ينبغي لنا، أولا، أن نحدد المقصود بالشعرية. مادام الأدب يعتمد في مادته اللغة، ومادامت اللغة مشروطة ببناها الصوتية والنحوية والدلالية، فإن عين دارس الأدب تتجه ، قبل كل شيء ، إلى المظاهر اللغوية في الأدب ، أي الى هذه البني "الصوتية والنحوية والدلالية، لوصف العلاقات القائمة بينها، بشرط ألا ينسى هذا الدارس أنه أمام نص أدبي ، وليس نصا يستعمل اللغة المعيارية العادية . وتبدأ فرادة الأدب ، في رأي جاكوبسن ، من كونه رسالة تتجه الى ذاتها. وفي حين يدرس علم اللغة مستويات التحليل اللغوي ، فان العلم الذي يدرس مستويات التحليل الادبي هو الشعرية، ومثلما يهتم علم اللغة أو اللسانيات بدراسة القوانين المجردة في اللغة، وليس في الكلام أو التطبيق الفعلي ، تحاول "الشعرية" كذلك الامساك بوحدة الاعمال الادبية وتعددها في وقت واحد. ومن هنا فانها تريد ان تشتغل على الاعمال ، وليس على النصوص ، فتضع المصطلحات الضرورية والادوات الاجرائية اللازمة التي لا تقتصر على اضاءة؟ ما تشترك به هذه الاعمال ، بل ما تختلف فيه ايضا، دون ان تغفل أهمية الأوصاف الجزئية في النصوص المفردة. وبهذا المعني فان موضوع الشعرية يتكون من الأعمال الممكنة، أكثر مما يتكون من النصوص الموجودة بالفعل (1).
الشعرية، إذن ، تفكر بأعمال وتشتغل على نصوص . وهذا ما يعطيها سمتين أساسيتين : الاولى انها لا تتعلق بقراءة الاعمال الادبية أو تأويلها، بل أن تتأمل في الأدوات الاجرائية لتحليل هذه النصوص ، ولذلك فان حقل اشتغالها ليس ما يوجد، أو وجد سابقا من أعمال ؟ بل الخطاب الأدبي نفسه ، وما يميزه عن سواه من أنواع الخطابات الاخرى، من حيث هو مبدأ مولد لعدد لا حد له من النصوص . فهي حقل نظري يريد ان يثرى بالبحث التجريبي . والثانية: إن تقكيرها بالنصوص الأدبية دون تعيين لجنس أدبي معين ، يجعل منها حقلا يهتم بالتمييزبين ما هو أدبي وما هو معياري ، أي بين لغة يمكن أن تفيض عنها لغات ضمنية أخرى، ولغة تكتفي بحدها الأدني ، وليس حقلا للتمييز بين ما هو شعري وما هو نثري مثلما كانت الحال في دراسة الأدب سابقا. قد عاني النقد العربي منذ "المبرد" حتي وقت قريب من ثنائية البلاغتين . بلاغة الشعر والوزن ، وبلاغة النثر والخطبة (2)0 اما الشعرية فتقترح بديلا اخر عن هذه الثنائية لتجعل التمييز بين الخطاب الادبي والخطاب غير الأدبي .
واستنادا الى القوانين الداخلية المستخلصة من الاعمال المفحوصة، في حقبة معينة، تحاول الشعرية ان تسأل السؤال الأخطر: "ما الأدب ؟". وان تعثر على ما يشكل هوية كل نص اختلافا وائتلافا. وهي لا تعول عى الموجهات الخارجية كالوقائع والاحداث والنيات ، ما لم يكن هذا التعويل قائما على أساس داخلي نصي . ان الشعرية قراءة داخلية وليست خارجية للاعمال الادبية في تمايزها واندماجها. وحيث ان كل نص يتكون من طبقات متعددة، ومستويات متفاعلة، فان الشعرية تحاول فرز هذه الطبقات وتحديد العلاقات القائمة بين المستويات المتداخلة في النص الواحد، من خلال نصوص متعددة . وهذا ما يميزها عن "القراءة" التي هي استكشاف في نص مفرد ذي نظام خاص وتحليل له ، وما يميزها أيضا عن اللسانيات التي تكتفي بالوصف اللغوي البحت دون استكناه التداخل والتعدد والتفاعل في هذه المستويات .
من هنا لا تنحصر مهمة الشعرية بالنصوص والأعمال الشعرية وحسب ، بل بالنصوص الادبية جميعأ، حتى ليمكن الحديث عن شعرية القصة وشعرية الرواية وشعرية المقامة . .الخ .
ومع ذلك فان ما يعنينا هنا ليست هذه الشعريات ، بل شعرية الشعر وحده ، أي ما يميز الخطاب الشعري من منظور النقد العربي الحديث ، وفي بعض تطبيقاته الفعلية.
وستحاول هذه الورقة ان تفحص المفهموم النقدي عن شعرية الخطاب في النقد العربي الحديث في ثلاثة نماذج ، تعدها ثلاث لحظات أساسية، هي ! نازك ا لملائكة، وأدونيس ، وكمال أبو ديب ، وان تتوصل من خلال هذا الفحص الى بلورة مفهوم نقدي خاص بها. وغني عن البيان ان النماذج المدروسة هنا قد اسهمت الى حد كبير في تطوير حركة النقد العربي الحديث باصرارها على لحظة التأمل الداخلي في الابتداء بالسؤال عن المقومات الضمنية الداخلية للشعر، وبالتالي استبعاد الموجهات
الخارجية (الواقع ، والمرجع ، الايديولوجيا) والانطلاق من العناصر البنيوية للشعر نفسه.
(2)
لا تكف نازك الملائكة عن الاشارة الى "ان الشعر ظاهرة عروضية قبل كل شيء . ذلك انه يتناول الشكل الموسيقى القصيدة وبتعلق بعدد التفعيلات في الشطر، ويعنى بترتيب الاشطر والقوافي واسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك مما هو قضايا عروضية بحتة"(3). وفي مناقشتها لقصيدة النثر تصر نازك الملائكة ان "الوزن هو الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرها شعرا، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف ، لا بل ان الصور والعواطف لا تصبح شعرية، بالمعنى الحق ، الا إذا لمستها أصابع الموسيقى ونبض في عروقها الوزن "(4).
الشعر، في رأي نازك ، كلام عاطفي موزون ، بل ان هذه العاطفية هي نتاج كهربة الوزن . والشعرية، بما هي المبدأ المولد للخطاب الشعري ، تقوم عندها على الوزن . فالوزن هو روح الشعر. وهو رأي يجد أساسه التاريخي عند الزهاوي الذي كان يرى – وهو يخوض معركة الشعر المرسل – ان الوزن هو العمود الفقري الذي لا يمكن الاستغناء عنه في الشعر، بينما لا تزيد القافية عن كونها ذيلأ لهذا الكائن الحي . ولا حياة لكائن في بلا عمود فقري ، أما ذيله فقد يستغنى عنه ويظل كائنا حيا. ان استعارة الروح الوزنية والمادة الأدبية لدى نازك تستفيد من هذا التناظر. فالوزن في كلا الرأيين ، وسواء اسميناه روحا ام عمودا فقريا، يظل جوهر الشعر الذي يستطيع أن يتخلص من بعض زوائده الايقاعية كالقافية – وهي متشابهة في حالتي الشعر المرسل والشعر الحر – ويظل مع ذلك جوهرا. ومن جهة اخرى يستجيب هذا الرأي لخصومة ضمنية أو صريحة بين طريقتين في الكتابة هما الشعر الحر وقصيدة النثر، وعلى احداهما ان تستبعد الاخرى باثبات شرعية ولادتها من رحم الموروث الشعري ، ولا شرعية ولادة الاخرى. وهذا ما يجعل نازك الملائكة تقع في تقسيمات خارجية للناس بالنسبة الى الشعر:
1 -إنسان يتذوق الشعر يميز الوزن فيه .
2 – إنسان ينظم الموزون بلا جمال .
3 -أنسان يحسن النظم بموهبة موسيقية عالية.
إن هذا التقسيم ، الذي لا يختلف كثيرا عن تقسيم "الشعراء فاعلمن أربعة"، لا يبسط القضية الي درجة التبذير وحسب ، بل يوقع نازك الملائكة نفسها في كثير من الأحكام المتراجعة، من نحو أسفها على فقدان النظم سمعته الايجابية، وفي الواقع فان هذه المسألة تتجاوز الخصومة المؤقتة بين أنصار الشعر المقفى والشعر المرسل في العشرينيات ، أو أنصار الشعر الحر وقصيدة النثر في الستينيات . انها تتعلق بهوية الشعر نفسه. فهل صحيح ان الشعر لا يتعدى حدود الظاهرة الوزنية؟
إن الاكتفاء بالوزن أساسأ أو جوهرأ للشعر، وبصرف النظر عن الخصومات الشخصية أو الكتابية بين هذا الشاعر أو ذاك لا يعني انتصارآ للمنظومات التعليمية كالألفيات والأراجيز وحسب ، بل أنه يفقر العروض نفسه ، ويجرده من وظائفه . فهو يجعله يؤدي وظيفة تزيينية لتطريز القول ، ثم يزعم ان هذا الوظيفة التزيينية السطحية هي جوهر الشعر. والحال ان الوزن يمكن ان تكون له أكثر من وظيفة، بل ان شعرية الشعر تقوم في الأساس – كما سنرى – في ادعاء وظيفة والقيام بغيرها فيمكن للوزن – شأنه شأن بقية عناصر الشعر – ان يدعى القيام بوظيفة، لكنه سرعان ما يقوم بوظيفة اخرى خلسة وبرغم اقتناعنا بان الجوهر ليس سوى مجموعة مظاهر، او علاقات ، وقبل ان نتأمل امكان انطواء الوزن على أكثر من وظيفة، نسأل ما وظيفة الوزن في رأي نازك ؟
تقول نازك "إن السبب المنطقي في فضيلة الوزن ، هو انه ، بطبعه ، يزيد الصور حدة ويعمق المشاعر، ويلهب الاخيلة، لا بل انه يعطي الشاعر نفسه ، خلال عملية النظم نشوة تجعله يتدفق بالصور الحادة والتعابير المبتكرة الملهمة. ان الوزن هزة كالسحر تسري في مقاطع العبارات وتكهربها بتيار خفي من الموسيقى الملهمة"(5).
إذا جردنا هذه الاجراءات "النقدية،" من أغلفتها الشعرية، وجدنا ان وظيفة الوزن ، أو فضيلته كما تقول ، هي زيادة الصور حدة، وتعميق المشاعر، وإلهاب الأخيلة . ولكن مشاعر من ؟ وأخيلة من ؟ من الواضح ان نازك تحيل إلى ذات الشاعر نفسه ، الذي يعطيه الوزن "نشوة خلال عملية النظم ". ما تتحدث عنه نازك هنآ إذن هو الشاعر أمام نص مكتوب . وهي تتصور وجود العبارات الشعرية أولا، ثم دخول الكهربة الوزنية عليها ثانيا. ووظيفة الوزن هنا ايجابية قارة تستند اليها جماليات الايقاع في القصيدة . والحقيقة ان الوزن لا يستطيع ان يقوم بذلك إلا إذا كان نقيض ما تشير اليه نازك ، أي إذا كان يقوم بوظيفة سلبية غير قارة.
لقد سبق لي أن ميزت بين الوسائل البديعية والوسائل البيانية، وقلت أن الوسائل البديعية هي وسائل التنميط الصوتي التي تمتاز بالتوصيل ، والاتجاه نحو الصوت ،وواحدية المعنى والموضوعية، وهي بطبيعتها خطية، تعمل على محور التأليف ، فتعتمد الذاكرة، وقياس الصورة على مثال سابق . أما الوسائل البيانية، التي هي وسائل التنميط الدلألي، فتمتاز بالتضليل والاتجاه نحو المعجم ، وتعدد المعاني ، والذاتية، وخلق الصور على غير مثال ، والتركيز على محور الانتقاء، وقوة الخيال والعمودية(6). وفي اللغة المعيارية/ العادية، فإن أية جملة تحاول ان تقيم موازنة بين نوعي الوسائل المذكورين ، فتقف ، مثلا، حيث يتطلب الصوت والمعنى. أما في الشعر، فان الوقفة تتم حيث يكون هناك انقطاع على مستوى الصوت ، واستمرار على مستوى المعنى . ولو نظرنا الى التوصيل الشعري ، من حيث هو مكتوب ، لا من حيث يكتب الآن ، لوجدنا ان وظيفة الوزن تعمل في الأساس ، أو في الأقل تغري بانها تعمل على مستوى الوسائل البديعية،أي أنها وسيلة من بين وسائل التنميط الصوتي . وبالتالي فان وظيفة الوزن ستكون الاغراء بالتوصيل وواحدية المعنى. وهذه هي اللحظة التي تتوقف عندها نازك .
لكننا لو أمعنا النظر في هذه الحالة لوجدنا ان اهم صفة يتصف بها الشعر هي التفاعل بين مستويات التحليل ، حيث تستطيع وسيلة بيانية ان تقوم بوظيفة بديعية، والعكس بالعكس ، فيمكن ان يتنكر الوزن باداء وظيفة دلالية وليس صوتية فحسب .
تمثيلا على ذلك لنقرأ قصيدة "مدينة أخرى" لمحمود البريكان (7) :
وراء المدينة ذات الوجوه المائة
هناك مدينة أخرى
وراء المدينة حيث تشع العمارات
حيث تدور الميادين حيث تعج المتاجر
هناك مدينة أخرى
هناك مدينة الأشباح والاصداء
ساكنة تقلب ذكريات رجالها الموتى
وراء مدينة الألوان والأشكال
والضوضاء والحركة
هناك مدينة أخرى
تراقب خطو الغريب الذي هو أنت .
من الواضح أننا أمام مدينتين ، كل منهما في داخل الاخرى مدينة العمارات ، وتحتها مدينة الأشباح . كلتا المدينتين في مكان واحد. توزيع الأبيات بهذه الطريقة مقصود. لقد جعل الشاعر أبيات المدينة السفلية تبدأ من منتصف أبيات المدينة الظاهرة، وكأنها تولد من خصرها. لكن لكل مدينة وزنا خاصا وإيقاعا خاصا. مدينة العمارات من ا لمتقارب ، ومدينة الأشباح من مجزوء الوافر.
وكأن لكل مدينة قصيدة خاصة وشاعرا خاصا، فنستطيع نحن أن نميز بين شاعرين وقصيدتين . سيقول شاعر المدينة الأولى قصيدة من بحر المتقارب :
وراء المدينة ذات الوجوه المائة
وراء المدينة حيث تشع العمارات
حيث تدور الميادين حيث تعج المتاجر
تراقب خطو الغريب الذي هو أنت .
ويقول شاعر المدينة الثانية أبياتا من مجزوء الوافر.
هناك مدينة أخرى
هناك مدينة أخرى
هناك مدينة اللأشباح والاصداء
ساكنة تقلب ذكريات رجالها الموتى
وراء مدينة الألوان والأشكال
والضوضاء والحركة
هناك مدينة أخرى.
وظيفة الوزن هنا لا تقتصر على إحداث التأثير الايقاعي بالدورات الزمانية التي تشغلها الجملة الشعرية، بل هي تحدد وجهة النظر. اختلاف الايقاعين أو الوزنين هو في الأساس اختلاف بين وجهتي نظر لشاعرين مختلفين ، وليس ر مجرد تطريز خارجي . هناك مدينتان ، لكل مدينه شاعر، وكل شاعر يكتب قصيدة من بحر مختلف عن بحر القصيدة الاخرى. اختلاف الايقاع هو اختلاف في وجهات النظر، ولا يهم بعد ذلك ان كانا سيتلاقيان (كما سنرى في مكان آخر) أو لا. فالوزن يمكن أن يقوم بوظيفة تضليلية، كما يقوم بوظيفة توصيلية. وبالتالي فهو يمارس من التأثيرات المعنوية سرآ بقدر ما يمارس من التأثيرات الصوتية علانية.
(3)
في الجهة المقابلة لتطرف نازك الملائكة يقف تطرف أدونيس . فهو يكتب بوعي كبير لتجربته أن هناك نقدا "يرفض سلفا البحث في امكان النظر إلي قصيدة النثر شعريا، أو يرفض أن يرى الشعرية خارج الوزن ، ويعني بذلك إنه متأصل في قديم ما، وأنه بسبب من ذلك عاجز عن النظر إلى الجديد إلا بذائقة تقليدية، وهو إذن لا يفهم الجدة الشعرية، بل أنه في أحيان كثيرة يطمسها ويشوهها"(8). وخشية أن يقع أدونيس في الحصرية التي وقعت فيها نازك الملائكة، فانه يمسك العصا من طرفها الآخر. وهكذا يستعيد تمييز نازك بين درجات التعبير، بعد أن يحوره تحويرا ضروريا، فتظهر لديه أربع طرق كما يسميها.
أ – التعبير نثريا بالنثر.
ب – التعبير نثريا بالوزن .
جـ – التعبير شعريا بالنثر.
د – التعبير شعريا بالوزن .
التعبيران الأول والثاني لا يختلفان في استعمالهما عن اللغة العادية لأنهما نثر أصلا، أما الثالث والرابع فهما مناط أهتمام أدونيس . الأول هو التعبير في اللغة العلمية والقانونية التوصيلية الواضحة. والثاني هو التعبير في الأراجيز والمنظومات التعليمية . والثالث هو تعبير قصيدة النثر والكلام الفني المنثور. والرابع هو الشعر الموزون في أشكاله المختلفة . وبرغم ما يلاحظه أدونيس من كون الوزن في التعبير النثري خارجيا "وانه كمي لا نوعي ، أي أنه ليس عنصريا شعريا" فان هذا التقسيم ليس سوى تنويع على ثنائية البلاغتين القديمة بعد طرد الوزن، واعتبار "الدلالة" مقوما للشعرية . على نحو قبلي . ولكي يوضح أدونيس مفهومه عن الشعر يعطي المثالين التاليين :
أ – الليل نصف اليوم .
ب – الليل موج ( أو جمل )0 (امرؤ القيس )(9).
يقول . "الجملتان هنا عن الليل كموضوع واحد، لكنهما تثيران طريقتين مختلفتين لادراكه والاحساس . عدا ان لهما معنيين مختلفين . المعنى في الجملة الأولى نثري ، فنقول بكلام نثري ، والمعنى في الجملة الثانية شعري ، فنقول بكلام شعري . الكلام في المستوى الأول اعلامي ، اخباري ، يقدم معلومات حول الاشياء، ويدور في إطار المحدود، المنتهي . أما الكلام في المستوى الثاني ، فيوحي ويخيل ، يشير إلى ما يمكن أن يكتنز به الشىء، ويوحي بصور اخرى عنه ، أي بامكان تغيره ، وهو يدور في المنفتح وغير المحدود"(10).
ولكن هذه الصياغة تثير كثيرا من الأسئلة، فهل يمكن الفصل بين الصوت (أو الكلام ) والمعنى؟ وهل هناك معنى بلا صوت ؟ وهل يمكن حقا الحديث عن معنى "شعري " ومعنى "نثري "؟.
منذ الجرجاني لم يعد بإمكان البلاغة العربية أن تقول بفكرة المعاني المطروحة على الطريق . فالنظم أو التأليف هو الذي يحدد فصاحة الكلمة. إن الكلمة المفردة لا تستمد معناها من ذاتها مستقلة عما يجاورها من الكلمات بل تستمد معناها في الأساس من موقعها الى جوار الكلمات التي ترد قبلها أو بعدها. وما من موضوع شعري أو غير شعري ، وما من كلمة "شريفة" أو "غير شريفة" باستقلال عن سواها من الكلمات "فالألفاظ – كما يقول الجرجاني – لا تتفاضل من حيث هي ألفاط مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة. وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ . ومما يشهد لذلك انك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر"(11).
لا بل ان معنى الكلمة لا يتحدد بعلاقات الحضور التي تربطها ببقية الكلمات الحاضرة قبلها أو بعدها في الجملة فقط ، بل يتحدد بعلاقاتها بكلمات اللغة الأخرى الغائبة عن تلك الجملة هما يمكن ان تتبادل معها المواقع أيضأ. ولكل وحدة لغوية وجهان هما الدال (وهو الصورة الصوتية) والمدلول (وهو التصور الفكري )، وسواء أكانت العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية كما يرى دي سوسير، أم ضرورية كما يرى بنفنست ، فان المعنى هو نتاج تفاعل هذين الوجهين في تأليف لغوي ينسجم مع أعراف اللغة المستعمل فيها. فلا معنى إذن للحديث عن معنى شريف ، أو معنى شعري ، ومعنى غير شريف أو غير شعري .
يقودنا هذا إلى القول أن "التواتر الدلالي " الذي يشير إليه أدونيس ، ليس خاصا بالمعنى أو الموضوع ، بل هو نتاج تفاعل الصوت والمعنى، وحيث ان الوزن هو أحد مظاهر الصوت ، فانه يمكن أن يكون عنصرا فاعلا في تغيير المعنى، كما رأينا في مثال قصيدة البريكان ، وطبيعي أنه لا يستغرق كلية المعنى، أما الشعرية، من حيث ارتباطها بالمعنى، فتنشأ عن مقدار تراتب المعنى في داخل البنية الصوتية، أي ما يمكن ان تختزنه البنية الصوتية الواحدة من معان متعددة . إن اتجاه الرسالة الشعرية الى ذاتها يجعلها تستطيع ان تتظاهر بأكثر من معنى. فهي شفرة واحدة تفيض عنها معان أوائل ، ومعان ثوان ، ومعان ثوالت ، وربما معان روابع وهكذا… وهذا ما تسميه البلاغة الحديثة دلالة الايحاء، وما يسميه الجرجاني معنى المعنى، حيث تعني اللغة أكثر مما نقول ، في مقابل دلالة المطابقة، أو المعنى الأول حيث تكتفي اللغة بأن تعني ما تقول . وانطلاقا من تحديد سلبي للشعرية، يريد أدونيس ان ينفيها عن النثر الموزون ، بدلا من استكشافها في الشعر المنثور أو الموزون. ويصل في الاخر إلي أن الوزن في النثر المنظوم "تكأة، شيء زائد، مجرد قالب ، وما عبر عنه ، بوساطته ، يمكن التعبير عنه النثر دون أن ينقص شيء منه . ونرى أيضا أن "المعنى" فيه شأنه في النثر. واضح ، مباشر، عقلي. ثم أن هذا المثال ينقل ،"فكرة" أو مفهومأ. . وهذا يوصلنا إلى القول أن الفرق بين الشعر والنثر ليس في الوزن ، بل في طريقة استعمال اللغة" (12). وبنفي الشعرية عن الوزن ، يصل أدونيس إلى النتيجة المضادة، وهي حصر الشعرية في "طريقة التعبير،أو كيفية استخدام اللغة".
وحصر الشعرية بـ "كيفية استخدام اللغة" منظورا اليها كمعنى قبلي ، يعني افقارا للغة الشعر والنثر معا. وقد رأينا ان الشعرية، بما هي حقل نظري ، تستبدل ثنائية الشعر/النثر، بثنائية الخطاب الأدبي / الخطاب اليومي. والحقيقة ان كلتا اللغتين تستخدم ،"المعاني "، ولكن في حين تكتفي اللغة العادية بالاشارة الصريحة أو دلالة المطابقة، تريد اللغة الشعرية أن تناور فتقدم أكثر من مستوى للتعبير، واقتراح للفهم .
أدونيس ، إذن ، يصل إلى لغة الشعر لا من خلال فحص هذه اللغة في ذاتها، وانما من خلال المقايسة الخاطئة بما ليس بشعر، أي أنه يحاول اسناد الشعرية إلى المعني بنفيها عن الوزن . لكن هل أن القول بأن (س ) من الناس ليس بملاكم يعني ان (ص ) بطل العالم في الملاكمة؟.
لتوضيح إمكان أن تنطوي البنية الصوتية ذاتها على معنى تفريعي الى جوار المعنى الذي تقدمه البنية الدلالية، استشهد بالمقطع التالي من قصيدة "االبرعم والرعد" لعبد الرحمن طهمازي ، التي سبق ان حللتها كاملة(13).الجمرة التفت وبين رمادها انعدمت واكملت الرمادا بيدي مردت قشورها المتفطرات
أملأ
فلم أجد النواة.
تتحدث القصيدة عن إخفاق التجربة الصوفية في الوصول إلى الحقيقة . وتتحقق ذروة الاخفاق عند هذا المقطع . وتتكافل . هنا البنية الدلالية والبنية الصوتية. فعلى مستوى الدلالة يتحقق الشاعر من خيبته بأن يمرد بيديه الجمرة ليجد رمادا بلا نواة، وعلى مستوى الصوت تعطينا الابيات شعورا متسارعا بالمرارة، حيث يتكرر حرف الميم مولدا فينا الاحساس بالاغلاق والاختناق :
الجمرة التفت وبين رمادها انعدمت وأكملت الرمادا وفي البيت التالي يكرر الشاعر حرف الراء ليعطينا إحساسا بالنقر والتردد:
بيدي مردت قشورها المتفطرات .
والغريب ان تكرار الميم ثم الراء لا يقتصر تأثيره على تفجير الحس المبهم بالمرارة، بل انه يكتبها. فلو جمعنا الميم والراء لكانت كلمة (مر). ونحن نلتقي بهذين الحرفين في وسط كلمة (جمرة) وفي مقلوب بداية (رماد) وفي أول (مردت ). بل اننا لوعدنا الى المرجع الذي يمكن ان تحيلنا اليه قصيدة (البرعم والرعد) – وهو سورة الرعد في القرآن الكريم ، لاشتراكهما في الاسم – لو جدنا أن أول آية في هذه السورة هي الحروف : ا – ل – م – ر. ولا يوجد التوتر الدلالي على مستوى المعاني وحلب ، بل أن توليد المعاني يمكن أن يعتمد على الأصوات نفسها. فوسائل التنميط الصوتي لا تقل فاعلية عن وسائل التنميط
الدلالي في توليد المعاني في الشعر.
(4)
يطور كمال أبو ديب أوسع وأشمل نظرية عربية في الشعرية تستفيد من معطيات النقد الحديث في مختلف مدارسه واتجاهاته ، وتحاول ان تؤاخي بينها. وبرغم إصراره على أن "الشعرية خصيصة نصية، لا ميتافيزيقية" (14)، فانه لا يتردد في القول ان "اكتناه العبد الخفي للشعرية يبدو ان ينابيعه تفيض من أغوار عميقة في الذات الانسانية يستحيل النفاذ اليها
الآن " (15). والشعرية في التصور الذي يقدمه كما أبو ديب وظيفة من وظائف ما يسميه بـ "الفجوة مسافة التوتر"، وهو مفهوم لا تقتصر فاعليته كما يرى "على الشعرية، بل انه لأساسي في التجربة الانسانية بأكملها، بيد انه خصيصة مميزة، أو شرط ضروري للتجربة الفنية أو بشكل أدق للمعاينة أو الرؤية الشعرية بوصفها شيئا متمايزا عن – وقد يكون نقيضا د- التجربة أو الرؤية العادية اليومية" (16).
الشعرية إذن ، عنده ليست الحقل النظري الذي يدرس المبدأ المولد في الخطاب الشعري ، بل وظيفة من وظائف الفجوة: مسافة التوتر. وميدان اشتغال الفجوة. مسافة التوتر ليس الخطاب ، بل الرؤية والتجربة، فهي شرط ضروري للتجربة الفنية يميزها عن التجربة العادية والرؤية اليومية . ومن هنا يؤكد كمال ابو ديب ان الفجوة مسافة التوتر هي في الأساس
فضاء "ينشأ من اقحام مكونات للوجود أو للغة أو لأي عناصر تنتمي إلى ما يسميه جاكوبسن نظام الترميز Code في سياق تكون فيه بينها علاقات ذات بعدين فهي:
1 – علاقات تقدم باعتبارها علاقات طبيعية نابعة من الخصائص والوظائف العادية للمكونات المذكورة ومنظمة في بنية لغوية تمتلك صفة الطبيعية والألفة لكنهها.
2 -علاقات تمتلك خصيصة اللاتجانس أو اللاطبيعية: أي أن هذه العلاقات هي تحديدا لا متجانسة في السياق الدي تقدم فيه وتطرح في صيغة المتجانس " (17).
يظهر من ذلك ان الفجوة مسافة التوتر فضاء تصوري مفهومي يقوم على مبدأ العلاقة التي تضبط عناصره المتناقضة وغير المتجانسة بما يضفي عليها صفة التجانس والوئام في داخل سياق معين . والشعرية – حقلا – هي وظيفة من وظائف الفجوة من حيث هي فضاء للتجربة الانسانية باتساعها. وهكذا تمتلك الفجوة : مسافة التوتر قدرة الانتقال من مستوى بحثي الى آخر، فهي أحيانا فضاء للمكونات الفكرية لدي المبدع ، أو ما
يسميه لوسيان جولدمان برؤية العالم ، وأحيانا فضاء للمكونات اللغوية في النص ، وفي الوقت نفسه قد تكون فضاء لآليات التلقي لدى القارىء. يقول أبو ديب . "تتشكل الفجوة : مسافة التوتر لا من مكونات البنية اللغوية وعلاقاتها فقط ، بل من المكونات التصورية ايضا، اي لا من الكلمات فقط ، بل من الأشياء أيضا"(18).
اتساع مفهوم الفجوة. مسافة التوتر هذا يبدأ ولا ينتهي . فهي تشمل ما قبل النص والنص وما بعده ، وتكون جزءا من تاريخ الأدب ، والأعراف التي تسود فيه ، وجزءا من رؤيا العالم لدى الشاعر أو الكاتب ، وخصيصة نصية، وطريقة لاستقبال النص في النظام الذهني لدى القارىء . يكتب أبو ديب : "يمكننا أن نقرأ تاريخ الشعر باعتباره تاريخ الفجوة مسافة التوتر وتطورها عن الكلاسيكية إلى السريالية ومدارس الحداثة المختلفة . وكتابة مثل هذا التاريخ للفجوة واتساعها المستمر لا
على الصعيد اللغوي الصرف فقط ، بل على صعيد تصور الفنان لنفسه وعلاقته بالآخر، والمواقف الفكرية والرؤي الابداعية، وعلى صعيد تصور بنية العمل الأدبي أو الفني ، ستكون مهمة شاقة دون شك ، لكنها ستكون أيضا مليئة بالاثارة والكشوف الفنية"(19). وبالتالي تتحول الفجوة . مسافة التوتر من مستوى البحث عن المقومات النصية لشعريه الشعر إلى مستوى التجريد الفلسفي الذي يبحث عن الموجهات الفكرية لشعرية العالم ، أي أنها بحكم محاولتها الجمع بين المذاهب والمناهج النقدية
المختلفة، محكومة بالتحول من خصيصة نصية إلى خصيصة ميتافيزيقية تبحث ، باسم النزوع الشامل ، عن الشعرية خارج الشعر .
ضمنا، يريد كمال أبو ديب أن يوفق بين عدة مناهج . ولعل أهم هذه المناهج التي يريد التوفيق بينها هي . النقد المتجة الى القارىء عند. آيزر وجماعة نقد استجابة القارىء، والنقد المتجه إلى النص لدى السيميائيين من أمثال يوري لوتمان وريفاتير وجان كوهن وسواهم ، والنقد المتجه لى السياق وبخاصة لدى لوسيان جولدمان .
لقد استعمل آيزر مفهوم "الفجوة" في كتابه "القارىء الضمني " مطورا إياه عن انغاردن. وتمثل عملية القراءة لدى آيزر وسيطا بين العمل الفني لدى المؤلف والتجربة الجمالية لدى القارىء أو المتلقي. فلا يتحقق العمل الفني في الوجود الا حين يكون هناك تفاعل بين النص والقارىء، أي بين القطب الفني لدى المؤلف ، والقطب الجمالي لدى القارىء. ووظيفة
الفجوة لدى ايزر هي تنظيم الحقل المرجعي للأجزاء النصية المتفاعلة بانعكاس بعضها على بعض ، وضبط كل العمليات التي تحدث في داخل الحقل المرجعي لوجهة النظر الهائمة، وخلق وجهة نظرفي الحقل المرجعي (20). فالفجوة مفهوم نمي ، وملء الفجوة فاعلية يقوم بها القارىء. وبذلك يحافظ آيزر على قانون لم الظاهراتية الذي سنه "هوسرل " في أن كل شعور هو شعور بشىء. القراءة هي عملية تحقق النص لدى القارىء. فالقارىء عنصر فاعل في ملء الفجوات التي يخلقها النص في لفه ودورانه . أما لدى كمال أبو ديب فان الفجوة – كما رأينا – توجد قبل
النص ومعه وبعده . ولذلك فان فاعليتها لا تقترب بالقارىء وحده ، بل تقترن قبل كل شيء برؤية العالم التي يبثها المؤلف في تضاعيف عمله .
ومن هنا فإنها مفهوم أيزر مطبقا على الجهاز النقدي لدى لوسيان جولدمان ، ومستثمرا بنية التضاد في النقد النصي لدى يوري لوتمان . وبالتالي يصح عليها ما يصح على نقد جولدمان من اقامة مماثلة بين عالمين هما البنية الفوقية للفكر (أو الشعر هنا) ولبنية التحتية الاجتماعية، ثم ربط هذين العالمين بجسر التشاكلات أو المماثلات الشكلية بين الرؤية الفكرية والممارسة الاجتماعية . ولذلك فان شعرية يقترحها جولدمان تظل محكومة بالخارجية والتماثل بين عالمين ، وليس التفاعل بينهما. كمال أبو ديب يشبه جولدمان هنا، أكثر بكثير مما يشبه أيزر . ولذلك فإنه يكتب في آخر كتابه "الشعرية"ما يأتي "الشعرية هي قدرة عميقة نادرة على استبطان الإنسان والعالم ، الطبيعة وآلهتها، المجتمع وصراعاته ، الحضارة وسمومها وعظمتها، الطبقات المسلوبة المستغلة وملحمة صراعها ضد طبقات لم تزل عبر التاريخ تمسح وجودها بالقسر والقهر والقمع ، وكل ما في اللغة من قافات وقيافات .. . إلخ " (21).
لقد اتسعت الشعرية لتشمل كل شيء يقوم على بنية التضاد، ومن هنا يهتم أبو ديب بعنوانات فرعية يعيد فيها النظر بموضوعات كثيرة، استنادا إلى هذه البنية، دون ان ينتبه إلى أن تضخم الشعرية المفرط هذا سيجعل الفجوة . مسافة التوتر بنية لا توجد في مكان أو عند أحد، وبالتالي بنية ميتافيزيقية "متعالية". ومثل كل بنية ميتافيزيقية، فهي غير قابلة للتحديد
والوصف والاكتناه ، أي أنه سيجعلها عكس ما أرادها حين افترض في البداية أنها خصيصة نصية، لا ميتافيزيقية.
(5)
نحتاج ، إذن ، إلى شعرية لا تفرط في التضييق ، ولا تفرط في الاتساع ، شعرية تبدأ من النص نفسه . فالنص ليس مجرد حامل ينقل المعني ، أو حاو له ، وليس وعاء يصب فيه الكاتب أفكاره التي يستقبلها ا لمتلقي استقبالا سلبيا. ويبدو أن "رؤية العالم " "بما هي تماك بين البنية الفكرية والبنية الاجتماعية تعود بنا إلى هذا الفهم للنص باعتباره تجسيدا للمعنى، أو حاملا لمحمول خارج النص ، كما كانت تذهب إلى ذلك النظرية
الجمالية التقليدية . ولعل من أبرز الملامح التي يتميز بها النص الفني عن سواه هو انطواؤه على مستويين من الدلالة في الاقل . وانطواؤه على مستويين يعني انطواءه على لغتين في الاقل. فالنص فضاء سيميائي تتفاعل فيه اللغات وتتداخل وينظم بعضها بعضا تنظيما تراتبيا (22). وهو لا يجسد المعاني ، بل يولدها. ولا تأتي عملية توليد المعاني نتيجة اتساع في البنى فقط ، بل نتيجة تفاعل هذه البنى وتداخلها. والمهمة المزدوجة التي يتكفل بها النص هي تمثيل المعاني من جهة، وتوليد معان
جديدة من جهة أخرى.
لكن كيف يمكن ان تتفاعل البنى في النص ؟
لعل أدق تعريف للبنية هو ذلك التعريف الذي قدمه ريفاتير حين قال : "إن البنية نظام يتكون من عناصر متعددة، لا يمكن أن يتعرض أي منها لتغيير دون احداث تغييرات في العناصر الأخرى جميعا" (23). وهذا يعني أن عناصر البنية تتبادل التأثير، بحيث أن أي تغيير في واحد منها يؤدي إلى تغييرها جميعا. وإذا نظرنا إلى القصيدة كبنية، فان تعدد مستويات هذه البنية وعناصرها المختلفة ستتبادل التأثير، أي أن أي تغير يطرأ على النظام الايقاعي مثلا سيكون تغييرا لوجهة النظر، أو النظام
الدلالي أو الصوتي . . الخ . ولان النص مولد للمعاني ، وليس حاملا لها، ولأن التفاعل قائم بين مستويات بنية القصيدة وعناصرها، فان الوظائف التي سيقوم بها أي عنصر من عناصر الفعل الاتصالي ستتفاعل وتتداخل أيضا. ولابد من البدء بلغوية الشعر، واللغة ليست الدلالة فقط ، بل هي التفاعل بين الصوت والدلالة في سياق معين ، لكن في حين تتوقف اللغة عند وظيفة معينة اساسية لكل عنصر من عناصرها، يريد الشعر ان يخلخل هذه الوظيفة، فيعيد ترتيب هذه العناصر ترتيبا جديدا يؤدي بالتالي الى تغيير الحلاقة بين اللغة والفكر. إن الشعر باكتفائه
بأبنيته اللغوية يتصور، ويغرينا بأن نتصور معه ، أنه يستبدل الكلمات بالاشياء، فيصير الحجر "حجريا" كما يقول الشكلانيون الروس، ويجعل ""ماء الملام " ماء كما يقول أبو تمام. ولا يمكن حصر هذه الأبنية بمستوى واحد نزعم أنه الشعر كله . فالوزن أو العروض أو البنية السطحية، بما فيها من عناصر صوتية وجناسات ، وتوريات ، وتكرار ليست الشعر كله ، انها عنصر واحد فقط من عناصره . واعادة نظم هذه
العناصر بطريقة تتغير فيها وظائفها هي ما يجعل من الشعر شعرا. وكذلك الدلالة أو المعنى. ان التشبيه أو الاستعارة أو الكناية، أو حتى الاسطورة والايديولوجيا، هي كلها ثمرة التفاعل بين نظام صوتي ونظام دلالي ، يريد واحد منهما أو كلاهما ان يغير وظيفته سرا ويمكن للتوتر الدلالي ان ينشأ عن عنصر صوتي ، مثلما ينشأ عن عنصر دلالي .
إن بنية الشعر هي نسيج عناصره الداخلية كنظام لغوي يتفاعل فيه الصوت والدلالة والسياق ، وليست عنصرا يأتي اليه من الخارج ، وإلا لارتددنا إلى شعرية الكلمة المفردة بذاتها، وشعرية الحقيقة، وشعرية الشيء ، إلى غير ذلك من أوهام تجاوزها النقد. يمكن طبعا الحديث عن شعريات للأشياء، لكن هذه الشعريات تأتي من داخل الشعر، وفي استعمال محدد، وليس من خارجه بافتراض مقوم ذاتي في الاشياء نفسها،
والفجوة التي يتحدث عنها آيزر أو كمال ابو ديب ليست ملكة ذاتية يتمتع بها القارىء، بل مشاركة القارىء في ردم الفراغات التي تنتج عن تفاعل مستويات القول الشعري . ولا يتم هذا الردم كيفما اتفق ، بل استناد إلى أعراف وتقاليد تمثلها. القارىء قبل ذلك . فلدى القارىء مخزون من الخبرة الناتجة عن قراءات سابقة . ان من يقرأ قصيدة معينة لا يقرأها وفقا لهواه الذاتي ورغبته الإعتباطية، بل لابد ان يفك شفراتها بما تمتنه قبل ذلك من مفاتيح سابقة اكتسبها من قراءة عدد لا حصر له من
النصوص . وهنا تظهر الحاجة إلى اكمال الشعرية بالقراءة، أي تطبيق المعلومات النظرية عن الخطاب المولد على نصوص فعلية. ومع كل ما في الاجتزاء من عيوب ، دعنا نأخذ، تمثيلا على ذلك ، المقطع التالي من قصيدة "اللقاء الأخير في ررما" لمحمود درويش ( 24) :
صباح الخير يا ماجد
صباح الخير والأبيض
قم اشرب قهوتي ، وأنهض
فإن جنازتي وصلت
وروما كا لمسدس –
كل أرض الله روما. ..
تحمل القصيدة عنوانا فرعيا هو "مرثية لماجد أبو شرار" ولذلك فان قراءتنا أياها، مرثية، تغتني باسترجاع كامل الموروث الرثائي في الشعر العربي من أبيات عبدة بن الطبيب في رثاء قيس بن عاصم حتى الوقت الحاضر . ومن الطبيعي أن يخاطب الشاعر من يرثيه ، ففي أبيات عبدة بن الطبيب يقول :
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمة
إذا مر عن قرب بقبرك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
غير ان اتجاه هذا الخطاب الى ميت ، في الموروث الرثائي العربي ، يفترض ان الميت حي قادر على استماع الخطاب والرد على السلام . ان تحية محمود درويش ""صباح الخير يا ماجد" لا تختلف في جوهرها عن تحية عبدة بن الطبيب ""عليك سلام الله قيس بن عاصم ا،. ولكن في حين يفترض عبدة بن الطبيب حياة قيس بن عاصم ميتا، يفترض محمود درويش حياة ماجد حيا. ولذلك فهو يدعوه الى فعل حياة يومي هو شرب القهوة الصباحية، والتهيؤ لوصول جنازة الشاعر. و(لكن كيف تصل
جنازة الشاعر؟ لقد أحيا الشاعر جنازة المرثي ليفترض با لمقابل
وصول جنازة الراثي . هنا نرى تبادل أدوار مثيرا. المرثي حي، والراثي ميت ، لأن وصول جنازة الشاعر يعني كونه ميتا أيضا. فكيف يرثي الميت الحي ؟ لا خيار لنا إلا ان نتصور ان ماجدا هو الذي يرثي محمود درويش ، وليس العكس . ولانه حي ، فان تحيته تؤكد على الأبيض الذي يرمز إلى شيئين في وقت واحد. فهو لون الحياة، في مقابل لون الحداد (الأسود) من جهة، وهو مكان إطاري للفعل المحاصر في مناخ البحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى . ولأن المرثي حي ، فان الأفعال التي يقوم بها أفعال في صيغة المستقبل الذي لم يحصل بعد "فعلا الأمر اشرب وانهض ، وهذا الأخير يشكل قافية مع : أبيض )، بينما لا يوجد سوى فعل ماض واحد للشاعر (ان جنازتي وصلت ). ولقد سبق للشاعر ان أورد هذه العبارة بتمامها في قصيدة "عودة الأسير " (25):
ليسكت ها هنا الشعراء والخطباء
والشرطي والصحفي
ان جنازتي وصلت
كيف يمكن لميت ان يكلم الاخرين ، ويخبرهم بوصول جنازته ، إذا لم يكن حيا، أي اذا لم يكن موته نفسه حياة أخرى له . في قصيدة "نشيد الى الأخضر" يكتب محمود درويش (26):
وأنا اكتب شعرا، أي أموت
فعل كتابة القصيدة، أو الرثاء تحديدا، هو إذن علامة موت لراثي وليس المرثي . وبما ان المرثي حي ، والراثي ميت ، شعريا،فان القصيدة لا يكتبها الراثي بل المرثي . ولهذا تتجه أفعال المرثي الى المستقبل ، وأفعال الراثي إلى الماضي . الشاعر يرثي الفقيد بشعره ، والفقيد يرثي الشاعر بموته . وكلاهما حي / ميت أو ميت / حي .
لكن موت ماجد حدث فعلي حصل في روما. وسيادة الوظيفة الشعرية على الوظيفة المرجعية لا يطمس الاحالة، بل يجعلها غامضة (27). ولذلك تبدو روما للشاعر بصورة مسدس مسدد اليه . وما يحصل للشاعر والفقيد يحصل لروما ايضا، فهي الاخرى ترتفع من وجودها الفعلي في صيغة التشبيه المحدد بمكان فعلي على الخارطة (روما كالمسدس ) الى تجريد مكاني يعانق الامكنة كلها ويتماثل معها (كل أرض الله روما). وإذ كان المبتدأ في هذه العبارة أليفا باعتبار وقعه اللغوي ؟الديني القريب
"كل أرض الته " فإن الخير يتناقض معه ،(روما" إذ كيف يمكن أن يتماثل جزء من الأرض مع الأرض كلها.
في الواقع إن التماهي بين (روما) وكل أرض الله جزء من التقاليد الشعرية القديمة. ونجد هذا التماهي في مسرحية لكورنيه ، حيث يقول "سرتوديوس " القائد الروماني الذيانشق على قيصر وأسس جمهورية في أسبانيا:
لم أعد اسمى روما أرضا تحوطها الأسوار
فهذه اللأسوار التي كانت أبدع ما تكون في الماضي
لم تعد سوى السجن أو باللأحرى القبر
ولما كنت أملك الآن كل دعائمها الحقيقية،
فان روما لم تعد في روما، انما تكون كلها حيثما
اكون .
وقد استثمر هذه الابيات المفكر – المسرحي الفرن!ي جبريل مارسيل في مسرحيته (روما لم تعد في روما) (28). والجدير بالذكر أن محمود درويش لم ينشر في مجموعته (حصار لمدائح البحر) بيتا كان قد نعثره قبل ذلك في القصيدة يقول فيه (روما لم تعد روما).
ويبقى المجال واسعا للحديث عن العلاقة بين الشعرية والقراءة . .
الهوامش
(1) O.Ducrct and T . Todorav, Encyclopedic Dic –
tionary of the sciences of language , p.79.
(2) المبرد، محمد بن يزيد البلاغة، تحقيق د. رمضان عبدالتواب ، ص 80 .
(3) نازك الملائكة وقضايا الشعر المعاصر 69 .
(4) نفسه 224
(5) نفسه ص 225.
(6) سعيد الغانمي اقنعة النص ص 100
(7) محمود البريكان قصائد، مجلة الاقلام العدد 3/ 4 1993 ص 87
(8) أدونبس سياسة الشعر، مقالة ما الشعرية، ص 6
(9) من الواضح أن مثال أدونيس هذا يستند إلى بيتي امريء القيس وليل كموج البحر أرض سدوله علي بأنواع الهموم ليبتل! فقلت له لما تمطى صلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل غير أن في صياغة أدونيس تمثيلا، أما بيتا أمريء القيس ففي أولهما تشبيه ، وفي ثانيهما اسستعارة وإذا عرفنا أن التمثيل مرحلة وسطى بين التشبيه والاستعارة أدركنا الفرق بين المثال الأصل! وصياغته الثانية لأن التشبيه (والتمثيل أيضا من حيث هو تشبيه بلا أداة) مقايسة بين عالمين يظلان منفصلين، في حيز أن الاستعارة مطابقة بين عالمين واندماج لهما ي وأحد وواضح ان الاستعارة هنا تهدد قانون الهوية الذي يريد التشبيه الاحتفاظ به.
(10) سياسة الشعر ص 24 – 25.
(11) عبدالقاهر الجرجاني دلائل الاعجاز ص 38
(12) سياسة الشعر ص 24
(13) أقنعة النص ص 120 والجدير بالذكر أن هذا التحليل الصوتي يحمل بعض الشبه مع تحليل صوتي مماثل قام به الناقد ألروسي يورى لوثمان ، ولم اكن قد اطلعت عليه انظر فيه:
Ann Shukman ,Literature and Semiotics , A study of the writings of yu M. Lotman,p.60
(14) كمال أبو ديب في ألشعرية ص 18
(15) نفسه ص 14
(16) نفسه ص 20
(17) نفسه ص 21
(18) نفسه ص 37
(19) نفسه ص 48
(20) Wahgang lser, The lmplied Reader, p 275.
(21) في الشعرية ص 143
(22) Jurij Lotman, The Futur of structuralism Poetics 8 (1979) p.503 .
(23) محمود درويش حصار لمدائح البحر ص 73
(25) محمود درويش الديوان 2 :, 342
(26) لديوان 2: 548.
(27) R. Jakobson , Language in Liter ature, p. 85 .
(28) جبريل مارسل روما لم تعد في روما، ترجمة فؤاد كامل ، ص ، 174.
سعيد الغانمي (ناقد عراقي)