كانت تعلم أن انتظارها في المحطة سوف يطول، ومع ذلك فقد ظلت «بالو» مركزةً بصرها نحو الطريق. لا تَنبتُ الأشجار على جانبي الطريق هنا، حيث الأرض في صلابة الصخر. أما الحقول فقد هجرها الفلاحون بعد انتهاء موسم الحصاد. الأرض الممتدة من حولها بدت جافة وقاحلة. خاليةً من مظاهر الحياة عدا الطريق الطويل الذي يمتد إلى ما لا نهاية كأنه شريط أسود ممتد نحو الأفق. كوخ خشبي صغير ينتصب بالقرب منها أُسنِدت إلى جداره جرتان كبيرتان. وإلى الجدار أيضاً أسند عجوزٌ رأسه وغط في نوم عميق. وفي ظل الكوخ قرفص متسولٌ هزيلٌ مُركّزاً بصره على يد بالو. وبالقرب من المتسول ربض كلبٌ – مُركزاً هو الآخر بصره على نفس اليد. أما يد بالو التي كانت الأعين تتفحصها فقد كانت تمسك ببعض «التشاباتي» الملفوف في طرف شالِها. لقد كانت تحمل غداءَ زوجها «سوتشا سينج» سائق الحافلة. لكنها اليومَ تأخرت عن موعدها المعتاد، والحافلة غادرت المحطة ولابد أن تنتظر عودتها ثانيةً. «من المؤكد أن سوتشا سينج غاضب الآن»، فكّرت بالو. ثم إنها لا بد أن تعود إلى المنزل وترجع ثانيةً إلى هنا بالعَشَاء قبل موعد وصول الحافلة القادمة من «جُلُندُر». لم تتأخر أبداً هذا الأسبوع سوى اليوم. عندما تتأخر عن موعدها يُضطر سوتشا سينج إلى تأخير انطلاق الحافلة من المحطة متعللاً بسببٍ ما يختلقهُ للركّاب في كل مرة. لكنه كذلك كان لا يدخر وسعاً في توبيخها: «أنا موظف حكومي ولست خادماً عند أبيك».
لكنها اليوم تأخرت عدّة ساعات. وهي الآن تعاقِب نفسها بالجلوس والانتظار في المحطة ظنّاً منها أن ذلك قد يقلل من حدّة غضب سوتشا سينج. كيف يمكن لها أن تبرر تأخرها وتتجنب غضبه الحاد الذي تعرفه؟ لكن «ﭼانجي» أيضاً سريعُ الغضب، وفوق ذلك فهو لا يتوانى عن استعمال الفأس. سُمعَتُه سيئةٌ للغاية. لقد اختطف في السنة الفائتة الفتاةَ التي كانت تكنس الطريق في القرية وباعَها. ثم قتل الكاهن في نفس القرية. الكل يخشاه ويتجنبه. واليوم تجرأ وتحرش بـ «جِندان». جِندان المراهقة ذات الأربع عشرة سنة، التي كان قبل فترة قصيرة يناديها ابنتي. كانت جِندان في طريقها لجلب الحطب من بيت «نانتي» التي تسكن في أطراف القرية، عندما هاجمها ﭼانجي. لقد عادت اليوم إلى البيت خالية اليدين، شاحبة الوجه ومرعوبة.
«لن أخرجَ من البيت بعد اليوم»، قررتْ جِندان. «ذلك الوغد ﭼانجي دعاني للدخول إلى بيته. قال إنه سيقدّم لي كوبا من العصير، ثم بدأ يتودد إليّ ويقول لي أنني جميلة».
«فليذهب إلى أمه العاهرة. ألا يجدها جميلةً هي الأخرى»، أجابت بالو بغضب. «أتمنى أن يصيبه العمى. لو كان له بنتٌ، لكانت في مثل سنك. وبماذا أجبتِهِ انت؟»
«لا أريد أن أشرب العصير يا عمي. هذا ما قلته».
لكنه توسل إليّ قائلاً: «رشفة واحدة فقط. جرّبي. ستبقى ذكرى رشفةٍ واحدةٍ من عصير عمك عالقةً في ذاكرتك طويلاً. ثم أمسك ذراعي، لكنني قاومته وهربت. فلتُدَمره الآلهة.»
«وهل كرر محاولته؟» سألت بالو.
«بعدما أفلتُّ من قبضته قال: «إنني أمازحك يا ابنتي. إذا لم تعودي فسوف أخبر أختك بأنك بنت متمردة لا تحترم الكبار».
«سوف أخبر سوتشا عما حدث»، بادرتها بالو. «ألا يعلم هذا الفاجر أن جندان هي أخت زوجة سوتشا سينج ـ سائق الحافلة؟»
بسبب هذه الحادثة تأخرت بالو اليوم. فبعدما انتهت من تهدئة جندان، حضّرت الوعاء النحاسي الخاص بغداء زوجها ووضعت فيه التشاباتي ومرقة البطاطس ومخلل المانجا. لكن الساعة حينها كانت قد تجاوزت الثالثة.
«أرجوك لا تتأخري فأنا خائفة»، قالت لها جندان مودّعة.
«خائفة؟» ردّت بالو بنبرة مِلؤها التحدي. «ومن يجرؤ على التعرض لك بسوء؟ سترين كيف يبتلع سوتشا سينج هذا الـ ﭼانجي حيّاً عندما أخبره. تأكدي من إحكام إغلاق الباب من الداخل بعد خروجي. وأخبري ﭼانجي – إن هو جاء في طلبي – أنني ذهبت لإحضار سوتشا سينج.»
ظِلُّ الكوخ يزداد تمدداً وبالو ماتزال في مكانها. التفتت نحو المتسوّل تسأله:
«أخي، هل تعلم متى غادرت الحافلةُ المحطّةَ آخر مرة؟»
«لا أعلم يا أختاه.» أجاب المتسول. «الحافلات تصل المحطة وتغادرها دائماً، ولا أحد يهمّه الوقت.»
كان سوتشا سينج – بكل نواقصه – عالمَها الوحيد. كان يشتمها ويضربها. لكنه كان يعطيها عشرينا رُبيّة من راتبه كل شهر. وكان دائم التذمر من مشاركة أختها جندان لهم في مسكنهم. لكنه مع ذلك اشترى لها قبل شهر عقداً زجاجياً وقطعة قماش قطنية.
انتشلها من أفكارها صوت حافلة تقترب من المحطة في سحب كثيفة من الغبار. كانت تعلم أنها ليست حافلة سوتشا سينج، ومع ذلك ظلت تراقبها حتى توقفت في المحطة. نزل راكب يحمل حزمة بصل في يده. سألته:
«أخي. متى تصل الحافلة القادمة من ناكودار؟»
«الحافلات تتوقف هنا كل ثلاثين دقيقة. إلى أين تودّين الذهاب يا أختاه؟»
«لا أود الذهاب إلى أي مكان. أنا أنتظر زوجي سوتشا سينج – سائقَ الحافلة. جِئتُه بالغداء.»
«آه.. سوتشا سينج!» ردّ الرجل بابتسامة ذات مغزى.
«هل تعرفه؟» سألت بالو.
«ومن لا يعرفه في ناكودار!»
شعرت بالو من نبرته بعدم الرغبة في مواصلة الحوار.
«ربما يصل سوتشا سينج في الحافلة القادمة. ما أقساهُ! كيف يجعلك تنتظرينه هكذا؟» أضاف الرجل.
«لا شأن لك بهذا الأمر.» ردّت بالو بِحدّة. «لم تكن غلطتُه. لقد تأخرت أنا في الحضور وفاتتني الحافلة. المسكين! لابد انه يتضور جوعاً الآن.»
«يتضور جوعا؟ مَن؟ سوتشا؟» ابتسم الرجل مُكشراً عن أسنان صفراء.
أدارت بالو وجهها بعيداً.
وصلت حافلة أخرى، في سحب جديدة من الغبار. رأت وجه زوجها خلف المقود وقد احمر غضباً. رفعت الوعاء النحاسي. توقفت الحافلة فركضت نحو مقدمتها.
«سوتشا»، صاحت بالو رافعة الوعاء النحاسي عالياً. «سوتشا سينج. أرجوك خذ».
«اغربي عن وجهي، لا وقت لدي». أجابها سوتشا.
«أرجوك، انزل من الحافلة ولو للحظة واستمع لما سأقول. لقد حدث أمر فظيع، وإلاّ لما تأخرت عليك». قالت بالو.
«لا تثرثري كثيراً. تنحّي عن الحافلة». أجابها سوتشا، ثم سأل عامل المحطة إن كان بإمكانه مواصلة السير.
«سوتشا سينج. لقد انتظرتك هنا مدة ساعتين». قالت بالو بتوسل. «ارجوك انزل واستمع إليّ. اللعنة على ﭼانجي. هو الذي تسبب في كل هذا. أرجوك.. اصرخ في وجهي، وبّخني، ولكن انزل وخذ طعامك. وعندما تعود إلى البيت يوم الثلاثاء سأخبرك بالتفاصيل».
«لم يعد لي بيت. سيصلك يوم الثلاثاء ….». وأدار محرك الحافلة وهو يتمتم بشتائم بذيئة.
«أرجوك. فقط استمع لما أقول»، قالت بالو باكية وهي تنظر إلى الحافلة تنطلق مخلفة سحابة كثيفة من الغبار.
تمددت ظلال الأشياء أكثر فأكثر. ومعها تمدد ظل بالو. وغادر المكان العجوز المستند على جدار الكوخ، ثم تبعه المتسول مخلفاً وراءه كلبه. ومن الحقول الجافة القريبة تناءى إلى الاسماع صوت صبي يردد أغنية عاطفية اخترقت روح بالو. لقد سمعت هذه الأغنية من قبل. سمعتها وهي طفلة ثم سمعتها وهي فتاة يافعة. كان يغنيها في الحقول بصوته الجميل شاب يدعى لالي. لقد سمعتها عشرات المرات. تذكرت حينها ليلة زفافها لسوتشا سينج وصوت صديقتها بارو التي تغنّت بالكثير من الأغنيات ليلتها.
«آه يا بنيّتي.. أيّ نوع من الأزواج تتمنّين
قمراً بين النجوم
كريشنا بين البشر»
لم تكن قد رأت سوتشا سينج قبل الزواج. لكنها تصورته وسيماً – تماما كما وصفته الأغنية. وفي تلك الليلة، عندما أزاح الغطاء عن وجهها تيقنت أن البطل الذي طالما حلمت به واقف أمامها. وعندما لمست يده وجهها تحركت في جسدها آلاف الأحاسيس. ثم بعدما استقرت في حضنه قال لها: «أنت ماسة متلألئة. أنت جوهرة.»
«بالو، لقد حل الظلام. عودي إلى البيت.» قال لها العجوز قبل أن يغادر.
«أخي.. متى ستعود الحافلة من جُلُندر؟» ردّت عليه بالو.
«لا أعلم. إلى متى ستظلين منتظرة؟»
«لابد أن يأكل شيئاً.»
«لو كان يحتاج إلى الأكل لأخذه منك عندما توقف»
لكن بالو كانت قد قررت مواصلة الانتظار. كما قررت كذلك عدم التحدث مع سوتشا سينج عن ﭼانجي. لربما يقتتلان. لقد سمعته يقول بأنه لن يعود إلى البيت يوم الثلاثاء. ماذا لو كان حقّاً يعني ما قاله؟ ماذا لو لم يعد أبداً إلى البيت؟ أحست برعشة تسري في جسدها. تذكرت أن لوتوسينج هجر زوجته وغادر القرية. لقد قاست الزوجة الأمرين بعد فراقه لها. ثم أنهت معاناتها بأن رمت بنفسها في البئر.
قرفصت بالو أرضاً بعدما شعرت بالألم في قدميها. خيّم الظلام والسكون على المكان. توقفت في المحطة حافلةٌ ثم غادرت. ثم توقفت أخرى وغادرت. مازالت في انتظار الحافلة القادمة من جُلُندر. بدأ جفناها يثقلان من شدّة التعب والنعاس. تجتهد بين الفينة والأخرى في فتح عينيها لترى الظلام وقد ازداد حلكة، لتعود وتغلقهما ثانية. فجأة وقفت منتصبة ظنّاً منها أن الحافلة قد وصلت، ثم عادت تقرفص ثانية. أخذتها غفوة. رأت في منامها بيتها وقد تكومت جندان خائفةً في إحدى زواياه. سمعت قرعاً على الباب، وجندان – بوجهها الشاحب – تستغيث:
«أرجوك يا أختاه لا تذهبي. لا تذهبي وتتركيني وحيدة»
ثم رأت الثور وهو يدور حول الساقية والأجراس المعلقة في رقبته ترن. وسمعت الصبي يتغنى بتلك الاغنية العاطفية وهو يجلس تحت شجرة.
هبت الريح قويةً وأسقطت الإناء من يدها، وهي ما تزال غارقة في حلمها. سمعت جندان تصرخ ثانية: «لماذا تركتني وحدي؟»
استفاقت فجأة على يد تلمس كتفها. استدارت.
«سوتشا سينج!» شهقت وهي تفرك عينيها.
«أما زلتِ هنا؟» سأل وهو يجلس بالقرب منها. رأت الحافلة تقف أمام الكوخ خالية من الركاب.
«كان لا بد أن أنتظر حتى أسلّمك إناء الطعام. لقد غفوتُ قليلاً. يالَحظّي السيّئ! هل انتظرتني طويلاً حتى أفقت؟»
«لقد وصلتُ للتو. ما أنتِ سوى مغفّلة حتى تنتظريني كل هذا الوقت.»
«ماذا كنت تريدني أن أفعل بعدما أخبرتني بأنك لن تعود إلى البيت؟» ردت وهي تحبس الدموع في عينيها.
«إعطيني الإناء وعودي إلى البيت. لابد أن جندان تجلس هناك وحدها خائفة.» أجابها وهو يربّت على يدها.
تناولت الإناء الساقط على الأرض لتكتشف أنه خال من الطعام. لا وجود للتشاباتي ولا لمرقة البطاطس. لقد أكل الكلب ما تناثر من طعام إثر سقوط الإناء من يدها وهي نائمة. شتمت الكلب. ضحك سوتشا سينج قائلاً: «لا بأس. الرّب كريم.»
اغرورقت عيناها بالدموع. وقفت ممسكة بالإناء وقد تملكها شعور بالحسرة.
«هيا. ماذا تنتظرين؟» قال سوتشا سينج. ثم لَفّ ذراعه حول خصرها ومشى معها نحو الحافلة. مشت معه بهدوء. قفز إلى كرسيّه خلف مقود الحافلة. قالت له وهو يهم بإدارة المحرك:
«سوتشا سينج! هل ستعود إلى البيت غداً؟»
«طبعاً سأعود. هل تريدينني أن أحضر لك شيئاً من المدينة؟»
«لا. لا أريد شيئاً.»
أدار سوتشا سينج المحرك. مسّد شعر لحيته وشاربه. تجشأ. ثم قال وهو يلتفت نحوها:
«آه صحيح، ماذا بشأن ﭼانجي؟ ماذا كنت تحاولين إخباري عنه؟
«لا شيء لا شيء. المهم أنك ستعود إلى البيت غداً، أليس كذلك؟»
«عودي إلى البيت بسرعة. الطريق أمامك طويل.»
«سوتشا سينج.. غداً عيد ميلاد الكاهن. سوف أحضر معي بعض الحلوى.»
«فليتبارك الرّب.» صرخ سوتشا سينج
تحركت الحافلة مسرعة مُخلّفة وراءها بالو في سحابة من الأتربة. مسحت عينيها بطرف شالها ووقفت محدقة في أضواء الحافلة التي اختفت رويداً رويداً في الظلام.
المصدر: (أفضل القصص الهندية القصيرة)
الجزء الثاني- تحرير: كوشوانت سينج
الناشر: هاربر كولينز – الهند (٢٠٠٣)
موهَن راكيش
ترجمة: سعيد الريامي *