ياسين عدنان*
لم يكن الشاعر العربي القديم، والجاهلي تحديدًا، يُجاهر بالعزلة والهشاشة وبذهابه الشعري عاريًا نحو القصيدة. فوضعه الخاص كلسان حال القبيلة يتطلب منه التّماسُك ورباطة الجأش والكثير من الاعتداد بالنفس. فهو نجم القبيلة الساطع ولسانها المُبين. وعليه أن يكون على استعداد دائم للذود عن قبيلته والتفاخر بأيامها وانتصاراتها. صحيح أن طرفة بن العبد لم يعرف كيف يُخفي هشاشته وضعفه حين أدركَهُ “ظلم ذوي القربى” و”تَحامَتْهُ العشيرةُ كلها” و”أُفرِد إفراد البعير المُعبّد”، لكن طرفة استثناء يُستشهد به لتأكيد القاعدة. كما أنه سرعان ما أفلح في تجاوز حالة الضعف التي تلبّسَتْه ليعود في نفس القصيدة / المعلقة إلى ما اعتدناه من شعراء عصره من الفخر وكيل المدائح للذات. فهو “الرجل الضّربُ الذي تعرفونه”، “أخو الثقة”، “المنيع”. وهذا هو الأصل لدى الشاعر الجاهلي، منيعٌ بالضرورة. ومناعته من مناعة قبيلته وقوتها. وبما أن المهام الملقاة على عاتق شعراء ذلك الزمان كانت مما تنوءُ عن حِمله الجبال، احتاج الشعراء دائما لمن يسندهم في مهامهم. لذلك اتخذ كل واحد منهم لنفسه شيطانًا يشدد به أزره ويشركه في أمور قصيدته. هكذا اعتقد العرب في الجاهلية أن لكل شاعر شيطانًا، فللنابغة الذبياني شيطانٌ اسمه مدرك بن راغم. أما طرفة بن العبد فشيطانه أبو الخطار. فيما اختلف الرواة حول شيطان امرئ القيس: هل كان اسمه عقيبة بن نوفل أم لافظ بن لاحظ؟
وكان أبو نجم العجلي، الراجز، قد فاخر شعراء الجاهلية بتميز شيطانه عن شياطينهم قائلا:
إني وكل شاعر من البشر / شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
أما حسّان بن ثابت الأنصاري فلم يتردد في جاهليته في نسْبِ جزء مهم من شعره لشَيْعُبانِه – والشَّيعُبان مرادف للشيطان- قائلا:
ولي صاحبٌ من بني الشيعبان / فطَوْرًا أقول وطورًا هُوَ
وفي الحقبة الأموية مع الصحوة التي صنعها شعراء النسيب والنقائض غادرت شياطين الشعر حالة الكمون التي عاشتها زمن الرسالة والخلافة الراشدة. فلم يتردد جرير في المزايدة على شعراء الجاهلية مُقرًّا بأن شيطانه ليس سوى إبليس شخصيا:
إني ليُلقي عليَّ الشعرَ مكتهلٌ / من الشياطين إبليس الأباليس
فيما لكُثيّر عزة اعتراف شهير جاء فيه: “ما قلت الشعر حتى قُوِّلتُه، فبينما أنا نصف النهار أسير على بعير لي بالغميم، إذ راكب قد دنا إليّ حتى صار إلى جنبي، فتأملته فإذا هو من صفر وهو يجر نفسه في الأرض جرًّا، فقال لي: قل الشعر، وألقاه علي، قلت: من أنت؟ قال: قرينك من الجن، فقلتُ الشعر.”
هكذا إذن تحوّل الشيطان مع كثيّر إلى قرين. والقرينُ لغةً هو المصاحب والملازم. فقرين المرء مصاحبٌ له لا يفارقه. لكن الظاهر أن القرين في الإسلام ليس بريئا تمامًا. جاء في سورة الزخرف: (ومن يعْشُ عن ذكر الرّحمن نُقيّضْ له شيطانا فهو له قرين) الآية 36. ثم في الآية 38: (حتّى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرِقَيْنِ فبئسَ القرين).
إذن هو صاحبٌ ضرُّه أكثر من نفعه. ضالٌّ مُضِلٌّ يُزيِّن لقرينه المعاصي. والغريب أنه ما إن تحلّ ساعة الحساب حتى يتنكّر لقرينه بل يشرع في مُخاصمته والاعتراف عليه والنيل منه. جاء في سورة ق: “قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيد. قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيد. مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيد”.
هذا القرين ظل دائما هناك، يغرّر بالبشر أجمعين، لكنه يرتاح أكثر كلما وجد نفسه بصحبة شاعر. حتى قُيِّض له الشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي اختار أن يدخل لأول مرة في مواجهة مفتوحة مع قرينه. نوع من المكاشفة تتيح لهذين الخصمين العنيدين أن يتكاشفا ويتواضحا، أن يختلفا ويألتفا فيما يحاوران أحدهما الآخر في أكثر من قصيدة وديوان ولكن أساسًا في قصيدة اللعبي الطويلة “عزيزي القرين”. ففي القصيدة نتعرف بوضوح أكثر على هذا القرين الذي:
حتى في أحلامي
يحشُر نفسه
وبطلاقة يتكلمُ
لغة شياطيني
هو اعتراف إذن بشياطين الشعر، تماما كما كان عليه الحال مع الجاهليّين ومع جرير. وطبعًا للشياطين لغتهم الخاصة التي لا يستطيعها البشر العاديون، ولهم أيضا تلك القدرة الخارقة على استيعاب أكثر الكلام استغلاقا، بما في ذلك حديث الحب “بلُغَتِه الغريبة”. الكل يعرف اللعبي كأحد أهم الشعراء العرب الأحياء اليوم، لكنه شاعر بالفرنسية. الشاعر العربي الوحيد الذي فاز بجائزة أكاديمية الغونكور، وأحد أهم مترجمي الشعرين الفلسطيني والمغربي إلى لغة موليير. وهو إلى هذا وذاك، صاحب معرفة بالإسبانية وبعض الانجليزية. لكنه نجح رفقة قرينه – حتى وإن تغيَّر اسم هذا القرين وجنسه – في أن يقيم من هذه اللغات جميعها:
باحة للعب
في دغَلٍ
في منطقة محرّرة
من اللُّغة
إذن باللغة يحرّر الشاعر الذات والوجدان من اللغة. كأنه يطبّق وصية أبي نواس: “وداوني بالتي كانت هي الداء”. واللغة هنا الداء والدواء. فالشعر يخلق آثاره في اللغة وباللغة. بل إن ماهية الشعر، بلغة هولدرلين، لا يمكنها أن تتجسد إلا في اللغة وعبرها. فاللغة مادة الشعر وهي مجال اشتغال الشاعر. لذلك من الطبيعي أن يرتاب الشاعر في اللغة التي يتلقاها من المجتمع. بل يشتغل عليها فاتحا إياها على ممكنات تعبيرية جديدة. هكذا نضبط عبد اللطيف اللعبي رفقة قرينه متلبّسين بـ “ترصُّد الكلمات” و”التربّص” بها:
ندبّر لها المكائد
ندعو منها التي تلتحف علانيةً
بالعفة
أن تخلع ثيابها
نُقصي
تلك التي تملأ الفراغ
وتُستعمل في الحشو والتكرار
نتعرّف
على تلك التي تأتي من الهوامش
المنبوذة
ونؤمِّنُها
“الغريبات” منها (أي من الكلمات)
نمنحها، بكل فرح
حق اللجوء
شرط أن تقترن
بامرأة أو رجل
من الأصليين
وهذه أفضل طريقة لها للتجدُّد
يبدو أن الصِّنوين واعيان معًا بمحورية دور الشاعر في تجديد اللغة، وفي تحريض الكلمات على أن تغير جلدها ودلالاتها. لكن ما بال القرين لا يتردد في تسميم المدار اللغوي لصنوه، خصوصا في اللحظة التي بدا فيها حريصا على تنبيهه:
إلى أن لغة الآخر
التي هي أداة تعبيرية
لن تكون أبدا وطني
أن القرّاء من بني جلدتي
يتجاهلونني أيَّما تجاهل
كان واضحا أن قرين الشاعر يتعمّد إحراجه. هو يعرف أن اللعبي لم يكن مقتنعا بفكرة كاتب ياسين الذي كان يعتبر الفرنسية “غنيمة حرب”، ولا بدعوة رفيقه في مجلة “أنفاس” محمد خير الدين الذي كان يدعو للجوء إلى “حرب عصابات” في عُقر لغة التبنِّي. لم يكن يتوقّع مع ألبير ميمي النهاية الوشيكة للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، وكان معترضا على مالك حداد حين حثَّ على خيار الصمت بدلا من المنفى داخل لغة مستعارة. كان لـ”مجنون الأمل” موقف أكثر واقعية وأقل تنطّعًا، لا يخلو من براجماتية، ينطلق فيه أساسًا “من حق الكاتب باستخدام اللغة التي يتقنها أكثر”. هكذا بكل بساطة. وهو يكتب بالفرنسية فقط لأنها تسعفه أكثر من العربية التي نذر سنوات سجنه لتعلُّمها والتعمُّق في آدابها، ما أعطاه حينها “انسجاما داخليا لم أتخيّل في السابق أنه ممكن”. هكذا حينما انفتحت البوابة العملاقة للسجن المركزي بالقنيطرة يوم 18 يوليو 1980، خطا اللعبي خارج “قلعة المنفى” خطوات وجدها واثقة تماما. فقد “أصبحتُ أخيرًا أستعملُ ساقيَّ الاثنتين لكي أسير”. لكن القرين اللئيم حريص على النيل من هذا الانسجام الذي يستشعره الشاعر في إقامته الخلّاقة بين لغتين، وفي غبطته بتمكّنه أخيرًا من النهل من معينيهما في ذات الآن. ثم إن القرين يبدو أحرص ما يكون على تعكير مزاج الشاعر وهو يسرُّ له بأنه ما زال لم يبلغ المكانة التي يستحقها لدى القارئ المغربي، المُعرَّب تحديدا. فالقرين يعرف دون شك أن لعبد اللطيف اللعبي انشغالًا خاصًّا بترجمة شعره إلى العربية وإيصاله للقارئ المغربي، يفعل ذلك بهمَّة المناضل الذي يفعل المستحيل لكي يصل صوته لعموم الناس وتنفُذ فكرته إلى وجدان شعبه. والغريب أنه اكتشف مرة وهو في فلسطين، في لقاء مفتوح مع الجمهور في بيت لحم، أن الفلسطينيين كانوا أعرف به من المغاربة. يقول في “شاعر يمر”: “تأكدّتُ مرة أخرى من أن بعض مؤلفاتي المتعلقة بتجربة الاعتقال قد قُرِأت في السجون الإسرائيلية أكثر مما قُرأت في مدارس المغرب الثانوية وجامعاتها.”
طبعًا في الأمر بعض المبالغة. لأن للعبي بالتأكيد قرّاء في بلده يتابعونه ويترقبون جديده. عشاق الشعر في كل البلاد أقلية، لكنها أقلية ساحقة. والقرين يعرف ذلك دون شك، إلا أنه يصر على أن يمرر على اللعبي الكثير من مواقفه ويدفعه إلى التوتر في كل ما له علاقة بالهوية وأسئلتها. إنه عدو الانسجام. يبذل قصارى جهده لكي لا يطمئن اللعبي إلى بُعدٍ من أبعاد هويته، ليس اللغوية وحدها بل الوطنية أيضا. واللعبي واع بذلك، وهو ما يصوغُه بدقة في هذا المقطع:
هو يزعم أنه أرجنتيني
بينما أجد أنا صعوبة
في أن أعدّ نفسي فرنسيًّا
وحين أَستلذُّ حريتي الجامحة
كمُعفىً من أية جنسية
فمن المُحال آنذاك
أن تعثر على أكثر مغربية منه.
هو قرين متقلّب إذن، لا يستقر على حال. لكن ألا سبيل إلى محاصرته في الزاوية الضيقة؟ ألا سبيل إلى الفكاك منه ومن ألاعيبه؟ يعترف اللعبي في حوار أجرته مع مجلة “البيت” (بيت الشعر في المغرب) بأن هذا “القرين الأليف يحيِّره وقد يُخيفه أحيانًا” لكنَّ “صراحته تجاهي هي التي تمدني بتلك الطاقة على انتقاد النفس وتوجيه السخرية لها قبل توجيهها للآخرين”، ثم يضيف شارحًا أكثر: “يمكن أن نتخيّل القرين كحكَم نزيه، صارم ومشاكس. يمكننا أيضًا أن نتخيله كناقد لا تنطلي عليه الحيلة وهو يقول: حذار من السهولة والتكرار، من الغموض المجاني والقاموس الجاهز، من الاستعلاء إزاء القارئ أو مغازلته”. قبل أن يخلص في الحوار إلى القول “إن اكتشافي لذلك القرين واعترافي التام به شكّل بدون شكٍّ أحد التحولات الأساسية في تجربتي الخاصة، وهي التي أمدتني بحرية أكثر جرأة، بتيقظ دائم وبمَعين من السخرية لا أودُّ البتة أن ينضب.”
هي شراكة واعية إذن بين الشاعر وقرينه. لهذا ربما وسّع الشاعر من المجال الحيوي للقرين، وعدّدَه بالأسماء والصفات منذ اسم الطفولة القديم “ناموس” الذي كشف لنا عنه في روايته السيرية “قاع الخابية”، إلى الأسماء المستعارة التي كان يتخذها لنفسه أيام النضال والعمل السري: فهو “الشفشاوني” حينا، “الأندلسي” أحيانًا. دون أن ننسى اسم علي غسان المستعار الذي سبق للعبي أن نشر تحته “قصة مغربية” في طبعتها الأولى بفرنسا. هذا عن أسماء الشاعر، أما الشخوص المقربون منه فقد كانوا شديدي الالتصاق به في أعماله الشعرية حتى إن المسافة تكاد تتبدّد بينهم وبين قرينه الأليف. فقصيدة “قريني العزيز” مهداة إلى عبد العزيز اللعبي الشقيق المُقرَّب. في “لغات مشتركة” تظهر جوسلين اللعبي، الزوجة والرفيقة، في إهاب القرين. وهكذا يتعدّد القرين في قصائد اللعبي ويتمدّد حضوره على أكثر من نص وديوان، حتى صار مكوِّنا جوهريا في قصيدته وشعره. يسكن حتى أحلامه في النوم واليقظة على حدٍّ سواء.
في كتابه “شاعر يمر” يحكي اللعبي “أنني رأيت نفسي أبكي في الحلم. بسبب من؟ أو ماذا؟ لا أعرف. من الواضح أن قناة لاشعوري مشفرة.” إذن علينا بمن يُعبِّرُ الرؤيا ويفسّر الحلم. يحكي ابن سيرين وغيره من مفسري الأحلام القدامى أن القرين يظهر في المنام على هيآت عديدة منها القط الأسود. ويضيف أن رؤية القطة السوداء في المنام تدل على وجود صديق مخادع غادِر في حياة صاحب الرؤيا. فما قولك أيها الشاعر؟
يجيب عبد اللطيف اللعبي في قصيدته “عزيزي القرين”:
لا تبحث عن القط الأسود
داخل الغرفة السوداء
خصوصًا
إذا لم يكن ثمة قِطّ.
لكن من سيصدّق أن لا قِطّ هناك فعلا؟ ألا يعني ذلك أن هذا القرين المزعوم كان من أضغاث تخيّلاتك أيّها الشاعر؟ قلتَ إن قرينك كان الدليلَ بالخُلفِ على وجودك؟ فكيف يكتمل وجودك دون وجود الدليل؟ أم أنّ الشاعر لا وجود له أصلا خارج عبوره؟
في المشهد الخامس من مسرحية “تمارين في التسامح” اجتاز شاعرٌ الخشبة في هدوء. علّق الممثل الأول: “شاعرٌ يمُرّ”، أضاف الثاني: “لكن شعره لن يكتسي أية قيمة إلا بعد موته”. فأمَّن الأول على كلامه مؤكّدًا: “الشاعر الجيّد هو الشاعر الميّت”. في نهاية المشهد اجتاز الشاعر الخشبة في المنحى المعاكس. ثم “ظلام”. كان الصمت مطبقا والخشبة فارغة، وفعلا لم يكن ثمة قِطّ.
المراجع
– بستاني الروح، شعر (عبد اللطيف اللعبي)، منشورات بيت الشعر في المغرب، 2015
– شاعر يمر، (عبد اللطيف اللعبي)، دار ورد، دمشق 2010
– تمارين في التسامح، مسرحية (عبد اللطيف اللعبي)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2005
– مع طائر الفينيق، حوار أجراه رشيد المومني، مجلة البيت، بيت الشعر في المغرب، عدد مزدوج، 17-18، صيف 2010