« إبْدُ كما أنتَ، أو كنْ كما تبدو»
جلال الدين الرومي
العالم إصباح وإمساء وما بينهما ساعات.
وصبح باريس معتم من شدة الليل.
الحياة.
الحياة المرتبكة التي نحياها فرضت علينا نظاماً نهارياً بامتياز. نظام قاحل ومديد. لكأن الضوء مرادف للوجود. وقبل الضوء الظلام.
أحس بشعور مغاير هذا الفجر. ومنذ أن أصفق الباب خلفي، تستقبلني نَثَرات ثلج باريس الشتائي اللطيفة. تَخُرُّ على وجهي العاري بنعومة وكأنها الحرير. وأبدأ المسير. إلى أين أيها الكائن المتوتر مثل دَفّ قديم؟ إلى «قونية» يا أبي، أنسيتَها؟ أنسيتَ كيف كنتَ تحكي لي في صحرائك القديمة عن «قونية» و«حُويْزية»، عن «السيّاد» والدراويش؟ عن الزمن المضيء مثل قنديل معلّق في الريح؟ ولم أكن أدري «مَن» كان هناك، ولا كيف هي حاله ونواياه. كنتُ أحب «الاسم » واستمتع بالكلمات، دون أن أهتم بما خلفها من «أوهام». كنتَ تحكي، وصرتُ أحبها وكأنني أحيا فيها.
أنا لستُ ذاهباً من أجل «جلال الدين»، ولكن مدفوعاً بصوتك القديم الأسمر، صوت «حادي العيس» الذي يحكي برهبة عن «قونية» التي لم يكن قد رآها، أبداً، من قبل. المعرفة ليست زيارة جغرافية، إذن، وإنما هي التمثّل العميق لمآثر الكون، حتى لتلك التي لم نعرفها. وهو ما يجعلني أتصوّركَ، الآن، مُفارقاً لي: أنا ذاهب، وأنت كنت آيباً من هناك، دون أن تبرح مكانك.
أنا ذاهب لأرى، وأنت كنتَ آيباً من هناك، من فكرتك الجميلة عن مكان كنت تحسبه جميلاً. أيكون كذلك؟ وما تهم الإجابة في الوجود، وهي ليست أكثر من «كذبة» نصطنعها نحن لئلا نشعر بالعدم المرافق لأفعالنا؟ أولسنا نقضي العمر بحثاً عن «امتلاء» لفراغنا الانساني الذي لا يمتلئ ؟
إلى «قونية»، يا أبي. ولكن تراني أخاطب مَنْ في هذا الفجر المشتمل بالبرد، أنتَ، أم مَنْ كان هو وراءك؟ تذكَّرْ نـُجودنا في فيافي «الجزيرة» البعيدة، في سهل «الذُرو» الشاسع كالعَيْن، وأنت تمشي بين شُجَيْرات الحَرْمل والشيح والقَيْصوم، مشَمِّراً عن رَبْلَتَيْك. بهدوء تمشي، دون أن تلتفِتَ خلفك، مثل أسد مَلَّ من الافتراس، فصار لَيِّن المراس. تمشي وتحكي مستريحاً، لكأن الفضاء الخالي لا يمتليء إلا بالكلمات. تذَكَّرْ! كنت تمشي وتحكي، وتحكي عنها، عن «المزارة» التي كنت تحلم بها، هذه التي أنا ،الآن، في طريقي إليها. لَكَمْ أحب أن أُحقق أحلامك.
كنتَ تعرف منْ في «قونية»، يا أبي؟ لا أحد، بالتأكيد، كما أعرف الآن. ومع ذلك، كنت تعرفها بقلبك أكثر مما سأعرفها أنا بعينيَّ. كنت تحب مكاناً لم تره، وترتعد لذكر مدينة لم تشاهدها، وتحس بالإنس لمجرد ذكرى ساكنيها، وأنا أفتقد، إلا قليلاً، كل هذا. ولكن كيف التقيت بكل هؤلاء، واكتسبت كل ذلك الشغف بالمجهول، وعشتَ كل تلك البهجة الصريحة، وأنت لم تتجاوز حدود الصحارى الغارقة في الغمام؟ أيُغني الذِكْر عن النَظَر؟ أم لكل منهما دوره الأساسي الذي يجعلنا نتَنَقَّل بينهما كما يتنقّل ساكن البيت بين غرفتين في بيته؟
كنتَ تعرف روحها، إذن. روح «قونية » المحلِّقة فوق هضاب الأناضول، مثل غيم يوعِد بمطر وشيك. وكانت أرض الجزيرة، وكائناتها، ضمأى. وضمأ الكائنات لا يرويه سوى غيوم الروح التي تمطر كلمات. وامتد الظمأ حتى الحَماد. وفي تلك السهوب الشاسعة كنتَ تتجوّل، وحيداً، جارّاً كونك الصغير خلفكَ، باحثاً عن «جوهر» جديد للحياة الممتلئة بالضوء. في تلك السهوب التي لا يسمعك أحد فيها سوى الرب، كنتَ تتمتم أُدعياتك المسائية، وأنا واقف كالجرو الهزيل وراءك : «بجاه الغروب والنبي أيوب، توَدّيني قونية وأتوب».
عَمّا كنت تريد أن تتوب ياأبي؟ وأي حلم غَيْبيّ كان يبلبل خيالك؟ وهل يتوب الأسد عن نَهْش فرائسه إلا إذا أراد أن يموت جوعاً؟
عرفتَها أنتَ كما يمكن «للحِسّي» أن يعرف.
وعرفتُها أنا من كلامك.
أوف! للقلوب أسبابها للمحبة، وللعيون أسبابها للنظر. لكنني سأنظر اليوم بعيون أربع. سترى معي. سأجعلك ترى معي، وكأنك ما زلت واقفاًعلى قدميك فوق تلال الجزيرة الحمراء. هل تذكر يوم كنت تتغنّى، بصوت خافت، في العُصَيْر، وأنت تُقْعي مثل طير كبير، فوق «تل غزال» الترابي الهائل، دون أن تعرف أنه كان مدينة عامرة، ذات يوم؟ ولربما كان توأم «قونية» نفسها. يومها، كنتُ خاتلاً وراء حِسِّكَ، وبحياء أرى إلى دموعكَ تجري على خديك السوداوين، وأنت ترتّل قرآنكَ: «رقيت أنا مرْقى طويلا عالي/ تحدَّر دمعي مثل مزْن أمطارْـــــ دحّقْت شرقا وغربا نحو الشمال/ هاجتْ عليَّ هموم قلبي كثار».
كنتَ تحكي، مُسَلِّماً على الكون، ذلك الصباح، قائلاً بصوت جهوري: «صباح الخير، أيها العالم». ولما رأيتني مأخوذاً، ابتسمتَ لي بحنان وأنت تردد بصوت أليف: «فوقها كأنني فوق غيم، تلال الجزيرة الحمراء». وأشرتَ بيدك الطويلة إلى نُهود الأرض المتكوّمة فوق وجهها منذ الأزل، وبدأتَ تعدد الثنايا والبقاع، طالباً مني أن أراها: «دَحِّقْ! ذاك هو تل بيدر، وذاك تل براك، وذااك تل السنجق، وذاااك كرْ خالد، وهناك تل غزال التحتاني، وهناااك تل حرْمَل، وهناااااك تل حَلَف ». وأشرت من جديد، وأنت تردد الكلام في صدرك: «ولا تنْسَ التلال البعيدة الأخرى»! ونظرتُ ، ولم أرَ ظلاً. أما أنت فكنتَ تراها من خلال السمت، وأنت تنظر إلى الشمال.
كنتَ تتكلم وحيداً، وكأنك أُلوف. و «كلام الانسان جزء منه» كما يقول عَشيرُكَ الذي لم تره، ساكن «قونية»: «جلال الدين الرومي»، مولانا، قدس الله سره.
في السفر تبحث النفوس عن أهوائها. تتابع البحث عنها بعد أن أضاعتْها في زحمة الحياة. آه! أيها الوجود المفعم بالأشاغيف.
أغمض عينيَّ عن الحشد الذي بدأت تغصُّ به الطائرة، وأتابع المشي وراءكَ في الحَماد. تمشي، وتقف، وتُسولف. تحكي عن كل شيء تراه، وكأنه يخصُّكَ وحدك. تُقْعي على الأرض لتَشْلَعَ نبتة البصل البري الذي نبغ من بطن القاع للتوّ، مُسَبِّحاً: «سبحان من أنبت النخل وسَوّاه». وأحسبُ أنا أن كل نَبْت هو النخل. وأصير أتعجّب من اختلاف أنواعه، وأشكاله، وألوانه، ومذاقه.
سأصل بعد ساعات إلى جهة أخرى، وسأتذكَّر، استعيد بالأحرى، قولك الأثير: «سبحان مَنْ نقلنا من مكان إلى مكان»، وكنتَ تضيف متحَسِّراً، ولستُ أدري على ماذا، فلم تكن تملك إلا قدمَيْك: «هذه الدنيا لا مكان لأحد فيها». وكنتُ أقف في مكاني محاولاً التشبّث به عبثاً لأنك تكون قد ابتعدت في أوائل الظلام. وهو ما كان يضطرني إلى اللحاق العاجل بكاحِلَيْك.
كنتَ تجرُّ رَسَن فرسك الدهماء المحجَّلَة الثلاث، وأنت تُطعمها مما أنبتت الأرض بيديك. وفجأة، تبصق قرفاً على القاع ، وأنت تُسَبْسِبُ : «تفو عليكِ يا هذه الدنيا». ماذا تذكَّرْتَ في تلك اللحظة، يا أبي؟ وأي دنيا أخرى تريد؟ أتدري؟ وعندما تراني أتعجّب صامتاً وقلقاَ، كنت تقول لي، وأنت تربّتُ على شعري: «الدنيا سَوالف». ولكنك لم تكن تعرف «هوميروس»، ولم تقرأ «ألف ليلة وليلة»، ولم تسمع إلا «بتغريبة بني هلال»، ومع ذلك كنت تعرف ما لا يعرفه العارفون: «سر قونية، وقداستها»، وكنت لا تكف عن الكلام عنها، وكأنها ولدْتَ فيها.
الحياة تخلق حكاياتها، إذن!
أخيراَ، جاءنا الأمر بالإقلاع، فأغلقْتُ دفتري، وأغمضْتُ عينيَّ، واستسلمْتُ للحركة الارتجاجية التي بدأتْ تغزوني.
عندما صارت الطائرة في الجو، اختفى الوَمْض الذي كان يندف في رأسي، وتلاشى الفَيْض الانساني الذي غَمَرني بحرارته القديمة. لكأن للأرض استطالات حسّية تحرِّكُ بها أهواءنا كما تشاء، أو كما تشاء الأمكنة. «قسوة الحياة» صارت كلها رِقَّة. متى نضع أقدامنا على الأرض؟
لا يُقابل الفجر في «باريس» إلا المساء في الأناضول. الأرض المتخَشِّبَة من كَثْرة الهضاب تمُصُّ رَطَب السماء الواطئة المحتقنة بالغيث، وكأنها تتَمَلَّح بها. على بعد مئات الأمتار من النَظَر، فقط، تلتصق الأرض بالسماء، ويغدو العالم واحداً. هذا الاتحاد الصاعد هو الذي يعطي الأناضول أسطورتها الأولى. حتى الغيم، هنا، له شكل آخر.
بين المطار و«أنقرة» سأحس بأني تعَدّيْتُ أكثر من قارة. شيء من الخمول اللامرئي يملأ الجو، خمول مشحون بعاطفة إنسانية لا يمكن الامساك بها. أحب هذه الأرض. الأرض الشرقية، أم الأساطير والديانات. حتى «الغزو»، حتى غَزْوُها يبدو له بُعْد آخر، ومدارك أخرى: منذ «آغاممْنون»، و«أوليس» إلى الآن، حيث مَر من قبل، أيضاً: الحثيون، والفينيقيون، والاغريق، والرومان، والفرس، والعرب، والسلاجقة ، والمغول. ثمة سحر يدفع الكائن للالتصاق بهذه الأرض، ما أن يراها.
لهضاب الأناضول معالم وأساطير، «فتنة جغرافية» تنبثق من ثراها، نوع من العلاقة الآسرة المقدسة التي تربط القلب بها. وليست العين في هذه الحال إلا الدليل إلى السحر الخفي المنغمس في القاع. أناضول، أرضروم، هضاب وأكمات، وبشر صامتون. لكأنهم لا زالوا يتوقعون غزْواً جديداً لم يتأهبوا لمقاومته. وعندما تكلمهم يقفون مذهولين قليلاً قبل أن يردّوا. لكأنك تنتشلهم من علاقة شبقية، تكاد أن تكون انتهاكاً للمحرمات، مع أرضهم، بسؤالك المجانب «للطريقة»: طريقة التقاء الكائن بالمكان. مَنْ أنت حتى تلقي بسؤالك العارض وتروح دون أن تنتظر الجواب؟ الجواب الذي لا يملكه أحد فوق القاع. لكن السؤال الدي لا جواب له، هو وحده الذي يستطيع أن يربط بين العابر والمقبم، بين البرهة والأزل، بين الرائي وما لا يرى، كما أوحى به «مولانا».
هضاب تليها هضاب : آسيا الصُغْرى. وفوق الهضاب مكتوبة تلك الأساطير. وإذا استمرت الأرض على هذه الشاكلة، فسأعتقد أن «قونية» هي التي صنعَت «الرومي»، وجعلتْه جزءاً من ثرائها، وليس العكس.
الوصول إلى «أنقرة»
«أنقرة» مدينة «نصف صحراوية»، أو هضابية. إنها القاهرة بلا «نيل». وفضاؤها في الليل معتم من كثرة الهضاب التي تسَوِّرها. فضاؤها معتم وغريب. إنه مزيج من الأرض والسماء، وقد تزاوجا. يرعبني هذا الفضاء المشحون بالسور والآهات. أضع حقائبي في الفندق الصغير، في قلب المدينة العتيقة، وأخرج على الفور.
مثل قنفذ يمد رأسه، بعد أن اطمأن، خارج أشواكه، أقف ممدود الجسد، وعيوني تتملّى الليل المحيط بي كالبحر الهاديء. ليل «أنقرة» القارية الذي يدعوني للمسير. كيف لي أن أضع كياني في مكانه الصحيح من العالم إنْ لم أكن جديراً بمواجهة العتمة والتمتّع بها؟ أوليس المشي ليلاً هو أول مصدر من مصادر التعرّف على الذات، وهو الفضاء الأمثل للالتقاء الصريح بها؟
أمشي. أتوقف. أتوجّس احساساً آخذاً بالانبهار. أمشي أنقرة في العتمة البادئة. أحب أن أكتشف المدن والكائنات ليلاً. الشوارع شبه مليئة، والبشر بلا حضور. السيارات العتيقة تتغالب مثل فئران خرجت للتوّ من مصيدة عملاقة. إلى أين يذهب الناس في أول الليل؟ بعد ساعات من المشي البطيء أجد «السعادة» في وجهي: الدكان الصغير الذي غذّاني في «الحسك» في أطراف «الجزيرة » السورية، ها هو ذا في عينيَّ. ماذا يبيع الدكان القذر المبني من ألواح خشبية عتيقة، ومن سيور الجلد؟ يبيع «المشبَّك، والحلويات». أوه! أيها الماضي السعيد لست ، إذن، سوى قرص من «حُلْو» لم أشبع منه صغيراً.
أقف طويلاً، والبائعة تتملاني بهدوء. تكلمني وأنا بعيد. وأحسها تقول لمساعدها: «لا يفهم ما نقول». ولم أكن فعلاً. وبعد أن شبعتُ من النظر، مددتُ أصبعي نحو القرص الأشقر الساخن الخارج للتو من أعماق الزيوت، وقلتُ بلغة الإشارة التي يفهمها الناس كلهم: «واحد». وعلى الفور استقر القرص المشبع بالقَطعر بين أصابعي، محاطاً بورقة قاسية، وبدأت ألتَهِم الشيء. ابتعدتُ وأنا أتلَمَّظ لاحساً شفاهي، مثل قط أكل فأراً سميناً.
أكتشف أن اللذة ليست هي الذُرى البعيدة، ولا الأشياء الكبرى، وإنما هي الالتقاء العفوي مع فُتات حياة وَلَّتْ. حياة لم نكن نحسب، أبداً، أنها كانت ذات يوم كما نحسُّها، الآن. أكتشف، سعيداً، أنك إذا أردتَ البحث عن حياتك القديمة، فعليك أن تترك المكان الذي عشتُها فيه، وأن تبتعد أكثر ما يمكن عن الفضاء الذي تعتقد أنك ستلقاه في ثناياه. وليس ذلك إلا لأن الفضاء المُدَوَّر بلا أبعاد. وأبعاده التي نضفيها عليه هي التي تحجزنا فيه. أيه! أيها الأناضول الأعظم.
وجوه «آسيا»، كلها، تتجَمَّع في «أنقرة». لكأن البَرّ الشرقي من بَلَخ التي كان اسمها «أم البلاد»، إلى سمرقند، فبُخارى، إلى الأناضول، مروراً بحلب، والشام، وعُبوراً ببغداد، والموصل، وأنطاكية العظمى، تَلاقَى، كله، فيها. تلاقى، واختلط، وتلاقَح، وتكاثَر، وغَرَّب، وشَرَّق، وأنتج هذا الجَمْع الذي لا نظير له، اليوم. صرتُ أحس أنني بين أهلي ومعارفي: أشكالاً، وسلوكاً، وهوايات. حتى سُنن الإغراء والمُلاحَحَة هي نفسها. ما أجمل أن تمتزج الكائنات.
الفندق الذي أنزل فيه بالقرب من ميدان «كمال أتاتورك»، الذي يحتضنُ تمثاله. «أتاتورك» راكباً على حصانه، وحوله الأكناف، يتربَّصون بالظلمة شراً. أقف في أسفل التمثال زمناً طويلاً. أتملّى هيئته وقيافة الجنود الذين يحيطون به. ثمة أيضاً أمرأة وعمّال. في الساحة العالية ينتصب التمثال مسيطراً على فضاء أنقرة المدينة التي بعثها من النسيان. سأعود أكثر من مرة إليه. سأعود كلما خرجت من الفندق ورجعتُ إليه. أريد أن أفهم العاطفة السحيقة التي تملأ نفوس المتأمّلين له من عامة البشر.
بالقرب من الفندق، وتحته، على الرصيف المواجه، سأكتشف ذات مساء المقهى العتيق على «الخابور». مقهى صباي الشغوف بالمرائي والاضطرابات. المقهى المتكسّر الذي أصابتْه النوائب والرضوض، والذي يظل يقدم الشاي الساخن لزوّاره حتى بعد منتصف الليل. كنتُ أقف على عتباته المصنوعة من الزَل، والتراب، دون أن يأبه أحد بي. ومنذ أن أرى هذا سألجه على الفور.
قماش الطاولات الخشبية العتيقة من الأزرق الفاقع، وأشكالها مربعة وشديدة الإطار. وعندما تتَّكئ على واحدة منها ستحس أنها تهتز تحت ثقلك وكأنك فيل يطأ كوماً من القش. الكراسي المرصوفة حولها مصنوعة من وَبَر الخَيْزَران المجدول بعناية، وكأنه صُنِع للملوك. وفي منتصف الصالة العريضة تتربَّع «صوبْيا» من الطراز العتيق . لهبها أزرق، ودخانها قوي الرائحة، عليها يَتَشَلْهَب الرَبْع، كما كان يفعل أبي، وأمي أيضاً، في صباحات الحَماد القارسة البرد.
المرعب في الأمر أن هيئات الخَلْق «سورية» محضة. وإذا أردت الدقة، أقول: «أناضولية». ففي الأناضول التقت الدنيا كلها منذ طوفان نوح، ورسوّ سفينته على جبال «أرارات». لكأني لم أبرح جَراديق «الحسكة» على «الخابور». لكأن كائنات نهر «جَغْجَغ» الشيطانية التي لم تكن تظهر إلا في أوائل العتمة، وفي نهاياتها، انتقلتْ فجأة إلى هنا. أنظُرْ! صرتُ أخاطب نفسي: الرجل الذي قدَّم لي الشاي هو نفسه الرجل الفاحم القديم. ها هو نحيل، رصاصيّ اللون، مشعث الشعر، عيونه تلوز مثل عيون قط يبحث عن طعام، ثيابه وسخة، وجلده مَحْميّ من البرد بطبقة من الشَثَن والقذارة. أتَذْكر مَنْ كان كذلك؟ ألا يذكرك هذا الكائن البهرجيّ بمصلِّحي سيارات المازوت العتيقة في شارع «فردوسا» الحَسْكاويّ؟ الشارع الي كنتَ تقطعه عشرات المرات كل مساء من أجل الظفر برؤية وجه امرأة عابر؟
سيقدم لي كأْساً من الشاي المخَمَّر والرحيق، وهو يلاحق لاعبي الورق على الطاولة المجاورة. كنت أريده أن يتطلّع إليَّ علّه يرى في وجهي وجهاً يعرفه. لكنه وضع الكأس واختفي مثل فأر صاد لقمة فعاد إلى غاره على الفور. ولأني أردتُ أن أراه، طلبتُ كأساً أخرى، وضعها أمامي وهمّ بالإنصراف، فاستوقفْتُه، سائلاً بالعربية: «هيكل»؟ وأجاب وهو ينظر في عينيَّ بلامبالاة: «أتاتورك هيكل»؟ رأيت شكله من قريب وعينيه، ولم يعد يهمني الباقي. كنت أعرف أن التمثال في التركية يسمى «هيكل»، وأنا أسكن بالقرب منه.
يلعبون الورق بحماسة وعنف: اخوتي وآبائي، أصدقائي القدامي الذين لم أعد أراهم. وما أبأس الكائن الذي يفتقد الرؤية! ولن ينظر إليَّ أحد منهم، حتى وأنا أكتب عنهم. وبدأت أُدَمْدِم: «فليلعب الأطفال، فليلْعبوا»! لكأن امتصاص وجود الآخر المماثل لنا، منذ أن يحل بيننا، أمر طبيعي، ولا جدوى منه، مع أنه يشكل محنة إنسانية كبرى. لكن لا أحد يفتح رأس الآخر ليرى ماذا يملؤه.
الانقطاع عن التاريخ، إذن، ليس صدفة، ولا يتم بشكل عفوي. وهو لا يحدث الا إذا أردتَ أن تتجاهل تاريخك الشخصي قصداً. وهي الحماقة التي لا جدوى منها. أما أنا فلم أكن يوماً أكثر سعادة مما أنا عليه الآن. تاريخي هو حياتي. ويسرني أن أكتشف أنها كانت واقعاً ذات يوم. فليلعب الأطفال، فليلعبوا.
عندما نتفرّج عليه، يغدو التاريخ شيئاً آخر. ويمكن لنا أن نعطيه معنى مختلفاً تماماً عن المعنى الذي كان يحمله من قبل. وربما كان هذا هو ما فعله هوميروس «بحروب طروادة»، وشهرزاد في «ألف ليلة وليلة»، وراوي «تغريبة بني هلال» بالتغريبة، وحَكّاء «مهاراباتا» الهندي بحكايته، و«جلال الدين الرومي» بقصة «شمس التبريزي»، مثلاً، لا حصراً. وفيما يتعلّق بي وبتاريخي فأنا لا أريد أن أفعل هذا. أريد أن أحبّه بعد أن كنتُ أخاف منه.
الجمعة
كنتَ تسوق الإبل لاحقاً بالظعون، وأنتَ تردد: «باشا، باشا، مصطفى كمال باشا»! هل تذكر ذلك؟ هأنذا أقف الآن تحت تمثاله البرونزي، يا أبي. وأكتشف أن الإنتماء، إنتماء الكائن، إما أن يكون كونياً أو لا يكون. انتماء لا يخص الإنسانية، هو ليس شيئاً آخر سوى النكوص. النكوص إلى قبر الوعي الأسود الذي لا يؤدي إلى فضاء.
تحت التمثال، تماثيل أخرى صغيرة، تكشف عن عمق مأساة الكائن الذي يكتشف، فجأة، ضراوة العالم وحقارته. يكتشف التهديد المستمر للوجود حتى بأبسط أشكاله. وحدها، الحمائم البائسة، تجثم في ضوء الشمس الباديء في أنقرة، وهي لا تجرؤ على الحركة من شدة البرد. بماذا تفكّر هذه الكائنات الرابضة مثل أسود لم تعد تقوى على القنص؟
من «إيلوس» إلى «كيزيلاي» سأمشي «أتاتورك بولفاري» الغامض مثل صحراء بلا أفق، مرة على اليمين، ومرة على اليسار. أمشي مشغوفاً من شدة التعلّق بالعالم الذي أمشي فيه، ومن حب الذوبان في فضائه. أنسى مَنْ كنتُ، ولا يهمني مَنْ سأكون. المهم هو أن قدميَّ ما زالتا تستطيعان المسير. أبحث عن أسرار لا أعرف عنها شيئاً، أسرار لا بد وُجدتْ، هاهنا، ذات يوم، وأكاد اني لا أريد أن أعرف . وما جدوى المعرفة في فضاء يتموّج الحس فيه مثلما يفعل المحيط عندما يهيج؟ ولربما كانت «إرادة الجهل» المرغوبة، هذه، والمخطط لها بعناية، وراء ذلك الشغف السامي الذي يدعيه المتصوفة الكبار، والراغبون بالاتحاد بالمجهول (انتبهوا بالمجهول، وليس بما يعلمونه)، هي كل ما يتبقّى للكائن من وجوده عندما يضيع منه «كل شيء»، أو بعد أن يصر على «تضييعه». ومع ذلك، فأنا لا أبحث عن المطلق، ولكن عن النسبي. ولكن كيف يمكن التمييز بينهما؟
يمشي بسرعة، متوجِّساً، ومتأهّباً لكي يقف في أية لحظة: الأعمى. وأنا أسير متباطئاً، وكأني خرجتُ من غار مظلم، للتوّ. هو ينظر إلى الداخل، وأنا امتلئ بالخارج، مثل أسفنجة تمتلئ بالماء. مشكلة العين هي الاستدارة، هي الدورة التي تخطف البصر لكي ترسله إلى الأعماق. وحين ترافق الموسيقى كل هذا، نبدأ، عندها فقط، بإدراك معنى الحب الذي سيجعلنا ندور الأرض بحثاً عنه. أقصد ندور في مكاننا، باعتباره الممثل الأفضل للقاع.
في «أنقرة» أنتَ في عالم آخر. عالم مختلط الأجناس بشدة. ولا بد أن ذلك يعود إلى الأزل. إلى العهد الذي رستْ فيه سفينة نوح على جبل «أرارات» القريب من هنا، وفيها «من كل زوج اثنان». خليط بشري عميق، وثقيل الخطو، وكأن الأرض لم تخلق إلا ليكون هو عليها. خليط صامت حتى وهو يتكلم. لمَنْ تُخبّيء هذه الرؤوس أصواتها ونَواها؟ ومَنْ عساه يظفر بوَجْدها، ذات يوم؟ من أين تجيء هذه الثقة الأزلية بالذات، إنْ لمْ يكن من «كتاب الحكمة«الانساني الذي أبدعتْه هذه الطبيعة؟
الحيثيون، والفينيقيون، والاغريق، والرومان، والفرس، والمغول، والسلاجقة، والعرب، وأقوام كثيرة أخرى، اختلطوا كلهم هنا، وتعايشوا تحت «سلطة الحياة». وهنا خلَّفوا هذا المزيج البشري الرائع. أنظرْ! لهذه الفتاة أنف مغولي، وعينان عربيتان، وثغر روماني، ولُـحْمَة آسيوية، ولها دلال اغريقي خالص. قارات عديدة تجامعَتْ لتخلق هذه الكائنات التي لا حدود لخصائصها. خصائصها التي «تخلب الألباب» كما يقولون. وأحياناً، أحب ما يقولون. فاللغة مثل الكائن إذا جَرَّدْته من لُـحْمته لا يبقى فيه سوى العظم، وسيفقد أبَّهة وجوده، ويتسَطَّح.
«أنقرة» جافة مثل بؤة ثلج. وبين الخطوة والخطوة عليكَ أن تلجأ إلى «دكان شاي» قريب. وهذه الدكاكين نوع من المقاهي الصغيرة الحديثة التي تلبي الطلب بأسرع، وأسهل مايمكن، وبسعر معقول. يؤمّها الأتراك والسيّاح معاً. ولا فرق بين عابر أو مقيم إلا «بالعملة».
في هذه المدينة الغريبة الشأن والمزاج، سأستحضر «تاريخي الشخصي» كثيراً، منذ أن شعرتُ أنني «أتلاشى» بين مَنْ هُمْ مثلي، تماماً، وأنا من «بادية الشام». أنا القادم من أعماق الصحراء العربية، أقف طويلاً في وجه الفضاء الأناضولي، أتملّى البشر الذين لا يكفون عن التوارد والاتصال، يُنْعِشون في نفسي أعمق الأحاسيس والمشاعر والانشغالات، يُعيدون رَبْطي بأبي، ويشرحون لي أحوال أهلي الذين لم أعِ من أحوالهم شيئاً يوم كنتُ بينهم. أوه! أيها الأناضول الذي لا يُخفي عن أحد أساطيره.
ما يدهشني هنا هو صمت الكائنات التي تظل تمشي بكبرياء، وكأنها لم تعد تستطيع أن تتوقَّف. وعلى عكس أوربا، والعالم العربي، أيضاً، لَمْ أَرَ استياء على وجوههم، ولا تذلُّلاً في هيئاتهم، ولا توتُّراً مجانياً مثل الذي نراه عند «شعرائنا» الذين لم يروا من الكون إلا أظافر أقدامهم. صامتون؟ نعم. ولكن بلا حَسَف أو ندم. وإذا ابتسمْتَ لهم، يبتسمون لك على الفور، وهم يرددون: أفندم!
في المساء سأرى ما لم أره في الصباح. ضوء الغروب في أنقرة يجعل الفضاء أسود ومربدّاً، يضفي على الأمكنة هيبة غُروبية تثير في النفس شجناً واستجابات. في السفر يمزج الكائن ين أمرين: تاريخه الشخصي، وكينونة العالم. وهنا لا حاجة للإنفعال، ولا للإفتعال، لأنهما ممتزجان بشكل عفوي، ومنذ عصور سحيقة. وهذا الامتزاج التاريخي العميق يقلب المعادلة: يجعل المسافر يحال فرز الامرين أحدهما عن الآخر، أو تخليص الأول من قبضة الثاني: التاريخ والكينونة. ولأن ذلك لا يبدو ممكناً في حالة غروب مثيرة مثل هذا الغروب الاسطوري، فإنه يستسلم لرُؤاه وتهيّجاته، متابعاً اصراره على أن يتقاسَم برهة الحياة العابرة، هذه، مع العدم ( الذي هو الماضي) من أجل ألاّ ينساه مرة أخرى.
عند أهالي أنقرة يذهلني الصمت والنظام. لكأنهم خرجوا، للتو، من تدريب عسكري قاس. تدريب لا يقبل الثرثرة ولا الابتذال. وأتصوّر أن الهضاب الأناضولية التي لا حصر لها، المحيطة بالمدينة، والتي على سفوحها ترتسم سمات الخلق الأناضولي، هي العنصر الحاسم في هذا السلوك الصامت والمتهيّب. سلوك يختلف كلياً عما رأيته عند أهالي «اسطمبول»، مثلاً، حيث الضجيج هو الفعل الأساسي في حياتهم اليومية، حتى ولو لم يكن ضرورياً، وربما لأنه كذلك، كما هي الحال في القاهرة.
صمت «الأنقَرَويين» صمت مغولي، ومشيتهم بلا حس مثل مشية ذئاب جوعى، عيونهم تراك دون أن تنظر إليكَ تحديقاً، ونساؤهم خفرات مع أن الحِسّيّة تتناثر من أعطافهنّ. عندما يمرون بك يكادون أن يسلِّموا عليك، وكأنهم عرفوك عندما التقوا بك، ذات يوم، في ذلك العالم. عالم أَلْفِيّ مرَّ من هنا، أو هم كانوا هناك. وقبل أن يبدؤوا السلام يختبئون تحت رموشهم الطويلة الفتّانة، وهم يبتعدون.
أي غباء مستحْكم فينا، يجعلنا نعتقد أننا سادة في الكون ونحن لا شيء تقريباً! متى نتحرر من اسلابنا؟
(المقطع الأخير؟) قبل أن يستوعب الكائن تاريخه يموت (أقصد التاريخ). وعندما يصل إلى نقطة الإدراك يكون كل شيء قد مر. الحماقة، وحدها، هي التي توهم الكائن بأنه قادر على أن يفعل مِـمّا/ ولما مضي شيئاً. فما حدَثَ لا يحدث مرتين، ولم يكن من الممكن له أن يحدث بشكل آخر، وهو لا يُسْتَعاد، ولا يمكن اصلاحه. وهذا هو تماماً معنى العبث في الوجود.
«أنقرة»، على عكس الانطباع المتسرع، ليست مدينة حديثة. ذِكْرُها يرد في التاريخ منذ منتصف القرن الثاني ق.م. كان اسمها «أنْكُواش»، وكانت مركزاً أساسياً في قلب منطقة زراعية شديدة الخصوبة.
استوطنها الحثييون، والليديون، والفرس، وحتى «الغول»، أو «الغالات»، حيث سمِّيَت المنطقة باسم إحدى قبائلهم: «غالاسي». وضمَّتْها الامبراطورية الرومانية إلى ممتلكاتها، وشيَّدت فيها الكثير من آثارها.
وأقام فيها القديسان : «سان بول»، و«سان بيير»، وهما من حواريي«غالاسي»، وقد جعلا منها أول مركز للمسيحية الشرقية.
سيخمد ذكرها، وتكاد أن تُنْسى، بين القرن السابع، والخامس عشر الميلادي، وكانت في هذه الفترة تسمى«أنقورا». تعاقب على غزوها أقوام وديانات إلى أن استحوذت عليها الامبراطورية العثمانية (أوائل القرن الخامس عشر).
لكن أهميتها الحديثة ستقترن باسم «كمال أتاتورك» الذي التجأ إليها عندما تفتتت الامبراطورية العثمانية، ليجعل منها عاصمة للبلاد. وكان ذلك في شهر أبريل.
السبت / ديسمبر.
تنهبني التاكسي كالبرق إلى «آشْتي»، المحطة الرئيسية للمواصلات البرية إلى عموم تركيا. أريد أن أسافر إلى ««قونية»، براً. أريد أن أهبط الهضاب الأناضولية التي بدأتُ أتخيّلها مثل كرات ذهبية مُلَبَّسة بالأخضر الفاهي، في أول هذا الشتاء الجميل.
في المحطة العظمى خلق ونُثار. جموع من البشر البني والفضي الذي يوحي بأن لا قيمة للعجلة في الحياة. يتجمهرون وكأن ثمة حادثاً خطيراً قد حدث للتو، وليس في المكان سوى الخلاء. لا أحد، ولا كلام، ولا حتى اشتباه بأن ثمة ما سيجري حدوثه بعد قليل. إنها الحياة الملفوفة بالهضاب، والمقصية عن أُطُر الوجود الذي خلَّفْتُه في باريس.
يمشون بتُؤدة وكأنهم في حل من أمور الدنيا. لكأنني أنا المسافر الوحيد في هذا العالم الأسطوري الذي خاض المعارك والحروب، والذي قلَب العالم على رأسه ذات يوم. عليَّ أن أتبصَّر، إذن. هؤلاء بشر آخر غير الذي كنت أراه في باريس. وأكاد أقترب من اللوم وأنا أتخبَّط متسرعاً في طريقي . هم يتوافدون بهدوء مثل مدعوّين إلى وليمة لم تكتمل عناصرها، بعد، وأنا أتعاجل مثل يتيم يركض خلف الظُعون. يتحركون محمَّلين بكآبة سرية لا تفصح الوجوه عنها، لكن العيون التي تلوز مضطربة في محاجرها هي التي تفضح الأهواء الخبيئة في قلوبهم.
أقف ساعة، أو بعض ساعة. أُؤخِّر سفري، قصداً، لأقف أطول وقت ممكن في هذا الخليط اللامتجانس، والمُتَحاشد مثل رعد هزيم. أرى وجوهاً كثيرة أعرفها، وأزوالاً حسبتُها غابت من الوجود إلى الأبد، وهيئات لامسْتُها ذات يوم تحت غطاء الرمل الذهبي الساخن في بادية الشام. أرى نفسي مليئة بأجناس وآهات. أيهذا العدم الجميل لماذا لاتدوم؟
الأناضول : هضاب تليها هضاب. من أنقرة شمالاً إلى البَرّ العربي جنوباً ستعبر الفضاء الجميل صامتاً مثل طفل يلتقي بأمه بعد ضياع. ستكتشف أن الرؤية، رؤية البشر والأشياء، ليست حيادية، وأهميتها لا تكمن في اجلاء معالم الطريق، ولكن في قدرتها على بعث الحياة التي ابتلعها الزمن. ولن تشغل نفسك بالسؤال: ولكن كيف تفعل هي ذلك؟ يكفي أنها تفعله، وأنها تجعلك تحس به، وكأنه يحدث الآن أمامك. أُنظُرْ.
هضبة الأناضول قارية يتمثّلها البصر بهيبة، وسعادة. إنها قُروص ( جمع قُرْص) تجثم فوق وجه القاع، مثل الكمأ المروي في سهول الجزيرة وهو يتفتق من بطن الأرض. على قممها غيوم وأساريح. ثلوج بعيدة تنام هادئة لا خشية لديها ولا ظنون. تعرف أنها باقية حتى الربيع القادم، ولربما لأعوام عديدة. في فضائها لا يسرح النظر بعيداً، إذْ سرعان ما تحدّه الأهاضيب. وأحسُّكَ تبدأ التململ في مقعدكَ وأنت تريد أن تطير. ولكن، لماذا صرتَ تتهدَّج، وأنت تمسح فضاء الأناضول بعينيك الذاهلتين؟ أزَهْوَة أنت أم سراب؟
٭ مقاطع من نص طويل بهذا الاسم ، كتب بمناسبة الاحتفال بجلال الدين الرومي.
خليل النعيمي
روائي يقيم في فرنسا