إعداد وتقديم وترجمة: عيسى مخلوف
يُعَدّ الشاعر والمترجم والناقد السويسري فيليب جاكوتيه أحد أبرز الشعراء في القرن العشرين. وُلدَ في العام 1925 في سويسرا وتوفّي في شهر شباط/ فبراير الماضي في منطقة «الدّْرُومْ» الفرنسيّة التي وجد فيها، منذ خمسينيّات القرن العشرين، ملجأه الأقرب إلى الطبيعة، ومنها نَهَلَ الكثير من قصائده ونصوصه. جمعته في فرنسا أيضًا صداقة عميقة مع عدد من شعرائها ومنهم إيف بونفوا وجاك دوبان وأندريه دوبوشيه.
تميّزت قصائد جاكوتيه النثريّة بالتقاطها تفاصيل الحياة ورؤية جوانبها الخفيّة بعيدًا عن الصورة الشعريّة التي «تحجب الواقع»، على حدّ تعبيره. والواقع، هنا، هو الجانب غير المرئيّ للكائنات والأشياء. ولذلك فإنّ شعره يخفي بقدر ما يُفصح، والضوء الخافت الذي يتسرّب منه يبدو كأنّه ذاهب نحو الامّحاء، وهي «طريقته لبلوغ التألُّق». في هذا السياق، ترجم أيضا عددًا من الروائيين والشعراء، وترجمته لنتاج راينر ماريا ريلكه وهولدرلين هي مِن أجمل ما نُقل لهذين الشاعرين إلى اللغة الفرنسيّة. إلى ذلك، كان مهتمًا بما سمّي «الرواية الجديدة» المتمثّلة خصوصًا في أعمال كلّ من ميشال بوتور وناتالي سارّوت وألان روب غرييه. وتقتضي الإشارة أيضا إلى أنّ جاكوتيه لفتته تجربة الكاتب الجزائري كاتب ياسين، وهو أحد الذين ساهموا في التعريف بها على نطاق واسع.
استوقفني بين كتب جاكوتيه التي صدرت في السنوات الأخيرة قبل وفاته كتاب عنوانه «نار هادئة» (منشورات «فاتا مورغانا» الفرنسيّة)، ويحكي عن رحلة قام بها إلى لبنان وسوريا مشيرًا، منذ البداية، إلى أنّ المحنة التي تضرب تلك المنطقة من العالم لا تحجب المفاجآت الطافحة بالحياة والدهشة. الكتاب رحلة في بلاد يتزاوج فيها الموت والتهديد بالموت، من جهة، ونمط حياة يتّسم «بالجمال والأناقة والابتسامة»، من جهة أخرى.
تبدأ الرحلة في لبنان وتنتهي فيه، مرورًا بسوريا. والمؤلّف الذي قام بهذه الرحلة في خريف العام 2004، يأخذنا معه إلى أماكن كثيرة تعرّف إليها بين البلدين. يصف إحدى الأمسيات في منزل الإعلامي والسياسي والديبلوماسي اللبناني الراحل غسان تويني، ويلاحظ «مزاج الودّ الخفيف والدفء الملوّن»، وعالم يوقظ ذكرى بعيدة مؤلّفة من عطر أشجار البرتقال في مدينتَي إشبيلية وقرطبة، كما يستحضر أجواء «ألف ليلة وليلة» التي تمثّل حكاياتُها كتابَ طفولته القديمة حيث الحلم جزء من الواقع.
عندما انتهت السهرة، وخرج من بيت المُضيف، وجد نفسه أمام حرّاس وكلاب حراسة، وتنبّه إلى أنّ القسوة والعنف يحضران أيضًا معًا في حكايات «الليالي». وجها جانوس في الأسطورة: وجه اللهب المزدوج !
«نار هادئة» كتاب الحاضر والذكريات. في قلعة بعلبك، في سهل البقاع، يتذكّر جاكوتيه «أكروبول» أثينا «حيث كان الصعود البطيء نحو الأطلال الأكثر إشراقًا»، وحيث تخيّل أنّه يصعد إلى «أرضيّة الآلهة». أمام الحجارة العملاقة، يستحضر «النعمة النباتية الأنثوية»، و«تتحرّك السعادة لرؤية الأعشاب البرّية في الهواء المضيء لذلك الصباح». وظنّ أنه يسمع «النشيد» الذي خصّه الشاعر الفرنسي بول فاليري لتلك الأعمدة التي راح جاكوتيه ينظر إليها كما لو أنّها «صفّ من أشجار الحور»، أو «نوع من القيثارة الحجرية الهائلة».
من بعلبك إلى مدينة حماة حيث يتصالح العالم القديم والعالم والجديد، «عالم المحجّبات وقفّازاتهنّ السوداء وعالم الشُّقرة الرماديّة»، وحيث رأى الماء الذي ترفعه النواعير الكبيرة، بعجلاتها الخشب الكبيرة «الشبيهة بالنجوم»، كما وصفها الرحّالة الشهير ابن بطوطة في القرن الرابع عشر.
في دمشق، توقّف أمام واجهة الجامع الأموي الكبير والمآذن الثلاث. الواجهة المعروفة بفسيفسائها الجميلة ورسومها المؤلّفة من أوراقٍ سُنبليّة مخرّمة وأوانيها المتدفّقة وأشجارها المُؤَسْلَبَة التي أحالته إلى القسطنطينيّة ومدينة رافينا الإيطاليّة. ولئن كانت الأشجار، هنا، مُنجَزة بصورة واقعيّة، فهي تشير إلى ما هو فوق الواقع، أي إلى الجنّة. وينعكس حضور هذه الأشجار في اللون الأزرق الفسيح لمدينة مثاليّة.
من الواجهة المزخرفة إلى صالة الصلاة الكبيرة، «لفحَ ضوء رقيق كلّ ما حولنا، وبثَّ فينا إحساسًا بهدوء سعيد». كانت هذه الآثار التاريخيّة تفتح في مخيّلة الكاتب أماكن أخرى وتذكّره بكُتب وصُوَر، وتعيده إلى العالم الذي حلم به الطفل الذي كان، منحنيًا فوق صُوَر يستحيل نسيانها.
في تدمر، اسستحضر المرثيّة العاشرة لِ «دْوينو»، رائعة الشاعر راينر ماريا ريلكه. في ضوء الصباح الأوّل، يتداخل فوق الأعمدة اللونان الورديّ والأمغَر. جاكوتيه لا يصفهما في كلماته، بل يرسمهما بعينيه مستشهداً بِ «نشيد القَدَر» لهولدرلين: «لكن، هكذا نحن، / لا نستطيع بلوغ الراحة في أيّ مكان/ رجال الألم نحن/ نترنّح ونتهاوى، بلا تَبَصُّر/ من ساعة/ إلى أخرى،/ مثل الماء المُرتدّ/، من صخرة / إلى أخرى/ ترميه السنون في الهاوية المُريبة».
مع ذلك، فإن الشيء المرئيّ يتجاوز الصُّوَر والذكريات. الضوء السخيّ والمكثّف الذي أشار إليه الشاعر مرارًا في كتابه يحيلنا إلى نصوص وقصائد أخرى من تأليفه، يستعرض فيها علاقته بالطبيعة. الضوء هنا لا يُبهر بل يدلّنا على الطريق، ويساعدنا على اكتشاف نور الداخل.
في هذه الرحلة التي تشمل الحاضر والماضي، يتوقّف المؤلّف عند الهندسة المعمارية، لا سيّما العمارة المقدّسة للأماكن التي هجرتها الآلهة. يراقب الأقواس وتيجان الأعمدة والأحجار المنحوتة التي تعبّر عن افتتان النحّات بالنباتات، كما لو كان غرض الفنّ هنا تمجيدًا لعناصر الطبيعة. يصغي جاكوتيه إلى هذه الموسيقى التي تصدح عند الخطّ الفاصل بين المرئيّ واللامرئيّ، ترتفع أعلى من العمود الذي رفعه العموديّ للهروب من الحُجّاج الذين اقتفوا أثره، على أمل الاقتراب من السماء التي كانت، في الماضي، أقرب بكثير ممّا هي عليه الآن، على الرغم من التقدّم في مجال علوم الفضاء، ومن الصواريخ والأقمار الصناعية.
ينظر جاكوتيه إلى الفنّ القديم ويقارنه بالفنّ الحالي. يجد في الماضي فكرة عن الجمال تمنحه بعض العزاء. أمام أنقاض كنيسة القدّيس سمعان العمودي، وأمام «تيجان تشبه أوراق الأشجار المائلة بفعل الريح!»، يظهر أمام عينَيّ المسافر ضريح القدّيس أنتيمو، الكاهن والشهيد، في توسكانا. في تلك الكنائس، يجد الشاعر «أحد المساكن التي لا يزال المقدّس حاضرًا فيها، كقلب بعيد ملتمع، كشعلة ضعيفة للغاية وثابتة للغاية». يتحدّث عن المعنى المقدّس لأحجار المعابد والكنائس، وعن «تلك اللحظة في الهندسة المعمارية عندما تتقدّم الأوراق الأولى نحو الحجارة، تماماً كما تفعل مع الأغصان، نهاية كلّ شتاء».
أمام هذه الآثار القديمة، يغرق جاكوتيه في التأمّل والذهول. تبدو الآثار أمامه كتابًا مفتوحًا على القراءة والتخيُّل.
عند عودته إلى بيروت، يمضي أمسيته الأخيرة في ضيافة الأميرة فايزة سليم الخازن. يلاحظ على أحد رفوف مكتبتها كُتب ريلكه المطبوعة في دار «غاليمار» الباريسيّة ضمن سلسلة «لا بلياد»، وهي من ترجمته، فتطمئنّ نفسه، لكنّه يلمح عزلة هذه النعمة العابرة في مكان مهدَّد بالاندثار.
من جهة الحلم، إذًا، دخل فيليب جاكوتيه إلى لبنان وسوريا. ومن جهة الشعر أيضًا. بدءًا من الصفحات الأولى من الكتاب، يستدعي قصيدة لهولدرلين، ومنها استمدّ عنوان كتابه. في مكان آخر، يستشهد براينر ماريا ريلكه، وبسان جون بيرس ، وجورج شحاده ، وناديا تويني ، وفؤاد غبريال نفّاع، وصلاح ستيتيّة، وبدر شاكر السيّاب ، وأدونيس ، ومحمود درويش. الشعر حاضر بقوّة في الكتاب، كأنه يقول إن الرؤية الشعرية للعالم تظلّ الأكثر أهمية، الأكثر واقعية والأكثر صدقًا، لأنها تحاول أن تعطي معنى لعالم تشوّهه الكراهية ونوازع العنف.
نقرأ «نار هادئة» كأننا نتقدّم في كتاب آخر لجاكوتيه عنوانه «مَشاهد طبيعيّة مع وجوه غائبة» ، وتبدو الطبيعة فيه مصدرًا للعجب والسحر. في فضاء الشرق المحدّد هذا، يقترب الشاعر من أرض مليئة بالمعاني، وكتاباته تحاول أن تلتقط عناصرها: الفضاء والأنوار، في المقام الاوّل. الفضاء: للصعود والطيران والذهاب إلى البعيد والتجاوُز ومعانقة السماء. أمّا الأنوار فلمواجهة الموت وحروب البشر والابتذال السائد في الحياة اليومية، ولجعل الحياة قابلة للعيش.
علاقة جاكوتيه بالطبيعة مفتوحة على ميتافيزيقيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقراءة شعراء من أمثال هولدرلين وريلكه، وترجمتهم إلى اللغة الفرنسيّة. لذلك يتحدّث عن الطبيعة كأنه يفشي لنا سرًا، ويصبح الشعر، في ما وراء الكآبة التي يُفصح عنها، بحثًا عن الجمال والتناغم.
يبدو في نتاج جاكوتيه أيضًا أنّ الإنسان، مهما بلغت قوّته، ليس، بأيّ حال من الأحوال، سيّد الطبيعة المُطلق. أن يكون المرء ضارًّا لجنسه ومسيئًا للحيوان، أن يهدّد النظام البيئيّ بأكمله ومعه الحياة على الأرض، هذا لا يعني التعبير عن القوّة. الإنسان الذي يتوق إليه جاكوتيه يشبه، إلى حدّ بعيد، ذاك الذي يطالعنا في منمنمة يابانيّة: نقطة في هذا الكون اللانهائيّ. وأمام هذه المنمنمة، نسمع الشاعر يردّد: «نراها ونتوق إلى الذهاب نحو الأشجار، نستظلّها ونبقى هناك في سكون». بلا حراك، لكن أحياء ومنسجمين مع العالم.
كلّ حركة، في هذا السياق الشعري، هي ولادة جديدة. حبّة رمل تتحرّك في الريح الصاعدة. هكذا ستكون الكتابة جزءًا لا يتجزأ من التجربة الداخلية للكاتب. لقد رأيناه كيف تفاعل مع أعمدة بعلبك وتدمر، وأمام أطلال كنيسة القدّيس سمعان العمودي، تمامًا كما هو الأمر حيال عناصر الطبيعة، فهو يصغي إلى العالم ويُشرف على الأسرار. تتماهى الكتابة عنده مع الموسيقى. تمرّ السحابة ولا تنبس بكلمة. تتحقّق القصيدة عندما تتوقّف عن الكلام. هنا تكمن فلسفته الشعريّة، وفنّه يشبه تمارين الصمت من أجل التقاط «صوت الكون» الذي يربطه بمخلوقات رائعة تفتح آفاقًا جديدة للحواسّ. يكتب الشاعر ليكون أقرب ما يكون من الأشياء وليعطيها الكلام لاحقًا. لتتكلّم هي عن نفسها، لأنّ الكلام نيابةً عنها ضَربٌ من العبث.
عَبْرَ الشعر، يقترب فيليب جاكوتيه من «اللغز الذي يتعذّر اختراقه» مذكّراً بالكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخِس الذي يتحدّث عن استحالة قياس الألوهيّة بالوسائل المحدودة للإنسان. ويلتفت إلى الضوء المتدفّق من الأوراق الطازجة للأشجار من دون أن ينسى التهديدات المتربّصة بنا. يسبر الأعماق، يتساءل ويتابع البحث عن الحقيقة مُدركًا أنّ كلّ ما هو جوهريّ بعيد المنال.