انتبه: قد تتقاطع أحداث هذه القصة مع أحداث وقعت في الواقع، فلطالما تكررت هذه القصة.
«خليفة بن خميس المجهولي» هتف الشرطي الواقف قرب منصة القضاء وعيناه مسمرتان على ورقة ترتجف بين يديه («لماذا كانت الورقة ترتجف؟» تهمس لنفسك، أو نفسك تهمس لك، «لماذا الشرطي قلق؟ ربما يعرف المُدعى عليه؟ أو لعله جديد في المهنة ولم يعتد أن يجهر بالقراءة أمام حشد كهذا، ملامحه لا تدل على الإطلاق أنه من المستجدين، أيعقل أنه يخشى أن يخطئ في قراءة الأسماء؟ مستحيل!! سيجد بالتأكيد من يدربه على قراءتها قبل ذلك، من المحتمل أن نظره ضعيف ويخاف أن يتسبب له ذلك في تقاعد مبكر، حينها لن يكفيه راتب التقاعد ليقوم باحتياجات أسرته، خصوصا إذا كانت أسرته اجتماعية، تهتم بمجاملة الأقارب والأباعد، من يدري لعله لم يتزوج أصلا؛ رغم أن التكاثر سمة محمودة من أغلب الأسر العمانية، يأتي المولود ورزقه معه، كما يقول الوعَظة، وذلك القول يشجع الفحول على توفير ثمن (العازل الذكري). من الأفضل أن تستخدم مصطلح (العازل الذكري) حين تقدم شهادتك لأن لفظة (كوندم) سوقية، محرجة، قد لا يتعاطف معها القاضي ..
تلقف الشرطي الآخر، الواقف قرب باب قاعة المقاضاة الجزائية الاسم، لم أكد أتبين ملامحه، فقد أدار ظهره حال أن تأكد أن خليفة بن خميس المجهولي ليس في القاعة، ليصرخ في ممر الانتظار: «خليفة بن جمعة المجهولي» (جمعة!! أردت أن تصحح له، أن تنبه الشرطي ماسك الورقة، أو القاضي الغر الذي يجلس عضو الادعاء العام بجواره، قلت: لابد أن عضو الادعاء سيقف ليصحح الاسم، لكن ليس أيّا منهم فطن لتحوير الاسم، وتحويل خميس إلى جمعة، ولا حتى أمين السر والكتبة الآخرون والحضور، فأدنْتَ أذنك: ربما توهمت..)
«وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» بخط الثلث؛ زينت الآية الجدار الذي يستند عليه كرسي القاضي الغر. بعد همهمات من الشرطي للقاضي ووشوشات من القاضي لكاتب على يساره؛ جهر القاضي: «القضية التي بعدها»، تحمس الشرطي وكأنه يقلب صفحة جديدة في حياته : «القضية رقم ….» (شاغلتك نفسك وأنت تنظر إلى جمال خط الثلث بتذكر حصص الإملاء والخط.. لقد وصف المعلم خطك مرة بخربشات القطط.، تبتسم لنفسك: لا حاجة لك الآن إلى الخط الجيد يكفيك لسانك المعسول … أعادك صوت القاضي إلى القاعة) : «هات بطاقاتهم الشخصية» أعطى الشرطي البطاقات للقاضي ثم أدخل إلى قفص الاتهام امرأة ضئيلة ترتدي ثوباً متهدلا أخضر، وينسدل من رأسها لحاف أصفر متقصف به دوائر حمراء، لم يكن للقفص الخشبي باب، لكنه كان مسيجا بنظرات الشرطي الصارمة.
«أنت عبدالجبار العقابي؟» سأل القاضي، أجاب رجل منكمش الجسد – بدأ البياض يتبختر في لحيته – بتودد: «نعم سيادتك، وهذي زوجتي، عزيزة الدويهي، هي الشاكية سيادتك»، (لفت انتباهك في امرأة عبد الجبار ضخامة جسدها، وصوتها الأجش الذي لم تفلح العباءة السوداء وغشوة الوجه في ستره «شكله الرجال متزوج واحد معضل» سخرت لنفسك، ثم لمت نفسك على السخرية «؛ أما امرأة القفص ذات الأسمال الملونة فقد تحقق في ظنك أنها خادمة للمرأة ذات السواد) ظلّت الألوان تتحرك في القفص بتوتر كقط حبيس (ما الجريمة التي اقترفتها؟ اشتعل فيك الفضول، ليس ببعيد أنها قتلت أو عذبت أحد أطفال ربّة عملها.. عليك أن تعذرها، فهي مجرد فتاة جاهلة، لم تتلق أسس التربية والتعامل مع الصغار وقد جاءت إلى الغربة من بيئة فقيرة لتنفق على أهلها هناك…)
«احنا بنسمع منك، لكنك تعرف ما ينفع تكون شاهد وزوجتك المدعية»
«طبعا سيادتك، أنا كنت أعمل في الجهاز وأعرف القانون»
«طيب، قرب للطاولة، حط يدك على المصحف، وقول أقسم بالله العظيم أقول الصدق»…
بعد القسم، أخرج عبدالجبار ظرفا صغيرا قدمه إلى القاضي، تأمل القاضي في الصور، باستغراب سأل وهو يشير إلى القفص: «هي من فعلت ذلك بها ؟» (ما الذي فعلته تلك المرأة الضئيلة بالمرأة الضخمة؟ «يا ما تحت السواهي دواهي، السم في الغيلان، الشيفه شيفه والمعاني ضعيفه» نفثت فيك نفسك بعض الأمثال الشعبية، مال رأسك هذه المرة إلى جهة عبدالجبار وزوجته. «إياك أن تنسى القضية التي يفترض بك أن تكون شاهدا فيها، تذكر ما ستقوله» نبهتك نفسك).
«كنا شالينها المطار، وفي الطريق فتحت باب السيارة تريد تشرد، حاولت زوجتي تمنعها، وتسكر الباب، أنا هين أركز في الشارع والا هين.. زوجتي جالسة في الأمام وهذي العفريتة في الخلف، عجب كما تشوف يا سيادة القاضي، هجمت عليها وشمختها في وجهها، وشردت، وقّفت أنا السيارة وأعطيت إشارات الخطر عشان ينتبه مستخدمو الشارع، ركضت وراها، وطوقتها بمقدار ما أمنعها من الهرب، كان ممكن تصدمها سيارة (منفعلا) وبتعمل لنا بلية، احنا نريد حقنا منها سيادة القاضي، زوجتي صار عندها تشوه في وجهها..»
وجّه القاضي كلامه إلى القفص: «تعرفي تتكلمي عربي؟ اليوم المترجم ما موجود»
«في معلوم شوي شوي عربي» خرج صوتها واهنا كأنها قد صامت لأيام عن الكلام
«زين ليش عورتي الحرمة؟ انتي جاية تشتغلي والا تضاربي
«أنا ما فيه جنجال، بابا هو يمسك سيم سيم دكان.. كله نفر يشوف هو يضرب انا هذا نمونه» تمثل بحركات تدلّ على أن عبدالجبار صفعها في وجهها وجذبها من شعرها، وركلها بقدمه (لو كنت مكان القاضي، ألن تسأل عبدالجبار وهو تحت القسم عن اعتدائه المحتمل عليها، لكنك ستكون تحت القسم بعد هذه القضية، طيب ألن تجعل امرأته المغطاة بالسواد تكشف عن حقيقة وجهها أمام العدالة؟، ألن تطلب تقريرا طبيا بالتشوه المزعوم؟)
بعدها وجه القاضي كلامه إلى المرأة المدعية: «أيش رايك تتنازلي عن القضية؟» حاولت المرأة ذات الصوت الأجش أن ترقق صوتها وهي تجيب القاضي: «لا أنا ما أتنازل عن حقي، بصراحة اللي سوته ما شويه»
«وأيش تطلبي منها، بأي شيء تطالبينها؟»
«اللي يشوفه القاضي»
«يعني ما تطالبيها بشيء»
«لا، اللي تشوفه انته» ترمق زوجها بنظرات فيتدخل الرجل
«اطلبي تعويض، عشان تتعالجي» يسعفها الزوج
«هيه، أطلب تعويض سعادة القاضي» همهم القاضي للكاتب يمليه قبل أن يسأل المتهمة: «عندك سؤال للشاهد؟» ردت المرأة الضئيلة باضطراب: «ما فيه.. ما فيه، بس أنا يريد شنطة منشان ملابس، تسعة يوم ما فيه بدل ملابس» حدج القاضي عبدالجبار بنظرة وهمّ بقول شيء لكن عبد الجبار سبقه قائلا: «خلاص بنعطيش الشنطة»
(كانت عيناك تدمعان، وأنت تتابع المشهد بحسرة، فكرت أن تترك قاعة المحكمة، لكنك تذكرت أنك هنا لتشهد على قضية لا تعرف عنها إلاّ ما ستقوله من عسل الكلام…).
——————–
خميس قلم