إعداد وترجمة: عيسى مخلوف
في الأسابيع الأخيرة من حياتها، بدأ الجسد يخون الروح الفتيّة الصاحية على الدوام، وأصبحت حركة تنقّلها في المكان تزداد صعوبة. هي التي لم تهدأ يومًا وظلّت تحلم وتكتب وترسم طوال عمرها المديد، وجدت نفسها فجأةً مقيّدة بأوجاع لا تُحتَمَل. الدواء الذي وصفه لها الطبيب للتخفيف من تلك الأوجاع ترك مضاعفات سلبيّة، وأصبحت تشعر بثقل في الرأس وبدوار مستمرّ، فتوقّفت عن تناوله. وعندما قلتُ لها إنّنا سنتّصل بالطبيب ونطلب منه أن يغيّر صنف الدواء، كان ردّها حاسمًا: “لا دواء للشيخوخة”. قبل ذلك بشهرين، أخبرتني أنّها طلبت من طبيبها أن يفعل شيئًا يجعلها تختفي. وكانت تقصد الاختفاء من الوجود. وتابعت تقول إنّ الطبيب فوجئ بطلبها ورفضه فورًا لأنّ “القانون الفرنسي لا يسمح بذلك”، وأنّه، إن أقدم على هذه الخطوة، سيلاحَق قانونيًا”. ابتسمَت وهي تردّد كلماته، وأنا أرى ابتسامتها، في اللحظة التي أكتب فيها الآن، تضيء وجهها بنور نادر. إنّها ابتسامة الطفلة الكبيرة التي لا تفتأ تندهش حتّى ممّا تعرف.
يحضر الموت في شعر إيتيل عدنان بأشكال مختلفة، ويتمثّل في هذه الصورة الشعريّة أو تلك، كما يتحوّل زيوس في الأسطورة الإغريقيّة متّخذًا شكل بجعة أو ثور أو مطر من ذهب. هي التي درست الفلسفة في جامعة السوربون، ودرّستها في الولايات المتحدة الأميركية، لسنوات طويلة، جعلت منها متّكأً يساعدها على تحمُّل رفقة الموت، هذا الكائن العجيب، الغامض والملغز، والذي يرفع رايته في قلب الحياة نفسها، من البداية إلى النهاية، ولا يفارق الجسد لحظة واحدة، قبل أن يقطفه ويغيّبه. لكن، من يموت، هنا، ينغمس في ليل العالم، قريبًا من الأسرار الجوهريّة الأولى، في المقلب الآخر للمجرّات والنجوم!
شاعرة وروائيّة وفنّانة تشكيليّة وناقدة، أمضت إيتيل عدنان حياتها بين بيروت وباريس وكاليفورنيا، وعبّرت عن نفسها باللغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة. من شرفة بيتها في سان فرانسيسكو، كانت تطلّ على جبل تملباييس الذي تحوّل رفيقًا لها، بل “شاغلها الشاغل”، كما كانت الحال مع الفنان الفرنسي بول سيزان في علاقته بجبل “سانت فيكتوار”، والفنّان الياباني هوكوساي حيال جبل “فوجي”. تتأمّل إيتيل تحوّلات جبلها المتواصلة في مرايا الضوء، وتحاول التقاطها من خلال الرسم والكتابة. ولقد ألّفت كتابًا يعدّ من أجمل ما كتبت، عنوانه “رحلة إلى جبل تملباييس” (نقلته إلى العربيّة أمل ديبو)، وتختصر فيه رؤيتها إلى الذات والطبيعة والفنّ، وهذا ما يتجلّى في عبارات كثيرة، منها: “تلك الجبال والبحار هي وجهي الآخر. الوجه الأكثر ثباتًا في الزمان”.
تحضر في هذا الكتاب أيضًا أسماء كثيرة طبعت تجربة الشاعرة والفنّانة، نذكر منها على سبيل المثال اسم النحات الأميركي ريتشارد أوهنلن. هكذا اكتشفت إيتيل أعماله: “كنتُ أمشي في الحديقة وتوقفت أمام قطعة نحت كبيرة جدًا: كان حجرها من الغرانيت المصقول اللامع. كان ذلك في المساء، وقد أظلمت الدنيا، وبدت الأشياء لامعة في العتمة كالفضّة. إنّها قطعة هائلة لم أر مثلها إلاّ مرّة واحدة في متحف “بغداد”، وهي الشاهدة البابليّة التي نُحت عليها قانون “حمورابي”. كانت منحوتة ضخمة وعالية تدخل الشمس منها”. وكانت، بالنسبة إليها، عملًا عظيمًا. “كلّ عمل عظيم يتّجه نحو الفضاء”. عندما توفّي ريتشارد أوهنلن، كتبت إيتيل: “مات في نومه. في عمق الليل. لم تختف روحه. بل أصبحت أكثر شفافية لمن عرفه. بتنا نشعر أننا أقرب إلى أعماله وإلى معنى عبوره في هذه الأرض”. تتحدّث إيتيل عمّن تجد في أعمالهم صدى لروحها، كأنما تتحدّث عن نفسها. هكذا تحدّثت عن سيزان أيضًا، وعن نيكولا دوستال وبول كلي وهنري ماتيس.
ترسم إيتيل جبلها الحبيب، كما ترسم عناصر الطبيعة، عبر تواصل داخلي تخرج منه إلى سطح اللوحة إشارات وألوان. ترسم دائرة هنا، وأفقًا هناك. بخطوط قليلة، تصوّر الأرض والقمر، أو الشمس. تتساءل: هل تستطيع الدائرة المرسومة على ورقة أن تختصر النظام الشمسي، أو القدر البشري. في أعمال إيتيل عدنان، لا تبتعد الفلسفة عن الشعر. يحضر الفكر بقوّة في باطن أعمالها. ولئن كانت تبدو، في شعرها ونثرها، ملتزمة بالقضايا الإنسانيّة في كلّ مكان وزمان، من الهنود الحمر إلى الفلسطينيين، فإنها في فنّها تنعتق من مسار الحياة اليوميّة للبشر وتنفتح على الأسئلة الجوهريّة والماورائيّة. فنّها عناق حميم مع الطبيعة ويصل، مرّات، إلى حدود التماهي معها. المحرّك العميق في كلّ ما رسمت وكتبت هو الحبّ، ليس الحبّ المحكوم ببدايات ونهايات، بل ذلك الحبّ الأقرب إلى الحبّ الصوفي الذي افتُتنت به وصار بمثابة البوصلة والمعيار. ونتاجها، إذا أردنا الاختزال، يتراوح بين هذين القطبين: النزعة الصوفية وإشراقات نيتشه، والجامع بين الفيلسوف الألماني وتلك النزعة، بحسب رأيها، أنّ كليهما “دفع بِطاقته الإبداعيّة إلى أقصى مداها، باذلًا التضحيات ثمنًا لالتزاماته الجذريّة”. بالنسبة إليها أيضًا، تشهد النصوص الصوفيّة، أكثر من أيّ وسيلة تعبير أخرى، على تجربة الوحدة العميقة للحبّ، مهما اختلفت وسائل التعبير عنه. تتحدّث إيتيل عن الحبّ بين البشر، وعن تغيُّر معناه في الأزمنة الحديثة، وتسليعه إلى أقصى حدّ. وتلاحظ أنّ التضامن الإنساني أحد أشكال الحبّ، فبدونه لا يمكن لأيّ مجتمع أن يتماسك. كما تلتفت إلى حبّ الطبيعة، أو حتّى حبّ شجرة أو جبل، وتصف هذا الحبّ بالأمر الرحيم. وإذ تركّز على هذه العناصر، في رسمها ومواقفها، فلأنّها تلاحظ أنّ المزيد من الناس يتصرّفون وكأنّهم يجهلون معنى الطبيعة. بل يتصرّفون كما لو أنّهم يكرهونها، و”لولا ذلك لما أصابتنا الكارثة البيئيّة الحاليّة”، وفق قولها. وطالما تذكّرت، في هذا الصدد، موقف الهندي الأحمر الذي كان يتعاطى مع الأرض بصفتها أمّنا الأولى، أمّنا الأصليّة. ويتآخى مع النهر والشجرة، مع الصنوبرة الملتمعة، مع الشاطئ الرملي والسحابة في الغابات المظلمة، لأنّ “كلّ فُرجة مضاءة، وكلّ طنين حشرة، كلّها جميعًا مقدّس في ذاكرة شعبي وتجربته”.
هل يمكن الحديث عن فنّ إيتيل عدنان من دون الالتفات إلى دفاتر “الأكورديون” التي كانت تمضي في إنجازها أوقاتًا طويلة؟ كانت تحبّ أن ترسم على الكتب المطويّة اليابانية المصنوعة من ورق الأرزّ. تعشق تمدّدها، كأن لا حدود لها. صفحة تلي صفحة أخرى في رحلة لا تنتهي. تتدفّق الصفحات أمام عينيها كنهر من صور. وتؤمن، كما كان الأمر في الصين واليابان، أنّ الصورة تُقرأ كما تُقرأ السطور المكتوبة بالكلمات. وربّما هذا ما دفعها إلى تسمية المعرض المخصّص لأعمالها في مركز “بومبيدو” في مدينة ميتس الفرنسيّة “الكتابةُ رسم”. العمل هنا مشدود إلى طرف لا يحتويه إطار اللوحة بل يذهب أبعد منه. “إلى ما وراء السماء”.
ترحل الشاعرة الفنّانة وتبقى روحها حاضرة في المكان. ذات مساء، تركت إيتيل أعوامها التسعين في منزلها، وجاءت إلى متحف “المونّيه”، على ضفّة نهر «السين»، لتقرأ قصائدها، وهي غير آبهة بالوقت العابر. في تلك الأمسية، وَزّعَت «غاليري لولون»، التي تعرض أعمالها الفنّيّة حتّى الآن في العاصمة الفرنسيّة، كتابها “الحياة نَسْج”. هذا الكتاب يحكي عن حياكة النسيج ويتألّف من مجموعة رسائل كانت بعثت بها إيتيل من سان فرانسيسكو إلى إحدى صديقاتها في بيروت، العام 1968، على غرار الرسائل التي بعثت بها إلى فوّاز طرابلسي وصدرت أيضًا في كتاب عنوانه “عن مدن ونساء”. بينما كانت إيتيل تقرأ إحدى قصائدها، دخل إلى الصالة الفسيحة التي كنّا فيها شعاعُ الشمس الأخير، مارًّا بمتحف اللوفر وماء النهر. التفتت إيتيل بعينيها الملتمعتين إلى الجهة التي أتى منها النور، كأنها كانت، حينئذ، تنتظر وصوله. وصول اللحظة المضيئة. اللحظة التي تساوي ألف عام.
بعض الذين يرحلون -ومهما ابتعدوا- لا يبتعدون كثيرًا. وصلني الأسبوع الماضي من غاليري “لُولُون” الباريسيّ إصداران جديدان لإيتيل: “مَمَرّ الوقت” و”أنا بركان”. إصداران نشرهما مؤخّرًا هذا الغاليري الذي دأب على عرض أعمالها ونشر كتبها خلال السنوات الماضية. لم يكن الوداع الكونيّ الذي وُدِّعَت به إيتيل نابعًا من كونها شاعرة وفنّانة تشكيليّة فحسب، بل لأنّها أيضًا إنسانة وقفت طوال حياتها ضدّ الظلم المدنيّ والدينيّ على السواء، وناصرت القضايا العادلة، ودافعت عن حقوق المرأة. مع إيتيل عدنان نفهم معنى أن تكون النزعة الإنسانيّة إبداعًا قائمًا بذاته. نقرأ في كتابها “أنا بركان”، الكلمات الآتية: “بدأتُ كتابة الشعر لأنّني، عندما كنتُ مراهقة، لم أكن مهتمّة بشيء آخر. كان ذلك في بيروت، وكان البحر، لفترة ما، يَطبَع بطابعه الخاصّ كلّ شيء. كنتُ أعيش قصّة حبّ مع البحر، وكانت الشّمس في كلّ مكان. كنتُ أشعر بأنّ للشمس حضورًا إلهيًّا أقوى من كلّ الهراء الذي تعلّمناه في المدرسة بخُصُوص الدين والأخلاق”.
في أحد لقاءاتي معها، في بيتها في شارع “مدام”، قرب حديقة “لوكسمبور”، أهدتني كتابها الأخير، وبدلًا من الإهداء، رسمَت على صفحته الأولى قلبًا من خلال خطّ واحد بدأ من نقطة محدّدة ثمّ حام قليلًا ليعود إليها. داخل هذا الخطّ الذي يتألّف منه القلب، داخل هذا الفراغ المسوَّر بقلم الفحم، بدت لي حدود الوطن الذي لا حدود له، وهو، في هذا العالم، الوطن الوحيد الذي يمكن الانتماء إليه.
تقول إيتيل عدنان في إحدى مقالاتها عن الفيلسوف الألماني نيتشه: إنه “لم يمنحنا حبّ “الكائن” بطريقة جذريّة فحسب، وإنّما منحنا أيضًا حبّ أشياء عاديّة، أي حبّ كلّ ما كان يلامس روحه والقلب”. كم ينطبق عليها هذا الكلام، وعلى الشعراء الذين بلغوا الصفاء في علاقتهم مع الذات والآخر، وعبّدوا الطريق، طوال أيّامهم، نحو رؤية أخرى جديدة للحياة والعالم.