… ثم انني عندما كبرت، واشتعل الرأس شيبا، وجدت أن اللعبة بلهاء، وتملكني هاجس لا يرد بأن أنهيها، غير انني لم استطع، ذلك أن اندفاعي نحو الثورة جاء متأخرا جدا، فلا يستقيم أن تتخذ قرارا ثوريا وأنت في الستين بينما كان عليك أن تتخذه وأنت في بدايات عشريناتك حيث كل شيء مبرر.
في العشرينات من عمري كنت شابا خجولا ومرتبكا، وعندما فكرت بمغادرة البيت، وقد أنهيت دراستي الجامعية ء الأولى، أخذت الأم وبقية أفراد العائلة في البكاء، وأمام ارتباكي الشديد أخبرتني الأم أن علي أن أفعلها، فقد حان دوري، ولما كنت لا أعرف طبيعة الدور المناط بي، فقد اجتمعت العائلة كلها ذات مساء، وفي أثناء ذلك العشاء الذي لا ينسى أبدا، أخبرتني الأم بلغة مجيدة بأن القدر اصطفاني لأحمله كبقية أسلاف، على ظهري وأن أغادر أينما شئت لكن دون التخلي عنه.
كان هو صامتا، وبينما كانت الأخوات الصغيرات.. الحزينات جدا على شقيقهن الذي لم يكد يرى الحياة بعد حتى يتحمل كل ما سيتحمله، يتسللن صامتات، تاركات المشهد كله معتما سوى من رجلين وامرأة عجوز بينهما.. نظر الي بعينيه الحزينتين وقال ل انه فعلها أيضا مع أبيه، وأن علي أن أدفع قسطي أيضا في هذه الحياة..
وهكذا كان..
في الصباح الباكر ارتديت ثيابه القديمة، وقد رميت بناطيلي الجينز والقمصان الكثيرة: تلك التي كنت أرتديها مفتوحة الأزرار، وقصصت شعري، ثم أخذت أنتظر أن يستيقظ، فيما كان صوت نحيب ينبعث من تلك الشبابيك الصغيرة: تلك التي لن يقيض لي رؤيتها ثانية، وعندما فتحت الأم الباب لا أدري كيف كبحت تلك الرغبة الغامضة بالهرب، وإذ ذاك قالت لي الأم أن أنحني، وعندما فعلت قفز فوق كتفي وسعادة غامرة تطل من عينيه وهكذا أخذت أبتعد.
قال لي بصوت عابث أن علي أن أحدد أولوياتي كي يكون لي ايقاع في هذه الحياة، فقلت له إنني أحببت امرأة ذات يوم، وأن علي أن أودعها، وقلت له أنني أرغب كذلك في وداع ليالي الشباب الفاجرة. تلك التي لم أشبع منها بعد، فقال لي بصوت غاضب أن أنسى الأمر لأن علينا مهاو جسيمة ينبغي القيام بها قبل المغيب، غير أنني ورغم خجلي الشديد أخذت أمشي بين البيوت، غير مكترث للعيون الفضولة التي تحدق في الشاب الذي يحمل العجوز على كتفيه، وإذ وصلت الى بيتها، طرقته بكلتا يدي وقد اعترتني قوة لا أعرف كنهها.
وإذ فتحت قلت لها أنني في زيارة قصيرة لن ترى وجهي بعدها، فأشارت الى العجوز بعينيها فوق كتفي، فقلت لها بأنني سأتركه في الخارج فسبقتني فيما العجوز يضرب بقدميه على صدري وبيديه على رأسي، احتجاجا من الابن العاصي الذي يضاجع نساء الآخرين، ولا يخجل من فعل ذلك أمام عيني أبيه ومسمعه.
فقلت له: إنهما أمران سأفعلهما كما قلت لك، قبل أن انقطع للرحلة، فقال بصوت حزين: ولكنها بداية سيئة يا بني، فقلت له: فليكن، فهذه هي المشيئة.
بعد ذلك حملته وغادرت ورائحة المرأة تعبق في ثيابي.
في الطريق صادفت حانة، فقلت: هذه هي، فيما أخذ هو هو يضرب بقدميه ويديه غاضبا، غير أنني لم أتراجع، وشربت تلك الليلة برميلا من الخمر، وإذ ذهبت آخر آثارها وفاجأني الصحو، قال لي: أما وقد فعلت ما فعلت. فقد جاء دوري الآن، لأحدد معالم الطريق، فقلت له أنني الابن البار الذي لن يعصي أمرا بعد اليوم، فابتسم وأخذ يمرجح قدميه فيما أنا أمشي غير مكترث لوزنه الخفيف.
قال لي: سنذهب في الطريق الى آخره، فقلت: أي طريق قال لى: سنذهب في الطريق الى آخره، في يا أبي، فقال: ذلك الذي أراه ولا تراه أنت..
وفي الطريق سكنا في بيوت كثيرة، وأكلنا في مطاعم بلا عدد، بل انني كنت، في سبيل تأمين رزقي أغادر به الى أماكن عملي، وهي كثيرة ومختلفة، وعندما كنت أنهي العمل والانهاك يكاد يطفيء عيني لم أكن أنسى أن علي أن أحمله على كتفي في طريق العودة. ومع تقدمي في الطريق، إذ كان يقول لي أحيانا أننا نكاد نصل الى منتصفه، صادفت فتاة صامتة دوما، كانت تذهب الى الأمسيات الشعرية وهي ترتدي بنطال جينز كالحا وقميصا فضفاضا وتظل مطرقة فيما شعراء مفتونون بالايقاع يلقون شعرهم البائس، في الوقت الذي كنت فيه وأنا أحمله فوق كتفي أنظر اليهم مبهورا من تلك القدرة على توليد هذه التعاسة واكتشافها في داخلهم وفي الحياة، دون أن أنسى أن اختلس النظر اليها بين الحين والآخر، وإذ كنت أفعل كان ينحني كأنه يقرأ أفكاري ويهمس لي بصوت خفيض بالا أفكر في الأمس أبدا، فالتفكير به سيعوق رحلتنا التي كان يقول ل أنها بحاجة الى صفاء نادر، فمعرفة الطريق تحتاج الى التفكير بالقلب، ولا يستقيم والحال هذه أن ينشغل القلب بأمور أخرى وإذ احتججت غاضبا، متذرعا بأن معرفة الطريق شأن قلبه هو، لفت انتباهي الى الخطأ الجسيم الذي ارتكبته، فنحن أولا نسير معا في رحلة واحدة مما يجعلنا واحدا لا اثنين، هذا أولا، وثانيا أنني تعهدت بالطاعة بعد الفسق والفجور، وعلي أن ألتزم بما قطعته على نفسي من عهود.
وإذ ذاك أصابتني كآبة عظيمة، جعلتني أفكر جادا في كثير من الليالي بالموت، أو إلقائه من فوق كتفي في الوادي، وأنطلق خفيفا وحرا، غير أنني لم أستطع فعل شيء سوى الحلم بأنني أجلس مه تلك الفتاة على مقعد في حديقة، مطوقا كتفها بيدي، وأنا أقرأ لها شعرا كذلك الذي كان يلقيه أولئك الشعراء، أقصد ذلك الشعر الذي يتحدث عن البؤس في الحياة بتشاؤم لا يضاهى.
وكأنه يعرف أحلامي، ففي منتصف الحلم كنت أراه أمامي مقرفصا ومتأهبا للقفز على كتفي، وإذ ذاك كنت أنحني له فيقفز، فتفر الفتاة، والأرنب يختفي في حقل الخضرة الشاسع، فلا أرى أمامي سوى حقل أخضر لكن دون ذلك البرق الأبيض الذي، وحدد، كاف ليضيء هذه العتمة المتكاثفة.
قال لي: لا ترهق نفسك بالأحلام، فما ينتظرنا أجمل بكثير من مجرد فتاة صامتة بقميص فضفاض، وهكذا كان، وأخذت الأيام تمر الى أن أصبحت محني الظهر. أجد مشقة في المشي، غير أنه كان يقول لي عندما كان الوهن يتسلل الي، انه لم يتبق الا القليل، وهو ما كان فعلا، فذات صباح وأنا أحمله بتثاقل وقد ابتعدت عن البيوت، رأيت أبله غيري يحمل عجوزا غيرا على كتفيه، ويمشي متثاقلا، ثم بعد ذلك رأيت اثنين آخرين، فعشرة فعشرات، الى أن امتلأ الوادي بنا، ونحن نسير الى الامام بتثاقل وظهور محنية، رغم أننا، وحسب، في الاربعينات من أعمارنا، وعندما جاء المغيب وقد نال منا التعب ما نال، جلس كل واحد منا على حجر أو ما تيسر والعجائز فوق أكتافنا يتحدثون مه بعضهم البعض عن ذكريات بعيدة، وعن شوارع قطعوها مشيا، وعن نساء ضاجعوهن وطعام كثير أكلوه،، وغير ذلك من أمور.
فانتبهت وكصاعقة عبرتني تلك القشعريرة التي لا أعرف مصدرها. فتت له كأنني أستأنف حديثا مضى: ولكنها لعبة بلهاء يا أبي، فقال ل. وانها لكذلك، لكن كان عليك أن تقطع الطريق كله لتعرف هذا البداهة، فأخذت أضحك وأنا أشعر بالغضب والرغبة في إلقائه من فوق كتفي، غير أن حمى الضحك التي انتقلت للآخرين جرفت تلك الرغبة في طريقها.
……….
…………..
كان الوادي كله يقهقه ضاحكا. فيما العجائز يتحدثون عما مضى من ايام..
زياد بركات (كاتب فلسطين يقيم في قطر)