عبدالرحمن المسكري
تمثل شخصيّة الإمام ناصر بن مرشد اليعربيّ (ت: 1649م)، مؤسّس دولة اليعاربة في عُمان في القرن السّابع عشر الميلادي إحدى أبرز الشخصيّات في الذاكرة التاريخية العُمانيّة، وذلك لأدوارِه الرياديّة والحاسِمة في فترة حرِجةٍ ومفصليّة من تاريخ عُمان، إذ كانت البلادُ تعيش مرحلةً من التردِّي والضعف في مختلف الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ فقد كان الساحل يرزح تحت وطأة الاحتلال البرتغاليّ الذي ران على البلاد لأكثر من قرن من الزمان، أما الداخل فقد كان متصدّعًا بما كان يمور فيه من انقسامات ونزاعات قبائليّة ومناطقيّة مُتناحِرة، جعلت البلاد نُهبة للأطماع والتدخلات الخارجيّة.
ولقد شكّل تنصيب الإمام ناصر بن مرشد اليعربي لحظة تاريخيّة فارقة، وتحوّلًا جذريًّا في عُمان، بعد أن سطّر ملحمةً في توحيدِ البلاد تحت راية واحدة، فاتحًا بذلك عصرًا جديدًا من الوحدة الوطنيّة، ومؤسّسًا لعصرٍ من الازدهار والرخاء والقوّة.
في سياق البحث التاريخيّ هذا، يأتي كتاب «الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، نجاح للوحدة الوطنية» الصادر ضمن منشورات النادي الثقافي عام 2021، الذي ضمّ بين دفتيه ست دراساتٍ، قدّم فيها باحثون وأكاديميون قراءاتٍ تتناول الإمام اليعربيّ وجهوده في توحيد عُمان وطرد الغُزاة، وما لابس تلك المرحلة من شروط تاريخيّة رافقت قيام الدولة اليعربيّة، فقد قدم موسى بن سالم البراشدي ملامح من سيرته الذاتيّة، في حين تناول سيف بن عدي المسكري دوره البارز في الوحدة الوطنية، وتناول أحمد بن سعيد البادي جهود الإمام في مواجهة الاحتلال البرتغالي، أما ناصر بن سيف السعدي، فقدم قراءة في عهود الإمام إلى ولاته وعماله، وتناول راشد الحارثي جهود الإمام في القضاء على الفتنة الداخلية، في حين سلطت هدى بنت عبدالرحمن الزدجالي أضواء على المصادر التاريخية التي تناولت عهد الإمام ناصر بن مرشد.
ينقل الكتابُ الصورة القاتمة للمشهد العام في عُمان إبّان قيام الدَّولة اليعربيّة، فعلى المستوى السياسيّ، هيمنت الانقساماتُ الداخليّة على عُمان عبر مسارٍ زمنيٍّ طويل، يعود إلى النقطة المفصلية المتمثّلة في حادثة عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي، وما تمخّض عنها من اصطفاف وانقسام أوهى من بنية التماسُك الاجتماعيّ، وما استتبع ذلك من أحداثٍ أضعفت بنية الدّولة، ما جعل البلاد تعيش حالةً من غياب «الوحدة الوطنية» لقرون طويلة، الأمر الذي جعلها عُرضة للغزو وللتدخّلات الخارجيّة من قبل أطراف عديدة، وفي مراحل زمنيّة متباينة. فعبر تتبع تاريخيٍّ موجزٍ يرصُد الباحثون الغزوات الخارجية والتدخلات التي هدّدت وحدة البلاد؛ (العباسيون، وبنو سامة، وبنو وجيه، وبنو مكرم، والبويهيون، وفي مرحلة لاحقة الهرامزة وبنو جبر).
وقد بلغ الشرخ في «الوحدة الوطنيّة» أوْجَه ومداه، قبل إقامة الإمامة اليعربية، حيث المناطق الداخلية متناحرة بين إمارات ومشيخات متفرّقة، أوقعت أهم المدن والموانئ في براثن الاحتلال والعدوان البرتغالي، بعد وصول أساطيله إلى السواحل العُمانية عام 1507 م. وقد عانى العمانيّون حوالي 140 عاما من ويلات المحتلّ الذي عاث في البلاد والعباد كل أشكال الجور والظلم والتعسف، فسامهم القتل والتنكيل والتشريد والتضييق.
يدرس الكتاب التكوين العلميّ والفكريّ للإمام ناصر بن مرشد اليعربي، وأثر ذلك في مسارات الحياة والحُكم وبناء الدولة؛ فقد ارتبط تكوينه الأساسيّ بشخصيّتين؛ هما حاكم الرستاق مالك بن أبي العرب، والشيخ خميس بن سعيد بن علي الشقصي، إذ كان حفيدًا للأوّل، وربيبًا للثاني، فقد توفِّي عنه والده وهو صغير السن، فتزوجت أمّه من خميس بن سعيد الشقصي أحد كبار علماء عُمان في ذلك الوقت، وأحد أقطاب تأسيس الإمامة اليعربية، فعاش في بيته، وتلقّى على يديه التّربية والتعليم، وانعكست علاقته بهما في شخصيته التي طُبعت بالحزم والقوّة والتديّن. ص 24. وهي صفات أهّلته ليكون المرشّح لتولّي الإمامة، إذ وقع عليه اختيار العلماء لانتخاب إمام لعُمان، حسبما يمليه الواجب الديني بحسب أدبيّات الفكر السياسي الإباضيّ، فبويع بالإمامة عام (1034هـ – 1624م) وهو لم يتجاوز العشرين عاما من عمره بعد.
وتكشف الخطوات التي اتّخذها الإمام اليعربيّ في توحيد البلاد وتحريرها عن بصيرة سياسيّة وعسكريّة مُحكَمة؛ فقد اتّخذ سير الأحداث الذي أعقب مبايعته «سعيًّا حثيثا لتعزيز الجبهة الداخلية قبل التصدّي للمحتلّ البرتغالي، استغرق قرابة عشر سنواتٍ، تصادم فيها الكيانُ الوليد بأطرافٍ عديدة، بدءا من الفروع الأخرى من الحكام اليعاربة في الرستاق ونخل، وامتدادا إلى الإمارات والمشيخات في المناطق المختلفة» ص53، وقد اتخذت جهود الإمام ناصر لتوحيد الصفّ العُماني في الداخل مسارين اثنين: الأول سلميٌّ عبر الدَّعوة إلى الانضمام تحت راية الدَّولة الواحدة، متّخذا وسائل المخطابات والمفاوضات مع الزعماء ورؤساء القبائل، وتلقي الوفود السَّاعية إلى الانضمام تحت راية الوحدة. فانضمّت تحت رايته سمائل، وإزكي، ومنح، وسمد الشأن، وإبرا، وضنك، ووادي فدا، وغيرها.
أما المسار الثاني فهو العسكريّ الحربي، فقد جوبهت حركةُ التّوحيد بالرّفض والعداء من قبل الكيانات القبليّة والمناطقية التي تحكم الداخل، وقد أظهرت «المصادمات المعبرة عن النهج الحربيّ الجهد الكبير الذي بذله الإمام ناصر، والتّضحيات العظيمة التي قدمت في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية» ص65؛ إذ وجّه حملاتٍ عسكريّة عديدة، فابتدأ بالرّستاق ونخل اللتين كانتا خاضعتين لحكم أبناء عمّه من البيت اليعربيّ، ثم وجّه حملاتٍ إلى نزوى، وعبري، وبهلاء، والبريمي، ولوى، وغيرها.
وبعد أن دانت للدّولة الجديدة غالبُ الحواضر العُمانية، تهيّأت لها أسباب القوّة والمنعة، وانضوتْ تحت رايتها ألويةُ القبائل والإمارات والمناطق؛ حينها أعلن الإمام السعي إلى تحرير البلاد من المحتلّ البرتغالي، وعمل على التخطيط للحرب وإعداد الجيش؛ فسيّر على إثر ذلك الكتائب والحملات العسكريّة باتجاه السواحل العمانية التي شهدت وقائع حربية وملاحم عسكرية، استبسل فيها العمانيون لتحرير البلاد من البرتغاليين، حيث استطاعوا في عهد الإمام ناصر تحرير جميع السواحل العمانية، عدا مسقط التي حررت بعد وفاته على يد ابن عمه الإمام سلطان بن سيف اليعربي.
يتناول الكتاب النظامَ الإداريّ في عهد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، الذي أسس «دولة مركزيّة قوامها مؤسسات إدارية تعمل على صيانة وحدة البلاد وتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية ومحاربة الانتماءات الضيّقة، التي يمكن أن تهدد سلامة الدولة»ص111. فقد عمل على إضعاف سلطة القبيلة، وإنهاء الكيانات المناطقيّة المتفرقة والمستقلة، فشكل نظاما إداريّا للدولة يقوم على نظام الولاة، حيث سعى إلى تنظيم الدولة إلى مناطق إداريّة كبرى، بحيث يتولى كل منطقة والٍ، يكون ممثلا للدولة المركزيّة في المناطق والبلدان.
وقد كتب الإمام اليعربي عهودًا إلى ولاته، هي بمثابة المواثيق والوصايا، يبين فيها صلاحيات الوالي وواجباته، بما في ذلك تحديد الإطار الجغرافي الذي تشتمل عليه الولاية. وقد تناول الكتاب بالتحليل خطاب أربعة عهود من عهود الإمام إلى ولاته، التي حملت الكثير من القيم الأخلاقية مثل التسامح واللين، والاهتمام بالفقراء والمساكين، وأكدت على ضرورة المساواة بين الرعية في الحقوق والواجبات.