1-اشكالية النوع والتهجين السردي
السيرة الروائية ممارسة ابداعية مهجنة من فنين سردين معروفين: السيرة والرواية. لا يقصد بالتهجين معنى سلبيا، إنما التركيب الذي يستمد عناصره، من مرجعيات معروفة، واعادة صوغها وفق قواعد مغايرة، في السيرة الروائية يدمج الخطاب بين الروائي والراوي، فهما مكونان متلازمان لعلامة جديدة هي "السيرة الروائية". لا يفارق الراوي مرويه، لا يجافيه، لا يتنكر له إنما يتماهى معه يصوغه ويعيد انتاجه طبقا لشروط مختلفة عن شروط الرواية والسيرة.
والسيرة الروائية هي "نوع" من السرد الكثيف الذي يتقابل فيه الراوي والروائي، ويندرجان معا في تداخل مستمر ولا نهائي، يكون الروائي مصدرا لتخيلات الراوي، الكيان الجسدي والنفسي والذهني للروائي يشرح، ويعاد تركيبه، التجربة الذاتية تشحن بالتخيل، توفر هذه الممارسة الابداعية حرية غير محدودة في تقليب التجربة الشخصية للروائي، واعادة صوغ الوقائع واحتمالاتها، وكل وجوهها، دون خوف من الوصف المحايد والبارد للتجربة، ولا الانقطاع التخييلي عنها، وبشكل من الاشكال فإن السيرة الروائية هي سرد ذاتي مباشر، حتى لو استعان الراوي بالصيغ الموضوعية، هنالك باستمرار خرق لتجربة الروائي الذاتية، اذ يمارس الاغواء فعله دون مواربة، في نوع من الكشف الداخلي الجريء النادر. ان صيغ الوعظ والاستعلاء والنبذ والاستبعاد والخفض لا تجد لها مستندات تمنحها الشرعية. ولا توفر امكانية لأي شيء سوى الذات، وما يمر عبر منظورها. اذ كل شيء يستمد أهميته وشرعيته الفنية بمقدار اتصاله بالذات الخاصة بالروائي، فرؤيته تشع دائما فتضفي على الآخرين أهمية، ليس لأحد من استقلال وقيمة إلا بمقدار ما يقرره السرد الذي يتمركز حول شخصية واحد: الروائي الذي يصبح محورا مركزيا في النص.
يقتضي الحديث عن السيرة الروائية الاشارة الى أهمية التجربة الذاتية المستعادة والمصاغة صوغا فنيا مخصوصا يناسب متطلبات السرد والتخيل ومقتضياتهما، ذلك أن المادة التي يفترض أن تكون حقيقية وأصلية، الا يمكن أن تحتفظ بذلك، فما إن تصبح موضوعا للسرد الا ويعاد انتاجها طبقا لشروط تختلف عن شروط تكونها قبل أن تندرج في سياق التشكيل الفني، وعليه لا يمكن الحديث أبدا عن مطابقة حرفية ومباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة المؤلف الذاتية والوقائع الفنية المتصلة بسيرة الشخصية الرئيسية في النص، هنالك تداخلات كثيرة، فالوسيط وهو السرد هنا، يعيد ترتيب العلاقة بما يوافق العالم الفني الجديد، اننا يمكن أن نحيل على وقائع خارج نصية استنادا الى الاشارات المعترف بها كالتواريخ والوثائق والأحداث، لكن تلك الوقائع، صيغت وانتجت، لتكون عناصر في نظام مغاير، مع أنها مازالت توحي اذا قرئت في ضوء مرجعيات محددة بتلك الأحداث والوقائع، ومهما يكن من أمر، فإنه يلزم التأكيد أن الأهمية في موضوع السيرة الروائية لا تتجه الى البحث المباشر عن المطابقة بين الشخصية الواقعية وسيرتها والشخصية وقد أصبحت عنصرا في تكوين فني آخر، إنما يظهر الاهتمام بكيفيات الاستثمار ودرجات الاستلهام، ومع الأخذ بالاعتبار الاكراهات والأنزياحات التي تلازم كل تحول من حالة الى حالة أخرى، وهي تغييرات يفرضها تداخل أساليب السرد، ونظام الأزمنة، والضمائر، والاسماء، والرؤى والمنظورات، فاستعادة تاريخ حياة، تخضع في الغالب لشروط زمن الاستعادة، ووعي المستعيد ووجهة نظره، ومستلزمات التعبير عن ذلك، أكثر مما تخضع لشروط المسار التاريخي الحقيقي لتلك الحياة، ذلت أنه في الأدب لا نكون أبدا بإزاء أحداث أو وقائع خام وإنما بإزاء أحداث تقدم لنا على نحو معين، فرؤيتان مختلفتان لواقعة واحدة تجعلان منها واقعتين متمايزتين، ويتحدد كل مظهر من مظاهر موضوع واحد بحسب الرؤية التي تقدمه لنا (1).
وذلك يفضي الى التأكيد أن أمر المطابقة الكاملة بين الوقائع التاريخية والوقائع النصية في السيرة الروائية مستبعد، ولا يفضي الى نتيجة مفيدة لكل من التاريخ والسيرة والرواية.
2- التداخلات النصية: ميثاق السيرة الذاتية وميثاق الرواية
على خلفية التاريخ الأدبي لكل من الرواية والسيرة يحدد "جورج ماي" علاقات التداخل والتخارج بين هذين النوعين الأدبيين. فيذهب الى أن السيرة قد استثمرت أساليب السرد التي أشاعتها الرواية، ولكن الرواية قد استثمرت بدرجة واضحة السرد المباشر الذي يعتمد على ضمير المتكلم، وهو أسلوب ظهرت بذوره في المذكرات، وسرعان ما دفعت به الرواية الى مركز الاهتمام، وأصبح جاهزا لأن يعاد استخدامه وبتنوع شديد الثراء في السيرة وهنا يلاحظ عمق الاقتباس والملاقحة، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فالرواية والسيرة ربطهما جامع مشترك آخر، وهو أن فصيلة كاملة من الروايات قد حذت حذو السيرة في أن احداثها تتمركز حول شخصية، والاختلاف فيما اذا كانت الشخصية حقيقية أو خيالية، أو شخصية الكاتب أو غيره يبدو أقل أهمية، فيما لو تم الأخذ
بالاعتبار الخصائص النوعية لكل منهما (2). إن فصيلة روايات الشخصية الواحدة، تجد نفسها، مهما اعترضتها من صعاب، شديدة القرب الى السيرة، فكلاهما يعنيان بشخصية مركزية. على ألا يفهم من ذلك أن الرواية انما هي هذه الفصيلة، إذ أن هذه المماثلات لاتحجب ان الرواية على العموم تتنازعها عدة انتماءات، حدث يؤطر أفعال الشخصيات، أو شخصيات متضافرة في علاقتها ترفد الحدث بأفعالها، فيما السيرة تقترن بحياة فرد، وعبر منظوره الشخصي تتشكل الحيوات الأخرى. وعلى الرغم مما يمكن عده تمايزا بينهما، فإن ذلك التمايز لا يخفض من درجة التفاعل المستمر بين الاثنين، وصيغة السرد المباشر انما هي احدى الخصائص التي تصلهما ببعضهما. صحيح ان مسار التلقي يدفع سلسلة من الاختلافات، من ذلك أن أفق انتظار القاريء يحدد نوع التلقي، ففي نهاية الأمر، لا يمكن لأحد أن يخرق قناعات المتلقي، في ان الرواية عمل متخيل، والسيرة وثيقة لها بعد واقعي، ذلك الأفق بما يرتبه من هواجس، يوجه سير القراءة الى هدف محدد في أثناء قراءة كل من الرواية والسيرة، وعلى أية حال، لا يمكن تخطي الاستعدادات القرائية للمتلقي، انه فيما يخص الرواية يندفع للتماهي مع تجربة خيالية، ولكنه في السيرة مدفوع بفضول معرفة حقيقة ما حصل للآخرين، والخلاف حول درجلا استثمار الجانب الشخصي في حياة الروائيين لتكون مغذيات في نصوصهم. مازال يستأثر بالاهتمام، ويلاقي نوعا من القبول أحيانا من لدن القراء والنقاد على حد سواء، وهنا لا يمكن اغفال درجات التمويه والتضليل الضرورية في كل فن، تلك الممارسات التنكرية التي تكتسب شرعيتها لأنها تندرج في سياق فعل ابداعي. يصوغ "ماي " (3) نسق العلاقات الجامع بين الرواية والسيرة الذاتية استنادا الى درجة حضور أو غياب التجارب الحقيقية في النصوص ويفترض وجود سلم من الألوان المعبرة رمزيا عن تلك العلاقات، سلم تندرج فيه الألوان من البنفسجي الى الأحمر. ففي الرقعة الأولى البنفسجية توضع الروايات التي يكون حضور شخصية الأديب فيها حضورا ضعيفا جدا وهي ما يصطلح عليها بالروايات التاريخية مثال ذلك "الفرسان الثلاثة" و "الحرب والسلم" وتأتي مباشرة بعد هذه الرقعة رقعة ثانية نيلية اللون نجد فيها الروايات الشخصية أو السيرية التي مدارها تطور شخصية رئيسة، لكن هذه الشخصية الرئيسة بعيدة عن شخصية الكاتب، بعدا يمنعنا من أن نعتبرها صورة منه، ومثال ذلك "أوجيني غرانده" وفي الرقعة الثالثة ذات اللون الأزرق توضع روايات السيرة الذاتية المكتوبة بضمير الغائب، ومدارها على شخصية رئيسة، لكنها بخلاف روايات الرقعة السابقة، تكون الشخصية المركزية هنا صورة للكاتب تكاد تكون مطابقة له، وهنا يمكن ادراج رواية "مدام بوفاري"، بدلالة تأكيد فلوبير بأنه هي. ويمكن أن توضع في الرقعة الرابعة ذات اللون الأخضر رواية السيرة الذاتية المكتوبة بضمير المتكلم، وتصلح رواية "اعترافات فتى العصر" نموذجا يبرهن على هذا الشكل من أشكال الرواية، وفي الرقعة الخامسة الصفراء توضع السيرة الذاتية الروائية وهي لا تنتسب الى الرواية، انما تنتسب الى السيرة الذاتية، وان شابها لا محالة قسط من الخيال الكبير، كما يلاحظ في كتابات "رستيف" و"بانيول" و"لامارتين". أما الرقعة السادسة ذات اللون البرتقالي فهي خاصة بالسيرة الذاتية التي يستخدم كاتبها اسما مستعارا. كما عمل "اناتول فرائس" في رباعيته "نوزيار" وأخيرا في الرقعة السابعة ذات اللون الأحمر نجد السيرة الذاتية التي تصرح بأسماء أصحابها وتتطرق الى وقائع مطابقة لما حصل حقيقة في الواقع الذي عاشه كتابها. وأمثلتها كثيرة، إذ تندرج فيها كثير من "قصص الحياة".
يمكن اعادة صوغ رقع الألوان المتدرجة التي ترمز بها "ماي" الى مسار التعبير السردي من الروايات التاريخية اذ تتوافر درجة الموضوعية بعيدا عن ذات المؤلف وصولا الى السيرة الذاتية الصريحة بالأفعال والأسماء، بواسطة الشكل الآتي:
اللون
البنفسجي
النيلي
الأزرق
الأخضر
الأصفر
البرتقالي
الأحمر
نوع الكتابة
الروايات التاريخية
روايات الشخصية المركزية
روايات السير بضمير الغائب
روايات السيرة بضمير المتكلم
السيرة الذاتية الروائية
السيرة الذاتية باسم مستعار
السيرة الذاتية باسم صريح
يلاحظ أن مسار التدرج المتجه من اليمين الى اليسار يأخذ في الاعتبار مجموعة من العناصر، فاتباع المسار من بدايته الى نهايته يكشف تضاؤلا لا يخفي للخواص الموضوعية وحضورا متدرجا للخصائص الذاتية التي تبلغ أوجها في السيرة الذاتية التي تصرح باسم صاحبها وكل ما يتصل به من أفعال ويتساوق مع كل ذلك استبعاد متدرج لأساليب السرد غير المباشرة، وحضور متدرج لأساليب السرد المباشرة، سواء أعان ذلك بالكشف التدريجي عن الذات الكاتبة بوصفها المركز الذي تتبلور حوله الأحداث أم بالظهور المتدرج للصيغ التعبيرية المباشرة. الى ذلك يلاحظ أن مفاصل التداخل الحقيقية بين الرواية والسيرة تنحصر في الرقع الزرقاء والخضراء والصفراء، لكن الحد الفاصل بينهما يقع بالضبط بين الرقعتين الخضراء والصفراء، ففي الأولى مازالت الرواية هي النوع المهيمن وفي الثانية يغيب النوع الروائي لتظهر "السيرة الذاتية الروائية". أي السيرة التي تستعير كثيرا من مستلزمات الرواية.
تستمد "السيرة الروائية" عناصرها اذن من "الرواية" ومن "السيرة الذاتية". انها تنحت وجودها مجازيا بينهما، ولكن لنقف قبل كل شيء على ما يميز كلا منهما.
يرى فيليب لوجون بان السيرة الذاتية سرد نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص. وذلك حينما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخه الشخصي(4). ويضيف انه لكي تكون هناك سيرة ذاتية يجب أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والراوي والشخصية، وذلك يتحقق إما بصورة ضمنية وذلك بالتصريح الواضح ان النص سيرة ذاتية، وهذا شكل أول والشكل الثاني أن يتقدم الراوي بجملة التزامات للقاريء بأنه سيتصرف على أنه المؤلف، بحيث لا يترك تأكيده أي شك في أنه يحيل على المؤلف المثبت اسمه على غلاف الكتاب، أو بصورة جلية وذلك من خلال التطابق الواضح في كل شيء بين الراوي والشخصية، بما فيه – وهذا أهم ركن – أن يكون الراوي هو الشخصية، وهاتان هما الطريقتان للتطابق، وفي الغالب يتم دمج الطريقتين معا. وهذه البراهين تكون كافية لابرام عقد بين القاريء والنص يثبت بأن ما يقرأه القاريء هو سيرة ذاتية، وهو ما يصطلح عليه لوجون "ميثاق السيرة الذاتية". وبازاء هذا الميثاق يصبح من اللازم الاعلان عن "الميثاق الروائي". أي العقد الذي يضبط مسار تلقي القاريء ويوجهه ناحية اعتبار النص رواية،وهنا يقدم لرجون مظهرين لذلك الميثاق، أولهما اعلان عدم التطابق بين المؤلف والشخصية في الاسم، وثانيهما التصريح بالتخيل، وغالبا ما يكون ذلك من خلال مصطلح "رواية" الذي يعبر عن وظيفة أساسية في اعتبار النص تخيلا.(5).
لا يفترض عدم تطابق الميثاقين تقاطعهما، وعليه لا يمكن أن توضع السيرة الذاتية والرواية في تقاطع، من ناحية عامة يصح الحديث عن نوع من التوازي الذي لا يتنكر للتداخل ولا يرفضه، ولا يعده إثما، هنالك في كل أثر أدبي سردي درجة من حضور العنصر الذاتي، سواء تم الأمر على مستوى الرؤية والمنظور أو تم على مستوى الصيغة والاسلوب أو تم على مستوى مكونات المتن السردي، ولكن من المفيد التقيد الآن بعدم التطابق بين السيرة الذاتية والرواية،دون القول بالتعارض ء فلتكن السيرة الذاتية "خبرا" بالمعنى البلاغي، بما يفهم امكانية التدقيق فيما وراء النص، ولتكن الرواية نوعا من "الانشاء" بالمعنى نفسه. إن الامكانية المنطقية لدمجهما تفضي الى دمج "الخبر" بـ "الانشاء" وانتاج نص خبر – انشائي، هو "السيرة الروائية".
3- الرواية العربية واستثمار التجربة الذاتية
نشأت الرواية العربية الحديثة في محضن التجارب الذاتية، سواء أعانت تلك التجارب وقائع واحداثا، أم سيرا وتاريخا شخصيا، ام تأملات ومواقف فكرية، ومن الطبيعي ان تدمج هذه المعطيات لحظة التشكيل السردي بالتخيل الروائي الذي هو شرط لازم لأي انشاء يندرج ضمن النوع الروائي، وهذا التأكيد لا يأخذ معناه الدقيق، ولا يكتسب عث سروعيته النقدية الا اذا أخذنا في الاعتبار أن "التجارب الذاتية" بكل تنوعاتها ومكوناتها وعناصرها وأمشاجها الوقائعية أو الفكرية كانت تستثمر بوصفها مكونات جزئية في بناء عالم متخيل شامل، وتوظف حينما يعاد انتاجها طبقا لمقتضيات ذلك العالم وحاجاته الفنية، فالمادة الذاتية تندمج في المادة التخيلية مشكلة المتن الذي يؤلف نسيج العمل الروائي، ومع ذلك فإن هذا العالم المجازي لا يتقبل أحيانا كل اجزاء تلك المادة فتظهر أفكار الروائي على لسان الروائي بما يشكل نوعا من السرد الكثيف الذي يفصل نسبيا بين الراوي وما يروى ويظهر الراوي بوصفه قناعا للروائي، ولكنه قناع يفضح اكثر مما يخفي، ذلك أن بعض الروائيين يكونون أكثر ميلا، وهم تحت ضغط تجاربهم الذاتية والفكرية، لخرق السياج الذي يحتمي خلفه الراوي فتنهار الحواجز بين الروائي والراوي، فتطفو على السطح نبذ من تجارب الروائيين، وشذرات من أفكارهم، وفي حالة كون التجربة شديدة الحضور، يواكب السرد مسارها، ويقدمها بكل تشعباتها، ومن الطبيعي أن تتباين درجات الافادة من تلك التجارب بين روائي وأخر، ففي رواية "زينب" لهيكل، التي كانت منذ مطلع القرن العشرين مثار جدل واسع ومتنوع في كل بحث يعنى بقضية الريادة في تاريخ الرواية العربية، ولا يخفى التطابق بين شخصية بطل الرواية "حامد" وهيكل المؤلف الشاب آنذاك، وبخاصة التأملات الفكرية التي تقتحم مسار السرد، وتعوم فوق الأحداث، وتوافق منظور هيكل الفكري، على أنه لم يمض وقت طويل إلا وقد شاع ما هو أكثر من ذلك، فالمماثلة بين ابراهيم المازني وبطل روايته "ابراهيم الكاتب" كانت مثار تشخيص من النقد، وبعدها بسنوات قليلة أعاد طه حسين جانبا من تجربته في "أديب"، في عمل مختلف عن المسار الذاتي المباشر الذي استخدمه في "الأيام" وسرعان ما اقحم توفيق الحكيم، بعد ذلك بقليل، المكون السيري كمادة في أعماله الروائية، كما هو الأمر في "عصفور من الشرق" و "يوميات نائب في الأرياف". ومع أن نجيب محفوظ كان يوارب في منح الجانب الذاتي سلطة الاعلان عن نفسه، فإن منظوره الفكري يتغلغل، ويبرز أحيانا، في "الثلاثية" و " أولاد حارتنا" و "اللص والكلاب" و " ثرثرة فوق النيل" و "حب تحت المطر"، ويفصح عن نفسه كمحصلة للتجربة الابداعية والذاتية في "أصداء السيرة الذاتية". وفي مرحلة لاحقة، وجد كثير من الروائيين العرب في استخدام تجاربهم محاور لرواياتهم قضية تتصل بتكونهم وانتماءاتهم ومعاناتهم ومنافيهم، واختلفت بين روائي وآخر الكيفيات التي أعيد بها بناء تلك التجارب، وعلى العموم فإنها شكلت خلفيات لا يمكن اختزالها بأي معنى من المعاني لدى جبرا ابراهيم جبرا في "صيادون في شارع ضيق" و "البحث عن وليد مسعود"، وسهيل ادريس في "الحي اللاتيني" وصنع الله ابراهيم في "تلك الرائحة و "نجمة أغسطس" وغالب هلسا في "الروائيين" و "سلطانة" وعبدالرحمن الربيعي في "الوشم". وادوار الخراط في "يا بنات اسكندرية"، ولا يمكن اخفاء تلك الانساخ في روايات الطيب صالح وابراهيم الكوني وفؤاد التكرلي وأحمد ابراهيم الفقيه والطاهر وطار وسليم بركات واسماعيل فهد اسماعيل وبهاء طاهر وعبدالرحمن منيف وغيرهم. وتكشف هذه اللائحة التي تعرض جانبا من جهود الروائيين العرب، بهدف التمثيل وليس الاحصاء والتدقيق، ان المكون الذاتي مارس حضورا "فاعلا" في المادة الروائية، وان ذلك المكون ظل يزداد حضورا وبروزا مع التطور التاريخي والفني للرواية العربية، الأمر الذي أدى الى ظهور مساحة كبيرة بين ما يمكن اعتباره رواية محضة، وما يمكن اعتباره سيرة ذاتية، آخذين بالاعتبار الخصائص المسر دية لهذين النوعين الادبيين، هذه المساحة استنبت فيها ضرب جديد من الممارسة الكتابية، ممارسة كتابية مهجنة من مصدرين أساسيين هما الرواية والسيرة الذاتية. وهذا التهجين الذي ركبت عناصره بنجاح، استأثر باهتمام بعض الروائيين العرب، فمازجوا ونوعوا بين المكونات الذاتية والمكونات التخيلية، فأثمرت الملاقحة كتابة جديدة، هي "السيرة الروائية"، التي نحاول فيما يأتي الوقوف على بعض نماذجها، في محاولة لالتماس خصائصها السردية والنوعية.
4- سيرة الجسد: الاكتشاف والانتهاك
يعيد محمد شكري من القسمين اللذين نشرا من سيرته "الخبز الحافي " (6) و"الشطار"(7). استكشاف مرحلة من تكونه الجسدي والفكري، ويبدو الانهمام في الاول طاغيا، فيما لا يستأثر الآخر إلا بأهمية ثانوية، تكاد تطمسها هيمنة الجسد الذي بشكل مكونا مركزيا في النص، ويقوم محمد شكري بعملية مزدوجة: انه من جهة يتابع تكونه الجسدي، ومن جهة ثانية يستكشف وظائفه ورموزه و تضاريسه، وتمارس اللغة لعبة استرجاع ذكية، فهي تستحضر وقائع مضت لكنها تعيد انتاجها وكأنها تقع الآن، وهذه اللعبة لا تخفي أمر الاسترجاع، فوعي محمد شكري المؤلف فيها لا يتطابق مع وعيه حينما عاشها طفلا وشابا ورجلا، وهذا لا يستبعد المهارة التي بها تمت عملية الاسترجاع الى درجة يظهر التماهي كبيرا بين ما هو عليه الآن وما كان، وهذه الحركة المكوكية حول الذات جعلت المؤلف يوظف الاسلوب الروائي وتقنيات السرد الحديثة، وبخاصة المشاهد السردية- الحوارية في اضفاء بعد روائي على سيرته. فيظهر من جهة وثائقية أكثر طموحا من سيرة مباشرة وأقل تطلعا من رواية، ذلك انه يستثمر تقنيات السيرة الذاتية والرواية، ولعل ما يلاحظ أن درجة التخيل تؤدي وظيفة فنية لصالح الجانب الوثائقي السيري، مع انها مستعارة لتؤدي وظيفة مضادة. فالمشاهد المصاغة صوغا روائيا تعمق الاحساس لدى القاريء بواقعية الحدث لأنها تركز على التفاصيل الجزئيه والدقيقة في المشهد السردي، يمارس التخيل وظيفة تقرير الأشياء بدل الايحاء بها، ومع أن المؤلف يبدي حرصا لا يخفى في تضاعيف النص بتاريخية تجربته، ولكنه لا يقع ضحية اغواء التوثيق، ان التجربة ذاتها تسترجع بوصفها مكونا فنيا مزج بأصل واقعي تدخل فيه المؤلف، فأخضعه لسلسلة من الانكسارات بما يوافق الوسط التخيلي الذي يظهر فيه، ومع ان الارتباك في تسمية النص ظهر واضحا في القسمين، إذ الأول وصف بأنه " سيرة ذاتية روائية" والثاني "رواية". فإن تكرار الاشارة الى السمة الروائية يدعم ما أشرنا إليه من توافر للجانب التخيلي، على أن ذلك لا يلغي العنصر السيري في النص الذي هو المدار الأساسي فيه، وأثره في اعطاء صورة مقربة عن الأحداث.
لا ينكر شكري أنه يستعيد ما كان قد عرفه في طفولته، وتلك الاستعادة تخضع لانطباع تلك المرحلة التي تشكلت فيها الصورة، وهو يستعين بالتخيل لتقريب الصورة التي كان قد رآها. وهو يشير الى ذلك في "الشطار"، فما إن يزوره المستشرق الياباني " نوتا هارا " الذي يعمل على ترجمة "الخبز الحافي" عام 1995 إلا ويطلب اليه أن يرافقه في زيارة الأماكن التي وصفها في "الخبز الحافي"، ويقوده شكري من تطوان باتجاه طنجة، وأول ما يشاهدان
"الصهريج" الذي وصفه في "الخبز الحافي ". وهنا يفاجأ الياباني قائلا "في كتابك تصف هذا الصهريج، وما حوله بكثير من الجمال، مع أنه ليس كذلك، ولا يدل على أنه كان جميلا" وكان رد شكري "هذه هي مهمة الفن: أن نجمل الحياة في أقبح صورها. ان هذا الصهريج انطبع في ذهن طفولتي جميلا ولابد لي من أن استعيده بنفس الإنطباع حتى ولو كان بركة من الوحل، ثم إنني كنت بعيدا عنه زمنيا، ومكانيا، عندما وصفته " (8). رؤية الصهريج من قبل شكري كانت في الاربعينات من القرن العشرين، وهو يعيد تركيب تلك الرؤية في مطلع السبعينات حينما كتب "الخبز الحافي"، ويرافق الياباني لرؤية الصهريج في عام 1995 وهو يكتب "الشطار". الياباني يبحث عن المطابقة فيما شكري لا يحرص كثيرا على ذلك. فهو يعيد انتاج حياته وتجاربه ومشاهداته كما يعتقد أنها كانت عليه في لحظة تشكلها. إن سيرة شكري الروائية تحتفي بالتشرد، وتدمج أحزانه بأفراحه، وتظهر الذات كأنها نهر ينساب في تضاريس وعرة وشاقة، تلتف وتدور ولكنها تتقدم، تخترق الزمان أحيانا، إذ تسبقه، ولكنها سرعان ما تعود وتندرج في مساره الخطى، والنص يخرقما بصراحته القاسية كل ضروب المواربة والتقنع، ويطعن التصورات السائدة عن التكون الذاتي للفرد، تلك التصورات التي تختزله في الغالب الى مكون شفاف وأثيري، وفي تضاعيف الأحداث التي يكون مدارها الراوي- الروائي، ومع مرور الزمن يلاحظ تطور المنظور الذاتي للعالم الذي تتحرك فيه الشخصية الرئيسية شخصية المؤلف. وهو ينقب، متسلحا بالرغبة الساخرة ولذة الاكتشاف، في الطبقات المنسية والمهملة والمسكوت عنها في تاريخ حياته وجسده وعلاقاته الاجتماعية، على أن الفكاهة المرة، والنقد الجذري التهكمي، لم يكونا حكرا على مسيرة محمد شكري الروائية وحدها.
إنما في "بيضة النعامة" (9) ينجز رؤوف مسعد سيرة روائية انتهاكية، ثمة افعال انتهاكية تنتظم النص من أوله، إذ يفتتح بممارسة جنسية شاذة تدل على انتهاك عرف أخلاقي، ويختتم بمشهد العودة الى الطبيعة في بكارتها الأولى، وهو انتهاك للثقافة. وبين الافتتاح والختام، يكون نص "بيضة النعامة" نفسه في تعارض بنائي وأسلوبي ودلالي مع قواعد النوع الروائي النوع السيري، لكنه ينتزع من خضم تلك التعارضات هويته النصية بوصفه سيرة روائية يتمثل الخروج على النوع الروائي بتهشيم متقصد للبناء التقليدي، وحساراته الزمنية والمكانية، ولطرائق السرد الشائعة التي تحل محلها باقة متنوعة من المستندات الشخصية كالمذكرات والسيرة والمدونات الذاتية والتجارب والاسفار والرحلات، وكل هذه المكونات تندرج في النص بلا نظام، لكنها تضفي عليه تنوعا باهرا، فالتقدم والارتداد وقوة الاستكشاف، والانعطافات الحسية، والعلاقات الجنسية التي تعرض بلا مواربة، تتناثر هنا وهناك، وجميعها أفعال انتهاكية جريئة، يعاد انتاجها بوصفها عناصر من سيرة ذاتية استكملت شروطها التاريخية، وانجزت ذاتها في الزمان، ولم يعد الخداع ممكنا في عرضها طبقا لشروط الاعراف الاجتماعية. ويحوم السرد سواء أكان وثيقة شخصية أم تخيلا متصلا بتجربة ما، حول الجسد الذي يمارس فعله الملهم في نظم كل الأحداث والوقائع، فالجسد الذي يمارس الاكتشاف أو ينتظره يفضح التواطؤ الأخلاقي حوله، ويطمح الى حرية لا خداع فيها، يريد الجسد ان ينتهك العبودية المفروضة عليه، وكل الأطر والحواجز التي تؤطره وتحتجزه وتختزله الى عورة، والنص سعيا لتحقيق هذا الهدف ينتهك كل المحرمات الي تحول دون ذلك، بما فيها السرد التقليدي الذي يتحرج من الاقتراب الى حالة الجسد الانسانية، فيهمشه ألى أوجاع عاطفية ووجدانية وانفعالية وهنالك خروج على السيرة بوصفها تجربة اعتبارية.
يتركز نص "بيضة النعامة" حول التجربة الذاتية لرؤوف مسعد، التي تعرض بلا ادعاء ولا غواية ايديولوجية، يريد المؤلف ان يبحث في مشكلة الجسد، وذلك يقتضي كتابة تاريخ روائي لجسده هو الذي يكون حضوره ميهمنا منذ الطفولة، فالمنفى، فالسجون، والكتابة عن الجسد واكتشافه في ضوء خبرة مغايرة للاعراف القائمة أمر يدرج هو ذاته ضمن الانتهاك، والى ذلك يشير المؤلف بوضوح في تصدير الكتاب، حينما يسخر قائلا انه يقترف خطيئة اخراج هذا النص الى الوجود، الذي قد يضعه تحت طائلة مسؤولية جنائية باعتباره "كتابة ابداعية ايروتيكية" (10).
يتوحد الراوي مع الشخصية التي هي المؤلف، فيظهر الثلاثة في كل واحد بحثا عن الطبيعة الغامضة والمتموجة والوعرة للجسد، الى درجة يمكن تجاوزا القول فيها أن "بيضة النعامة"، سيرة جسد. تتضاءل الأشياء في العالم إلا بما لها علاقة بالجسد وتظهر ممارساته المثلية أو السوية بوصفها جزءا من تاريخية وجوده الطبيعي، ليس ثمة حرج، اذ لا خوف ولا مواربة. والنص يطور تمجيدا متصاعدا لمبدأ اللذة، وتبجيل لا للمتعة، وهو لا يخوض جدلا حول ذلك، ولا يعرض حججا. انما ينهمك بالفعل الجسدي، وكأن الجسد يكتب تجربته ويمحوها ويعيد كتابتها، ولهذا فالنص لا يوقر الذاكرة، ولا يعطي أهمية تذكر لثقافة اجتماعيه ترسبت فيها ضغوط قاهرة وقامعة، يتفكه بسخرية من ذلك، اذ يطرح فعل الجسد في عنفوانه المتنوع.
يقترح النص حلا لمشكلة الجسد وهو الطبيعة. وهذا الحل لايفهم إلا في ضوء مشكلة الجسد منذ بدايتها، حيث الثقافة الكنسية التي لها منظورها الخاص لتلك المشكلة، وهكذا يعلن الجسد تمرده على "ثقافة الكنيسة" وعلى الثقافة الأوسع التي تحتضنها، هذا الأمر يحتاج الى انتهاك مستمر يواظب النص على الاعلاء من شأنه، وما ان يخرج رؤوف مسعد من سيطرة الأسوة الكنسية، إلا ويجد نفسه في نزاع مع أسرة الثقافة التقليدية، ومهما تنوعت التجارب وتعددت، فالحلم يقوده في نهاية المطاف الى الطبيعة حيث لا ثقافة تضمر في تضاعيفها اقصاء للجسد، وهنالك في جبل اسمه امرأة، يقال له "جبل مره" تقوده الفتيات، عذراوات الطبيعة، الى الدرب الذي كان قد ضيعه، وعلى سفح ذلك الجبل يمارس فعله الانساني: الحب والكتابة.
هاتان السيرتان الروائيتان، يمكن النظر إليهما، بوصفهما نصين ينتهكان فعلا العرف الموروث الذي يرى في وصف التجربة الذاتية قضية اعتبارية تتصل بفعل رمزي وهو استرجاع تكون الذات في ضوء وعي مغاير لما كانت عليه الذات في رحلة تدرجها الزمني، وذلك ما سنقف عليه في الفقرة الآتية استنادا الى نجيب محفوظ وحنا مينة.
5- الأصداء الذاتية وبقايا الصور:
في "أصداء السيرة الذاتية"(11) يقترح نجيب محفوظ نمطا جديدا من الكتابة السيرية، لا يستجيب لقواعد الفن المعهودة، يغيب التدرج التاريخي، ويختفي البعد الذاتي الذي تمثله تقليديا في السيرة الذاتية الشخصية الفردية وهي تعرض تجربتها الفعلية والوجدانية والفكرية، وتتناثر عناصر السياق الذي ينتظم والوقائع والأحداث، وذلك يفضي الى تشظي مكونات التجربة في الزمان والمكان، ذلك التشظي يأخذ شكل شذرات لا يضمها نسق محدد، ومع أن العنوان "أصداء السيرة الذاتية" يدفع القاريء الى اصطناع أفق انتظار خاص بأنه سيتعرف الى نبذ من التجارب والمواقف والآراء المتصلة بالمؤلف إلا أن نجيب محفوظ يفصل بين موحيات العنوان وتوجيهاته وجملة ألاشارات التي يتضمنها النص، الى درجة يصعب فيها اختراف الحجب المحيطة بشخصية المؤلف، ذلك أنه شأنه هنا شأنه في كثير من رواياته وقصصه القصيرة، يلجأ الى المواربة والترميز والايحاء، ولا يميل الى التقرير والاحالة، ومعلوم ان شحن التخيل، والتعمية على البعد الذاتي- الوقائعي يبعد فن السيرة الذاتية عن أهم قواعده، وهي استثمار تجربة شخص ما- وعرضها سرديا، وهنا ينبغي التريث ازاء كلمة "أصداء" الواردة في العنوان، فوظيفتها مزدوجة، اذ هي من جهة أولى تخفف من درجة التصريح، بأن ما سيتضمنه النص سيرة ذاتية، ولكن هذا لا يعني أنها لا توحي بأن النص ليس سيرة ذاتية، ومن جهة ثانية فإنها تمارس فصلا رمزيا بين ما يمكن توقعه من أحداث مباشرة وأخرى غير مباشرة، وفي الأخير فإن ما ينتظره القاريء هو "أصداء" لوقائع، وليس الوقائع ذاتها. وبذلك يترتب تسلسل الأحداث باعتبارها أحداثا من الدرجة الثانية في التصريح، فالمؤلف لا يريد الوقوف على احداث الدرجة الأولى، انه مهموم بأصداء تلك الأحداث، وهذا الاختيار غاية في الأهمية لأنه يبذر تنازعا وتعارضا داخل النسيج الدلالي للنص، فالوجه الأول لذلك التعارض يتجه الى أن النص متصل بوقائع حياة المؤلف، وعليه فللقاريء كامل الحق في تلقي النص باعتباره سيرة ذاتية غير مباشرة انما جملة أصداء، والوجه الثاني يتجه الى دفع النص الى مضمار التخيل الروائي الذي لنجيب محفوظ فيه دور لا يختلف عليه.
إنه نص "أصداء السيرة" يتغذى من هذه التعارضات الدلالية، وينطلق بوصفه نصا سرديا في مجاز خيالي ذاتي خصب، ان كلا من التجربة والتخيل تزودان النص بإمكانات ايحائية كثيرة، لأن التنافذ فيه مفتوح على مغذيين أساسيين هما السيرة الذاتية والتخيل الروائي، وعلى هذا فإن مصطلح السيرة الروائية" ينطبق عليه، ويعبر عن سلسلة الامشاج التي يتركب منها.
يتكون متن النص من 225 فقرة مرقمة، ولا تخضع تلك الفقرات الى علاقات سردية أو منطقية أو سببية، انما يأتي تنفيذها دون ترتيب، بحيث إن البحث عن صلة في النسيج الداخلي بين الفقرات لا يظهر، ولكن المناخ التأملي التجريدي سيكون حاضنا يحل محل السياق المتدرج. وبسبب كل هذا نفضل ان نصطلح على تلك الفقرات بـ "الشذرات " مستحضرين في الذهن "الشذرات الفلسفية" التي دشنت لظهور نمط من التفكير الفلسفي في العصور القديمة. فتلك الشذرات كانت في غالبها تأملات فكرية تأخذ أحيانا شكلا عمليا محسوسا، وأحيانا شكلا تجريديا مطلقا، ومن خلالها تبث جملة من الآراء والمواقف والانطباعات والتجارب والرؤى. وواقع الحال فإن "شذرات " نجيب محفوظ تتضمن كل هذا، وربما يكون الانتقال المتدرج من الحسي الملموس الى المجرد، هو المظهر الوحيد الذي يمكن تلمسه في هذا النص. فالشذرة الأولى، التي يمكن اعتبارها أول مفاتيح النص، تلمح الى طفولة المؤلف، وهو دون السابعة، ويرجح أن الاشارة تتصل بثورة 1919 في مصر التي بالمقارنة مع ميلاد الكاتب، تكون الحدث الذي يرجح أن المؤلف يقصده في استهلال النص. وما إن تنتهي هذه الشذرة إلا ويجري تجاوز البعد الذاتي، لكن دون التعالي على الأحداث الملموسة التي منها ذكريات متقطعة عن زيارات عائلية ولقاءات وحوارات وذكريات وهموم ذاتية أو جماعية. وكلما تقدمنا في قراءة الشذرات تزداد شحنة التجريد، وفي الشذرة العاشرة يرد على لسان الحكيم- وهو صديق الراوي- قوله "ما الحب الا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين ". وفي الشذرة الثالثة عشرة يقول الحكيم "قسوة الذاكرة تتجلى في التذكر كما تتجلى في النسيان ". ويغيب الحكيم، فيما يكون السرد مباشرا بضمير المتكلم ولكته يعاود الظهور هنا وهناك، الا أن الشذرة رقم (120) تحمل عنوانا لافتا للنظر "عبد ربه التائه ". وسيتوإلى ظهوره في معظم شذرات المائة الباقيات، ولا يمكن اخفاء التماهي بين الراوي الذي كان شديد الحضور الى الشذرة 120 وانحساره بعد ذلك، واندماجه رمزيا بشخصية "عبد ربه التائه ". ويحسن ايراد هذه الشذرة المفصلية في النص:
"كان أول ظهور الشيخ عبد ربه في حينا حين سمع وهو ينادي "ولد تائه يا أولاد الحلال"، ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود، قال: "فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عني جميع أوصافه" تعرفت بعبد ربه التائه وكنا نلقاه في الطريق والمقهى أو الكهف، وفي كهوف الصحراء يجتمع بالأصحاب حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبة النشوات، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وان يسمى
كهفهم الخمارة. ومند عرفته داومت على لقائه ما وسعني الوقت وأذن لي الفراغ، وأن في صحبته مسرة وفي كلامه متعة، وان استعصى على العقل أحيانا".
يظهر الشيخ عبدربه التائه في منتصف النص تقريبا باحثا عن طفولته التي غادرها منذ سبعين عاما، وسيستأثر بأهمية استثنائية في القسم الثاني من النص، ولا يخفي الراوي مداومته لقاء الشيخ، ومسرة صحبته والمتعة التي يثيرها كلامه، ومن المهم الاشارة الى أن ذلك الكلام قد "يستعصي على العقل أحيانا". فعلا، فإن الشذرات الحكمية والوعظية التي ستتردد على لسان الشيخ ستكون تجريدية في الغالب. إن الشيخ لا يظل قناعا للراوي، إنما الراوي يتماهى معه، ويتحول السرد شيئا فشيئا الى سرد موضوعي غير مباشر. يغيب الكلام المباشر والراوي الذي يعلن عن وجوده وانطباعاته، ويظهر الشيخ الحكيم بشذراته المكثفة الموجزة التي تعد ذخيرة تجارب تعرض بشكل تجريدي على أنها تأملات تستعصي على العقل احيانا، ولا يغيب عن بالنا أن النص سيكون موزعا بين الراوي والشيخ والمؤلف. ولكننا نرجح أنه في القسم الثاني من النص سيندمج هؤلاء الثلاثة، فالشيخ هو الراوي وهو المؤلف، ما أشد الشبه بين الشيخ وبعض الشخصيات التي ظهرت في "ملحمة الحرافيش" و"أولاد حارتنا". سيكون الشيخ قناعا لنجيب محفوظ. ومن الملاحظ أن اسمه المركب يعتبر مثار فضول للبحث، انه الشيخ الضال منذ سبعين عاما، أيكون حقا هو نجيب محفوظ الذي لم تمكث في ذاكرته – في تضاعيف هذا النص- الا الذكرى التي أشار أليها في الشذرة الأولى- فغادر طفولته الى الآن، فأصبح شيخا تائها يبحث عن حقيقة يعرف انها غير موجودة.
وفي "بقايا صور" يقف حنا مينة على طفولته القروية قبل مرحلة الوعي، وضمن اطار التشرد الأسري يظهر الراوي- الطفل وهو يلتقط أو يعيد التقاط وقائع علقت في ذاكرته وثبتت بوصفها صورا تشكل جزءا منها، ويصرح حنا مينة بذلك كاشفا آلية تكون سيرته الروائية: "ان بقايا صور ستغدو، في الوعي الذي نما بنمو العمر، صورا شبه كاملة الآن، قد يظل فيها بعض الفجوات، وقد تستعين المخيلة ببعض المسموع من الأهل لتظهير طرف مكمل من هذه الصورة أو تلك، ولكن الأشياء تصبح في الضوء، مسترجة بجهد الاسترجاع من قاع بئر قديمة، معتمة، لذاكرة رسخت الأحداث فيها، على طفولتها، كأنما هذه الأحداث القاسية قد حفرت بسكين الشقاء المتصل لأسرة يعصف بها الاعصار من كل جانب، وهي تدور في الدوامة الزوبعية، كسفينة شراعية قطعت مرساتها، وانكسرت دفتها، فتخبطت في الموج العاصف بغير قيادة، أو بوجود قيادة مع ربان غير مؤهل لأن يكون ربانا، أو أنه لا يبالي أن يكون، لأنه حرم مزية التقدير والتدبير، ولم يحس أنه يحمل مسؤوليتهما أساسا (= الاشارة الى قصور دور الأب). أنا لا أزعم أن سفينة عائلتنا وحدها التي عرفت هذا التخبط في لجة بحر الفقر الكبير، ولكنها، بسبب من لامبالاة ربانها، كانت أشدها اضطرابا في مصطرع النوء وأسرعها الى الضياع في اللجة، وقد ضاعت فعلا، وحين سيكتب لها أن تعود الى الشاطيء، ستكون قد فقدت بعض أفرادها برغم أنها كانت لاتزال في الصفحات الأولى من سفر التيه الذي عاشته " (12). ما اصطلح عليه حنا مينه بـ "سفر التيه " هوالذي سيكون مادة "بقايا صور". ومن الواضح أن الراوي الذي يعد الشخصية الأساسية في النص، وهو المؤلف في قناع سردي يعزو ذلك التشرد والضياع والتخبط الى عجز الأب وقصوره في حماية الأسرة، ولكن الراوي يظهر أكثر رحمة بأبيه من الراوي في "الخبز الحافي" ففيما ترفرف في نص محمد شكري صورة الأب المجرم الذي قتل ابنه الصغير، ورغبة الراوي الصريحة في الانتقام، فإن الراوي في "بقايا صور" لا يتردد أحيانا في البحث عن اعذار لأبيه، على الرغم من معرفته بأنه أسير "الثالوث المصائبي" اذ "يشرب حيثما تسنى له، ويسكر كلما شرب، وينام في أي مكان، ولو في الفلاة أو الخمارة تاركا نفسه وما معه لرحمة المارة والعابثين والمخمورين" (13)، وبما أن الراوي يحمل أباه كل مصائب الأسرة، فإنه عكس ما ظهر في "الخبز الحافي" لا يتقصد أن يقود أسرته الى ذلك فهو "يرحل وكله قصد أن يعود كما رحل ممارسا كل مشاعر الزوج والأب، وكل مسؤوليته تجاههما، لكنه بنفس القصد، والأصح دونه، ينسى كل ذلك، كأنما هو ليس زوجا ولا أبا. يعيش، في أي مكان، كما في كل مكان، يسكر وينام، كما لو أنه في بيته، وكما لو أنه بلا بيت. ينسى طوال غيبته، ما كان قبل الغيبة، يفقد، بطريقة ما، ذاكرته، يحيا فقدان الشعور بالمسؤولية كم كان يحيا الشعور بالمسؤولية قبله " (14). ويبدو أن هذ، الأحكام التي يصدرها الراوي حول أبيه، ستكون مثار قلق شخصي بالنسبة اليه، فهو لا يريد تركيب صورة سوداء له، على غرار صورة الأب في "الخبز الحافي" التي تتنامى في "الشطار" وتصبح هاجسا مقلقا للراوي، وعلى هذا، فإنه قرب خاتمة النص تقريبا، يعود لتصفية موقفه النهائي "واني لأغفر لوالدي كثيرا من الأذى الذي ألحقه بنا بسبب من هذه اللامبالاة تجاه الحياة التي كان يظهرها. ولست ألومه على شبقه المرضي، ما دام ليس مسؤولا عنه، ولا على سكره، هو الذي في السكر كأن يغرق تعاسات دنياه، لكنني كطفل، ما كنت قادرا على فهم ذلك، وكان احتجاج أمي عليه هو احتجاجي، ثم صار الاحتجاج ألما وقرفا وعجزا في آن (15).
في النهاية من الواضح أن الراوي يرغب بتسوية الأمر، فيدرج سلوك الأب في سياق الشقاء العام الذي ضرب الألصرة كالاعصار المدمر. فالراوي هنا لا يطور موقفا عدائيا، لا يريد أن يكون قطبا مضادا للأب كما هو الحال في نص محمد شكري، هذا الامر بحد ذاته يدفعه لتخفيف العبء عن كاهل الأب، الذي لا يشكل حضوره أو غيابه في سياق الأحداث أمرا مهما، فالتراسل يتركز بين الطفل- الراوي وأمه وأخواته، ان شقاء الأم، بفعل وجودها مع الطفل، وحيرتها وعطفها وترددها ومهادنتها وحسن طويتها الى جانب كونها ذخيرة حكايات، تستأثر كثيرا باهتمام الطفل وهو يروي، إن معظم بقايا الصور التي يسترجعها الراوي تتصل بالأم المعذبة. لا غرابة أن يظهر اهداء حنا مينة في مقدمة النص "الى مريانا ميخائيل زكور، أمي ". الاهداء مفتاح للولوج الى عالم النص، وصورة الأم المشعة تفسر أهمية الاهداء ووظيفته.
يتميز الراوي في "بقايا صور" بأنه راو إندماجي، لا يجعل من فرديته هاجسا يشغله، فأسلوب السرد المباشر الذي يقوم على استخدام متنوع لضمير المتكلم في السير الروائية العربية، يختفي وتظهر صيغة واحدة فقط من صيغه وهي ضمير المتكلم بصيغة الجمع وهذا أمر له دلالته، فالراوي لا يعني بذاته، انما ينحرف اهتمامه الى تصوير أسرته، انه يذوب في كيان الأسرة، ويتحدث باسمها، ويستعيد تجربتها بعيدا عن أي نزوع نرجسي، انه لا يشكل ابدا محورا أساسيا في تلك التجربة، لا يقف على أفعاله الا في أقل درجة، لا يعنى بتطوراته النفسية والجسدية الا بشر عابر وثانوي وفي سياق غير مقصودا ذاته، انه غير ميال للتعليل لأنه لم يبلغ مرحلة تمكنه من ذلك، تعوض أفعال الآخرين وتجاربهم ومواقفهم على شاشة ذاكرته بوصفها "بقايا صور". في الغالب لا يميل حنا مينة الى اسقاط وعيه الحالي على تجربته الأسرية، لا يريد أن يجعل ذلك موضوعا للتحليل والاسقاط والتأويل، وفي مرات قليلة يتدخل، ولكن دون تورط، انما بشفافية عابرة، من ذلك مثلا اشارته الموجزة لموضوع الجنس، الذي لا تظهر له أهمية في النص، فهو لا يخفي كرهه للتهتك الجنسي و"مقت مقترفيه. لقد أردت الأشياء شاعرية، سامية دائما لا بدافع أخلاقي متزمت، بل بفعل رومانتيكية شفافة جبلت عليها، رومانتيكية ترى في الجنس، في أقصى شبقه ممارسة انسانية رفيعة، وتغضب حتى الصراخ، أن تنحط هذه الممارسة فتصبح ابتذالية كريهة" (16). وهنا يعلن حنا مينة وجهة نظره الواعية بهذا الموقف، ويبدو تغييب موضوع الجنس وأستبعاده، وكأنه نوع من الانتهاك للاحتفاء به كما ظهر في "بيضة النعامة" و "الخبز الحافي " و"الشطار".
ويغالبه أسى في مكان آخر، لأنه في طفولته لم يكن يصلح لشيء، لأن أحدا لا يقبل أن يستخدمه كما حصل لشقيقاته اللواتي عملن خادمات، الاحساس بأنه يقتات من تعبهن الجسدي يؤرقه أنه تعلم على حساب جهلهن، يقول "كنت اقتات من جسد أخواتي، من طفولتهن، من حريتهن، وانني تعلمت القراءة والكتابة، في الصفوف الابتدائية الوحيدة. من جهلهن، وظني أنهن لن يقرأن هذه الكلمات أبدا، لأنهن أميات، ولأن أحدا لن يتطوع كي يقرأها لهن "(17).
إن مثل هذه الاشارات قليلة، ويظهر وكأن الراوي مدفوع بإحساس خفي بالذنب لأن الآخرين من أسرته قدموا أكثر منه، هذا أمر قد يفسر لنا أيضا عزوفه عن تسليط الضوء على نفسه، وهو أمر جعله كائنا اندماجيا لا يرغب بالاعلان عن فرديته.
تطرد أحداث النص في تسلسل خطي متصاعد، ولايوجد ميل للعودة الى الوقوف على أحداث تجاوزها سياق وقوع الأحداث. ولا لاستباق أحداث لم تقع بعد، إلا في حالات نادرة، لا تخلخل ذلك النظام المتدرج. وهذا النسق التقليدي الشائع في السيرة الذاتية والرواية يوافق الطابع الانسيابي والجبري والمهادن للشخصيات الاساسية في النص، ذلك ان الشخصيات عموما مستكينة ومسوقة بإرادة قدرية، وكأن الخلق الفني لم يتدخل في صياغتها، الأب في غيابه وحضوره، في خسائره المتلاحقة، وإهماله ولا أباليته، والام في استكانتها وقبولها الأمر الواقع وعطفها حتى على الأرامل من عشيقات زوجها، الأخوات الصاغرات الخادمات، والطفل الذي لا يملك الا الذاكرة، جميعهم محكومون بإرادة غامضة تسيرهم حيث شاءت، مرة الى أعمال السخرة، وأخرى الى التشرد والضياع والجوع والارتحال، وحدها الأرملة "زنوبة" تخرق هذا السلوك، وتظهر كشخصية فاعلة في تقلبها ومزاجها ورغباتها وشفقتها. ونهاية حياتها إلتي اختارتها لتغير كل التوازانات والتواطؤات القائمة في مجتمع النص، وبسبب ذلك تقرر أسرة الراوي الهجرة الى المدنية حيث يختتم هذا الجزء من السيرة الروائية. ومن الواضح أن الأرملة- الغانية، بفعلها الذي تقتل فيه ستغير كل نظام العلاقات السائدة آنذاك. يفتح الأفق بعد ذلك على "صور" أخرى تعرض في نصوص لاحقة.
يدمج الراوي في ذاكرته مكونين رئيسيين يشكلان متن النص، أولهما ما يروى اليه، وما يسمعه من خلال وسطاء، وماتضيفه مخيلته الى ذلك وبخاصة مرويات الأم الخرافية والأسطورية والدينية والتاريخية، وهذا المكون يشكل جانبا كبيرا من الفصول الأولى من النص. وتظهر مرويات الأم وكأنها مغالبة للقهر والاذلال، ومعادل للاخفاق الأسري والاجتماعي، يبرهن ذلك ان الأم أحيانا تمضي في مروياتها وكأنها تروي لنفسها، وحول الموقد، وسط زمهرير الشتاء، ووسط عواء الكلاب وأبناء آوى، وصرير الريح والعواصف الممطرة اذ الجوع والخوف والتحفز، تبدأ الأم حكاياتها، انها مدفوعة بأحاسيس دفينة لإعادة التوازن الى نفسها وأطفالها في ظل غياب مستمر لزوجها، من أجل ذلك (كانت تبذل جهدا في حملنا على السهر. تغرينا: "الليلة سأحي لكم عن الشاطر حسن " ومنذ هبوط الليل نغلق الباب، ونضع وراءه بجذع شجرة التوت، وبعد أن نتناول مالدينا من طعام تجلس الوالدة على حصير أمام الموقد ونحن حولها وتشرع في سرد حكاياتها. كنا نعدها ألا ننام. الشقيقات يحاولن ذلك. وعلى صوت المطر، ووهج النار، وعالم الحكايات الساحر، تشرع الأخوات بالتثاؤب، ثم تنطبق الجفون، وفي منتصف الحكاية نكون قد نمنا، وتجد انها تحكي لنفسها. كانت تنبهنا، تنذرنا بألا تحكي لنا شيئا بعد الليلة، فنفتح عيوننا، نلتقط عبارة أو عبارتين وبعدها يلتوي رأس على الكتف، ثم آخر، ثم آخر، ومن جديد، تكتشف أننا نمنا، وأنها تحكي لنفسها. كان سهرنا معها يعطيها بعض الشجاعة في مواجهة خوف يتمطى عبر الحقول، يزأر مع الريح، يندس في المطر والظلمة ويزحف صامت كالهول فتلتقطه حواسها، وتتيقظ مجفلة، متوقعة في كل لحظة أن تسمع نقبا في الجدار أو طرقا على الباب(18).
هذه المرويات تشكل ذخيرة سردية في ذاكرة الراوي، يتمعن فيها، تلهب خياله، تقربه الى عالم المرأة- الأم، وتبعده عن عالم الرجل- الأب، يجد نقسه مندمجا في أسرته الانثوية التي يشكل حضور الأب فيها مظهرا طارئا وزائلا وغير فاعل، فقد كان منذ البدء "الطفل الوحيد والأثير في العائلة"، الراوي لا يظهر أبدا تمردا من أي نوع ما، هنالك استبعاد كامل لكل التوترات التي ترافق نشأة الطفل الذكر، ان مصادر تخيلاته انثوية، والاطار الأسري الذي يحتويه نسائي، والأفق العام لحياته متأثر في هذا المناخ، وهو يتقبل كل ذلك بوصفه قدرا لا شأن له به. أما المكون الثاني لمتن النص، فالمشاهدات والملاحظات والتجارب الأسرية البسيطة التي تستأثر باهتمام الراوي، وهي وقائع تنضد متسلسلة وتنتظم في إطار الارتحال الدائم للأسرة، ويبدو الجانب الوقائعي فيها واضحا، انها توثيق للتجربة الكلية للأسرة، واعطاء تلبلا التجربة بعدا واقعيا وحقيقيا، وتندرج في هذا السياق تنقل الأسرة بين السويدية واللاذقية والاسكندرونة والقرى التي تمر بها العائلة أو تستوطنها بعض الوقت، وتصحيح تاريخ ولادة الراوي ومسقط رأسه، وأعمال الاب الخاسرة وتهوراته، وعمل أخواته خادمات، وأفعال الراوي الطفل وألعابه البيتية وكل ذلك يقوم على خلفية من الصراعات والأزمات الاجتماعية بين الفلاحين الفقراء والأسياد المالكين للأرض والمال والسلطة. وفي "المستنقع " و"القطاف" يستكمل حنا مينة سيرته الروائية، اذ تنفتح أبواب العالم الخارجي أمام الصبي في "بقايا صور".
6- امكانات متنوعة: التخيل والتنكر
توظف السيرة الروائية الامكانات المتنوعة واللانهائية التي تقدمها أحيانا السيرة والرواية، ففي "خلسات الكرى" يقدم جمال الغيطاني تنويعا منفردا يدمج بين السيرة والرواية ولكنه دمج يذكر دائما بالأصول والموارد التي تركب منها متن النص، ذلك أن المؤلف يحافظ على الوقائع التي تكون مثار اهتمامه، ولا يريد لها ان تذوب في منظومة التخيل الروائية. والغيطاني لا يقدم سيرة بالمعنى الشائع، انه ينتخب تجارب ومشاهدات وعلاقات، يكون الطرف الاخر فيها امرأة، ملكت عليه أحاسيسه وجذبته الى مدارها، وتغطي التجارب عمر المؤلف ولا يجمعها الا سياق واحد هو ذهوله واحساسه بالمباغتة بإزاء نسوة يخترق حضورهن سكونه. نسوة يتعالين على الزمن والتاريخ والمكان. نسوة يتصلن بسلالة رفيعة: الجمال الذي يبعث الذهول والحيرة. ويمزج الغيطاني بين الوقائع والرغبات بين الأماني والتوقعات، بين ما كان وما كان ينبغي أن يكون، واذا انتظمت تجاربه في خيط متدرج فإن النص يصبح سيرة موضوعها الحب والعلاقة بالمرأة وقد شحنت بالتخيل الذي لا يقطعها عن أصلها. إذ يعيد الغيطاني ترتيب علاقته بالمرأة- مكتفيا في الغالب بالوصف وملذاته، وتؤرقه الأفعال المؤجلة، يمزق الراوي- المؤلف بين لا تحقق، وما كان ينبغي تحقيقه، ومحور مدونته كما يقول: ان يقص ما تمنى أن يكون لا ما كان بالفعل، وهو مورد تفاصيل رؤيته و توقعاته (19).
نساء يظهرن فجأة في المطارات والمحطات والقطارات والطرق والأزقة والبيوت، ينتظرن على المقاعد، أو يتكئن على النوافذ، أو يتهادين ماشيات، في طليطلة، والقاهرة، وسمرقند وبغداد، واسطنبول، وموريليا، وموسكو، وحيثما يظهرن يتعلق بهن الراوي الذي يؤخذ بحضورهن فيوقف مسار الأحداث، وتنشط أحاسيسه وانفعالاته في التعبير عما لا يستطيع قوله، تدخله الخالة فورا في ذهول عجيب، نشغله التكوينات الجسدية، يدقق في التفاصيل، يستعين بخبرته كمتخصص في نقوش السجاد وتصاميمه، ويتحول التكوين الأنثوي الى منظر تتفاعل فيه الألوان والأضواء، صهرجان مفعم بعالم انمتعة واللذة والشوق والتحنين. وهنا ينشط الوصف، فيما يستأثر الأخبار السردي بالاهتمام عند المؤلف حينما يقدم ملابسات اللقاء وظروفه والرغبة المؤجلة تستحوذ على اهتمامه، انه كثيرا ما يصرح بأنه لا يستطيع تجاوز حدود التمني الى الفعل، ويلجأ في مرات قليلة الى ربط حالات ذهوله بعضها ببعض، فتذكره امرأة بأخرى، ومغ أن النص يقطع الى عنوانات معبرة عن حالات أو نساء بعينهن، فإن وجود الراوي- المؤلف واضح، إنه جمال الغيطاني الذي يعلن عن وجوده بلا مواربة ولا تنكر، فهو يشير الى كتبه، كلما وجد ذلك ضروريا، فالتجارب التي لا يتمهل بوصفها، يحيل عليها في كتبه السابقة، وأحيانا يعد انه سيعود اليها في مدونات أخرى، وكل تجربة تتأرجح بين بعدها الرغبوي الحسي المتضجر وبعدها التأملي الصوفي، مسار الرغبة ينتهي غالبا بنهاية مقفلة، فيما ينفتح مسار التأمل، فيتحول النص الى مناجاة داخلية شفافة تتوسع دوائرها فتكاد تغرق كل شيء، ان المؤلف مأخوذ بالتفاصيل والتكوينات والتشكيلات والأطياف والانحناءات والانعطافات، وعينه المبحرة المدققة تقلب الأشياء وتشرحها وتعيد تكوينها بمهارة لا تخفى، العين في النص أكثر فاعلية من الذاكرة والمخيلة، انها عين بليغة متطلعة حادة، انها عكاز الجسد الأعمى ودليله، عين مدربة فاحشة، تمارس فجورها وتصرح به، لكنها تحجب فعل الجسد وتدمر رغباته، هي تقوده الى عذاب دائم، وفيما تلتذ بفعل الابصار، يترنح هو تحت خربات الرغبة.
تظل معظم عناصر النص مفككة، فالمؤلف لا يسعى الى إنشاء نص محكوم بوحدة الوقائع وأطرها الزمانية والمكانية، انه هو الشخصية- المرآة وفيه تنعكس صور النساء، وعليه تنطبع بصماتهن، انه العنصر الوحيد الثابت في النص، وكل شيء يتغير، الأزمنة تتضارب وتتداخل، والأمكتة تتعدد وتتكاثر، وفي كل مرة تظهر امرأة تتمرأى صورتها كأنها طيف، وتحل أخرى ويتواتر حضورهن، فيصبح المؤلف طرسا تكتب كل واحدة منهن عليه تعويذتها وبهاءها وتتداخل الأشياء بعضها مع بعض، تجربة تكتب فوق أخرى تمحوها وتعيد إنتاجها، وبسبب كل هذا تتشكل هوية النص، بوصفه سيرة روائية تحرص ان تكون مكونا جديدا، لكنها تحرص أيضا أن تصرح بتواصلها مع السيرة ومع الرواية، ومع حرص الغيطاني الذي لا يخفى على توثيق تجاربه وملاحظاته وتحديد الأبعاد الزمانية والمكانية لها، فان التخيل السردي ينشط أحيانا متدفقا ليصوغ تلك التجارب صوغا روائيا، لكن هذا النشاط التخيلى في إعادة صوغ التجربة الذاتية. يظهر بوضوح أكثر في نصوص أخرى، منها ما نجده على سبيل المثال في بعض نصوص عبدالرحمن مجيد الربيعي.
ففي "خطوط الطول…. خطوط العرض " (20) يقدم عبد الرحمن مجيد الربيعي تنويعا سرديا يستثمر جانبا من السيرة الذاتية في إطار روائي، ومجمل متن النص يتكون من الوصف المتدرج لنشأة الشخصية الأساسية "غياث داود" وتكونه الجسدي والثقافي، وينصب التركيز على تجاربه الجنسية مع مجموعة كبيرة من النساء، ولكن ذلك يترتب ضمن خح! سيرته الذاتية، فالتجارب المذكورة تهدف الى استكشاف الأوجه المتعددة لغياث ت اود، ومعظمها ينبثق في وعيه كتداعيات تتصل بحياته التي تشهد ثلاث محطات رئيسية: العراق، لبنان، وتونس وتبدو الشخصيات النسائية التي تتوزع على تلك البلدان، وكأنها تؤدي وظيفة تتصل مباشرة بالشخصية الرئيسية غياث داود، إنهن خرزات انتظمن في عقد حياته، بهن تضاء جوانب تلك الحياة ولا يؤدين وظيفة فنية غير كونهن يظهرن في النص مرتبطات بغياث المهموم بجسده أولا وبتطوره الفكري ثانيا، ولذلك فكل الأحداث والشخصيات تتركب إما عبر منظور غياث، أو من خلال علاقة مباشرة معه، فهو المركز وكل العناصر الفنية الأخرى تدورفي فلكه، وتستمد وجودها وأهميتها من خلال علاقتها به. وتبدو المطابقة واضحة على الرغم مما يحدثه التخيل السردي من تمزيق- بين الراوي والمؤلف، بين غياث داود وكاتب النص، والاشارات التاريخية التي ترد في النص من الكثرة بحيث تبرهن على ذلك. على أن ذلك لا ينبغي أن يختزل أهمية التخيل في النص، فالمؤلف يستثمر الخط العام لسيرته الذاتية، ولكنه يشبع التفاصيل بمقتضيات التخيل وحاجاته ولوازمه، وهذا يفضي الى القول: ان "خطوط الطول… خطوط العرض " في خطها العام، وهيكلها الفني باعتبارها رواية تولي الاهتمام لشخصية لها موقع مهيمن في النص، هي سيرة روائية، توظف امكانات السرد الروائي في إثراء عالمها، من ذلك تنكر المؤلف باسم غياث، والاستخدام المتنوع لصيغ السرد واستحداث وقائع تفصيلية لا يمكن البرهنة على بعدها الحقيقي، وعلى الرغم من كل هذا فإن اعادة ترتيب اطراف النص، يظهر السيرة المتدرجة لغياث داود، والحرص على أن تكون هي مركز النص ومحوره الأساسي، على أن هنالك نصهوصا أخرى تدفع بالتحولات الفكرية للشخصيات الرئيسية فيها الى واجهة الاهتمام، بهدف عرض الانكسارات الداخلية، وانهيار القيم، فالنص، من خلال الوقوف على التجربة الذاتية للمؤلف واستثمارها، يسلط ضوءا ساطعا على المتغيرات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، وهو أمر يتدرج هو الآخر في سياق دمج الذاتي بالموضوعى، كما نجد ذلك المنطلق عنف بهاء طاهر في "الحب في المنفى" (21) أكثر تنوعا وشمولا فالنص يتمحور حول شخصية تحيل على المؤلف، وهو يعيش اغترابه الطويل بعيدا عن بلاده، ولكن النص يتجاوز البعد الذاتي المباشر الى تقديم سيرة روائية ذاتية فكرية ضمن اطار شامل من الوقائع التاريخية في مصر طوال الستينات والسبعينات، ثم تدمج في مسار الأحداث وقائع الحرب الأهلية في لبنان، ويفجر النص سلسلة الانهيارات والاخفاقات الفكرية والسياسية في العالم الذي تعيش فيه الشخصية الرئيسية التي استبعدت عن بلادها بأسلوب غير مباشر بعد أن أجهز على المرجعية الثقافية التي احتضنت نشأته، وهنالك في المنفى يتم استرجاع جانب من التكون الفكري لتلك الشخصية، ولكنها ستكون منطقة جذب لكثير من الأحداث المتصلة بها، من جهة أولى الحب الذي يعصف بالبطل، ومن جهة ثانية الانكسار الداخلى الذي يداهمه بسبب انهيار كل المثل والقيم التي كان يؤمن بها، بما يفضي الى حرب أهلية مريرة تفضح كل الادعاءات التي عاصرها البطل، وكانت في وقت ما بالنسبة له مجموعة من المسلمات التي لا يمكن التفكير بعدم صحتها. وحول هذه التمزقات تحتشد الوقائع فتضيء لنا الأزمة الفكرية والاخلاقية للبطل الذي وجد أن الأحداث تتجه به الى غير ما كان يريد، وتقوده الى حيث لا يتوقع. وهنا تندغم في شخصية البطل جملة الأفكار التي استأثرت باهتمام مبالغ فيه في حقبة تاريخية، ثم انهيارها دفعة واحدة مخلفة احساسا مرا باليأس والضياع والحيرة واللاجدوى، ويظهر الحب بوصفه حلا فرديا لمواجهة أزمة البطل التي تتصل بتربيته السياسية، والفكرية.. ومن الواضح ان المؤلف يربط بين خسائره الشخصية والخسائر الرمزية لبلاده، على جميع الأصعدة، ويلعب التخيل دوره هنا، فالسرد المباشر يكون ذاتيا أحيانا الى أبعد الحدود، حينما يصار التركيز على الأعماق المضطربة للشخصية، لكنه يأخذ طابعا حياديا، وربما وثائقيا حينما ينحرف الى عرض الاطار العام الذي تترتب داخله الأحداث، لكن العنصر الأكثر فاعلية وسط ذلك الاطار هو الراوي- الشخصية- المؤلف الذي تطوف تجاربه وتأملاته وأحكامه حول الحدث الرئيسي في النص، وتتماهى معه، وتوجهه ليكون جزءا متصلا بتلك الشخصية التي تنغمر في خضم بحر من الأحداث التي لها علاقة مباشرة بتصوراتها وأفكاره وارتباطاتها في بلادها وفي الغربة حيث تعيش، وهكذا يلاحظ أن هذء النصوص، بتنويعاتها الخصبة، تمستفيد من كل الكشوفات التي توصلت إليها السيرة الذاتية والرواية، ولكنها تظهر بوصفها نصوصا خاصة ة ومتميزة عن تلك الأنواع المعروفة.
7- أفاق واستنتاجات
في السيرة الروائية تظهر الذات الفردية بوصفها المرجعية الأساسية لمادة النص، فكل العناصر الفنية، والمكونات السردية تتصل بتلك الذات، ومع ان درجات الاتصال تتباين بين نص وآخر، فبنه لا يمكن الحديث عن انفصال، ان أقصى ما يندرج تحت مقولة الانفصال، هو "الأصداء" التي يقترحها نجيب محفوظ، قاصدا بذلك ان العلاقات بين الذات ومكونات النص تترتب على نحو غير مباشر، على أنه هنا يظهر فعل التخيل، فتقع مزاوجة ابداعية بين الواقعي والتخيلى، وتؤدي الصياغات الأسلوبية وتقنيات السرد الروائي دورا أساسيا في اضفاء طابع فني على العلاقة المذكورة، ان ذلك الانفصال الرمزي تقرره اختيارات الراوي- المؤلف الذي يبدي أحيانا رغبة واضحة في التنكر وراء اسم ما، أو يتغافل عمدا عن ذكر اسمه الصريح مكتفيا بضمير "الأنا" بيد أن ذلك لا يطرد، فكثير من النصوص تحرص على اشهار الاسم الحقيقي للراوي الذي هو الشخصية والمؤلف ويبدو ان استراتيجية اظهار الإسم الصريح واخفائه، تترتب في ضوء علاقات المؤلف بنصه من جهة وعلاقاته بمحيطه الخارجي من جهة أخرى. فكلما كان حرص المؤلف واضحا في اعطاء بعد حقيقي للوقائع الخاصة بسيرته كانت رغبته لا تخفى في إلتصريح باسمه، وما إن يرغب- لأسباب خاصة به- في التمويه إلا ويلجأ الى اشارات رمزية تحيل عليه، يكون ضمير المتكلم، بقدرته الايهامية العالية في السرد، الواسطة بين الوقائع النصية والتاريخية، ينوب هذا الضمير عن لسان المؤلف، الحديث بالنيابة مظهر أساسي من مظاهر السرد في السيرة الروائية، وفي المرحلة الثالثة من الإبعاد والتخفي والتضليل والتنكر يظهر المؤلف تحت أقنعة أخرى، الضمائر الغائبة، أو المخاطبة، أو الشخصيات التي تحمل أسماء محددة، وفي كل ذلك تنوع كيفيات بناء المادة النصية، مرة تخضع لترتيب متتابع يحرص على مرافقة سيرة حياة المؤلف بالتدريج، يظهر ذلك في "الخبز الحافي" و"الشطار" و"بقايا صور". ومرة يصار الى تمزيق نظام التتابع، واستبداله بنظام التداخل كما يتجلى الأمر في "اصداء السيرة الذاتية" و"بيضة النعامة" و"خطوط الطول.. خطوط العرض "و"خلسات الكرى" و"الحب في المنفى". هذان النظامان يتداخلان ويوظفان بدرجة أو بأخرى في بعض السير الروائية.
كما يلاحظ أن السيرة الروائية تحتفي بالجسد، وتشغل به بوصفه عنصرا مهيمنا يحتاج الى الاكتشاف المتواصل، يصار غالبا الى الافصاح عما يواجهه الجسد من اخفاقات وانكسارات وعطالة، وحينما يتاح له أن يعبر عن خلجاته وتطلعاته، فإنه ينغمر في اللذة والمتعة، كتعويض عن خفض قيمته، في ثقافة تقصي ملذاته وراء الحجب السرية، وتستبعده، وتفرض عليه ان يمارس أفعاله في منأى عن العيون. الاحتفاء بالجسد نوع من المعارضة ألحريحة لجملة التواطؤات الثقافية والاخلاقية الفاعلة في المجتمع، يظهر هذا في "الخبز الحافى" و"الشطار" و"بيضة النعامة" و"خطوط الطول.. خطوط العرض " ويظهر ولكن بتنوع ينطوي على نوع من المواربة، في "خلسات الكرى" و"الحب في المنفى". أما في "أصداء السيرة الذاتية" و"بقايا صور". فلا يستأثر الجسد بالاهتمام. الجسد كائن مجهول لا يراد البحث عن هويته ومشكلته، في نصوص شكري ومسعد والربيعي، تتمحور الأحداث حول سيرة الجسد، يراد له ان ينتزع شرعيته وحضوره، فيكون موضوعا للبحث والاكتشاف، واحيانا الاشهار والمباهاة أما محفوظ ومينة فهما أكثر اتصالا بثوروث السيرة الذاتية العربية القديمة الذي يعني برحلة التكون وتشكيل المنظورات الفكرية الذاتية، اذ تقدم السيرة بوصفها تجربة اعتبارية (22)، وهذان الموقفان من الجسد يخفيان رؤيتين، ويتصلان بأصلين، فالأدب السردي في الثقافة العربية لعب وببراعة على ثنائية التخفي والتستر من جهة، والتصريح والكشف من جهة ثانية، على أن حرية الجسد، في بعض نصوص السير الروائية تترافق مع الكتابة، يصبح الجنس نوعا من الكتابة على جسد الآخر، فالحب والكتابة فعلان ينتهكان منظومة القيم عند شكري ومسعد- تكون الطبيعة البكر مكانا مناسبا لكليهما، ذلك نوع من هجاء الثقافة مخرومة في متنها، ولكن هذا لا يطرد دائما انما يحرص على التنوع، ففي نص آخر، لا يخفي صلته بكل من السيرة والرواية، يقوم عبده وازن في "حديقة الحواس " (23) بمغامرة مضادة: الحب والكتابة فعلان محرمان يتمان بسرية في غرف مظلمة رطبة معزولة. فيما يهرب شكري ومسعد الى الطبيعة، في هجاء لا يخفى لثقافة استبعادية، يحتج عبده وازن مختفيا في غرف منسية وسط فضاء سوداوي مغلق ومتأزم وعبثي، كل يحتج بأسلوبه.
تثير مشكلة ترتيب المادة السردية وطرائق عرضها، وكيفيات ظهورها، وموقع الراوي في النص وعلاقته بالأحداث ودرجة إحالته على المؤلف الحقيقي، وتوظيف الوثائق الذاتية والتات يخية كالمذكرات والملاحظات والانطباعات اليوميات والمستندات الشخصية، موضوعا هاما يتعلق بالانتماء الجنسي والنوعي للسيرة الروائية، ولقد أشرنا من قبل الى أن السيرة الروائية تهجين سردي، وظف وأعاد توظيف كشوفات السيرة الذاتية والرواية، على أن عملية التهجين مازالت في طورها الأولى، ذلك أن النصوص التي وقفنا عليها، لم تزل غامضة الانتماء والهوية وباستثناء الجزء الأول من سيرة محمد شكري الروائية "الخبز الحافي " التي ورد فيها تأكيد واضح على أنها "سيرة ذاتية روائية" فإن كل النصوص الأخرى التي كانت موضوعا للتحليل نشرت على أنها روايات، وثبت بوضوح على أغلفتها الخارجية أو الداخلية انها روايات. بما فيها الجزء الثاني من السيرة الروائية لشكري "الشطار"، ومع أن هنالك اشارات لا تقبل اللبس في المقدمات التي يضعها المؤلفون أو تأكيدات نصية ترد في تضاعيف المتون، بأن نصوصهم ليست روايات محضة، فإن البحث عن تسمية، وكل ما يولده من مشكلات لم يدفع الى الامام موضوع الاتفاق على مصطلح معبر عن الطبيعة التركيبية لهذه النصوص، وينبغي أن يفهم كل هذا على أنه أمر طبيعي في تاريخ الأنواع الأدبية، ذلك أن الممارسات النصية تظهر أولا، وذلك قبل الاتفاق على تسمية النوع الذي تكون عليه، وقبل وضوح القواعد العامة وثباتها النسبي، وما أن تتكاثر النصوص إلا وتندرج ضمن نوع جديد، ينتظم تحت اطار تسمية تشير الى ذلك النوع، والمصطلح المركب "سيرة روائية" يؤدي وظائف، ويحل جانبا من مشكلات النوع الجديد، ويقرر نوع الصلة مع الموارد التي تحدر منها، إنها فيما يخص أمر الوظيفة، يدمج بين الوثائقي والتخيلى ويرتب العلاقة فيما بينهما على أساس التفاعل الحر الذي لا يرهن نفسه بانتماء محدد الى أي منهما. وأنه فيما يتصل باشكالية النوع يحيل على درجة الاستثمار الممكنة لمعطيات منجزة قدمتها السيرة الذاتية والرواية عبر تاريخها، وأخيرا فيما يتعلق بالأصول فإن المصطلح، يربط هذه الممارسات النصية بصلة نسب واضحة مدفوعة الى أنواع لها موقعها في تاريخ الأدب.
الهوامش:
1- تزفيطان طودوروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، الدار البيضاء، توبقال، 1990 ص 51.
2- جورج ماي، السيرة الذاتية، ترجمة محمد القاضي وعبدالله صولة تونس، بيت الحكمة، 1992 ص 189.
3- م.ن. ص 199-205.
4- فيليب لوجون، السيرة الذاتية، ترجمة عمر حلى، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1994 ص 22.
5- م. ن. ص 39-40.
6- محمد شكري، الخبز الحافي، لندن، دار الساقي، 1993.
7- محمد شكري، الشطار، لندن، دار الساقي، 1994.
8- م. ن. ص 94.
9- رؤوف مسعد، بيضة النعامة، لندن، رياض الريس للنشر، 1994.
10- م. ن. ص 12.
11- نجيب محفوظ، اصداء السيرة الذاتية، نشرت مسلسلة في جريدة أخبار الأدب عام 1996.
12- حنا. مينة، بقايا صور، بيروت، دار الآداب، 1990، ص 203-204.
13- م.ن.ص 110.
14- م.ن.ص 111.
15- م. ن. ص 268-269.
16- م. ن. ص 273.
17- م. ن. ص 257.
18- م. ن. ص 100.
19- جمال الغيطاني، خلسات الكرى، القاهرة، دار شرقيات، 1996 ص 13. 20- عبدالرحمن مجيد الربيعي، خطوط الطول.. خطوط العرض، تونس، دار المعارف، 1993.
21- بهاء طاهر، الحب في المنفى، القاهرة، دار الهلال 1995.
22- عبدالله ابراهيم، السردية العربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1993 ص 136.
23- عبده وازن، حديقة الحواس، بيروت، دار الجديد، 1993.
عبدالله ابراهيم (استاذ جامعي من العراق)