورا في النصوص أيا كانت، ولا الأحكام ما تحويه كتب المتفقهين واجتهادات المجتهدين، لأنها أحكام الأجزاء والضرورة والمصلحة، لأن الحقيقة هي الابداع المتلألي ء بمعايير الاخلاص للمطلق ! وبهذا المعنى يمكن فهم "السر" القائم وراء قناعة التستري الأولى، بأن معنى سجود قلبا هو سجود الأبدي.
ولا يعني السجود الأبدي سوى الديمومة الخالدة للحيرة في الاخلاص. وهي الحيرة التي توصل الصوفي الى أن للاخلاص سرا فيه، هو الاخلاص للاخلاص، وهي الحصيلة التي ضمنها التستري في قوله :
الدنيا كلها جهل إلا ما كان منه العلم
والعلم كله حجة إلا ما كان به العمل
والعمل كله هباء إلا موضع الاخلاص فيه
وأهل الاخلاص على خطر عظيم
وليس هذا الخطر سوى قوة التهذيب الدائم للس في القول والفعل. ولهذا اعتبر التستري النية هي سر الاخلاص بها يثبت حكم الظاهر بالفعل، وبها يثبت حكم السر (الباطن ) بالنية.
ان مطابقة النية مع السر ومطابقة كليهما مع الاخلاص تعكس جوهرية الاخلاص في بناء واستنطاق الروح المبدع في تجربة التستري ولهذا وضع الاخلاص في أساس الشريعة والطريقة والحقيقة، أو في الكل الصوفي، حيث أسس له ووضعه في مباديء الشريعة باعتباره بؤرة فاعليتها في كل ما تسعي اليه،. ففي موقفه من الفرائض، على سبيل المثال اعتبر ان "الايمان بها فرض والعمل بها فرض، والاخلاص بها فرض ". وفي موقفه من السنن كفريضة، اعتبر أن "الايمان بها سنة وعلمها سنة، والعمل بها سنة، والاخلاص بها فرض ". ذلك يعني أن الجامع الجوهري في الايمان بالفريضة وبالسنة هو الاخلاص. وأن الاخلاص فقط هو الفرض التام والبؤرة الجوهرية القائمة في أعماق (أو ما وراء) العلم والعمل والايمان، وينطبق هذا بالقدر نفسه على الطريقة. فالطريقة في آدابها ومقاماتها هي أسلوب تجلي الاخلاص. ولهذا اعتبر من د،قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالاخلاص ". وهو الأدب الملازم للاستعانة بالحق على أمور بالصبر عليه. ففي أحد تجلياته (الأدب ) الظاهرة أن يترك سبعة أمور هي الزندقة والشرك والكفر والنفاق والبدعة والرياء والوعيد، وفي الباطن الا يمازح بره بالهوى. وفي السلوك أن يكون في التدبير كأهل القبور. ولا يعني ذلك رفع الخمول الى ذروة الكمال، بل استنهاض الكمال في الذات بالشكل الذي تتساوى في أفعالها قيمة الوسائل والغايات. ولهذا طالب اتباعه قائلا: أدان الناس دخلوا
الجنة بالعمل، فاجتهدوا أن تدخلوها بترك العمل "! أي بذاك الذي لا يخالطه شيء. أي العمل الخالص بمعايير الحق والحقيقة.
وهو المبدأ الذي طبقه وجسده عل نفسه في مقامات الطريق واستنطقه في أحواله. ففي التوبة وجد أنه "لا شيء من الأشياء أوجب على المرء منها ولا عقوبة أشد عليه من فقدها" لأن التائب "يكون قلبه متعلقا بالعرش حتى يفارق النفس ". وفي الزهد لا يتم له إلا بزهده في كل شيء، ولا يناله إلا بالخوف. ولا يصح له الخوف "حتى يخاف من الحسنات كما يخاف من السيئات ". وأعلى الخوف أن يخاف سابق علم الله فيه ويبقى في جموح الروح الساعي صوب الحق. ولهذا أجاب على سؤال : "متى تستريح ؟" بعبارة :"إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه !". بمعنى المرابطة في صبره الدائم على مقاساة معاني الحق. لأن الصبر، كما يقول التستري، "مقدس تقدس به الأشياء" وفي التوكل ان "يسترسل بين يدي الله،" لأنه:
"ليس للتوكل حد ولا غاية تنتهي اليه ". فهو "قلب عاش مع الله بلا علاقة ". وهو الكل الذي يؤدي به الى مفارقة العيش واللاعيش. فالعيش بفعل المحبة واللاعيش بفعل أن من أحب فلا عيش له.
وهوا لأمر الذي يصقل في الأحوال، أو أسرار الروح المبدع حقائق إخلاصه للحق. ومن هنا قول التستري : "لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره ". وأن "اول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم " وأن "أول الأنس أن تأنس النفس والجوارح بالعقل، ويأنس العقل والنفس بالشرع، ويأنس العقل والنفس والجوارح بالعمل لله خالصا، فيأنس العبد بالله ". وهي السلسلة التي تخلق ما يمكن دعوته بـ "قلب الاخلاص ". فإذا كان فقدان التوبة هو فقدان القلب، فإن قلب التائب متعلق بالعرش، كما يقول التستري، واذا كان الخوف ينتهي بالخوف من حكم الأزل، فليس ذلك الا لأن بقاءه الأبدي مرهون بسجود القلب في إخلاصه للحق. ولهذا أجاب على استفسار قوم عن معنى كلامه "من المؤمنين من له من الخوف ما يعادل الجبل، ومع ذلك فإنهم يأكلون وينامون وينكحون " بعبارة "يفعلون ذلك والمشاهدة لا تفارقهم والمأوى يظلهم " وعندما سألوه فأين الخوف ؟ أجاب : "يحمله حجاب القدرة بلطيف الحكمة ويستر القلب في التصريف بصفات البشرية ".
أن حمل القدرة للخوف بالحكمة وإسدالها حجبها على القلب لا يعني تخبئته وراء أمتاره بقدر ما يعني شعاعه في ألوانها. فهو ككل ابداع حقيقي يكشف في أنواره وألوانه وأحجامه وأشكاله عن أنوار وألوان وأحجام وأشكال المعاناة المتكاملة للروح المبدع فيما أراد قوله وفعله. وبالتالي ليس خوف الخائفين هنا سوى تجلية المتسامي في ذاته، لأن نور الايمان في القلب نور عظيم لو ظهر لأحرق الجسم وما حوله. كما تقول الصوفية. وليس هذا الاحراق في ومزيته سوى شعاع قلبه الخالص. فقلب التائب والخائف كقلب المتوكل في عيشه مع الله بلا علاقة. وفي عيشه بالمحبة يعيش ولا يعيش. أي استواء حرارة اليقين وقلق الحيرة الدائمة في الاخلاص للحق والحقيقة. فالعيش بلا علاقة هو التحرر اللامتناهي في المتناميات. والعيش في المحبة بلا عيش هي المفارقة العميقة لتجلي هذه العلاقة في القلب الخالص.
ذلك ما يجعل الحقيقة الكبرى للقلب تقوم في سجوده الأبدي للحق. ولا يعني سجوده هنا سوى صمته ونطقه وحركته وسكونه في محراب معاناته. أما هذه المعاناة فهي كله المبدع وتهذيبه الدائم. وليس اعتباطا أن نعثر عند التستري على تدقيقات في "تصنيف " الصابرين والخائفين والعلماء وغيرهم. لقد استنطق هو هنا درجاتهم في درجات تجارب الاخلاص في الاخلاص للحق. مثل قوله :
الصالحون في المؤمنين قليل
والصادقون في الصالحين قليل
والصابرون في الصادقين قليل
أو أن يقول في العلماء ما يلي :
الناس موتى إلا العلماء
والعلماء سكارى إلا العاملين
والعاملون مغرورون إلا المخلصين
والمخلص على وجل حتى يختم له به
وهو الاستنطاق الذي يكشف عن تدقيق الرؤية في الاخلاص والافصاح عما فيه من امكانيات لا تحصى للتجلي، بما في ذلك بمعايير الكم. فالقلة الدائمة للصالحين بين المؤمنين، وللصاد قين بين الصالحين، وللصابرين بين الصاد قين هي كثرة الاخلاص في الأواخر. وهي النتيجة الجلية في علم العلماء ومعارف العارفين، بفعل ما للاخلاص من سبيكة متجانسة في العلم والعمل، والكل الصوفي وحقيقة روحه المبدع. فهي السبيكة التي تترابط في سلاسل المعنى التي يبدعها الصوفي في القول والعمل. لأن الاخلاص هو الوحيد القادر عل خلق اللغز في المعنى، واعادة انتاج الحيرة في اليقين واليقين في الحيرة بفعل سريانه الدائم في سجود القلب فهو يباح سلسلة المعنى ويرمي حلقاتها في المواقف. وليس اعتباطا أن تدور سلاسل المعنى حول تهذيب الروح الأخلاقي، وذلك لأن الباطن هو سر تجارب الاخلاص ومعدن تجليه، كما في قوله :
من ظن ظن السوء حرم اليقين
ومن تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق
ومن اشتغل بالفضول حرم الورع
فإذا حرم هذه الثلاث هلك
وبمقابل ذلك استنتج أن :
من سلم الظن سلم من التجسس
ومن سلم من التجسس سلم من الغيبة
ومن سلم من الغيبة سلم من الزور
ومن سلم من الزور سلم من البهتان
أي أنه كشف من خلال سلسلة الحرمان قيود الهلاك، ومن خلال سلسلة السلامة قيود الخلاص من السقوط بينما واجه مصادر العصيان بالطاعة وابدع لها صورة في الفكرة القائلة :
تربة المعاصي الأمل
وبذرها الحرص
وماؤها الجهل
وصاحبها الاصرار
وتربة الطاعة المعرفة
وبذرها اليقين
وماؤها العلم
وصاحبها السعيد
فهي المواجهة التي تستمد مقوماتها من معاناة المعنى في تجارب الاخلاص، التي استنطقت في عباراتها روحه المبدع أو فردانية تجربته في إدراك حقائقها. وهذا الأمر نعثر عليه في سلسلة المعنى القائم في النية والكمال والمعرفة، عندما قال :
الله قبلة النية
والنية قبلة القلب
والقلب قبلة البدن
والبدن قبلة الجوارح
والجوارح قبلة الدنيا
وتمام تجليها في الكمال عندها قال :
لا يكمل للانسان شيء حتى
يصل عمله بالخشبة
وعقله بالورع
وورعه بالاخلاص
وإخلاصه بالمشاهدة
والمشاهدة بالتبري عما سواه.
ولا يعني تجاوز الاخلاص الى المشاهدة سوى بلوغ السر حقيقته في المعرفة باعتبارها حيرة الاندهاش. فغاية المعرفة، كما يقول التستري شيئان – الدهشة والحيرة ! فير أنها دهشة العارف وحيرته في ادراك حقيقة المعنى ولغزه في الذات،. وهي النتيجة التي سلسلها في فكرته القائلة :
معرفة النفس أخفى من معرفة العدو
ومعرفة العدو أجلى من معرفة الدنيا
فإذا عرف العدو عرف ربه
وإذا عرف نفسه عرف مقامه عن ربه
وإذا عرف عقله عرف حاله فيما بينه وبين ربه
وإذا عرف العلم عرف وصوله
وإذا عرف الدنيا عرف الأخرة
أي كل ما يكشف عن الحقيقة القائلة بأن سلسلة الاخلاص للمعني، لأنها تكشف عما في ترابطها من تاريخ موحد للحقائق المتراكمة في معاناة اليقين والحيرة. وهو الأمر الذي يجعل من استظهار الحقائق موقفا في تجربه الاخلاص (7).
إن تجربة الاخلاص تضع الروح المبدع بالضرورة أمام صدى الأزل والأبد و" تقهره " على رؤية ما يجري بعيون الآن الدائم، ولهذا كان بإمكان التستري القول، بأن القلب والصدر كالعرش والكرسي. بمعنى احتواء الصدر الانساني في اخلاص قلبه على الكون في كل ما كان ويكون. إذ ليس الكرسي والعرش سوى الكل الالهي في فعله الدائم. أي وجوده وأمره. ومن هنا رمزية العبارة في قوله : "الصدر هو الكرسي والقلب هو العرش. والله واضع عليه عظمته وجلاله. فصدر المؤمن أوله صمدية وآخره روحانية وأوسطه ربوبية، فهو صمدي روحاني رباني، وقلبه أوله قدرة وأخره بر وأوسطه لطف. فإذا كان كذلك فهو مشكاة فيها مصباح يرى به الزجاج كأنه كوكب دري تشهد به الألاء". أن وحدة الصمدية والربوبية والروحانية وتجليها في القدرة واللطف والبر هي وحدة الصدر والقلب.، التي تجسد في فر دانيتها مثال المطلق (الالهي) في رمزية الكرسي والعرش. وليس إلا الاخلاص من هو قادر على أن يجعل من القلب والصدر كرسي وعرش الوجود الحق. أي كل ما يؤدي الى تحول صدر العارف وقلبه الى مشكاة و زجاجة الوجود الحق. أو ما عبر عنه التستري في فكرته عن التوحيد باعتباره تجريدا للوحدانية عن شهادة الأحدية. بمعنى الاخلاص التام الذي يجعل من معاناته يقينا محيرا ومدهشا في الوقت نفسه. ولهذا اعتبر أن من "غمض بصره عن اتلل طرفة عين فلا يهتدي طول عمره " وليس هذا سوى سيطرة المطلق (الاسلامي) في اليقين (الباطن ) بالشكل الذي يؤدي، كما يقول التستري، الى أن "تسقط نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه ". ولا يعني سقوط النفس عن القلب سوى بقاء القلب في إخلاصه. ولا يعني بقاء القلب في اخلاصه سوى البقاء في الحقيقة واستظهارها في الوحدة الدائمة للعلم والعمل. فالعلم يهتف بالعمل، وان لم يجبه ارتحل، كما يقول التستري.
ذلك يعني أن استظهار الاخلاص هو تجليه الدائم في وحدة العلم والعمل ففي العلم (من عقل وعلم ) تجليه في العلماء والعارفين، وفي العمل تجليه في الشريعة (من ايمان وإسلام وسنة وفرض )، وفي الطريقة (من سلوك وآداب ) ومواقف عملية أخلاقية.ففي العلم ليس العقل ما هو معقول وقادر على التمييز والإدراك، وما يمكنه أن يحكم على جواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وما يوضع في ميزان الغريزة والتجربة، بل الحكمة المؤدية الى ادراك معنى الاخلاص في الحياة. ومن هنا قول التستري "إن للعقل ألف اسم. ولكل اسم منه ألف اسم. وأول كل اسم منه ترك الدنيا،. أي أن ملايين الألسن تقول بصيغ لا تحصى، معنى واحدا هو بحد ذاته لغز وحقيقة. وأن المقصود بالعلم هو علم الحال. أي معرفة مقامه الذي هو فيه باعتباره اللحظة الوجدانية الدائمة فيما بينه وبين الحق (المطلق ). واذا كان العلم يثبت بالمعرفة، كما يقول التستري، فإن المعرفة تثبت بذاتها، فهي الاستقلالية التي تعكس القيمة الجوهرية للثبات (أو البقاء) في الحقيقة. ولهذا فرق بين العلماء أنفسهم وبينهم وبين العارفين،فا لتستري يتكلم عن علماء ثلاثة، عالم بحكم ائه (الفقهاء) وعالم باش (الموقن ) وعالم لله (الذي يعلم الاخلاص والأحوال ). وهو الأمر الذي
جعله يستنتج في تجربة الاخلاص لـ "العلم " (الأحوال ) قائلا "خرج العلماء والعباد والزهاد من الدنيا وقلوبهم مقفلة، ولم تفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء". انه الانفتاح اللامتناهي في طريق الحقيقة. لأن أول مقام المعرفة، كما يقول التستري، هو أن يعطي المرء يقينا في سره تسكن به جوارحه، وتوكلا في جوارحه يسلم به في دنياه، وحياة في قلبه يفوز بها في عقباه. بصيغة أخرى. ان يقين السر الباطني وتوكل الروح الأخلاقي ومعرفة القلب هي الوحدة التي تربط كله الجسدي (الجوارح ) فيما لا يتناهى وتبقى عليه في حركاته وسكناته أسيرة الأخلاص للحقيقة.
ففي مواقفه من الشريعة لم يتعامل مع الايمان وفقا لما هو متعارف عليه في تصورات العوام وأحكام الفقهاء وآراء المتكلمين، بل وفقا لمطالب الروح الأخلاقي ولهذا اعتبر انه لا يبلغ المرء حقيقة الايمان حتى يكون فيه أربع خصال هي أداء الفرائض بالسنة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهى من الظاهر والباطن، والصبرعلى ذلك حتى الممات، ومن هنا قوله : "من أحب أن يكاشف بأيات الصديقين فلا يأكل إلا حلالا، ولا يعمل إلا في سنة أو ضرورة ". وليست السنة هنا سوى تقليد الحق المرتقي الى مستوى الضرورة. ولا ضرورة في الروح الصوفي سوى الاخلاص للحق. ولهذا أجاب على سؤال وجه اليه يوما حول ما إذا كان للمقتدي اختيار بالاستحسان، بعبارة "لا! إنما جعل السنة واعتقادها بالاسم لا تخلو من أربعة _ الاستخارة والاستشارة والاستعانة والتوكل. فتكون له الأرض قدوة والسماء عبرة وعيشه في حاله لأن حاله هو المزيد، وهو الشكر". والحال هو الاخلاص. ولهذا اعتبر العلم الفريضة علم الحال في الحركة والسكون. والفريضة الكبرى (الجوهرية ) في الايمان والسنة هي الاخلاص. ولهذا لم تعد الهجرة تغيير المكان بل فرض الروح المتنقل في عوالم الاخلاص. ومن هنا قوله "الهجرة فرض الى يوم القيامة. من الجهل الى العلم، ومن النسيان الى الذكر، ومن المعصية الى الطاعة، ومن الاصرار الى القربة ". ولم تعد أركان الدين ما هو متعارف عليه في قواعد العقائد وتسنن الفقهاء، بل كل من "الصدق واليقين والرضا والحب. وعلامة الصدق الصبر، وعلامة اليقين النصيحة وعلامة الرضا ترك الخلاف وعلامة الحب الايثار". أو الاخلاص في الحال.
أما التجلي الأعمق للا خلاص ففي آداب السلوك والتقوى منها بالأخص باعتبارها "مشاهدة الأحوال على قدم الانفراد". ولا تعني مشاهدة الأحوال على قدم الانفراد سوى الاخلاص التام بلا رقيب والفعل بقواعد الحق المجرد أو المصفى بكيمياء الحقيقة. أي كل ما يجعل من قلبه وعاء لها. واذا امتلأ القلب (بالحقيقة )، كما يقول التستري، صار روحا. أما صيرورته فإنها لا تتناهى إلا في مواقفه.
ب – النفري : نثر السر في المواقف
"كل جزيئة في الكون موقف " (النفوي)
لقد غاب النفري منذ ترون في سريم المواقف. واستنفر فيها المعنى الوجداني لأسرار التجربة الروحية كما لو انه الصدى المجهول للحقائق المجهولة وقدم في مفارقة استنطاقه المجهول للمجهول أحد النماذج الرفيعة للاخلاص في الواقف. وليس اعتباطا إلا أن نعرف عن ملامحه وحياته (الشخصية ) شيئا، لقد جعل من غيبته هذه نموذجا للاخلاص في المواقف والسر الكامن وراء ابداعه. وكشف عن أن الصيرورة الروحانية للمبدع في إبداعه اتتناهى إلا في المواقف. والمواقف حركة لا تتناهى.
فإذا كانت المفارقة الخالدة للاخلاص تقوم في أن المرء حالما يرى الحق يضعف، فإنه في ضعفه قادر على حمل الكل. وذلك لأن تذوق الحقيقة يلزم الروح بخوض مغامرة غرامها الدائم. مما يجعل من المواقف الحد المتناهي والتام لمغامرة الابداع. وهي عملية لا تتناهى بفعل ذوبان الأنا في فعل الحق (الابداع ).
فالذوبان في فعل الحق هو بالقدر نفسه التمظهر المتجدد للروح الصوفي المبدع في شيوخه، والمتجلي عند كل صوفي في ابداعه. وقد حققه النفري في المواقف ! أي في البداية والنهاية والحركة بينهما أو كل المعاناة المتراصة في تأملها وارتجافها أمام حقائق المطلق، بحيث لا تترك فراغا بينهما، إذ ليس الفراغ هنا سوى الوقوف (أو الوقفة )، وهي الفكرة التي عبر عنها في أحد مواقفه قائلا:
أوقفني في قف وقال لي.
إذا قلت لك قف فقف لي لا لك !
إننا نعثر في انتزاع الوقوف من الوقوف، أو الأنا من الأنا اللهيب من النار أو الأزيز من الريح عل مساعي الروح المبدع تذليل مكوناته المختلفة، والاندماج في وحدة المعاناة التامة. فـ "الوقوف لي " هو الوقوف للحق لا للأنا، أو الذوبان في فعل الحق. بمعنى غياب أصوات الأمر والنهى وتحويلهما الى نغم المعاناة الذائبة في اخلاصها للحقيقة.
الانسانية في رحمة الوجود (الالهية ) والتي بدونها لا قيمة ولا أثر ولا معنى لكل ما هو عائم. فالوحمة تضفي المعنى على الخطاب والفعل والزمن ولولاها ينحل كل شي ء في فعل الزمن وعبث استمراريته. بينما الزمن هو الوقفة الخاطفة في اللامتناهي. أو أنها الموقف المتناهي في اللامتناهي والذي يعطي للجوء الانساني في كل حال لمصادره الحقة قيمته في الخطاب والفعل والزمن. أي أن لجوء الأنا للكل يجعل الكل جزءا منها وهو الإدراك الذي يحول تحقيق الأنا _أنت في وحدة الرؤية والمواقف. ولا تعني هذه الوحدة عزلة الأنا أو انكفاءها في غار التخلي عن كل ما هو موجود. على العكس ! فهي الوحدة التي يصبح فيها الضحك والبكاء والصمت والكلام سواء. لأن كلا منها نابع من صدق المعاناة وتراص المكونات. آنذاك تصبح لغة الضمير هي لغة المطلق. وصوت كل منهما صوت الآخر:
إذا عرفت كيف تقول اذا قلت لك قف لي
فقد فتحت لك الباب، فلا أغلقه دونك!
فعندما يبلغ الصوفي معرفة كيفية القول في " قف لي " أو بلوغ ما أسميته بالامتثال الواعي للمطلق، يصبح خطابه هو خطاب الحق (والحقيقة ) المجرد. فهو يفارق آنذاك الجميع، لأنه فرد وما سواه مزدوج، ويصبح الوحيد القادر على رؤية الحقيقة لأنه واحد مثلها. فهو يستمد مثاله من مثالها:
إنما نختلف في الضد
وما في رؤيتي ضد
وهو الأمر الذي يجعل هن دخول (أو وقوف ) الصوفي في طريق المطلق دخولا مفتوحا لا متناهيا، أو متناهيا في المواقف لا غير. أما الوقوف في المواقف بالنسبة له فشبيه بالنار:
الوقفة نار!
الوقفة نار الكون
المعرفة نور الكون
المعرفة تأكل المحبة
والموقفة نار تأكل المعرفة
فالوقفة هي انار التي تأكل (أو تحرق ) كل شيء لأنها تشهد _,المرء أن كل ما غيرها سواها، وأن كل ما فيها ينبغي أن يلتهب كالابداع. ولهذا طالبه الحق المتسامي أحد الواقف قائلا:
إذا رأيت النار فقع فيها
فإنك إن وقعت فيها انطقت !
وإن هربت منها طلبتك وأحرقتك !
أو أن يقول في موقف آخر :
إذا لم تكن في أمري كالنار
أدخلتك النار
أي أن مغامرة الابداع الحق تفترض الاحتراق التام بلا بقية ولا شاردة. إذ ليس الانطفاء هنا سوى الاشتعال، وليس الهروب سوى الحرق. وبالتالي فإن مطالبته إياه بأن يكون كالنار هو مطالبة الروح المبدع بالحركة الدائمة، ومن هنا استنتاجه القائل بأن الوقفة نار أو استقرار في حركة أو ابداع يلتهم في أعماقه كل ما هو قابل للاحتراق باعتباره الاشعاع الدائم للوجود والصيرورة. لأن حقيقة الابداع لا تتناهى إلا في المواقف. وحقيقة المواقف حركة لا تتناهى. وهو المعنى الذي أراده النفري في قوله :
لا ديمومة إلا لواقف
ولا وقفة إلا لدائم!
انها الديناميكية المرافقة لمغامرة الفناء في الحق والبقاء في الحقيقة. فمن أطرافها تتكون وحدة الابداع، أي البداية والنهاية المتلألئة في سحر السر المختبيء وراء الحركة المتنفسة في جريها الدائم، كالتنفس بين جرعات الماء للعطشان، وكاللقاء في الحلم واليقظة للمحب الهائم، إذ لا ديمومة بالفعل في المواقف، تماما كما انه لا وقفة إلا لدائم، لأن كلا منهما يفترض وجود المعنى، الذي قصده النفري في أحدى مخاطباته :
ياعبد قف في موقف الوقوف
وانظر الى كل شيء واقف بين يدي
وأنظر الى السماء كيف تقف
وأنظر الى الارض كيف تقف
وأنظر الى الماء كيف يقف
أنظر الى النار كيف يقف
أنظر الى العلم كيف يقف
أنظر الى المعرفة كيف تقف
أنظر الى النور كيف يقف
أنظر الى الظلمة كيف تقف
أنظر الى الحركة كيف تقف
أنظر الى السكون كيف تقف
أنظر الى الدنيا كيف تقف
أنظر الى الاخرة كيف تقف
أنظر الى قلبك كيف يقف
أن لي قلوبا لا تقف في شيء!
ولايقف فيها شيء
هي بيني وبين
كل واقف بين الملك الى الملكوت
إن وقوف الأشياء هو “حركتها” في مقاماتها. إذ لكل منها موقف له حدوده إلا القلب (الانساني المبدع ). فهو لا يقف في شيء. ولا يقف فيه شيء. وحركته الدائمة هي مواقفه الدائمة، بفعل وجود كل ما في الوجود المادي (الملك ) والروحي (الملكوت ) بينه وبين المطلق. انه يخترق الكون في كل مكوناته، وفي كل اختراق له موقف ومن هنا فكرة النفري عن "أن
الكون موقف. والحقيقة الخالدة فيه تقوم في الا يستقر القلب في مستقر. ولا يعني عدم الاستقرار سوى ديمومة الحركة وتوقفها أو استمراريتها وانقطاعها، هي ما تعطي لكل منهما معناه. إذ لا معنى لديمومة بلا توقف، وتوقف بلا ديمومة. وعلى قدر كل منهما يتوقف قدر الآخر.ومنه موقف النفري:
معرفة لا وقفة فيها مرجوعها الى جهل
الوقفة يقين سرمدي لا ظن فيه.
ليس في الوقفة واقف وإلا فلا وقفة
الوقفة صمود. والصعود ديمومة
كالانقطاع الجميل في النغم، وكالحشرجة المتلهفة لابتلاع نفس يعطي للغناء
استمراريته. أي ذاك الذي تذوب في الضرورة والمعنى ويتصير فيه ما أسماه النفري بـ"ماوراء المواقف ":
الكون موقف!
وكل جزئية في الكون موقف !
وهي الرؤية التي تجعل "الواقف لا يقر على كون، ولا يقر عند« كون » لأنه واقف في كل موقف خارج عن كل موقف ولا يعني ذلك سوى "خروجه " الدائم في حركته، أو ارتباطه الدائم بالكون وأجز ائه وتحرره منها في الوقت نفسه، ومن هنا فكرة النفري القائلة بأن أدمن تعلق بالكون عرض عليه الكون »، بينما حقيقة "ماوراء المواقف " تقوم في رؤية المطلق والارتباط به. أي في حقيقة الارتباط بالحقيقة والتحرر من رق ما سواها:
من لم يقف بي، أوقفةكل شيء دوني
ومن راني شهد أن الشيء لي
ومن شهد أن الشيء لي لم يرتبط به.
أي أن الوقوف بالمطلق هو الذي يحرره من السقوط في ما لا قيمة له،. لأن الوقوف بالمطلق هو الذي يحرره من الانصياع لكل ما هو عابر وعارض وجزئي:
فالواقفة تعيق من رق الدنيا والاخرة
وفيها يسقط قدر كل شيء
فما هو منها ولا هي منه
وتصبح هي ذاتها القدر الذي تتراكم فيه الهموم في كل واحد لتحرره من قيوده أيا كانت، وتتخلل وجده المحزون الفاعل في كل ما هو موجود. أو ما أسماه أحيانا بالهم المحزون. أي ذاك الذي يعتصر كل ما في القلب ليفرغه عما سوى حقيقة الهم. فإذا كان لكل شيء قلب، كما يقول النفري، فإن قلب القلب همه المحزون. فـ"الهم المحزون كالمعول في الجدار المائل ". أي إن أخرجته هدم الجدار وإن أبقيته هدمه أيضا. لأنه يفترض في ذاته، كما هو الحال في كل ابداع حق، البقاء في حيز الحقيقة لا ترميم ما هو عرضة للانهدام والانحلال. أي الا يبقى معلقا في موقفه. ولهذا طالب المرء بأن يخرج من همه لكي يخرج من حده. وأن يقف بهمه بين يدي الحق ويحتفظ حاله بأن يرى الحق في همه لا يرى همه في همه !
ان الخروج من الهم يعادل الفناء فيه والبقاء في حقائقه. فالهم يفني الأنا ويبقيها في حقائق إدراكها الوجداني لكل ما هو موجود. أو في معاناتها الحق والابتلاء التام به. لأن القلب الذي يرى الحق يصبح محلا لبلاء. وليس البلاء هنا سوى الاقبال الكامل للقلب صوب الحق. والذي يصبح فيه كل فعل بلاء:
تعرفي إليك بلاء
أنا أصل البلاء
أحببت فيك البلاء
أظهرت لك البلاء
كرهت منك البلاء
انكارك للبلاء بلاء
إن تحول الحب والكراهية والمعرفة والانكار الى بلاء يعني تحول البلاء الى محك القلب ومقياس وجده (وجدانه ) تجاه كل ما هو موجود.
إذا رأيتني كان بلاؤك بعدد كل شيء
وكان كل شيء بلاءك!
إن التعامل مع الأشياء والظواهر والأحداث يجري من خلال تحويلها الى أشيائه وظواهره وحوادثه الداخلية. فرؤية المطلق تجعل الطب المبدع في امتحان روحي مزمن. لأن كل شي ء يصبح آنذاك بلاءه الخاص. انه يصبح موزعا في ترابطا بين الأبد والآن على مثال الفكرة التي قالها النفري:
قلوب العارفين ترى الأبد
وعيونهم ترى المواقيت
وهي الحالة التي تجعله يقف "بعدد كل شيء" وتجاه كل شيء له موقف. بمعنى تحول المواقف الى محك ومعيار الروح المبدع في اخلاصه للحقيقة. وذلك لأن تحول الهم والبلاء الى بؤرة الروح المبدع يعني بلوغ الروح المبدع مداه الأقصى في المواقف. وليس المقصود بالمدى الأقصى هنا سوى الأبعاد اللامتناهية في "الآفاق والأنفس". بحيث تجعل كل جزيئة فيها موقفا. إذ ليس الآفاق والأنفس سوى الكون، والأبعاد القائمة فيا هي أبعاد الوجود. وليس الروح المبدع في الكون سوى سفينة في بحر. ووجوده (الروح ) هو وجده الخالص وكل ما سواه غارق :
أوقفني في البحر
فرأيت المراكب تغرق
والألواح تسلم!
فالوقوف في بحر الحقيقة يفترض الانحلال فيا. والسلامة هي مجرد طوفان الجسد أو أجزائه المتجزئة كما أن الفرق هو الانحلال في الكل. وهو الادراك الذي يستلزم المغامرة والمخاطرة والتحدي:
هلك من ركب ولم يخاطر
فأي معنى للركوب بلا مخاطرة ؟ والا فركوب المبدع شبيه بسفر حقيبة من حقائب المسافرين لا قيمة لما فيها. لأن حقيقة الابداع هي
المخاطرة الدائمة، والقدرة على تصور النفس (الذات ) منحلة في الكل الحي
للوجود:
إذا وهبت نفسك للبحر فغرقت فيه
كنت كدابة من دوابه !
وهي المفارقة التي تعكس في ومزيتها الحقيقة القائلة، بأن لكل روح مبدع ألواحه تتراءى فيها حروف بلائه وهمومه، ومن هذه الحروف تتألف كلمات مخاطراته المخطوطة والممحية باعتبارها مواقف. وفي (مواقف ) النفري تآلفت حروف معاناته في نثر كلمات الاخلاص للحقيقة.
وهو اخلاص وجداني يبتديء بالسماع للحق وينتهي بخلق الأنا الكونية. وهو سماع يفترض إدراك المقام الحقيقي للروح المبدع باعتباره موقفا متحررا ملتزما تجاه كل جزيئات الوجود:
قال لي: أعرف مقامك مني،
وأقم فيه عندي!
فرأيت الكون كله،
جزئية في جزئية موصولة ومفصولة.
وهو سماع يحدد موقف المبدع في انتمائه الخالص للحق باضمحلال كل ها هو طاريء ومشروط وعرضي:
لا تجعل الكون من فوقك ولا من تحتك
ولا عن يمينك ولا عن شمالك
ولا في علمك ولا في وجدك
ولا في ذكرك ولا في فكرك
ولا تعلقه بصفة من صفاتك
ولا تعبر عنه بلغة من لغاتك
وأنظر إلي ! كيف كنت وكيف أكون
ولا يعني اسقاط الكون والصفات واللغات سوى جمعها وصهرها في النظر الى الحق، ومن خلال النظر الى ما كان ويكون لأن الحق هو الكائن والكينونة الخالدة في -اقف الصوفي و"محاكاته " فالحق يطالبه بالا يميل مع المائلات أيا كانت في المكان أو العلم والوجد والذكر والفكر والصفات واللغات أي انه يطالبه بالاستقامة في المواقف، أو ما أسماه النفري أيضا بحفظ المقام :
احفظ عليك مقامك
والا ماد بك كل شيء
مقامك هو الرؤية
فقفت في رؤيتي
وإلا اختطفك كل كون !
ولا يعني حفظ المقام سوى حفظ عهد الانتماء الحر للحق. لأنه يفترض الاقامة في رؤية الحق. فهو الشرط الوحيد الذي يحرر الانسان من الانسياق وراء كل ما هو طاريء. لأن الوجود هو تكون وتكوين دائمان. والانتماء الحقيقي له يفترض الرؤية الدائمة للحق فيه. والا تحول المبدع الى كيان تختطفه الكائنات. بينما جعل النفري من الواقف (المبدع ) ذاك الذي:
لا منظر في السماء يثبته
ولا مرجع في الأرض يقر فيه
لا بمعنى عدمه في فراغ الوجود، ولا تململه المعذب بين السماء والأرض، بل استقلا ليته الحرة، لأن الثبات في السماء أو الاستقرار في الأرض هما عبودية مقنعة و" مرض " الاختيار السيىء:
أوقفني في الاختيار
وقال لي: كلهم مرضى!
أي كل منهم مريض في اختياره لا يتجاوزه. لأنه اذا كانت استقلالية الموقف أو حريته الحقيقية تقوم في اختيار الحق، فإن حقيقة الاختيار هي في الحقيقة نفسها وفي صدق مكابدها. أنها كالباب في البوابة وكالحجارة في الطريق. فلا باب لها مستقل عنها ولا طريق لها غيرها. أن حقيقة الاختيار في اختيار الحقيقة. وهي المعادلة التي تكشف في أعماقها عن تناسق الروح المبدع في رؤيته للجمال والحياة باعتبارها كلا واحدا. فهي الرؤية التي توصله الى اكتشاف محدود يته ومن خلالها رؤية الابتسامة الخالدة للوجود:
أوقعني في الاختيار
وقال لي: كلهم مرضى!
ما لي باب ولا طريق
كلك خلق فماذا تروم ؟!
فرأيت السد قد أحاط بي
ورأيته في السد يضحك!
إن إحاطة الذات بذاتها (أو احاطة المبدع بذاته المبدعة ) تكشف له فيها قيمة المعنى الوجداني في تجاوز "الاختيار المريض " أو الجزئي والعابر. انها تكشف له عما في قيود الالتزام بالحقيقة من جمال كالذكرى في ذاكرة الأطفال والدعاء في صراخ النساء. أي قيود الوجدان المخلصة في معاناة اختيارها للحق :
اذكرني كما يذكرني الطفل
وادعني كما تدعوني المرأة
فهما الذكرى والدعوة اللتان تكشفان عما فيهما من "اختيار" سار في المعاناة (أو الحقيقة ) نفسها. إذ الابداع العظيم هو ابداع أطفال. ومن هنا فكرة الصوفية عن انهم "أطفال في حجر الحق " أي أطفال يلعبون في حضن الحقيقة أو المطلق إذ لا وجدان أصدق في دعوته من وجدان المرأة.
ان الانحلال التام في وجدان الحق (أو الحقيقة ) يصهر قيود الاختيار ويسكبها في موقف الوجوب المتسامي من خلال الاستماع الدائم للحق أو الاستماع الدائم له بإبداع الـ "نعم " أو الايجاب المتسامي:
ما سمعوا مني قط !
لو سمعوا مني ما قالوا: لا !
لأن الحقيقة "نعم " لا "لا".إذ الـ"لا" في أفضل أحوالها هي الرد المناسب على معاناة المواجهة (ردة الفعل ) لا مكابدة الابداع وتلقائيته الذاتية. أي أن كل ما يلزم الذات المبدعة هو حرق ذاتها الدائم في أتون الاخلاص للحقيقة :
المماليك في الجنة
والأحرار في النار!
فلا هدوء ولا وداعة في الابداع، بل نار عادتها صدق الوفاء للحق :
ما أنت في وجودك
أفي منك لي في عدمك
وهو وفاء يستمد وجوده من نفي الوسائط، لأن نفيها هو شرط الانحلال التام في وجدان الحق :
أليت لا أقبلك وأنت
ذو حسب أو نسب
فالتحرر من الأنساب والأسباب يعني البقاء في حيز الانتماء التام للحقيقة، أو في حيز الابداع الحق. فهو الأسلوب الذي يستجمع الذات في ابداعها ويحررها من رق الأقوال والأفعال الجزئية والمتجزئة :
حكم الأقوال والأفعال حكم الجدال والبلبال
وحكم الجدال والبلبال حكم المحال والزلزال
فإن جمعتك الأقوال فلا قرب
وإن جمعتك الأفعال فلا حب!
بينما حقيقة القرب والمحبة أو الانحلال الوجداني في معاناة الحق والحقيقة يستلزم صهر المتناقضات في الذات واعادة تكوينها (بنائها) في الرؤية الحية للأنا الكلية، مثل رؤية "خلاعة " الأنا في لباسها واستقرارها في استمراريتها وعملها في علمها وموتها في نومها وانبعاثها في يقظتها وبالعكس إذ:
المشاهد الذي به تلبس هو الشاهد الذي به تنزع
والمشاهد الذي به تستمر هو الشاهد الذي به تستقر
والمشاهد الذي به تعلم هو الشاهد الذي به تعمل
والمشاهد الذي به تنام هو الشاهد الذي به تموت
والمشاهد الذي به تستيقظ هو الشاهد الذي به تبعث
أي رؤية الأبعاد المعنوية المتوحدة في الأقوال والأفعال (أو الابداع ككل ). فاللبس هو النزع سواء في الباطن أو الظاهر، أو الروح والجسد، كما أن شهود الاستمرار، سواء في الأفعال أو المواقف، هو عين الثبات فيها. وينطبق هذا على العلم، بمعنى أن حقيقته وقدره مجسدان في العمل. إذ الابداع عمل وقدره وعظمته على قدر ما فيه من علم أو اخلاص للحقيقة. والنوم واليقظة هما الموت والانبعاث بمعايير الرمز والواقع والضرورة والواجب.
ان رؤية الأبعاد المعنوية المتوحدة في الابداع ككل تؤدي بالضرورة الى بلوغ حقيقة كون الانسان (المبدع ) هو معنى الكون : أنت معنى الكون.
وهو المعنى الممكن في حالة تمثل وتمشيا الفكرة القائلة بأن :
الحقيقة وصف الحق
والحقيقة أنا !
الهوامش:
ا – لكل ثقافة إسراؤها الخاص بها. باعتباره الصيغة المتسامية لغاياتها العملية. وقد أبدعت الثقافة الاسلامية على نموذج توحيدها واعتدالها الصيغة المتسامية للاسراء المادي والمعنوي (النبوي) حيث حولت إسراء النبي الى إسراء وجودها التاريخي. مما أعطى للجميع صيغة النماذج المثلى في الفلسفة والكلام والتصوف والأدب والفقه والسياسة لكل يحاكي كل واحد ما هو مناسب له. أي أنه أعطى للجميع إمكانية التغلغل في الماضي والمستقبل وتوليفهما في الابداع المباشر.
2- ابدعت الثقافة الاسلامية نماذج مثلى عديدة. وتمثل التصوف في مساره التاريخي احد نماذجها بالنسبة للمريدين فيما أسماه بأسماء الله الحسنى. وجسدها بصيغ يصعب حصرها، ولكنها صبت جميعا في رفد عوالم الروى المبدع وسوف أكتفي هنا بتحليل نموذجين منها على مثال استنطاق كلمة الروح في مثال الاخلاص عند التستري. وفي استنطاق روح الكلمة في المواقف عند النفري. ففي تجربة كل صوفي نموذج للتعبير عن أسراره. ومثال للحقت المعلقة لسيرهم جميعا في طريق الحق.
3- التستري هو ابن محمد سهل بن عبدالله (توفي ما بين 273، 285) ويعتبر من أئمة الصوفية وبالاخص فيما يتعلق في المعاملات والورع، أي في السلوك الصوفي. وهو صاحب أفكار جديدة في التصوف أثرت بشكل كبير على تعميق اتجاهاته الباطنية والفكرية. وليس صدفة ان يتحول الى مصدر تأثر به كبار الشيوخ الصوفية كالغزالي وابن عربي.
4 – يمكن أن يوصلنا جمع وتدقيق آراء التستري عن المقامات الى إقراره بسبع مقامات هي التوبة والزهد والفقر والصبر والخوف (والرجاء) والتوكل والمحبة. غير أن ذلك يبقى فرضية ليس لها الا معناها الرمزي المتمثل في أن ارتقاء النفس يستلزم منها بالضرورة، كما في كل ابداع حق، إرادة النفي الدائم من أجل بلوغ حقائقها. وهذه الحقائق بدورها ليست إلا التجلي الأمكر للا بداع.
5- تروي الكتب الصوفية كيف كان يكثر النظر الى صلاة خاله محمد بن سوار، الذي اضطر مرة لأن يقول له : شغلت قلبي عن الصلاة !. ثم استفسر منه ان كان يذكر الله الذي خلقه، فتساءل التستري عن كيفية ذكره، عندها قال له خاله : "قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك، آلله معي، الله ناظر الي، الله شاهدي." فإذا سهل يردد ذلك ليالي، ثم أخذ خاله يزيدها الى سبع ثم الى أحدى عشرة مرة. وبعد مرور سنة، قال له خاله "احفظ ما علمتك ودم عليه الى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة.." واستمر على ذلك الى أن قال له خاله بعد سنين :أيا سهل من كان الله معه، ناظر اليه وشاهده ايعصيه ؟ إذن إياك والمعصية :
عندئذ أخذ بالخلوة وحفظ القرآن والصوم وهو ابن ست سنوات، الى أن شاهد للمرة الأولى سجود قلبه وهو في عمر يناهز الثالثة عشرة. وبحث وقتها عمن يفسر له ذلك الى أن عثر في عباد ان عند الشيخ ابن حبيب العباداني في اجابته الشهيرة عن ان المقصود بذلك هو سجود القلب الى الأبد.
وقد شكل ذلك مقدمة سلوكه الخاص في تربية الإرادة المبنية، كما يقول الغزالي، على مذهب البصريين بتضعيف النفس بالجوع وكسر الشهوات ولهذا كان يقتات في هدايته بورق النبق ثم أكل دقاق التين (والذي استمر عليه ثلاث سنين ). ثم ترقى الى أن أصبح قوته، كما يقول عن نفسه في كل سنة ثلاثة دراهم، يأخذ بدرهم دبسا وبدرهم دقيق الأرز وبدرهم سمنا ويخلط الجميع
ويصنع ثلاثمائة وستين كرة. ويأخذ في كل ليلة كرة "يفطر عليها". ثم جعل قوته بعد ذلك خبز الشعير يفطر عند السحر على أوقية كل ليلة بدون ملح ولا أدم. ثم أخذ يفطر كل ثلاث ليال مرة واحدة " ثم كل خمس ثم سبع ثم كل خمس وعشرين، واستمر على ذلك عشرين سنة. ثم ساح في الأرض سنين ورجع بعدها الى تستر. وهي الحصيلة التي وضعها في سلوكا (طريقة ) القائلة بأن ذرة أعمال القلوب (مثل الصبر والتوكل والرضا) أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، ولهذا قال : "علل الأجسام رحمة وعلل القلوب عقوبة " وجعل منها شعاره القائل : "الأصل الذي أدعو اليه قولي : اتقوا يوما لا ليلة بعده وموتا لا حياة بعده :"
6- لقد نسقت وسلسلت العبارات المنسوبة للتستري بالشكل الذي يستجيب في منطقا الداخلي لتجانس الفكرة. ومن الممكن أن يكون التستري قد قال هذه العبارات في أوقات مختلفة، إذ لا ضرورة ملزمة في تسلسلها الآنف الذكر. سيما وأن هناك صيفا أخرى تختلف عما هو وارد سواء من حيث الاضافة أو الحذف، كما في العبارة المتعلقة بالعلم، والقائلة بأن "للعلم سرا لو ظهر لبطت النبوة ه،"أن للنبوة سرا لو ظهر لبطلت الأحكام ". واذا كانت العبارات السابقة من جمع ابن عربي" فإن الغزالي أوردها بالشكل التالي :"اللالوهية سر لو انكشف لبطت النبوات، وللنبوات سر لو انكشف لبطر العلم، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام "، وفسرها بالشكل الذي يستجيب للمهمات العملية والنظرية لمنظومته الفكرية، إذ تناولها ضمن تأويله لفكرة إفشاء السر. ولهذا طالب بأن يفهم كلام التستري "على ما يقدر لا على ما يوجد". ولهذا قرن التستري انكشاف السر بكلمة "لو". أي أنه تناولها في إطار "تحييده " ولع العوام فيما لا يعنيها. وهي فكرة لها قيمتها وفاعليتها العملية _الاخلاقية من حيث قدرتها على تحييد الخلافات المتعلقة بالأمور التي لا شأن للعوام بها غر قضايا الالهيات وما وراء الطبيعة وما شابه ذلك، وأعطى لآراء التستري معناها الذي ينبغي أن يخدم جمع الهموم العملية ووحدة الجماعة. أما ابن عربي فقد فسرما ضمن إطار رؤيته لعلاقة الظهور والزوال، أي أنه نظر الى "لو ظهر" لمعنى «لو زال ». ووضع هذا التأويل اللغوي في نظراته الى ماهية الربوبية والألوهية فا لألوهية هي مرتبة للذات لا يستحقها إلا ائه. والمذلوه يطلبها وهي تطلبه، بينما الذات (الالهية ) غنية عن ذلك، وبالتالي "لو ظهر" (أو زال ) هذا السر الرابط لبطلت الألوهية بوصفها درجة أو مرتبة ولم يبطل كمال الذات، (أي بقاء الله معزولا عن العالم ). وينطبق هذا على سر الربوبية، فالكون مرتبط، كما يقول ابن عربي، بات ارتباطا لا انفكاك عنه. ولو تجلى لانسان هذا الارتباط وعرف من هذا التجلي وجوب به، وانه لا يثبت لمطوبه (وهو الحق ) هذه الرتبة إلا به وانه سرها، الذي لو بطل لبطت الربوبية، وذلك الحال بالنسبة للنبوة، بمعنى أن بطلانها متعلق ببطلان سرها. فسر الحق لو ظهر لبطر الاختصاص (إذ سيكون معلوما للجميع ) وبما أن النبوة اختصاص (ببعض دون آخر) لهذا تبطر النبوة ببطلان هذا الاختصاص.
7- ان تجربة الاخلاص التسترية هي تجربة الروح المبدع أولا وقبل كل شيء. لأنها تعبر في معاييره عن المواقف الفردانية المتراكمة في طريق الاخلاص للحقيقة. ومن هنا دحصانتهادد الثقافية ورز انتها العلمية، بفضل تكثيفها المعنى الحر في حكمة الانتماء للكل الثقافي (الاسلامي). ولهذا استقت أبعد المعاني وأكثرها خيالا من كلها الثقافي ورتبتها في سلسلة التوكيد الدائم عل أن المعرفة (الحقة ) تثبت بذاتها، ولهذا كان بإمكانه أن يتوصل الى أن :
علامة حب الله حب القرآن
وعلامة حب القرآن حب النبي
وعلامة حب النبي حب السنة
وعلامة حب السنة حب الآخرة
وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا
وعلامة بغض الدنيا الا يأخذ منها إلا زادا وبلغة للآخرة.
لقد كشف في موقفه هذا عن أن معنى الثبات بالذات هو التلقائية الحية للمواقف، والتي يستحيل بناء منطقها المتجانس خارج «آلية » الثقافة ومعاناة إشكالياتها ومثلها الكبرى.
ميثم الجناني (مفكر عربي مقيم في موسكو)