لعل الميزة الوحيدة في ذلك التحول السبعيني حياة أمتنا هو ما أفرزه من انتاج فني على صعيد الأنواع الأدبية، التي حاولت مقاومة الانهيار القومي العام، وطرحت رؤاها التصادمية مع الواقع، وطورت من أدواتها وأساليبها التقنية، واستدعت ما انطمر من موروث شعبي وتاريخي، ودخلت عوالم جديدة لم تدخلها من قبل، ولعل الرواية هي لأكثر تعبيرا -لما تتيحه من امكانيات متنوعة -عن ذلك التحول في الواقع وفي الكتابة.
فرواية الغربة سبعينية في زمانها، نفطية في مكانها، صحراوية في أفقها الجمالي، وهي في الوقت نفسه رواية سيرية وتاريخية، واقعها أسطوري أبطالها شعبيون، مثقفها متردد. مهزوم عاجز، مطارد، يستعين بالحكي على الشفاء من سموم السبعينات القاتلة، وتشكل المفارقة الساخرة قاسما مشتركا أسلوبيا لهذا النوع من الروايات، كما عند (منيف والكوني والفقيه وابراهيم عبدالمجيد وفتحي امبابي وأخيرا محمد العمري) في روايته (اهبطوا مصر).
وثمة نموذجان في الرواية المصرية – قبل العمري– دخلا منطقة الغربة (العربية / العربية ) الأول نموذج فتحي امبابي في رواية (مراعي القتل ) والذي فر أبطاله غريا الى ليبيا، والثاني ابراهيم عبدالمجيد في روايته (البلدة الأخرى) حيث كانت غربته في النفط الشرقي، مثلما عند العمري (اهبطوا مصر) لكن بطل (امبابى) الفلاح مقتول في الغربة وفي الوطن، أما بطلا عبد الجبيد والعمري فهما مثقفان واعيان للتناقض الدائر حولهما، وفي لحظة الذروة أو (العقدة ) يفر البطلان الى مصر بالطائرة وهما ينشدان،… " تحيا مصر.. أم الدنيا".. على طريقة المثل القائل : "من رأى بلوة غيره كانت عليه بلوته".
ورواية العمري تحاول أن تصل – بالتناقض – الى حقيقة أن المشروع الستيني القومي هو الملاذ والحلم، وهو موقف يتشابه مع كثيرين من النخبة العربية التي كانت تنتقد – بحدة – التجربة الناصرية، لكنهم بعد أن جربوا البدائل والمشاريع المضادة، عاد الحلم القومي يتوهج أكثر في مواقفهم وكتاباتهم، وابداعات الرواية عموما.
لكن المشكلة في رواية (اهبطوا مصر) أن البطل اسارد لم يتخل عن (ما سبقاته ) الجاهزة قبل الولوج الى تجربة الغربة، أي أنه واع تماما بالتناقض قبل رؤيته على الطبيعة، وموقفه معروف تماما قبل السفر، فليس ثمة صدمة أو دهشة، لأن قدرات بطه المثقف التحليلية، وتفوقه المهني، حالتا دون استسلامه لواقع الغربة فالبطل السار- صاحب السيرة – عكس هيمنة المؤلف على النص فهو موجود قبل النص، وهو بطر السرد والسارد معا،.. وتتأكد الماسبقات في وحدات القص الأول في مطار القاهرة، فأول ما لفت نظر البطل (عمرو الشرنوبي) في الطائرة، رؤيته.. (لذقن طويلة للجالس بجواره، بدت مجدولة ومضفرة بسلوك من ذهب، يضع سواكا في فمه، ينظر خلسة الى ساقي المضيفة، صاعدا الى فخذيها تجلس بجواره فتاة صغيرة تقاطيعها مصرية )… ورأى البطل – أيضا لابسي الجلاليب البيضاء في كافتيريا المطار، ولا ينسى البطل قبيل رحلته أن يحمل معه بعضا من تراب مصر، ليشمه، في غربته ويستشعر فيه رائحة الوطن.
وبالتالي فالتغريبة لم تفرز جديدا مدهشا لوعي السارد، بل جاءت تأكيدا لمفهوماته السابقة، وان كانت قد أضافت للمتلقي وعيا مخلفا وتجربة جديدة.
والروائي يحتشد – في الأجزاء الأولى – بوعيه وقدرات بطله – ويمهد لحكايته بنوع من القداسة، في استخدامه آيات القرآن الكريم الدالة، في العنوان والمقدمات، ليعطي لتغريبته طابعا مهيبا، وليتقمص بطله شخصية أبي زيد الهلالي حينا، ودون كيخوتي حينا آخر.
ويحاول الراوي – أيضا – أسطرة حكاية واضفاء الطابع الأسطوري على المكان والزمان، لكي تكتمل فانتازيا الرحلة، ولكن حشد المفاهيم والأدوات والأقنعة – على هذا النحو – لم يخف وجه السارد الحقيقي، ولا المكان والزمان الحقيقيين،..
والكاتب يتنازعه – في الرواية – همان، الأول : هم تسجيل التغريبة بطريقة واقعية تماما، والثاني : هم الرغبة في محو هذه الرحلة من ذاكر ته باسرع وقت، ففي مشهد النهاية، حين يغفو البطل في المطار في طريق عودته للقاهرة (يرى اللهب يحرق كل شيء خلفه من مطار «جارثيا» الى مطار القاهرة، نيران في البحر،ونيران في الصحراء وفي الطائرة )… إذن هو – بعقله الباطن – يريد أن يحرق هذه المرحلة من حياته، ولكن بعد أن اطمأن على تسجيلها بكامل وعيه وبالمشاعر الملتهبة التي احترقت بنار التجربة النفطية..
أما أقنعة الروائية التي تحدثنا عنها، فأولها – في ظني – محاولة اختفاء الراوي المؤلف في الراوي السارد تحت قناع ضمير الغائب والوجه الحقيقي – في ظني أيضا – هو أنها رواية سيرة ذاتية بكل ما تعنيه رواية السيرة، وهذا التأويل من جانبي- ليس له علاقة بالمؤلف الحقيقي، بل بنمط وأسلوبية السرد في روايات السيرة الذاتية، أما القناع الثاني، فهو قناع الأسطورة الذي حاول أن يخفي به المكان حين سماه (جارثيا) لكنه في وصف المكان تحدث عن الشعائر والاحرام والمطوعين والزي والعادات واللهجة والجغرافيا والتاريخ ونطاع الكفيل، والدور المصري والتكية المصرية، فسقط القناع الأسطوري من تلقاء، نفسه، فللميثولوجيا معنيان، معنى تاريخي بالغ في القدم يرتبط بالخرافات التقليدية للشعوب، والذي عبر عنه (فراي) حين قال عنه : انها الأفعال التي تقع في نطاق الرغبة الانسانية والتي نحاول أن نلصقها بالآلهة القديمة، وثمة معنى حديث، في إطار علاقة الميثولوجيا بالأيديولوجية – بمعنى أنها حيازة خاصة بمجتمع البرجوازية كي يتسنى لها اخفاء ممارساتها الثقافية، بإدعائها أن هذه الممارسات كونية وطبيعية، وبالطبع لا يقصد المؤلف المعنى القديم للاسطورة ونحن نفهمها كجزء من السيمولوجيا في إطار علاقة الدال بالمدلول.
… وبالتالي فالرواية رواية سيرة ذاتية واقعية تحاول فلق جمالياتها الخاصة من نقطة التناقض والمفارقة، وهي معالجة جريئة – بدون تورية وأقنعة – لمجتمع النفط وللمأزق السبعيني الذي مازال ينتج منظومته الخاصة.
وهى رواية اجتماعية دراسية،، بمعنى وجود الزمان والمكان والشخصيات والحكي، والترتيب الزمني في الرواية – متصل يتوازن فيه زمن الحكي بزمن الحكاية، ويتناوب المكان والزمان، فرض سلطتهما على الأحداث، تتخلل الأحلام وحدات السرد ويسري (المونولوج الداخلي ) وقيمة (الفلاش باك ) في الحكي السردي والوصفي، والشخصيات – كما في الرواية الاجتماعية – ذات طبيعة مستديرة ومركبة، لها أوجه عديدة، فالرواية تريد أن تعكس صورة المجتمع في حالتي الغربة والوطن،وصورة الفرد في حالتي الثبات والاهتزاز، والرواية (درامية ) بمعنى أن الصفات التي تتصف بها الشخصيات، في مراحلها المختلفة – هي التي تقرر الأفعال والأفعال بدورها مي التي تطور الشخصيات، أما -في الوحدات السردية المتعلقة بالوطن، فسلطة المكان تمارس تأثيرها الميتافيزيقي على المجتمع والشخصيات، رغم كل ما يحدث، وما يمكن أن يحدث فعبقرية المكان (النيل – الوادي-التاريخ ) هي التي تنتصر في النهاية.
وقد نجح الكاتب في الافلات من وعيه بتوجيه كل الطاقة الشعورية الساخنة والساخرة في قصه، والتي جاءت تعبيرا عن الكتابة حينها تتحول الى لحظة تطهير كبرى، تغتسل فيها الذاكرة من ادران التجارب.
وتتحول الرواية الى دال رمزي معادل لتناقض الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فحرب البطل معادل لحرب الوطن.. فلم يكن صدفة -مثلا. أن أحداث الرواية تبدأ في تمام الساعة الثانية من صباح يوم السادس من أكتوبر، وهو تاريخ يمل دالا متعدد المدلولات، فربما كان تعبيرا عن ساعة صفر البطل في حربه مع الغربة والتناقضات السبعينية، أو أن التاريخ تعبير عن أن لحظة الانتصار هي المرادف دائما لمعنى الولاء للوطن، في مقابل سنين الانكسار التي عاناها في غربته، ربما-أيضا-أن التاريخ -على هذا النحو-كان تعبيرا عن أن الحصاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لنصر أكتوبر كان صفرا كبيرا، ملا الحياة من حولنا بالمرارة والشتات وأسلمنا لهزائم سياسية لا حصر لها.
ولا تغيب عن الراوي، فكرة خلق إطار رومانسي ملحمي لأحداث الرواية، كما يحدث في القص الشعبي والتاريخي بل والفلسفي الصوفي – فالبطل – بالعربي – هو قير الجديد الذي هام بليلى – الجديدة – وشففها حبا وقد سماها بليلى وهي قصة حب سبعينية حاول فيها البطل (عمرو الشر نوبي) تحقيق حلمه بشكل مركب، تتماهى فيا قصة حبه لليلى مع انتمائه للمشروع القومي الستيني، ويجيء الانكسار العام مرادفا أو مؤشرا لانهيار حلمه الخاص، فحينما خرج قيس من داره قل مقداره ففقد ليلى والمشروع معا، ليلى التي أحبته وذابت فيه عشقا ترفضا، بعد أن لوثته الغربة، واستسلامه لقوانينها، أما هي فقد ظلت على كبريائها وصمودها، فسقوط الحبيب (عمرو) أو (قيس ) لم يعد يؤهله للجدارة بها، فليل تكره المنكسرين وهي لا تتزوج من (ورد) أيضا ولا كف ضفائرها إلا على من يواجه ويقاوم وليس شرطا أن ينتصر، الشرط هو الا ينكسر.
أما ليلى (الغربة ) والتي أعطى لها اسم (آمال ) وجعلها سلواه في غربته، وحاول البطل -بوعيه – إيجاد مسوغ موضوعي لخيانته لليلى (الوطن ) بعلاقته مع آمال، فصورها على أنها كنز أنثوي بدوي لا يجد من ينهله، وجعلها متمردة على تقاليد مجتمعها التي يرفضها وعي قيس (عمرو)، بل وجعلها تنتمي الى عالة معارضة للأسرة الحاكمة لحساب دولة المشروع الناصري، ومع ذلك فقد ظلت هذه العلاقة خيانة مريحة لليلى المصرية، كما كانت التغريبة نوعا من الخيانة للمقاومين الرافضين في الوطن، مما جعل دلالة الانتصار في الرواية والرؤية تنحصر في مجرد الهبوط في مطار القاهرة، بعد أن كان البطل يحلم بليلى والمشروع والعودة بغنيمة النفط.
أما بنية السرد فقد هيمن عليها عنصران : الأول وهو المفارقة، والمفارقة أسلوبية خاصة، فهي كعب دورا كالذي يلعبه المجاز في الشعر، ولذلك فهي أقرب أسلوبيا الى الشعرية، كما حدث في أجزاء كثيرة من رواية (اهبطوا مصر)..
والمفارقة الرئيسية تكمن في حركة الشخوص المتأرجحة بين العلو والانخفاض في اتجاه مضاد لمستوى رقي السلوك الحضاري في مصر فالصراع قائم – دائما -بين قيم الحضر وقيم البداوة، ولعل تلك المفارقة المركزية هي التي شكلت بنية السرد على امتداد العمل.
وفي قراءة هذا النمط الأسلوبي لا يمكننا الاكتفاء بالمعنى الحرفي المباشر والا صرنا ساذجين، فالشيخ – في الرواية -ليس شيخا، ولا الشريف شريفا، ولا خضر ولا أماني ولا عمرو ولا بيت الأرامل.. ولا المهندس، مهندسا ولآ السوق سوقا ولا السينما سينما.. الخ كل أسماء الشخصيات والأماكن، بل والتاريخ والجغرافيا حتى المناخ فبالرغم من الحرارة واللزوجة الشديدة التي سيطرت على مناخ العمل الا أن اللحظة الفاصلة بين التكييف والجو العادي تصنع مفارقة تؤدي الى معجزات نفسية وبيولوجية.
ومن سمات هذه الاسلوبية سمتان الأول : هي السكوت عن تفاصيل كثيرة، نفهمها ضمنا، لأنه يكفي أن نتعرف على أنماط الشخصيات لكي ندرك ماذا يمكن أن تصنعا أو تسلكا دون مباشرة.
أما السمة الثانية فهي الشعرية، وقد سيطرت الشعرية على كثير من وحدات السرد ولعل ابلغها ذلك المشهد للمتظاهرين حول الكعكة الحجرية في ميدان التحرير (1977) وكيف أن النيل قد فاض عليهم وأنبت قمحا على الأجساد والميادين وفوق الرؤوس والحوائط، فحجب القمح الطائرات ودخان القنابل، وأطلع على الناس شمسا باذغة غير مخنوقة.
ويتجلى عنصر (الايقاعية ) في البنية السر دية، ليعبر عن درجة السرعة في نمو الأحداث – رغم محدودية المكان والشخوص -وقد أحدث ذلك التدفق الايقاعي نوعا من الفاعلية الجمالية في مقابل السياسي في الرواية.
وقد اهتم الكاتب بخلق متوازيات دراسية ايقاعية ليعوض بها فقر الأحداث والأماكن، فالشخوص تتحرك من الداخل الى الخارج بطريقة عنيفة ومتلاحقة في الوقت الذي يكون فيه الخارج ساكنا رتيبا، كما حدث في حلقة المصارعة ولعب الكرة في المكاتب.
وقد سيطرت الجملة الفعلية الماضية القصيرة واللاهثة على بنية الحكي حتى في الوحدات السردية الوصفية، لكي يصنع توازنا في الزمن الروائي، ولكي يخفى أثر الأسلوب التقريري الخبري الذي يفرضه هذا النمط من الحكي السيري.
ولأن مجتمع البداوة فقير في مرموزاته الطبيعية، ولأن الكاتب لم يحاول النفاذ من القشرة الخارجية للمجتمع الى طبقاته الجيولوجية التي تشكل انسان المكان عبر التاريخ، وهي الصورة الأكثر صفاء في التخوم لا في المدينة – محور الرواية – كما يعبر عنها (المحيميد وعبده خال ) والكثير من الكتابات التي تكتب عن المكان من الداخل لا من الخارج.
لهذين السببين بالاضافة الى الوعي السابق على الكتابة، لم ير الراوي السارد في مجتمع البداوة ظلا رمزيا أو موضوعيا سوى صورة يتيمة لشجرة وحيدة نبتت في صحراء (جارثيا) وهذه الشجرة الوحيدة زرعت في الستينات، واعتبرتها البلدية بستانا قوميا ومزارا سياحيا.
لكن الحقيقة -ذات الأوجه المتعددة غالبا- قدمها لنا (العمري) من زاويته، وقدمها لنا آخرون من زوايا أخرى، لكن تظل رواية (اهبطوا مصر) إحدى الثمرات الابداعية لمرحلة الغربة في المكان والزمان. وتعبيرا عن نفاذ الأزمة الى تلافيف الوعي والوجدان.
عزازي علي عزازي( كاتب من مصر)