ولد ألبرتو كورابل سنة 1946 بالشيلي ليبرحها بعيد انقلاب الديكتاتور بينوشي، وهو لم يقفل بعد السابعة والعشرين من عمره، نحو كندا، حيث أمضى عدد السنوات نفسها تقريبا. لم يختر المنفى ولا التخلي عن أصدقائه وعن ذكريات عروضه الفنية بمسارح سنتياغو، والتي جمعته بصديقه فكتور خارا. فضل ألبرتو كورابل، مكرها، الهروب بما تبقى من أحلامه الصغيرة إلى الكيبك. هناك، استطاع أن يحافظ على وفائه العميق للشيلي ولصداقته مع فكتور خارا الذي أقدم الانقلابيون على قطع يديه. عاد كورابل إلى الشيلي بعد ربع قرن من المنفى ليفاجأ بظلال الديكتاتور بينوشي جاثمة هناك رغم تنحيه عن السلطة.
تتوزع اهتمامات ألبرتو كورابل على الكتابة الشعرية والممارسة المسرحية والغنائية والسينمائية. أصدر سبعة مجاميع شعرية. من بينها «أغاني الانبعاث (1973)، «مسرح على عتبة الحرب» (1985)، «بريد المنفى» (1986)، «جسور» (1991)، «مسيرات فوق الثلج» (1993) و «الجرح المحتوم» (1996. بالإضافة إلى وضعه كشاعر، يعتبر ألبرتو كورابل أحد أهم مخرجي ومؤلفي مسرح أمريكا اللاثينية الجديد. عرضت أعماله المسرحية بمهرجانات كندا وفرنسا والأرجنتين والبيرو والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. كما صدرت له ثلاثة مؤلفات مسرحية، كان آخرها «لم نعد نحتاج لليومية» (1991).
خلال القراءة التي جمعتني به بالسجن القديم لمدينة تروا رفيير الكندية، والتي تم بثها إذاعيا بشكل مباشر، أجهش ألبرتو كورابل بالبكاء حين كان يقرأ قصيدته المهداة لذكرى معتقلي الشيلي. ثم خلد للصمت. واستمرت اللحظة المؤثرة أكثر من خمس دقائق. بينما فضل مخرج البرنامج عدم توقيف البث وفاء لبلاغة صمت الشاعر. هنا حوار معه.
u تبدو حياتُك أشبه بسفر مستمر. أي المحطات تستحضرها أكثر ؟
– يبدو من الصعب اختزال تجربة حياتية أو إبداعية ما. غير أنه يمكن أن أستحضر لحظة أعتبرها أساسية داخل هذه التجربة. ويتعلق الأمر بالتحاقي، في الثامنة عشر من عمري، بالدراسة المسرحية بجامعة الشيلي، حيث أمضيت أربع سنوات بمدرسة المسرح التابعة لها. وامتهنتُ المسرح بعد ذلك إلى حدود لحظة الانقلاب الذي عرفته الشيلي. وخلال هذه الفترة أيضا، مارستُ التلحين والغناء، خصوصا رفقة فكتور خارا وباتريس شومان، وذلك بالإضافة إلى كتابة الشعر بالطبع. وبعد الانقلاب، التجأتُ إلى كندا سنة 1974، حيث استأنفتُ أنشطتي المسرحية والغنائية والشعرية. واستمر وجودي إلى سنة 1996، لأعود من جديد إلى الشيلي.
u لنقف عند حدث الانقلاب. كيف عشتَ أحداث هذه اللحظة كمواطن وكشاعر ؟
– كان ذلك أمرا مرعبا. جد مرعب.. !. لقد كنا نحمل كثيرا من الآمال التي منحها إيانا صعود الحكومة الجديدة. كما كانت للرئيس سلفادور أليندي إرادة أكيدة لتأميم ثروات الشيلي ولتعميم التعليم والتطبيب. ولم نكن نتوقع أبدا حدوث الانقلاب، لأننا كنا نعتقد أنه لم تكن للجيش أية طموحات أو اهتمامات سياسية. لقد كان الانقلاب حدثا مفاجئا وعانينا معه أقصى درجات الوحشية التي تم بها. حيث تم إنشاء، مثلا، أكثر من 240 معسكر اعتقال. لم نكن نعرف ما الذي يجب فعله، لأننا لم نكن مهيئين للأمر. كان هدف الانقلابيين هو الإبادة الجماعية، التي شملت خصوصا المبدعين. وأستحضر هنا ما حدث لفكتور خارا الذي كانت تربطني به علاقة صداقة وعمل عميقة، حيث جمعتنا العديد من العروض الغنائية والمسرحية التي تولى إخراجها. كان إنسانا هادئا ومسالما لا يجرؤ على قتل حشرة صغيرة. لقد قام الانقلابيون باعتقال فكتور خارا، ولم يكتفوا بذلك، حيث أقدموا على قطع يديه. فعلوا ذلك كي يحرموه من العزف على القيثارة، متعته الكبرى.
u جئتَ من الشيلي إلى كندا. هل استطعت أن تؤالف بين دفء أمريكا اللاتينية وبرودة أمريكا الشمالية. على مستوى الحياة والصداقات أقصد ؟
– لم يكن من اليسير تحقيق ذلك. كنت أحس في البداية بمسافة مّا بيني والآخرين. غير أنني لم ألبث أن تجاوزت الأمر، حيث كرستُ السنة الأولى من تواجدي بكندا لتمثُّل خصوصيات طرق تعامل الكنديين وخصوصا الكيبكيين منهم. وكنتُ أجد هذا التعامل في البداية باردا للغاية. ثم انتبهتُ فيما بعد إلى أنه لا يمكن التعاملُ وممارسة الحياة بغير هذه الطريقة في بلد ككندا، حيث لا تظهر الشمس خلال الخريف أكثر من أربع ساعات في اليوم. من جهة أخرى، كنتُ أجهل اللغتين الفرنسية والإنجليزية. وتطلب الأمر مني جهدا مضاعفا لاكتساب لغة للتواصل في الحياة وفي الإبداع، وللاطلاع، بعد ذلك، على تجارب شعراء الكيبك. هؤلاء هم، بالضبط، من منحوني أفقا لاستئناف اهتماماتي الإبداعية والفنية. حيث أسستُ، بعد عشر سنوات من تواجدي بكندا، فرقة «مسرح المنفى»، وذلك مع الحرص على تمثل خصوصيات اختلاف أنظمة التواصل بين عالمي فضائي أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية. وهو الأمر الذي منح لأعمال هذه الفرقة طابعا فنيا يقوم على توظيف مختلف وسائل التواصل كالسينما والفيديو، بالإضافة إلى الرقص والغناء.
u هل تشعر الآن أنك بالفعل استطعت الاندماج في المشهد الإبداعي بالكيبك ؟
– بالتأكيد. استطعتُ خلال ربع قرن من حياتي بالكيبك أن أفتح أفقا حقيقيا وعميقا للتواصل العميق مع مكونات المشهد الثقافي والإبداعي بالكيبك. وأعتبر نفسي مدينا في جانب من ذلك لصفاء الاستقبال الذي أبداه مثقفو الكيبك تجاهي، حيث عملتْ، مثلا، دار نشر لي فورج على إصدار أربع مجموعات شعرية لي، كما دعتني للمهرجان الشعري العالمي الذي تنظمه، وذلك خلال أربع من دوراتها. كما يعود الأمر نفسه لحرصي على الانفتاح على التجارب الشعرية بالكيبك، حيث وظفتُ عددا من نصوصها في إطار أعمالي المسرحية وعروضي الغنائية التي تحمل في الوقت نفسه بصمات ودفء أمريكا اللاتينية. وهو ما لقي الكثير من الترحيب من طرف جمهور الكيبك. لقد اكتشفتُ بذلك أن هذا الدفء هو جزء من طبيعة الإنسان، وأن الإنسان هو نفسه أينما كان، وأن ما يغير طريقة تعامله هو تحول الطقس والجغرافيا وشروط الحياة. إن أكبر معجزة في الكون هي ولادة كائن ما. وتقتضي عظمةُ هذه المعجزة محاولةَ فهم هذا الكائن ومقاسمته حياته ومنحه الحب. كل الحب.
u حاولتَ أيضا الاقتراب من المنفيين والمهاجرين من خلال تأسيسك لفرقة «فرقة فنون المنفى»..
– بالفعل. حينما حللتُ بكندا، فوجئت بمستوى اختلاف العادات وطرق التواصل. ولتجاوز ذلك، حرصتُ على اكتشاف طرق عيش المهاجرين. واضطرني ذلك، مثلا، إلى السفر إلى منطقة الهارليم بالولايات المتحدة الأمريكية بغية معاينة عادات المهاجرين المقيمين هناك. ونتيجة لكل ذلك، أسستُ فرقة «فنون المنفى» التي تضم عددا من الفنانين المنفيين والمهاجرين. كانت ثروتنا الوحيدة هي رغبتنا في نسج لحظات إبداعية عميقة. ولذلك كنا مصرين على تقديم عروضنا داخل المقاهي والمطاعم وغيرها من الفضاءات التي لم تكن مهيأة لتقديم عروض مسرحية. كنا نفعل ذلك أساسا لكي ننال حب الآخرين..
u عدتَ إلى الشيلي بعد خمس وعشرين سنة من المنفى. هل تمكنت من الاندماج من جديد داخل المشهد الإبداعي ببلدك ؟
– لا. لم أستطع تحقيق ذلك للأسف. لقد فوجئت بوجود حاجز نفسي بين الذين ظلوا داخل الشيلي والآخرين الذين كانوا في المنفى. وفوق ذلك، وجدت أن هامش الإبداع بالشيلي ظل محدودا جدا. لقد استمرت الديكتاتورية بالشيلي طيلة سبع عشرة سنة. والآن، بالرغم من وجود حركة تسعى إلى تحقيق وممارسة الديموقراطية، فإن ذلك يبدو أمرا مستحيلا. وذلك لأن هذه الحركة تتم تحت ظل دستور خطَّ معالمَه رجالُ الديكتاتورية أنفسهم، والذين مازالوا يشغلون المناصب العليا الأساسية. وفوق ذلك، ثمة آثار جراح عميقة خلفتها الديكتاتورية. وهي آثار أصبحت تحدد جانبا من طرق الحياة، حيث نجد مثلا أنه لم تعد هناك رقابة، لأن ثمة رقابة ذاتية. كما أن ضوابط الديكتاتورية تحكم باستمرار، وبشكل خفي أحيانا، مجالات التربية والصحة وغيرها. كما لا يجب أن ننسى أن داخل كل أسرة شيلية ثمة، على الأقل، شخص مفقود أو مغتال أو منفي. الشيلي بلد مريض، يحمل جراحا عميقة لن يمكن تضميدها بدون وجود العدل. وفي الشيلي ليس ثمة الآن عدل. وبشكل مفارق لذلك، أستطيع أن أقول الآن أن الإمكانيات التي يوفرها لي السياق الثقافي بكندا، وبالكيبك خصوصا، هي التي تمنحني باستمرار القدرة على الإبداع والإنتاج. بدون أن ينفي ذلك قوة إحساسي بالانتماء للشيلي.
u الجراح التي تحدثت عنها بألم كانت أيضا وراء أعمال أدبية كبرى ؟
– بالتأكيد. غير أن أدباء الشيلي الذين يحرصون على الكتابة عن هذه المرحلة الحالكة يتم تصنيفهم كأشخاص مصابين بالنكوص، وذلك بشكل يصير معه التخلي عن الذاكرة شرطا للانتماء للحظة الراهنة. إنه المنطق ذاته الذي يحكم تلقي الأعمال المندرجة في إطار أدب السجن، اعتبارا لارتباطها العميق بالذاكرة وبالرغبة في استعادة تفاصيل مرحلة الديكتاتورية المظلمة. كما أن الأمر يشمل أيضا الفنون الأخرى، كالمسرح والتشكيل وغيرهما، حيث ثمة رغبة خفية لنسيان الماضي. فهل نستطيع أن ننسى فكتور خارا..؟
u يبدو ذلك مغايرا لانشغالات جيل السبعينيات الذي تنتمي إليه…
– بالفعل. أعتقد أن أهم خصوصيات هذا الجيل بالشيلي هي نفسها التي طبعت تجارب جيل السبعينيات بمختلف دول العالم. إنه الأمر نفسه مثلا بالنسبة لدول أمريكا اللاتينية، حيث انبثقت العديد من الحركات الثورية الداعية إلى إقامة العدل الاجتماعي. وكان المثقفون، بالطبع، إلى جانب هذه الحركات. وارتباطا بذلك، اتسمت الكتابة الشعرية لدى جيل السبعينيات بالشيلي خصوصا بتجاوزها للذات الفردية ولبحثها المستمر فيما هو جماعي ومشترك، وفي الإنصات لدواخل الآخر، باعتبار ذلك معْبرا لفهم ذواتنا الصغيرة. وذلك بشكل تصير معه الكتابةُ ممارسةً عميقةً للاختلاف.
u أنت شاعر. تمارس المسرح والغناء. كما ساهمت في أكثر من عمل تلفزيوني وسينمائي. كيف تدبر هذا التعدد ؟
– لا أجد أي تعارض بين اهتماماتي الأدبية والفنية بتاتا. أعتقد أن ثمة علاقة عميقة بين الشعر والمسرح مثلا. فالشعر طريقة مختلفة لممارسة المسرح. والمسرح بدوره طريقة مغايرة لكتابة الشعر. إنها علاقة تمتح جذورها وقوتها من فضاء الشرق، الذي عرف منذ القدم تزاوج الفنون جميعها، لتشكل بذلك رؤيا منسجمة للعالم. وأعتقد أنه من المفروض أن نعود إلى روح وجذور هذا اللقاء العميق..
u تبدو ملهما بثقافة الشرق..
– بالتأكيد. لقد قرأتُ جانبا من الشعر العربي. كما أنني معجب بطريقة الحياة هناك وبمستوى الاقتراب من الطبيعة وبحكمة الإنسان، وأيضا بالطابع الجمعي والمشترك لهذه الثقافة. وهو الأمر الذي نفتقده الآن في أمريكا اللاتينية، حيث تنحو القيم المشتركة نحو الاندثار..
u ليس الأمر كذلك تماما ! . تعيش متنقلا بين الكيبك والشيلي. هل تلك طريقتك للهروب من غربتك المضاعفة أم لتكريسها ؟
– الحقيقة أنني أعتبر نفسي منفيا باستمرار. أينما حللت. وفوق ذلك، يتملكني أحيانا الإحساسُ بكون جميع الشعراء والمبدعين هم منفيون. المبدع هو بالضبط شخص يُفترض فيه امتلاكُ القدرة على الإنصات للتفاصيل الصغيرة التي يحجم رجل الشارع عن الانتباه إليها. وهو ما يشكل نعمةً ولعنة في الآن ذاته. ثمة منفى داخل كل الأرواح التي تحمل همَّ تغيير العالم والبحث عن هامش لتكريس قيم العدل التي أصبح يفتقدها. وترعبني شخصيا رؤية الفوارق الطبقية وضحايا المجاعة والأمية والأمراض. ولذلك أومن دائما بكون القصيدة يجب أن تكون شاهدا على فظاعة ما تتعرض له كثير من الشعوب.
uu من قصائد ألبرتو كورابل
u أجســاد
خرجنا بانتهاء الحفل الاستعراضي.
لم يبق أحد هناك.
الكل مضى نحو أجساد أخرى.
أدراج الوزارات مقفرة.
قطع الجرائد تسبح في السماء
مدفوعة بالريح.
قيل ان كل شيء بدأ
في الفيتنام. آخرون تحدثوا عن بولونيا
عن جزر المالوين. عن ديكتاتوريات الأرغواي
والشيلي وعن اجتياح افغانسان.
كلهم قالوا : ليلة سعيدة.
بعضهم ذهب للنوم
الآخرون للعمل.
كلهم مضوا في الواقع
لاستيطان أجساد أخرى.
u حنين
إذا كنا قد وٌلدنا
بحاسة عصرنا
لنمتط إذن دراجاتنا
كي نمضي بأقصى السرعة
نحو عصر الكهوف.
u تسلية
لكل منفى
تسليته.
تردد السيدة كلاريتا
وهي تلمح الثلج
عبر نافذة مركز استقبال بمونتريال.
u الأرض
الأرض فضاء للألم
وعمود الديكتاتوريات.
لا أقصد الكرة الأرضية.
اقصد الأرض التي يجب أن تصير
يوما ما أفقا
تهتدي إليه جميع الحواس.
u هناك
حيث سينمو الحب
في الشمال كما في الجنوب.
u صداقة
هذا اليوم
زارتني قطعة حجر
لم تقل شيئا.
حاوره : حسن الوزاني
كاتب من المغرب