توطئة
في حضرة الجواهري، لا يكاد الشعور يفارقك، وكأنك تدخل بجلال وهيبة، مملكة الشعر. فكل شيء في تلك الحضرة ينبض بالشعر: الجواهري بقامته المديدة، وفصاحته، وأصابعه الممدودة، يدهشك حين يستحضر التاريخ، بقصيدته العمودية الموروثة والملونة بأطياف الحداثة، بتحديه وتناقضه، بانفعالاته وردود أفعاله، بمعاركه الأدبية وخصوماته السياسية والشخصية، يظهر الجواهري واضحاً كالحقيقة، لا يعرف الأقنعة وقد امتهن الشعر فناً وذهناً ومزاجاً.
لم يستطع الزمن رغم عادياته أن يروّضه أو يطوّعه أو يحتويه، فقد تمكّن سلطان الشعر منه وامتلكه بكل معنى الكلمة، هكذا ظل صعباً بل عصيّاً، غير قابل للتدجين، رافضاً، ومقاتلاًً في الكثير من الأحايين في دروب الأدب والفكر والتجديد. سلاحه الشعر في الهجوم والتراجع، وهو درع وقايته من تقلبات الزمن وغدر الأيام وهجومات الأعادي.
برحلته الشعرية الطويلة، اخترق سيرة رجال ومبدعين وتاريخ كفاح، «صاعداً ونازلاً على حد تعبيره». كان شاهداً وحاضراً في ذاكرة الأجيال، فهو جدّ المثقفين العراقيين ومرجعهم ومرجعيتهم.
جاء من النجف ملفّحاً بالعباءة ومعتمراً بالعمامة الصغيرة البيضاء، وبجسم ضئيل، لكنه منتصب مثل نخيل العراق. ومن البيئة النجفية الدواوينية- التلقينية، ذات الموروث والتقاليد العريقة والقاسية، حيث عايش فقهاء النجف، الذين زاملوا وتتلمذوا على يد جمال الدين الأفغاني بدأ التمرد الأول، فانطلق ليحلّق في الأفق الشاسع، مثل نسر رفرف بجناحيه فوق بغداد، وهو يتطلّع نحو دمشق والقاهرة وبيروت، ثم ليستريح في باريس قليلاً، وليبدأ رحلة المنفى والحنين التي قاربت ثلاثة عقود ونيف كانت محطتها الرئيسية براغ الذهبية.
رحيل متقطع لكنه متواصل، ظل مصحوباً بحنينه الى الوطن الذي حمله في قلبه، حتى صارا متلازمين لبعضهما. فقد كان يُبحر في ثنايا الأحداث ولا يعرف المرسى الاّ على شاطئ الشعر. وهو المسافر الذي تفيض منه الألوان، كقوس قزح، في سماء شرقية تتراقص كواكبها بعذوبة ورقّة متميزة، مدوّرة مثل خبز تنور عراقي طازج، ومتدفقة مثل دجلة والفرات وشط العرب.
إن عمر الجواهري هو عمر العراق الحديث، حيث اكتملت بداياته الشعرية مع نشوء وتأسيس الدولة العراقية في العام 1921. وكان قد نشر قصائده الاولى عشية تأسيسها حيث تدفقت مثل ثورة العشرين.
ظل الجواهري عنيداً أمام السؤال، ضعيفاً أمام إغواء الشعر وإغراء القصيدة. معمّراً مثل لبيد العامري، منفياً مثل المتنبي، فقد عاش أكثر من ثلث عمره في الغربة، التي أرخها في سنواته الأولى «ببريد الغربة» و«يا دجلة الخير»، مفكراً مثل المعرّي، حيث رصع قصائده بالحكمة والمعرفة.
الجواهري والحصري
في سفره «المجيد» واجه الجواهري خصومات كثيرة، وأثيرت حوله وجهات نظر متضاربة. والواقع فقد كان شخصية إشكالية، بمعنى تفرّدها الفني والشخصي وتمايزها الابداعي وخصائصها المتنوعة. ولعل أبرز الخصومات التي واجهها هي معركته مع المفكر القومي ساطع الحصري، بسبب موضوع الجنسية، فقد أمر الاخير حينما كان مديراً عاماً في وزارة المعارف بفصله من وظيفة معلم ابتدائي، بعد أن رفض تعيينه بوظيفة مدرس ثانوي، لكن الملك فيصل الأول، سارع لتعيينه أميناً لتشريفات البلاط الملكي، لحفظ التوازن المختل بسبب نهج «العزل» وإشكالية الجنسية العراقية التي أوجدها قانون الجنسية الأول في العام 1924، والذي تم سنّه قبل كتابة الدستور العراقي الأول (1925) بتشجيع وإشراف من بريطانيا، وواصلت القوانين والتعديلات المختلفة النهج التمييزي ذاته.
وقد أفصح الحصري، أن سبب فصل الجواهري، هو قصيدة كان قد نشرها الشاعر، يتغزل فيها بمصايف ايران الجميلة، قبل تعيينه، مما اعتبر تشكيكاً بالهوية العربية وبالمواطنية العراقية، خصوصاً وأن بعض أبناء الفرات الأوسط ولاسيما في المدن الدينية وجنوب العراق كانوا غير معنيين بالحصول على الجنسية، التي لم يكن لها معنى آنذاك بل أن بعضهم وافق على اكتساب الجنسية الايرانية تهرباً من الجندية وربما للحصول على بعض الامتيازات، لكن انحلال الدولة العثمانية وتأسيس المملكة العراقية، افترض أن يكون جميع سكانها مواطنين بالتأسيس حسب معاهدة لوزان لعام 1923، لكن لجوء البريطانيين الى تشريع قانون للجنسية ووضع درجات (أ) و(ب) واشتراط الحصول على شهادة للجنسية، طال بعض الفئات بالتمييز، الأمر الذي انعكس على بنية الدولة العراقية لاحقاً، وهو الأمر الذي دفع الجواهري ثمنه باهظاً منذ وقت مبكر!
أما معاركه الأخرى فهي احتسابه على معسكر اليسار العراقي بحكم دفاعه عن المظلومين والفقراء، رغم أن قصائده كانت قصائد تلبسها الغيد الحسان وأناشيد يتغنى بها الوطنيون لمواجهة الظلم الخارجي والاستبداد الداخلي.
وأخيراً فإن كيد بعض خصومه ومنهم في الوسط الأدبي ذاته، كان أحد أسباب خصوماته، وذلك بسبب اتجاهاته التجديدية في القصيدة العربية الكلاسيكية حسب تعبير الاستاذ هادي العلوي، رغم أن موقفه ظل متحفظاً إزاء القصيدة الحديثة ومدرسة التجديد الشعري الحديث.
كان الحديث مع الجواهري ذا شجون وله متعة خاصة، خصوصاً عندما يكشف لك عن خباياه بطريقة طفولية لذيذة. فيبدأ بالتدفق مثل ينبوع .
ولادة القصيدة
حين تولد القصيدة يشعر الجواهري أنه يولد من جديد، وقد تكون ولادة عسيرة في كل قصيدة، لدرجة انه بعد الانتهاء منها يشعر وكأنه يكتب الشعر لأول مرة (أي والله كما يقول) ويتعجب الجواهري من ذلك، مثلما هو البطل المسرحي حين يواجه الجمهور. ففي كل مرة يشعر بالرهبة، وعندما تكتمل القصيدة يشعر بالنشوة. وتكتمل قصيدة الجواهري عندما يلحنها ويغنيها. يقول الجواهري: إعتدت على ذلك في النجف منذ البدايات، فحين كانت تداهمني القصيدة، أنزل الى السرداب، أحدو ثم أطرب وأدخل بعدها في ملكوت الشعر، في عالمه السحري وعندها يكتمل البناء متجمّلاً بالشكل أعود الى نفسي وأضحك معها أحياناً.. أحقاً إنني كنت هنا!!
ويضيف الجواهري في حوار مع الكاتب منشور في كتابنا: الجواهري- جدل الشعر والحياة، 1997: يخيّل لي وأنا أرقص في باحة القصيدة أن شيئاً من الجنون قد مسّني أو أن نوعاً من الخبل قد اعتراني. إن شيئاً ما يحدث لا أعرف كنهه حين تنتابني الحالة وأدخل مملكة الشعر، أحياناً تراودني حالة هيجان وصراخ حتى تهدأ روحي باكتمال الولادة.
في بغداد كان جارنا السيد محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة العراقي بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، يتعجّب هو وأهله من الذي يجري في بيتنا أحياناً، إذا ما صادف وهبطت عليّ القصيدة. وعندما كانت شياطين الشعر أو ملائكة الفن تنزل عليّ فلا اريد لأحد أن يقطع سلسلة أفكاري والاّ أنفجر… اريد عالمي الخاص، لا أريد لأي كان أن يشاركني فيه، حتى العائلة أدعوها لتذهب الى أي مكان.
وبصدد شاعريته وكيف صقلت يقول الجواهري:
الشاعرية تولد في الأرحام فمذ كنت جنيناً، كنت أسكن في حضرة الشعر. لقد كان البيت الجواهري يحمل صولجان الشعر، حيث يمسك بقيثارته أكثر من رمز، ويكاد الشعر يتملّكه منذ الصغر، ورغم أن العائلة كانت تريده أن يدرس الفقه الاّ أن الشعر تمكّن منه. وكان يحفظ دواوين كبار الشعراء، حيث كان برنامجه اليومي هو « حفظ الشعر» وحفظ ديوان أبو العلاء المعرّي وكان شديد الاعجاب بالبحتري وقرأ البيان والتبييّن وكذلك كتب ابن المقفع وغيرها. ولم يكن عمره يزيد على 12 عاماً، كان شعوره مذ كان طفلاً انه يحلّق في فضاءات أخرى ويطير الى عوالم بعيدة!!
اللحظة الشعرية
متى تحل اللحظة الشعرية على الجواهري؟ وهو سؤال لا يمكن أن نتصوره بمعزل عن الشاعر، فربما ان الامر مختلف حسب المكان والزمان. لكن الاستلهام الذاتي مهم جداً، كما يفعل الرسام حين يستخدم الألوان ويطوّع الريشة، أو كما يفعل الروائي حين يصف المكان ويتابع تفاصيل شخصياته وحبكته الدرامية… الأمر كان يلاحقه حتى يكاد يهبط عليه بدون إرادة. فتراه يغني بحرقة وحرارة، وحين تأتيه إشارة غامضة يتفجّر غضباً ويملأ المكان جنونه، وكنت أسأله عن اللحظة الشعرية، فإذا به يجيبني إن الملكوت يناديه فيستجيب وتخرج بمعاناة فائقة.
وعدت لسؤاله حول اللحظة الشعرية فأجاب: اتريدني أن أقول لك يأتيني الوحي !؟ لا أدري ماذا أسمّيه؟ فقد تفجّرت «دجلة الخير» بملحميتها المعروفة، كلّها في ليلة واحدة في براغ، تصوّر ليلة واحدة تفجّر في داخلي ينبوعا لا يرضى بالتوقف، حتى اكتملت… فماذا تسمي ذلك!؟
الجواهري والتناقض الاجتماعي
عاش الجواهري في صلب المتناقضات الاجتماعية حيث، البيئة النجفية شديدة الصرامة، والتقاليد القاسية.. وقد انعكست عليه وهو يتخطى الحواجز والمحرّمات ولكن بأثمان باهظة أحياناً
وتركت القيود الثقيلة تأثيراتها الكبيرة عليه، لكنه في الوقت نفسه استفاد من الخيال القرآني الذي يفرضه الوسط الديني، وتستطيع أن تلحظ دون عناء كيف أن قصائده مرصعة به باستمرار، بل إنه لا يستطيع الفكاك منه. وبالتأكيد فالتراث القرآني، خصب وجميل ومغرٍ، انه في الوقت ذاته يوحي بخيال متفجر «جنة تجري من تحتها الأنهار»!، «الحور الحسان» و«طور السنين وهذا البلد الأمين»، الزيتون والعنب وما تشتهي، كان هذا هو الأفق الذي يصبو اليه الجواهري، حيث وجده مرة واحدة في سفرته العتيدة الى مصايف إيران التي كتب فيها قصيدته الشهيرة، والتي جاءت بالبلاء عليه، بسبب تفسيرات مغرضة.
يقول الجواهري: حتى إذا ما ذهبت الى إيران للاصطياف لأول مرة في العشرينات كانت الجبال الشاهقة تهزّني، أما البيئة النجفية فكانت وراء قصائدي، فالحرمانات والتزمّت ولّدت لديّ مفهوماً إنسانياً نقيضاً ورغبة في التغيير، وهو ما رافق قصائدي، ولا بدّ هنا من الإشارة الى الفسيفساء الحضارية والثقافية لمدينة النجف، بحكم الاختلاط لأقوام وشعوب وآداب متنوعة.
التأزم كان خاصية الشاعر فما بالك بشاعر مثل الجواهري المبدع والمتميّز، وكان هذا ديدن دعبل الخزاعي وابن الرومي والمعري، والمتنبي والرصافي. يشعر الجواهري أنه في غضب خلاّق، نتيجة التأزم العارم والجارف والمضيء، فهو حتى في الغزل تكاد تتلمس حرارته حين يقول القصيدة، فتراه عاشقاً مولهاً بكل معنى الكلمة.
التناقض والتحدي
أعود الى التناقض، فهل هي سمة ملازمة للجواهري؟ فمن قصائد الاقتحام الثورية الى قصائد المديح، أم أن « حب الحياة بحب الموت يغريني» على حد قوله.. كيف يجعل حب الحياة متلازما بحب الموت!؟ هل هو ديالكتيك الطبيعة، كما نسميه أم ماذا؟ ولعل هذا الهارموني الجواهري هو من سمات قصائده بامتياز.
يا نديمي وصبَّ لي قدحاً
ألمِسُ الحزن فيه والفرحا
كان الجواهري ابن المتناقضات والتعارضات على كل المستويات وبالمناسبة فهو يرغب أن يقرأه الناس ويعرفونه بذلك، أي باعتباره وليد التناقض والتعارض، حيث ولد في بيئة متناقضة، ولذلك ترى الصعود والنزول لديه وهي حالة انسانية، ولكنه رغم ذلك لم يكتب يوماً بهدف الانتفاع، أو المديح لغرض الحصول على الكسب، ولو فعل ذلك لكان هو غير ما أصبح.
ولعل الجواهري في حوارات مع الكاتب كان قد قال لقد اغتصبت ضميري مرة واحدة في إشارة الى قصيدة «ته يا ربيع» في تتويج الملك فيصل الثاني وعاد وعالج الموضوع بعد أيام بكتابة قصيدة كفارة وندم، انه اعتراف صريح دون وجل أو خوف من أحد، بل تلك إحدى سجاياه، حيث كان شجاعاً في نقد الذات.
كان «الجواهري» يُعرف بالشاعر الناري، الثوري، الاقتحامي، المتوثب، لكنه هو من كتب سبع قصائد بحق الملك فيصل الأول. وفعل ذلك بإرادته ودون رغبة في الحصول على طمع أو جاه أو مال. قام بذلك لأنه كان يعتقد لحظة ذاك بأن موقفه سليم، وشعر أنه يوفي دينأ بعنقه، خصوصاً وانه وقف مع الجواهري، ضد النعرات العصبية والطائفية، التي حاولت النيل منه ومن انتمائه الوطني. ولهذا رداً للجميل، قال ما قال في «الملك الجليل»، كما يسميه انتصاراً للحق بعد حادثة ساطع الحصري الشهيرة، وهذا الشعور ظل يصاحبه لاسيما الاحساس بالجميل وعمل الخير ورد المعروف، واستمر حتى آخر أيام حياته.
وفي الوقت نفسه ضاق ذرعاً بالبلاط الملكي، الذي لم يتسع له وترك النيابة وفرّط بالوزارة، التي كانت الاشارات تأتيه لدخولها كمرحلة لاحقة، فقد قرر الوقوف في صف الناس مرة واحدة والى الأبد. وقرر أن يكون شاعراً لا وزيراً أو حتى رئيساً للوزراء. وكان بعض من لبس العمامة قد وصل الى الوزارة، في حين أنه نزع العمامة بقناعة ورفض عوامل الرخاء والاغراء والسلطة والأبهة والمنافع واختار ان يكون « الجواهري» والجواهري فقط وذلك يكفيه. لقد اختار الشعر وكسب نفسه والعالم، وهكذا سار شلال حياته اللاحقة.
كان الخروج من الدائرة الصعبة (البلاط) يسبب إحراجاً كبيراً لكن بقاءه كان يعني اندثاره أو تدجينه، لاسيما وقد بدأ بالتمرد بقصائد نارية وغزلية. وفي خروجه وجد عوالم فسيحة، ضاجّة بالحياة والحركة والتناقض أيضاً تنتظره!!
عجيبٌ أمرك الرجرا
ج لا جنفاً ولا صددا
تضيقُ بعيشةٍ رغدٍ
وتهوى العيشةَ الرغدا
ولا تقوى مصامدةً
وتعبُدُ.. كلَّ من صَمَدا
أليس عجيباً هذا التناقض. دخل البلاط ثم ضاق به ذرعاً، وسعى للنيابة ودخلها ثم استقال وانضم الى صف الناس بعد معاهدة بورتسموث عام 1948 مع بريطانيا ومقتل أخيه جعفر، وتعرض خلال حياته لحملات شتم لاذع، ودناءات وأراجيف، لكن ذلك ظل ديدنه في الحياة، حيث كان متحدياً معتدّاً بنفسه، يطلب الأشياء ويضجر منها ويتركها بعد أن يسعى اليها:
أزِحْ عن صدرِكَ الزْبَدا
ودعْهُ يبثُّ ما وَجَدا
الى أن يقول :
أأنت تخافُ من أحدٍ
أأنت مصانعٌ أحدا
أتخشى الناسَ، أشجعهمْ
يخافُك، مغضباً حَرِدا
ولا يعلوكَ خيرُهمُ
ولستَ بخيرِهم أبدا
تعرّض الجواهري خلال حياته الى حملتين كبيرتين الأولى ترافقت مع الأيام الاولى لبدء تدفق النفط للتصدير في بئر باباكركر (كركوك) 1927 حين كان شاباً، متمرداً، بهدف نزع هويته الوطنية والقومية كما يذهب الى ذلك الكاتب حسن العلوي، والثانية بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، حين اعتبر في مقدمة معسكر اليسار العراقي، لكن التحدي كان ملازماً لأبي فرات ولكنه كان هو الذي يختار خصومه ويحدد المعركة وشروطها.
وشاعر مبدع كالجواهري كان يعيش في صميم الاحداث يتأثر بها ويؤثر فيها، وحتى، وإن لم يكن سياسياً فقد كان مع عامة الناس وما كانوا يتأثرون به، ويتفاعل معهم، ويحاول أن يعبّر عن تأثرهم بطريقته الخاصة. عندما حدثت وثبة كانون الثاني (يناير) 1948، ضد معاهدة بورتسموث، ووقعت معركة الجسر الشهيرة، وسقط أخوه جعفر، الذي استشهد كان يجد نفسه بعد سبعة أيام وفي جامع الحيدر خانة (14 شباط/فبراير) ينشد:
أتعلم أم أنت لا تعلمُ
بأن جراح الضحايا فمُ
فمٌ ليس كالمدعي قولةً
وليس كآخر يسترحم
يصيحُ على المدقعين الجياع
أريقوا دماءكمُ تُطعموا
ويهتفُ بالنفر المهطعين
أهينوا لئامكم تُكرموا
الفترة التي سبقت ثورة 14 تموز (يوليو) كانت حامية، حيث فُرضت الاحكام العرفية وأعدمت بعض القيادات الشيوعية لأول مرة (فهد وصحبه) 14 شباط(فبراير) 1949 وتم تأسيس الحلف التركي- الباكستاني ومركزه بغداد 1955، والذي عُرف باسم « حلف بغداد» بدعم من الغرب. كان التوتر والمواجهة ملازمات لتلك الفترة، وتقلصت بعض الهوامش التي كانت موجودة قياساً للعهود التي تلت ذلك، واصبحت شحيحة لدرجةالاختناق.
وقد أثارت قصيدة هاشم الوتري «ايه عميد الدار» في حزيران (يونيو) 1949 ضجة كبرى ولها قصة خاصة، فقد ألقيت بمناسبة انتخاب الدكتور هاشم الوتري (وهو عميد الكلية الطبية العراقية) عضواً للشرف في الجمعية الطبية البريطانية. وكان الجو السياسي محتدماً وجاءته الدعوة للمشاركة، لكنه تظاهر بعدم القبول، ولكنه كما يقول في حوارات مع الكاتب: كنت أرقص وراء التلفون وكنت أقول جاءت «يا هلا بيها»، فقد كنت قد عزمت على المواجهة. ويضيف الجواهري: صعدت الى سطح الدار وكنت مستلقياً على فراشي، لكنني كنت محتدماً وكانت الاشارات الغامضة تأتيني لتزيدني اشتعالاً، فوجدت نفسي منبطحاً أحدو، كما هي عادتي، وعندما وصلت المورد الذي يبدأ بـ» إيه عميد الدار شكوى صاحبطفحت لواعجه فناجى صاحبا» حتى هتفت زوجتي «أم نجاح» (عوافي أبو فرات ..أ»كله) وهي عادة ما تقال لعدم الاكتراث بالنتائج وتعني باللهجة العراقية.. ليكن ما يكن وانت تدخل المعركة وتقبل التحدي، ثم يتسلق الجواهري قمة التحدي:
حشدوا عليّ المغرياتِ مسيلةًَ
صغراً لعابَ الأرذلين رغائبا
بالكأس يقرعها نديمٌ مالئاً
بالوعد منها الحافتين وقاطبا
وبتلكم الخلواتِ تمسخُ عندها
تُلْعُ الرقابِ من الضباء ثعالبا
وبأنْ أروحَ ضُحىً «وزيرا» مثلما
أصبحتُ عن أمرِ بليل «نائبا»
ظنا بأن يدي تمدُّ لتشتري
سقط المتاعِ، وأن أبيعَ مواهبا
أو قصيدته في القاهرة 1951
خلّــي الدم الغالي يسيلُ
إن المُسيــل هو القتيـــلُ
هذا الدم المطلول يختــ
ـــتصر الطريق به الطويــلُ
أو قصيدته في مؤتمر المحامين العرب، الذي انعقد في بغداد في العام ذاته، التي أثارت ردود فعل حادة من جانب الحكومة العراقية، حيث أقامت الدعوى على مدير الجريدة المسؤول المحامي عبد الرزاق الشيخلي، كما أقامتها على الجواهري، لكنه تم الإفراج عنهما.
ومنها : سلامٌ على جاعلين الحتو
فَ جسراً إلى الموكب العابرِ
سلامٌ على مثقل بالحديد
ويشمخُ كالقائد الظافرِ
كأنَّ القيودَ على معصَميه
مفاتيحُ مستقبلٍ زاهرِ
أو القصيدة التي ألقاها في دمشق بمناسبة الاحتفال التأبيني للشهيد عدنان المالكي عام 1956، واضطر بعدها للبقاء في دمشق، لما أثارته من اشكالات والتي يقول فيها:
خلّفتُ غاشية الخنوع ورائي
وأتيتُ أقبسُ جمرةَ الشهداء
الى أن يقول :
أضحية الحلف الهجين بشارة
لكَ في تكشفِ سوءة الهجناءِ
أسطورة «الأحلاف» سوف يمجّها التا
ريخ مثل خرافة «الحلفاء»
لعل العدّة الفكرية والسياسية مثلت عناصر التحدي المستمرة التي كان الجواهري ينزل بها الى الميدان دون حساب للعواقب. صحيح ان لكل قصيدة ظروفها ونشأتها لكنه بطبعه الحاد والمتأزم والمتوتر كان يقود رد الفعل تبعاً لحالته النفسية. فأحياناً يلتقي توتره الشخصي مع التوتر السياسي، فتراه يهلل في داخله، يقول قصيدته وليكن من بعده الطوفان. ورغم الاساءات ومحاولات النيل منه، فهو القائل عن نفسه أو مخاطباً نفسه متحدياً:
تسامي فإنك خير النفوس
إذا قيس كل على ما انطوى
وأحسن ما فيك أن الضمير
يصيح من القلب: إني هنا!
كان الجواهري هو الذي يبدأ المعركة، بل يفرضها على «الآخرين»، ولم يكن سهلاً أن يقبل خصومه أو أعداءه بسهولة إن لم يكونوا من العيار الثقيل، فمن لا يستحق أن يكون خصماً له يهمله حتى وإن حاول النيل منه أو التعرض له. كان اعتداده الجميل بنفسه أقرب الى الغرور المتسامي والمتعالي.. انه يرفض أن ينزل الى ساحة معركة لا يتمتع بها الخصم أو العدو، بالمؤهلات، التي تجعله خصماً أو عدواً له، كان يريد التكافؤ عند المواجهة أيضاً، ألقى الجواهري قصيدته في حفل تكريم الدكتور هاشم الوتري وبحضور كبار مسؤولي الدولة، خاطب الجواهري الجميع وأصابعه تؤشر الى المقاعد الأمامية:
أنا حتفَهم ألج البيوتَ عليهمُ
أغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا
خسئوا: فلم تزلِ الرجولةُ حُرةً
تأبى لها غير الأماثلِ خاطبا
والأمثلون همُ السوادُ: فديتهمْ
بالأرذلين من الشُراةِ مناصبا
بمملكين الأجنبي نفوسَهُمْ
ومصعدين على الجموعِ مناكبا
وكانت هذه القصيدة إيذاناً لمعركة كبرى، خصوصاً وأنه كان يشعر بأزمة نفسية، فالتقط الأزمة السياسية، لكي يعبّر عن الأزمتين.
وقد سأله الكاتب عن الأزمة النفسية التي كان يعاني منها فأجاب:
كنت قد وصلت الى حافة الفقر الحقيقي، ولم أكن أجد ما يسدّ الرمق مع العائلة، وكنّا نستدين، لنأكل، بسبب الحصار، الذي فرضه الحكام عليّ نظراً لمواقفي، فقررت أن أرفع صوتي، لأقرّعهم وأدعو للإجهاز عليهم والثورة ضدهم. ولا أخفيك سراً إذا قلت لك أن زوجتي «أم نجاح» قالت ربما مسّه شيء من الجنون، وهي تعرف أنني قررت الاقتحام، وكنت قد حضّرت نفسي للاعتقال بعد إلقاء تلك القصيدة.
ولكنني عندما وصلت بهدف استجوابي استقبلني حاكم التحقيق، وهنا كانت الدهشة، أو المفاجأة، عندما أخبرني أنه معجب بشعري. ليس هذا فحسب، بل إنه يحفظ بعض أشعاري. وهنا فتح أدراج مكتبه، وأطلعني على بعض القصائد المحفوظة في ملف خاص، كان قد تم «كبسها» أي وضع اليد عليها، عند مداهمة بيوت الشيوعيين واليساريين، باعتبارها أحد المستمسكات الجرمية. وأتذكر قصيدة « عالم الغد» التي كانوا يتغنّون بها، كانت ضمن الملف.
ورغم الضجة التي أحدثتها قصيدة هاشم الوتري « إيه عميد الدار»، فقد تم استبقاء الجواهري في التوقيف «فقط» وذلك من باب « الاحتراز» وبكل احترام وأدب. ومع الجواهري يمكن أن نقول: إن وزراء ذلك الزمان وسياسييه، لم يكونوا من النوع الذي يستمرئ كتابة التقارير أو الظهور بمظهر القبح، الذي نصادفه هذه الأيام، حيث أصبح الأمر ظاهرة بشعة، على رغم من أن التعامل معه قد يكون لذر الرماد في العيون بصورة مفتعلة أو ملفقة، لكنها في الوقت نفسه تعرف أنها تتعامل مع شاعر كبير. فرغم مناصبته العداء للحكام الاّ أنهم كانوا رحومين به باستثناء «الزعيم» عبد الكريم قاسم، الوحيد الذي وضع القيد في يديه كما يقول بمرارة، وذلك بعد المماحكة التي دارت بينه وبين الزعيم عبد الكريم قاسم.
ولكن قبل ذلك، فقد حدث ما يشبه الفجوة أو الفراغ بين الجواهري وبين الشارع سرعان ما تم استعادته وذلك بعد قصيدة « التتويج» أيار 1953 التي كانت خارج السياق، وهو ما حاول البعض النفاذ منه، لاسيما بالاساءة للجواهري.
خيار الشعر هو الوحيد!!
وإذا كان الجواهري قد ترك « المناصب» واختار الشعر والكلمة الحرة، فقد كان فيما كل ما قال وما كتب لم يغتصب ضميره، ولم يشعر أنه عكس قناعاته كما عبّر عن ذلك في حوارات مع الكاتب وما أورده في مذكراته لاحقاً. مع أن هذه القناعات تتغير بالطبع، يستثني من ذلك مرة واحدة عوّضها بملحمية شعرية ذاتية، وكأنه يريد اعلان براءته بعد مراجعة قاسية للنفس في الخمسينات، وأعني بها قصيدة التتويج التي لحقها مستدركا في قصيدة كفارة وندم.
ستبقىـ ويَفنى نيزكٌ وشهابُ ـ
عروقٌ أبيّات الدماء غضابُ
وبعد نحو عام كتب :
خبت للشعر أنفاسُ
أم اشتطَّ بك الياسُ
كهذا كان خياره مع الناس، ضد الحاكمين ولم يشأ أن تؤثر تلك الكبوة على مساره المعروف وبجرأة وشجاعة واجه الموقف، في حين كان الكثيرون لا يتوقفون لمراجعة مواقفهم وليسوا معنيين بتقديم نقد ذاتي الى الجمهور.
وإذا كان البعض يلومه أو ينتقده لأنه كان قد كتب قصيدة لهذا الزعيم أو ذلك الملك أو القائد، فإنه كان ينطلق من قناعة ومن رد للجميل بما فيها قصيدته لإبن البكر محمد حيث يقول الجواهري في حوار مع الكاتب:
« الجماعة» ويعني «حزب البعث الحاكم» آنذاك كرّموني في حينها، وعوملت بشكل خاص، وقد كتبت بدافع «الوحدة الوطنية» والتئام الشمل، بل إن ظروف المرحلة والواقع السياسي، كانت تفرض بعض التوجهات. ولم أكن في حينها خارج مزاجي وطموحي. أما حول الشاب «محمد» نجل الرئيس البكر، فقد قتل في حادث سيارة، وقد ربطتني به علاقة خاصة، ولم أقل كلمة واحدة يشمّ منها رائحة التملق وكتبت رثائية له عام 1978.
تعجَّلَ بشرَ طلعتكَ الأفولُ
وغالَ شبابَكَ الموعودَ غولُ
ومثل هذا حدث عند كتابة قصيدة الى الملك محمد السادس أو الرئيس حافظ الأسد أو الملك حسين وغيرهم، وذلك تعبيراً عن اعتزازهم به وتقديراً لمواقفهم منه ورداً للجميل الذي أسدوه له.
لقد كانت هجائيات الجواهري نارية، كما هو في حبه أيضاً، ففي قصيدة هاشم الوتري، نرى كيف يضع الخصوم في زاوية، ويوجّه السهام عليهم، وكان أقطاب الحكم قد أُخذوا أخذَ الذين كفروا. وقد مضى في إلقاء القصيدة حتى النهاية، أما لو كنا في هذه الأيام كما يقول الجواهري (حوار مع الكاتب 1985 في دمشق غير منشور)، فقد يكون من البيتين الأولين، يُنزل الشاعر أو الخطيب وقد يغيب. بعد أن أكمل القصيدة، مزق أوراقها ورماها في الهواء، وغادر، وإذا به في معتقله، في مديرية التحقيقات الجنائية، يفاجأ بوفد من الشباب المتنور ومعه «قصاصات من القصيدة الممزقة، مجموعة من حديقة المسبح الذي شهد الاحتفال». ويقول كريم مروة انه كان قد جمعها وزار الجواهري في معتقله وسلّمه إياها مع ناجي جواد الساعاتي ثم نشر القصيدة في جريدة التلغراف التي تصدر في بيروت بمعاونة حسين مروة وابنه نزار .
أما قصيدة «كما يستكلب الذيبُ» فبعد أن أغرى فريق من الحاكمين بعض طلاب المجد الكاذب من المأجورين والحاسدين لشتم الجواهري كتب هذه القصيدة، التي يقول فيها:
عدا عليَّ كما يستكلبُ الذيبُ
خلقٌ ببغدادَ أنماطٌ أعاجيب
وبعد هذا المطلع يقول:
تسعون كلباً عوى خلفي وفوقهم
ضوء من القمر المنبوح مسكوبُ
وقبل ألف عوى ألفٌ فما انتقصتْ
«أبا محسّد» بالشتمِ الأعاريبُ
أو كما يقول في قصيدة يا ابن الثمانين:
يا «ابن الثمانين»كم عولجت من غَصصٍ
بالمغريات فلم تشرق، ولم تمِلِ
كم هزَّ دوحك من «قزم» يطاولهُ
فلم ينلهُ، ولم تقصرْ، ولم يطلِ
وكم سعت «إمّعاتٌ» أن يكون لها
ما ثار حولك من لغوٍ، ومن جدلِ
ثبّتْ جَنانك للبلوى، فقد نُصِبتْ
لك الكمائنُ من غدرٍ، ومن ختَلِ
جنرال وشاعر
لقد أخذ المنفى قسطه من الجواهري لاسيما بسبب تعكّر العلاقة مع «الزعيم» عبدالكريم قاسم حيث بدأت رحلته الشهيرة التي امتدت الى سبع عجاف على حد تعبيره.
من أكثر القضايا إثارة، هي علاقة شاعر بجنرال قائد ثورة أو انقلاب. فقد تعرّف الجواهري على عبدالكريم قاسم في لندن، وقد رافقه إلى طبيب الأسنان، لمعالجة أسنانه، عندما كان هو في دورة عسكرية، حيث التقاه في السفارة العراقية آنذاك، ومرت الأيام وسمع بنبأ «الثورة» وإذا به يفاجأ بصورة رجل كان قد نسي ملامحه، فإذا به «الزعيم» الذي أطلق عليه «الأوحد» فيما بعد، وركبه الغرور حتى التعسف.
يقول الجواهري في حواراته مع الكاتب : يمكن أن تتعجب إذا قلت لك أن «الزعيم» كان كثير التهيب في علاقته مع الأدباء وكان أول بيت زاره في العراق، بعد الثورة، هو بيتي، وقد تكررت الزيارات.
وعندما بدأت الأمور تسوء وبدأ الزعيم يركب رأسه وينفرد بكل شيء، كتب الجواهري مقالة في الصحيفة التي كان يصدرها «الرأي العام» بعنوان: ماذا يجري في الميمونة؟ والميمونة قرية في جنوب العراق تعرضت لهجوم بوليسي، انتهكت فيه الأعراض، وصادف أن قابل الجواهري الزعيم عبدالكريم قاسم في وزارة الدفاع، باسم الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء، وكان يحضر معه السيد الحبوبي، والدكتور صالح خالص، والفنان يوسف العاني، والدكتور المخزومي والدكتور علي جواد الطاهر، وإذا بالزعيم يخاطب الجواهري «.. أستاذ الجواهري: ماذا يجري في الميمونة؟..» ويقول الجواهري كنت أخشى مثل هذه المواجهة، لأنني كنت أتحاشاها، ولم أحدد المعركة بعد. فأجبت بأدب وقلت له «سيدي الزعيم أنا لا أستطيع أن أدافع عن نفسي كثيراً في هذا الموضوع». أسألك فقط سؤالاً واحداً، هنّ بناتك وأظنهن جئن إليك وعرضن ما تعرّضن له.. «بمعنى أنه لم يكتب ذلك عبثاً، وقد أحرج «الزعيم» فهو لا يستطيع أن يقول له نعم ولا يرغب أن يقول لا. ثم أخذ يتهرب من المواجهة.
أما الغلطة الكبرى التي ارتكبها الجواهري كما يقول: هي إنه خاطب الزعيم: «الثورة وبشرطة نوري السعيد؟» فخرج الزعيم عن حلمه لأول مرة، وبدون تفكير منه رد قائلاً: أنت من بقايا نوري السعيد! كان يفترض بالجواهري أن يقول له، أنا فلان، أول من كنت تحاول مصاحبته في لندن، وأول من زرته في البيت، وحينها يكون الزعيم خاسراً والجواهري هو الغالب في هذه المعركة، لكنه كما يقول لم يقل له ذلك، بل قال له هل تأذن لي بالخروج يا سيادة الزعيم؟ وأردف بالقول بما نصَّه: «أتحداك وأمام الجالسين.. أتحداك وأشرت له بإصبعي.. نعم أتحداك مرة أخرى..» وأعتقد أنني أرفقتها بيا سيادة الزعيم عبدالكريم، إن كان لديك الوثائق؟!
ولعل هذه الحادثة، كانت هي السبب في مغادرة الجواهري العراق.. إلى المنفى وكما يقول الجواهري: ربَّ ضارة نافعة، مثلما يقولون. رحم الله عبد الكريم قاسم، فلو لم تكن له معنا هذه القصة، فقد كنا قبعنا في العراق، والله العالم ما كان سيحدث لنا في السنوات السوداء. لكنه اضطرنا إلى «التشرد» عن الوطن في خريف 1961، وربما للتشرد الموعود وهي حسنة وربما كفّّارة عن كل ما فعله معنا، قبل التشرد أنا وزوجتي «أم نجاح» وبنتينا خيال وظلال، وكنت بحكم علاقاتي مع اتحادات الأدباء، ونقابات الصحفيين في الدول الاشتراكية، فقد أمّنت مقاعد دراسة لأبنائي في صوفيا وموسكو وباكو وبراغ، جزاهم الله ألف خير، وهكذا كان مصير فرات وفلاح ونجاح وكفاح. رحم الله عبد الكريم قاسم، حين رمانا خلف الحدود وكأننا «بُردٌ إلى الأمصار عجلى تُرزم».
إذا كان قاسم زعيم السلطة السياسية والعسكرية، فالجواهري زعيم السلطة الثقافية والأدبية في العراق، فهو رئيس اتحاد الأدباء ورئيساً لنقابة الصحفيين وشاعر العرب الأكبر كما يكنّى! ولكن كيف لشاعر مثل الجواهري أن يرمى خلف الحدود؟ وقد سألته ماذا كان هناك؟ زمهرير الغربة أم فردوس الحرية؟ وأجاب الجواهري مع حسرة وألم: الإثنان معاً.. وباللهجة العراقية أردف (أي والله) أي بلى والله : كان هناك الفردوس المفقود والموعود معاً. كانت براغ الذهبية مدينة الأبراج والجمال. صحيح أننا دفعنا أثماناً باهظة من كراماتنا المهانة، ومن شماتة الشامتين، وتشفّي المتشفين، ولكننا مع جفاف الغربة، كسبنا حريتنا وحلاوة الحياة!
معشوقات الجواهري
وفي براغ كتب قطعة شعرية أسماها زوربا، وهي مستوحاة من رواية «زوربا». كان ذلك عام 1969، ومما قاله:
وارتمت من شفق دامٍ
على الأرض جِراحٌ..
وجراحْ
وتهاوت فوقه..
من مِزَقِ الغيم..
صبيّاتٌ ملاحْ
كان الجواهري يطمح الى ما تحت السطح، وهو الأعمق والأغزر والأبهى.. يبحث النشوة الروحية التي يريدها من المرأة، ويفتش عن حالة الحب الحقيقي الذي لم يتذوقه الاّ وهو شيخ يدلف نحو الخمسين مع أنيتا، وكانت حالة الحب المفقود تسكن الروح والعقل، وتفتقد الجسد الذي يعطي ملمحاً آخر للنشوة والسعادة والحب، وإذا كان زوربا يحب الحياة، ويريد الاستمتاع بكل دقيقة فيها. فالجواهري يريد أن يتنفس بملء رئتيّه كل لحظة وليس كل دقيقة. يريدها لحظة جنونية بكل محتوياتها، والمرأة عنده صورة الفرح الذي يتذهب مثل وهج الشمس. كان هكذا يحلم وقد أعطته براغ الكثير وهو القائل فيها:
أطلتِ الشوطَ من عُمُري
أطالَ الله من عُمرك
ولا بُلغتُ بالشرِّ
ولا بالسوء من خبرك
أما قصة نساء الجواهري ومعشوقاته.. أنيتا الباريسية وبارينا البوهيمية وماروشكا التشيكية؟! فهذا شأن له علاقة بتفكير الجواهري.
كانت أنيتا من بنات السين من باريس لها عينان زرقاوان، كزرقة السماء أو البحر، في وجهها شحوب خفيف، وعندما كانت تحتسي كأس الكونياك، كانت خدودها تتورد كما يقول الجواهري، ثم يضيف: استهوتني وأنا جالس في مقهى، فأخبرني أحد الطلاب العرب، بأنها كانت تتابعني، وأنها سمعت عني الكثير، وهي معجبة، وكانت نظرتي تنم عن ارتياح لا يخفيه شيء، لقد أبدت رغبة في التعرف بي، وصاحبتها مدة من الزمن، وكانت هي سبباً في محاولة تعلّمي الفرنسية، وكان ذلك مدخلاً لما سيأتي. وصل حبي معها إلى الجنون، وكانت هذه المرأة غريبة الأطوار وتحمل المتناقضات.. لكنها لا تماثلني في المتناقضات، بل في الاختلاف والتكامل، الذي يصل حد الشذوذ والغرابة.
كانت امرأة كورسيكية (من مقاطعة بين إيطاليا وفرنسا) فيها بعض العادات القديمة، كانت صادقة، وكعادة الأوروبيين في ذلك الزمان، تحاول الإيحاء، فإذا لم تستطع تلبية الموعد أو الطلب، تقول «ربما» وعليك أن تفهم، أنها لا ترغب في الكذب. كنا نتفاهم ببعض الكلمات الفرنسية، إضافة إلى الانكليزية، التي كان إلمامها بها مثل إلمامي وهو ما ساعدنا على الانطلاق، ومحاولة إفهام كل طرف للطرف الآخر، واستمرت العلاقة ثم انقطعت وتواصلت، ورغم أنني كنت من جانبي مستمراً في حبي، إلاّ أنها بدأت تخفت تدريجياً، وعندها عرفت أن النسخة الأصلية ضاعت وبمعنى عليك البحث عن بدل ضائع!
أنيتا تلك خلّدها الجواهري بخمس قصائد في مقدمتها ملحمة أنيتا.
إني وجدت «انيتَ» لاحَ يهزُني
طيفٌ لوجهكِ رائعُ القسمات
ألقُ «الجبين» أكاد أمسحُ سطحَه!
بفمي، وأنشِقُ عطرَه بشذاتي
إلى أن يقول:
حسبي وحسبك شقوةٌ!وعبادةٌ!
أن ليس تَفرغُ منك كأسُ حياتي
وبالمناسبة، فقد نشر شاعرنا الجواهري هذه القصيدة التي كتبت في أواخر عام 1948 وأوائل عام 1949 بالمقدمة التالية «كان حباً عارماً لا يريد ـ ولا يقدر لو أراد ـ أن يقف عند حد، وكان كأنه يتفجر عن «ينبوع» خفي ثجّاج.. وكان سر الخفاء في هذا الينبوع.. رغبات! وآلام! ومطامح!.. ظلت طوال ثلاثين عاماً، هي عصارة العمر الزاحف! يسحق بعضها بعضاً! حتى لو وجد هذا الينبوع المختنق منفذاً بديلاً عنه لما اختلف الأمر بكثير. لقد كان هذا الحب من «الفورة» و»السورة» لدرجة أن صاحبه كان لا يرى في ملامح المرأة التي أحب، إلا ما يراه العازف المتجرد في أنغام قيثارته من أنها طريق للتعبير وشعار للانطلاق.. على هذا الضوء تلتقط الصورة الصادقة لقصيدة .. «أنيتا».
ثم أتبع هذه الملحمة بقصيدة أخرى بعنوان شهرزاد وهو مرقص باريسي مستوحى من الخيال الشرقي وحكايات «ألف ليلة وليلة». ويقول فيها بخصوص أنيتا:
إن وجه الدجى «أنيتا» تجلـى
عن صباح من مُقلتيــك أطــلا
أما المقطوعة الثالثة من قصيدة انيتا «ذكريات» فقد نظمت بعد فترة القطيعة، ويقول فيها:
لا تمرّي «أنيتُ» طيفاً ببالي
ما لِطيفٍ يسمُّ لحمي ومالي؟
وكانت المقطوعة الرابعة بعنوان «فراق». وحملت المقطوعة الخامسة اسم «وداع» وقد كتبتها في باريس في 13 شباط (فبراير) 1949:
«أنيتُ» نزلنا بوادي السباعْ
بوادٍ يُذيبُ حديدَ الصِّراع
يُعيَّرُ فيه الجبانُ الشُّجاع
«أنيتُ» لقد حان يومُ الوداع
وقد سألت الجواهري: أبا فرات، ومن كان بدرجة حب «أنيتا».. هل كانت بارينا أم ماريا «ماروشكا» اسم الدلع والتحبب؟. وبعد أن اعتدل الجواهري في جلسته وبنشوة استذكر تلك الأيام الحلوة على حد تعبيره فقال: كانت بارينا.. تحلّق في عالم خاص، ساحر ومثير، عشقتها فترة تقارب الثلاث سنوات، كانت «بنتاً عجيبة مثل أسطورة. وجه مضيء وجسد أفعواني رغم الأحزان».. أقرب إلى الخيال.. تجعلك تصدّق ما تقرأه في الأساطير. كان إحساسي نحوها، أنني أمام شيء مختلف من النساء، تعارفنا في براغ، وهي بوهيمية، وأقرب إلى الحياة البوهيمية (التي تقول إن غرفة كان يتقاسمها عدة أشخاص يعيشون فيها، يأكلون ويجوعون ويحبون بطريقتهم الخاصة).
والدة بارينا، كانت يابانية وجدّتها على ما أعتقد إنكليزية، من أصل ياباني، ولم أكن أعرف أي شيء عن والدها.. لم تحدثن عنه، ومن خلال الأحاديث المتأخرة، عرفت أنه قضى نحبه، إما منتحراً أو مقتولاً، بظروف غامضة، وصادف أن تعرّفت عليه قبل يومين من انتحاره أو موته.
ويتابع الجواهري بتأمل القول: عند موته، ذهبت لتقديم العزاء إلى بارينا، واكتشفت أن الشقة ممتلئة بالتحف الصينية والساعات الذهبية، وقلت مع نفسي، كيف احتفظ الرجل بما لديه مع علمي بأنه مات معوزاً! وفهمت من بارينا أنه لم يمس هذه الأشياء لأنها من أم بارينا، حفاظاً على ذكراها، لكن بارينا بددت ذلك بسرعة على حياتها البوهيمية، وعلى أصحابها، دون ندم أو أي أسف.
شعرت فيما بعد أن بارينا، تبددت، طارت، تلاشت.. لا أدري إلى أين؟
وهل عوّضت ماريا «ماروشكا» مكان بارينا؟ يقول الجواهري : كان في «ماريا» شيئاً كهربائياً اجتذبتني نحوها، من أول نظرة، كما يقولون. كنا «أسرى» الحب. جاءت مع صاحبتها، التي ربطتني بها علاقة حب عابرة، وفجأة بعد أن دخلت إلى الشقة، أخذتها بالأحضان، حتى ان المسكينة، التي جاءت لتعرّفها بي، وكانت قد تأخرت لدفع أجرة التاكسي، فوجئت بحالة الانسجام التي بيننا. حيث رأت ماروشكا وكأنها حمامة تعود إلى عشها، ويزقزق معها، ذلك الطائر الشريد، الذي ظل يغني حتى عادت معشوقته!
وسألته وماذا فعلت الأولى؟
اكتفت بنظرة حزن وربما سقطت دمعة هادئة، لكنها حارّة، على خدها، لا أدري الآن، كيف أُخذت، رغم أن علاقتي مع صديقة ماروشكا كانت بسيطة.. لكنها أصيبت بالدهشة، حين رأت هذا الغرام والانسجام، صحيح أنها لم تكن مثالية، لكنها أُخذت على حين غرّة، كما يقال.
عندما تعرفت على ماروشكا، لم تكن تتصور هي ومن معها، أنني اكتشفت الآن النموذج، «الموديل»، الذي كنت أبحث عنه لسنوات طويلة. كانت تتصور نزوة شاعر، أو هكذا تصور البعض. ماروشكا إنسان مختلف، فهي لا تشبه بارينا وليست مثل أنيتا، هي ببساطة امرأة طبيعية، غير متكلفة، حلوة المعشر، وديعة ودافئة، فيها الكثير من مزاج الشباب وحماسته وعنفوانه ومرحه، ومع ذلك لم تكن صريحة دائماً، كانت مراوغة، إنها عالم مختلف، تضحك حين تراوغ وتندم، ثم تمطرك بحب لا مثيل له وتعود وتكرر المراوغة.
وقد كانت قصيدة لمّي لهاتيك لمّا، لفترة ماروشكا، وهي توحي بالفترة الذهبية من حب الشاعر، فقد نظمها في براغ، عام 1972، ونشرت في عام 1973:
لمــــي لهاتيـــــك لمّا
وقرّبـــــي الشَّفتيـــن
لمّاً علــــى جمــرتيـن
بالمـــوت ملمومتين
يا حلوة المشربيـــن
من أين كان.. وأين
من صنعِ كذبٍ ومَيْن ِ
سَمُّوهمــا زهــرتين
ولعل هذه القصائد تذكّر، بقصائد «جربيني» و«النزغة» عندما كان ما يزال الجواهري في البلاط الملكي، خصوصاً وأنها شكلت عاصفة من الانتقادات والإحراجات للجواهري لدى الملك فيصل الأول، وكانت بحق، جرأة لا مثيل لها وعنصر تحدٍّ لا نظير له؟
وقبل قصيدة «جربيني» كانت قصيدة «الرجعيون» التي كتبها بعد معارضة بعض « علماء الدين» لفتح مدرسة للبنات في النجف، بدعاوى «دينية»، وقد نشرت القصيدة في صحيفة «العراق» 26 آب (أغسطس) 1929، والتي يقول في مطلعها:
ستبقى طويلاً هذه الأزماتُ
إذا لم تقصّرْ عمرَها الصدماتُ
إذا لم ينلها مصلحون بواسلٌ
جريئون فيما يدَّعون كفاةُ
وقد أحدثت تلك القصيدة ضجة كبرى، واستدعاه الملك فيصل الأول، الذي سبب له إحراجاً كبيراً. حيث كان بعض رجال الدين مقرّبين من الملك فيصل الأول، وكان الجواهري عنده من الموظفين المقربين أيضاً، وقد شعر الجواهري بالغضب الشديد لمنع تأسيس مدرسة للبنات في النجف، فسرعان ما تفجّر فوجد نفسه في صميم المواجهة مع القوى الرجعية والفعاليات التقليدية، حيث نظم القصيدة في ليلة واحدة وقد نشرتها صحيفة العراق، باسمه الصريح، بينما نشرت «جربيني» باسم مستعار، ولكنه لا يختلف بشيء عن اسمه الصريح، لأن بغداد ومثقفيها صاحوا «هذا الجواهري»، وحتى الملك فيصل الأول، عارف باسمه المستعار.
وقد كان الجواهري يومها يستخدم اسم «ابن سهل الأندلسي» أو «طرفة بن العبد»، أما البقية فكانت باسمه الصريح وربما كان ذلك لسوء الحظ أو لحسن الظن، خصوصاً وانه من العوائل الدينية الأولى في العراق، ومن يصل إلى درجة الإفتاء والاجتهاد، فعليه أن يدرس كتاب «جواهر الكلام» حيث كان الشاعر ينتمي الى كتاب لجده الأقدم محمد حسن الجواهري .
ومن المفارقات أن صاحب جريدة العراق، كان صديقه رزوق غنام، وهو من محبي نوري السعيد والمقربين إليه، لكنه كان جريئاً ونظيفاً، وتعرّض إلى المضايقة بسبب نشر قصائد الجواهري، لقد اشتعل الشعر في رأسي كما يقول الجواهري، ولم أبالِ بأنني كنت في البلاط. قال لي الملك فيصل الأول بعد أن دخلت عليه كَرُّب (باللهجة الحجازية) أي اقترب: ابني محمد، فقلت له أنا فاهم منذ أن طلبتني. قال: ما هذا؟ قلت والله سيدي هذا الذي حصل. قال الملك، لا تنس ابني محمد (الجواهري) أنني مسؤول، فهل تعلم أنني تلقيت برقيات من النجف تقول لي، كيف يحصل ذلك، وهو عندك (أي الجواهري). هل تعلم أن ذلك غير محتمل، قلت له نعم. وأدركت وعبَّرت عن ذلك بالحرف الواحد، سيدي اسمح لي ألاّ أثقل عليك بعد الآن. فزّ الملك وقال ماذا تقصد؟ قلت له: أن لا أسيء إليك بعد هذا. فقال لي: ارجع مكانك.
لكن الجواهري عاد ونشر بعدها قصيدة جربيني.كيف لنا أن نستعيد تلك الصور وتلك الأزمان بعد كل الذي رأيناه فهل يأنس الإنسان بعد هذه العقود الثقيلة من السنين، وقبل قصيدة جربيني كانت «النزغة» أو ليلة من ليالي الشباب، التي نشرت في صحيفة العراق، هي الأخرى في 18 تشرين الأول (اكتوبر) 1929. وكانت ثورة على التقاليد، حيث قال فيها:
كم نفوس شريفة حسّاسه
سحقوهنَّ عن طريق الخساسه
وطباع رقيقة قابلتهنَّ
الليـــالي بغلظـــةٍ وشــراسـه
إلى أن يصل إلى ما يلي:
قال لي صاحبي الظريف وفي
الكفِّ ارتعاش وفي اللسان انحباسه
أين غادرتَ «عِمّةً» واحتفاظاً
قلتُ: إني طرحتُها في الكُناسه
وبعد أيام نشر الجواهري قصيدة جربيني في صحيفة العراق 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1929، وكانت خروجاً على كل ما هو مألوف:
جربيني من قبلِ أن تزدريني
وإذا مـا ذممتنــي فاهجريني
ويقيناَ ستندمين على أنك
من قبـلُ كــنتِ لم تعرفينـــي
ثم يقول:
أنا ضدُّ الجمهور في العيش
والتفكير طرَّاً، وضدُّهُ في الدين
كل ما في الحياة من مُتعِ العيش
ومـــن لـــذةٍ بهـــا يزدهينــي
التقاليدُ والمداجاة في الناس
عــــــدوٌ لكــــل حُــــر فطـــــين
ويواصل القول:
«إلطميني» إذا مَجُنتُ فعمداً
أتحرّى المجونَ كي تلطميني
وإذا ما يدي استطالتْ فمن شَعركِ
لطفـــــاً بخصــلـــــةٍ قيديـــني
ما أشدَّ احتياجة الشاعر الحسّاس
يوماً لساعةٍ من جنون
ولم تكن الثورة ضد قصيدة «عريانة» التي نظمها عام 1932، أقل من الثورة ضد جربيني. لكن الفرق، هو أنه كان قد غادر البلاط في الثانية بعد أن كان في القصيدة الأولى ما يزال فيه.
يقول في عريانة:
أنتِ تدرين أنني ذو لَبانَة
الهوى يستثير فيّ المَجانة
وقوافي مثل حُسنك لما
تتعرَّين حــــرةً عُريـانــــة
وإذا الحبُّ ثارَ فيَّ فلا تمـ
ـنعُ أيَّ احتشامــــة ثورانهْ
إلى أن يقول:
والثديين كل رمــانة فـر
عاءَ تهزأ بأختها الرُمانـة
عارياً ظهرك الرشيق تحب الـ
ـعين منه اتساقه واتزانـهْ
الجواهري والسياسة
كان الجواهري شديد الالتصاق بالسياسة وربما كان الكثيرون يعتبرونه سياسياً «مسؤولاً»، وأحياناً يحاكمونه على هذا الاساس، لا على إبداعه وعبقريته الشعرية، كما أن الكثيرين لا يأخذون بنظر الاعتبار الظروف والتوازنات السياسية، ويسقطون تقييماتهم على الماضي بعين الحاضر دون حساب للسياق التاريخي، لكن الكثير من آراء الجواهري ببساطة متناهية كانت عميقة وصائبة ومستشرفة للمستقبل، ولكنه في الوقت نفسه مثل جميع المعنيين بالشأن العام، لم تكن كل تقديراته صحيحة أو متكاملة وهو مثل كل المبدعين، البشر، معرّض للوقوع في الخطأ.
وإذا حسبنا ذلك موضوعياً، فإن الجواهري كان أكثرهم جرأة في تدقيق مواقفه واعادة النظر فيها وتقديم نقد ذاتي شجاع، خصوصاً وأنه يعمل في العلن وتحت ضوء الشمس وكل كلمة قالها مدونة ومكتوبة تشهد عليها قصائده لنحو ثمانية عقود من الزمان.
أما بعض السياسيين المحترفين، فإنهم كانوا يستبدلون مواقفهم دون إشارة الى خطأ أو نقد أو حتى مبرر لتغييرها لدرجة أقرب الى النفاق والمراوغة.
لم يعرف الجواهري العمل السري أو الحزبي رغم انه كان عضواً في حزبين هما « حزب الاتحاد الوطني» 1946 و«الحزب الجمهوري» 1959(برئاسة عبد الفتاح ابراهيم) الاّ أنه لم يكن سياسياً ولم يكترث بالتكتيكات السياسية وكان قريباً من السياسيين ويحسبون له ألف حساب ويختلفون عليه ويسعون لاستمالته أو محاربته واختلفوا حتى في مماته، الاّ انه لم يكن سياسياً بالمعنى المألوف (الاحترافي)، فهو لا يعرف المناورة أو حتى « الدبلوماسية»، كان يقول قصيدته ويمشي، وليكن ما يكن، غير عابئ أحياناً بالتفسير أو بالتأويل.
حييتُ سفحَك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أمَّ البساتين
حييتُ سفحك ظمآناً ألوذ به
لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء صافية
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني
يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا
حتى لأدنى طماح غير مضمون
لعل يوماً عصوفاً جارفاً عرماً
آتٍ فترضيك عقباه وترضيني..
عندما تكون في حضرة الجواهري ويستحضر الشعر والتناقض والتحدي فأنت تكون في حضرة العراق.
عبد الحسين شعبان
أديب وأكاديمي من العراق