نص وحوار: عبدالحميدالقائد
شاعر وكاتب بحريني
في ذاك الزمن الدافئ، وهو يستحمُ بحنينٍ في ذاكرة القلب. زمنٌ كان له نكهة الحب وصوت التمرد وإيقاع الرؤى والأخوّة النقية. زمنٌ ما زال يقبع في مكان ما.. نائمًا لكنه لن يستيقظ أبدًا ولن يعود إلّا في الحلم. شبابًا كنا في عمر الزهور.. ربما حالمين أكثر من اللازم.. ربما أفكارنا كانت مجنونة أكثر من اللازم. طائشين أحيانًا ولكن ما كان يجمعنا هو دفء العلاقة الإنسانية..علاقة مغموسة بحب الوطن على طريقتنا في تلك الأيام الخوالي. علاقات لم تتأثر بعد بالمصالح المادية ونياشين الشهرة، كان ذلك في نهاية الستينيات، زمن الحلم بصوت مرتفع وبصوت سريّ. عشّاق ثقافة كنا .. ننسج الحروف والكلمات المتواضعة بخجل وأحيانًا بجرأة مفرطة، ولكنها في العموم كانت تخرج ساخنة، لذيذة الوقع على القلب. كنا أصدقاء حلم ورفاق حريّة. كان بيننا شعراء وقصاصون وأدباء يطمحون للشمس والنشر والانتشار. معظمنا كان من المبتدئين وبعضنا كان قد قطع شوطًا أكثر من غيره في الكتابة والإبداع مثل الشاعر علي عبدالله خليفة، والشاعر من مدينة المحرق الحبيبة، الذي كان ربما الأبرز في ذلك الوقت.
بعد انتظار وشوق شق الصمت «أنين الصواري»، الديوان الأول للشاعر الصديق علي عبدالله خليفة، الذي كان – حسب علمي- أول إصدار للشعراء والكتّاب الشباب في ذلك الحين، هو الذي توّج الحركة الأدبية الشابة الجديدة في البحرين بهذا الإصدار الذي تأثرت به كثيرًا على المستوى الشخصي. كان ذلك في يوليو 1969. أذكر أنه كان صباح يوم جمعة وكنا في المحرق نتأهب للخروج في رحلة إلى إحدى المزارع في سيارات خاصة، كان البعض منا، غالبًا الأكبر سنًا، يملكون سيارات والأغلبية كانوا صعاليك مثلي، كان عددنا كبيرًا، أصدقاء أنقياء وحالمين، حينها وصل علي عبدالله خليفة وفتح صندوق سيارته وبدأ يوزّع علينا ديوانه البرتقالي اللون المطعّم بلون أزرق سماوي فاتح، وكنا فرحين به نعانقه بشغف الصغار بالبَرَد وهو يتساقطُ بين أكفهم الممدودة نشوةً. ها قد فعلها علي خليفة بشجاعة الفرسان. ما زلتُ أحفظ ما كتبه الشاعر على الغلاف الخلفي للديوان، مقطعٌ لم يغادرني طوال حياتي:
أنا حرفي يُعذبني،
ويسحقني
ويُلقى بالضنى روحي
على كفي
أخاطبكم أحبائي
وفي حلقي مياه البحرِ
والمسمار في جوفي
في هذا الديوان قصائد كُتبت بحرارة الوجدان ودفق الروح، دون إضافة مساحيق، قصائد تجسد أنين الصواري والجدران والشوارع. قصائد أثّرت على تجربتي الشعرية مثل «الجرح الكبير»، «على أبواب الرحلة الأولى»، «أنين الصواري» ،«آثار جرح قديم»، «على رصيف المحطة» وغيرها، وما زال بعضها عالقًا بذاكرتي، تذكرني بذاك الزمن الجميل الذي لن يعود. علي خليفة شخص يحرجك بتواضعه الجم وحميميته البالغة التي تقتلع أي حزن داخلك، ويشعرك أن العالم بخير. كنتُ كلما كتبت قصيدة جديدة أهرع إليه في مكتبه بالجمارك، ذلك المبنى الذي تحوّل فيما بعد إلى بريد المنامة، وكان لا يبخل عليّ بتوجيهاته بحبٍ كبير. ذاع صيت علي خليفة وأصدر العديد من الدواوين وأصبح أيقونة الساحات ولكنه ظل كما هو مثل قطرة ندى باردة تحط على القلب في يوم حار. علاقة أخوة وصداقة امتدت لأكثر من نصف قرن، وما زال علي هو نفسه عليًا، ينظر إليك ويمنحك الطاقة الإيجابية التي تحتاجها ثم يمضي في طريقه تاركًا في قلبك الود والمحبة.
علي خليفة، تجربة عمرها أكثر من نصف قرن، وما زال يرسم قلبه على سعف النخيل وزقاق المحرق والوطن الذي عشقه وتجسد فيه.
في لقاء ودي معه، يتحدث الشاعر علي عبدالله خليفة عن هذه التجربة العميقة الطويلة:
رحلة عمرها قرابة الستين عامًا في طريق الإبداع الممتع والمضني في آن واحد. من «أنين الصواري» و«إضاءة لذاكرة الوطن» في مجال الشعر العربي الفصيح، ثم «عطش النخيل» وهو مواويل شعبية وبعدها توالت الإبداعات، أين يقف الشاعر علي عبدالله خليفة الآن؟
لا يمكنني أبدًا أن أقف، إنني أمورُ جائلًا، مرتحلا دائم القلق، متوترًا، ومن حولي الغاديات ماطرة، تُطوّح بي العاصفات لمرات وأمسك بها مرّة تلو أخرى، قابضًا بإصرار غواصي اللؤلؤ على مشروعي الشعري وهمّي الثقافي، أقلبه على عدة وجوه، أجلوه وأعيد صياغته، أحاوره شعرا وفكرا.. مرة بالفصحى وأخرى بالعامية، مرة مطبوعًا ومرات مُنشَدًا وأخرى مصوّرًا ومرات في خضم التعاضد والتشارك والتحاور مع التشكيليين والملحنين والمغنين فاتحًا باب القفص لبلبل النص لينطلق إلى فضاء أوسع.. فكيف لي أن أقف والحياة من حولي مائجة.. متحورة.. تتشكل جديدًا في تحدٍ ما كان ليخطر ببال. لذلك تجدني من معد ومقدم برامج أدبية بإذاعة البحرين في الستينيات، إلى المشاركة في تأسيس أسرة الأدباء والكتاب إلى إنشاء دار الغد للنشر والتوزيع في السبعينيات، ثم المشاركة في تأسيس المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV) بالنمسا وتأسيس مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية في الثمانينيات، وفي التسعينيات أضع لبنات تأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالبحرين وأتولى إدارة الثقافة والفنون ومع نخبة من الأصدقاء، عند منتصف التسعينيات نؤسس الملتقى الثقافي الأهلي، وفي بدايات الألفية الثانية تتيح لي الظروف تأسيس وإدارة البحوث الثقافية بالديوان الملكي وأشهر الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر وأصدر مجلة (الثقافة الشعبية) علمية محكمة بست لغات لتوزع في 163 بلدا ومن ثم أتولى الأمانة العامة لجائزة دولية لخدمة الإنسانية وأنشئ منتدى البحرين للكتاب.. فهل من مجال مع كل هذا لأن أقف ؟!
انطلق العديد من مجايليك في التجريب وجربوا قصيدة النثر والأشكال الحداثية كشعر الومضة والهايكو، بينما حرصتَ على التمسك بقصيدة التفعيلة طوال فترة تجربتك، ماذا تقول في هذا الصدد ولماذا لم تدخل هذه المغامرة؟
لا أعد نفسي مغامرًا، ولا أحتفي بالشكل، وأعرف مسالك الدروب التي سلكها غيري من زملائي المبدعين، إلا أنها لم تغرني قط، ظل الشعر لدي وسيظل مرتبطًا بقيمة العمق في المحتوى وبالإيقاع والوزن والموسيقى، ولا أتذوق شعرًا خاليًا من موسيقى الشعر. درَّبت ذائقتي السمعية منذ الصغر على الجملة الموسيقية الممتدة في إيقاعات أغاني البحر ويطربني تنوع القافية كمرتكز لتألق المعنى في الصورة الشعرية المبتكرة. والموهبة الشعرية الحقيقية هي تلك التي تأتي بشعر جديد مبتكر متصل بتقنيات الشعر التي تميزه كفن عظيم. ولا بأس من التجريب والتجديد، فالباب مفتوح على مصراعيه، إلا أن القيمة الحقيقية ستبقى لمنتَج المبدع الأصيل الذي يبتكر ليضيف إلى الأصول التي ترتقي بالذائقة.
في ديوانك الأول «أنين الصواري» كنت متعلقًا بالغوص والغواصين وبهموم الكادحين وفي ديوان الموال «عطش النخيل»، اهتممت بالنخيل التي تعتبر رمزًا للبحرين وبالعيون التي تسقي البعيدين، وفي دواوينك اللاحقة انصبَّ تركيزك في الغالب على المرأة والحب، حدثنا عن هذه الانتقالات والتحولات.
كلما فكرت مليًا في هذا الوجود، وتأملت الحياة من جوانب عديدة شعرت بأن أسمى عاطفة تجمع الكائنات.. كل الكائنات قاطبة هي الحب، وتتجلى هذه العاطفة بسمو وحنو لا مثيل له لدى المرأة فهي حافز الرجل ومنبت تكوينه ومرتكز عواطفه، وتكاد أن تكون همه الأول.
ولانشغالات كدح ومرض والدي فلقد تربيت على يد امرأة كألف، وأول من علّمني حرفًا ودربني على القراءة والترتيل والإنشاد كانت امرأة عالمة جليلة، لذلك اعتبرت النخلة بعطائها غير المحدود امرأة والوطن باحتوائه ودفئه وحنوه امرأة، لذلك تجد الوطن والنخلة والمرأة الأم والمرأة الحبيبة في أشعاري رمزًا واحدًا مشتركًا، قد لاتتبين من المخاطب في النص أهي النخلة أم الحبيبة أم هو الوطن بجلال قدره.
هل انتهى زمن الشعر كما يعلن بعض الشعراء؟
يقول ذلك نفر من المساكين ضعاف الموهبة، ممن لم يتمكنوا من الشعر كفن. فهذا الفن عبر العصور يُبتسر ويتشوه ويُغتصب ويضعف، إلا أنه كَفَنٍ عظيم لا ينضب ولا ينتهي ولا يمكن أن يؤخذ عنوة لكل من يريد . فن الشعر موهبة فنية ربانية تُمنح لصفوة مختارة من البشر تهيئها ظروف ومكونات عديدة وتحتاج عناية وصقل وثقافة، وإلا لأصبح كل ما قيل من نثر على مر العصور شعرا يتناقل من أقدم الحضارات إلى الآن. سيظل الشعر الأصيل باقيا ما بقي في صدر الإنسان خافق حي بإحساس إنساني.
أنت من عشاق التراث الشعبي منذ بداياتك الأولى ورئيس تحرير مجلة الثقافة الشعبية.. كيف يرتبط الشعر والأدب لديك بالثقافة الشعبية؟
الرابط بينهما أصيل ومنطقي، فأغلب التراث الشعبي نصوص شعرية على هيئة مواويل وأبوذيـّــات وأزجال وقصائد وأمثال شعبية وأهازيج غنائية. ويشكل محور الأدب الشعبي في التراث كلهجة وقصائد وحكايات وأمثال ومعاضلات لغوية أكثر من 25% من الثقافة الشعبية، فإذا جئت لمحور الموسيقى والأغاني الشعبية ستجد النص الشعري يتسيّد مشهد الأغنية بالأزجال والمواويل وقصائد الغزل أضف لذلك النص الحكائي فهو نص أدبي بامتياز. لذلك ترتبط مكونات الثقافة الشعبية ارتباطًا وثيقًا بالأدب عمومًا وبالشعر خاصة.
الحركة الأدبية الجديدة في البحرين شهدت وتشهد تحولات مستمرة، ودواوين كثيرة يصدرها شعراء شباب، ما رأيك في المشهد الحالي بصفتك من روّاد الحركة الأدبية وأحد كبار عرَّابيها؟
أتابع باهتمام استقصائي نتاج الحركة الأدبية الجديدة وتحولاتها المتسارعة في المشهد الثقافي العام بمملكة البحرين، وألاحظ غياب حركة النقد الأدبي عن الساحة وهو عكس ما رافق النتاج الشعري في الستينيات والسبعينيات على يد الدكتور محمد جابر الأنصاري وآخرين. وفي المشهد الشعري الحالي بالبحرين أصوات شعرية جديدة وواعدة ، ومن المبكر الآن الحكم على هذه التجارب الشعرية التي تتبرعم والتي ما يزال يتخلق إبداعها ، إلا أنني أرى ومضات إبداعية تبرق من هنا وهناك لشعراء جدد أتابع نتاجهم وأتوقع لهم مكانة متميزة في حركة الشعر البحريني الحديث.
ما رأيك في تحوّل بعض الشعراء إلى روائيين؟
الكتابة حق متاح للجميع، والتحولات الإبداعية مشروعة ومفتوحة ومن يجد لديه ما يقول عليه أن يبادر، والمحك في الحقيقة محك إبداعي، وأرى بأن يتسع الصدر لاستقبال هذه التحولات، وأن نتفهم مبرراتها والدوافع الموضوعية إليها. كما أن الزمن كفيل بفرز الأصيل والجيد منها.
ما جديد شاعرنا الكبير؟
لقد أصدرت مجموعة شعرية جديدة بعنوان (تهويدة لنجمة البحر)، كما صدرت لي في بيروت مجموعة أعمالي الشعرية بالفصحى خلال الخمسين سنة الماضية، كما عهدت إلى مخرج فني مختص بتصوير وإخراج نصوص شعرية جديدة بالعامية، لإنتاجها مسموعة ومرئية، سجلتها بصوتي وسأصدرها على قناة اليوتيوب قريبا.
بحكم تجربتك الطويلة فأنت أستاذنا جميعا، هل من كلمة للشعراء والكتّاب الشباب؟
لكل شاعر وأديب ومبدع في أي فن من الفنون: كن أنت بما أنت عليه، وحاول أن تكون أفضل، لا تقلد ولا تركب الأمواج الفنية الطارئة إرضاء لأحد أو لتيار، تمسك بأصول فنك وبنداء روحك ووجيب قلبك وبما تقتنع بأنه فن يعبر عنك وبأنه أنت .. كن دائما أنت. مهما كانت النتائج.