ارتبط تاريخي الشخصي على نحو ما بتاريخ صادق العظم فقد نشر له زوجي صاحب «دار الطليعة» العديد من كتبه وبينها كتابه القنبلة: «نقد الفكر الديني»، وهو ارتباط طويل المدى بدءاً بدمشق وبعدها في بيروت وعندما ذهبت إليها للدراسة في الجامعة الأمريكية وجاء هو أيضا من دمشق للتدريس فيها.
سمعت للمرة الأولى باسم د. صادق العظم في دمشق من قريبي الدكتور رفيق الصبان الذي كان قد عاد من باريس حاملاً شهادة الدكتوراه كما صديقه د. هشام متولي.
تعارفي مع د. صادق وزوجته (آنذاك) فوز طوقان يرسم صورة من غليان دمشق الستينيات (التي تنوء تحت وطأة التقاليد) والنظر بحذر إلى كل فكر حر حتى لو كان كفكر د. العظم، لم يقطع صلته حقاً مع التراث كما يرى البعض لكنه يطمح الى علاقة صحية إنسانية معه لا تعيق نموه العصري. ولأن الدكتور الصبان، أحد أعمدة النهضة السردية المسرحية هو قريبي جداً (ابن خال جدتي وشقيق زوجة عمي) كان يشعر بأن (المراهقة غادة) تتوق وعمرها 13 سنة إلى اكتشاف الجديد والمعاصر إلى جانب المناخ التراثي التقليدي الذي يحيط بها، جاء مرة لزيارة جدتي (ابنة عمته) حاملاً معه (فونوغراف) هدية وأسطوانة رقصة (الراسبا) وهي من أمهات موسيقى الروك، ووضع الأسطوانة وصار يعلمنا، أخي وأنا، رقصة «الراسبا». ولم يكن بوسع جدتي الاعتراض فليس في الرقصة عناق «التانغو» بل القفز المتناغم. أما والدي فلم ينظر بسرور إلى (الفونوغراف) والراسبا ودعوة د. الصبان لي ولأخي بعدها بأعوام للتعارف مع النشاط المسرحي الوليد في سوريا الذي قام بتأسيسه بمعونة وبدعم مجموعة من الشبان الذين تخرجوا من الجامعة السورية (وهكذا كان اسم جامعة دمشق يومئذ) ومن جامعات الغرب وعادوا إلى الوطن لا يهدفون إلى تخريبه بل تطويره. وقد رسمت هذه الصورة لدمشق مطلع الستينات لوضع اللقاء الأول بيني وأمثالي مع د. العظم في إطاره الاجتماعي المتمرد.
ففي مناخ «الغليان السوري» هذا للتفاعل مع العصر والتوق إلى فكر مجدد حر متطور دونما قطع الصلة مع التراث بالضرورة، تعارفت مع د. العظم وزوجته فوز طوقان. وضمن هذا الإطار نظرت دمشق إلى عودته بين مستنكر يطلق الشائعات عن حياته الخاصة ومؤيد يسعى للتعارف معه. أما الشائعات فكانت من السخف حتى وجدتها مسلية بل وجذابة زادت في حماسي وسواي للقائه ودعمه وزوجته فوز… لقد كان الدكتور العظم منذ بداياته مغناطيساً يجذب نصيرات وأنصار فكره أو العكس. وهكذا حين قالت لي صديقتي ثريا متولي الخريجة الجامعية وشقيقة الدكتور متولي أنها ستذهب برفقة شقيقها د. الصبان ود. شفيق الأخرس وسواهم لزيارة د. العظم وزوجته والترحاب بعودته إلى دمشق من أميركا حاملاً شهادة الدكتوراه أو شيء من هذا القبيل، تحمست وبالذات حين قال لي د. الصبان أن الدكتور العظم (أوريجينال) مثلي. لم أفهم جيداً ما يعنيه بكلمة (أوريجينال) ولكنني ابتهجت لذلك وزاد في رغبتي تلك، انتقاد قريب تقليدي لي قال في معرض تحذيري من تلك الزيارة: «ألا تعلمين أن د. العظم وزوجته ينشرون غسيلهم في «أوضة الضيوف» ببيتهم؟» وجدت ذلك عقلانياً وقلت له: «ولم لا والطقس ماطر و»غرفة الاستقبال» لا يدخل إليها أحد!» (إلا الزائر بعد الاتصال الهاتفي لموعد) كما يفترض لياقة.
ذهبنا جميعاً وبرفقة آخرين للزيارة وللترحاب بالدكتور العظم وقد ازددت شوقاً لذلك لما سمعته من انتقاد، زادني محبة لأسرة العظم تلك حتى قبل أن ألتقيها.
كانت زيارة متوهجة بالأفكار العصرية والمستقبلية الحديثة التي تسيل من الحوار… وكان حياً ومتشعباً… د. رفيق الصبان والنهضة المسرحية العصرية التي يريد ترسيخ دعائمها… أصداء كلام على نشاط يقوم به د. صباح قباني الذي عاد أيضاً من فرنسا حاملاً الدكتوراه وثمة همس في أوساط المثقفين عن أنه سيقوم بتأسيس التلفزيون السوري… (وهو ما فعله قبل عمله كسفير سوريا في الولايات المتحدة).
في هذا المناخ الشامي الذي يغلي بالإرهاصات المستقبلية تعارفت مع د. العظم في بيته البسيط المتواضع الذي لا يشبه قصور آل العظم التي يروي لنا كيف ولد في أحدها وذلك في حوار رائع مع المفكر الباحث صقر أبو فخر وهو حوار صدر في كتاب استثنائي العمق.
ذهبنا يومها إلى حي المهاجرين الشامي. وهبطنا عدة درجات ترابية إلى يسار الشارع (ونحن نتجه الى ساحة المهاجرين) ووجدنا أنفسنا في بيت أنيق مريح وطيب. وأحببت ذلك كما استمتعت يومها بتلك الزيارة.
لم يكن كتابي الأول قد صدر بعد ولعبت دور المستمعة المسحورة بهم لأنني لم أكن قد غادرت دمشق بعد إلا إلى اللاذقية لزيارة أخوالي وأبعد مسافة عن دمشق وصلت إليها هي مدينة حلب حيث تزوجت إحدى بنات عم أبي. كنت أحلم بالسفر واكتشاف آفاق جديدة… وحوارهم المتحرر الطامح إلى خلق الجديد المبدع راقني… لقد عادوا من بلدان أحلم بالرحيل إليها… ومرّت أعوام.
بعدها التقيت مصادفة بالعظم في حرم الجامعة الأمريكية في بيروت التي رحلت إليها لمتابعة الدراسة وبعد التحيات والتبادل التقليدي للأشواق واستفساري عن فوز خانم بالذات. لماذا؟ لأن لآل طوقان جميعاً معزة خاصة عندي فقد أغرمت بكتاب أهدته الشاعرة الرائعة فدوى طوقان لأبي واسمه «وحدي مع الأيام» وقرأته في غزوة سطو مسلح بالفضول على مكتبته التي كان يصرّ على أن أقرأ فيها كتاب (الكامل) للمبرد وسواه من الكتب التراثية أو «العصرية» في نظره ككتاب «الأيام» لصديقه طه حسين!
حين التقينا في بيروت في… «كامبوس» الجامعة الأمريكية منذ ألف عام قال لي د. العظم دونما (لفّ ودوران): نعم، أنا أستاذ في الجامعة الأمريكية في بيروت لأن والدك لا يريدني في جامعة دمشق (كان والدي يومئذ رئيساً للجامعة). قالها د. صادق بين الجد والهزل وبخفة ظله المعهودة لكنني صدّقته… فأنا أعرف الحبيب أبي وأعرف أنه رجل محافظ لا يرتاح لصورة العظم، ولا يهادنها إلا مرغماً لكنه يهادن تحرري وهو ما دوّنه المفكر الكبير مطاع صفدي حين كتب عني في بداياتي الأدبية وأنا ما زلت في دمشق وبالأحرى عن أبي قائلاً: «غادة السمان ابنة رجل محافظ هو الدكتور أحمد السمان مدير جامعة دمشق ومع ذلك استطاعت أن تحمل والدها على الوقوف بجانبها ضد كل الحملات التي تعرّضت وتتعرّض لها في محيطها» لكن والدي – ببساطة – لم يخطر بباله قبل أن يرحل عن عالمنا وأنا ما زلت طالبة جامعية في الجامعة الأمريكية أنني (سأقع) وبالأحرى (سأقف) في حب تقدمي ثائر هو الدكتور بشير الداعوق الأستاذ في الجامعة الأمريكية وصاحب «دار الطليعة» الشهيرة وأننا سنتزوج بعد لقائنا الأول بشهرين وسأجد نفسي حاملاً بعد ثلاثة أشهر من زواجي وصادق العظم يحتل مساحة كبيرة من حياة زوجي في تلك الفترة! أي لم أكتب ما تقدّم لأروي جانباً من تاريخي الشخصي بل كتبته لأن (عريسي) الدكتور بشير الداعوق أصدر عن منشوراته «دار الطليعة» ذلك الكتاب الأشهر للدكتور العظم وهو كتاب «نقد الفكر الديني» ولأنني قصرت في متابعة الحدث (محاكمتهما) فقد انشغلت بحملي وأقيمت الدعوى في المحكمة عليهما ولم يشفع (لعريسي) أنه ابن شقيق رئيس الوزارة الأستاذ أحمد الداعوق جارنا في الطابق الأول من «قصر الداعوق» والأب الروحي لزوجي الذي فقد والده وهو في الثامنة من عمره. ولكنه كبر مستقلّ الفكر ناشراً كتاب «نقد الفكر الديني» وفي تلك الفترة بالذات كان ثورة فكرية وقامت القيامة عليهما. أرستقراطي شامي وآخر بيروتي، شابان متمردان في كتاب انفجر كقنبلة.
أكرر الاعتراف بأنني لم أتفاعل مع ذلك الحدث الفكري الكبير (ككاتبة وكزوجة للناشر) كما كان ينبغي لأنني ببساطة كنت منشغلة بطفلي… لم يكن هاجسي «نقد الفكر الديني» بل حماية ذلك المخلوق الغامض الذي ينمو في جسدي وروحي ويخاطبني بالقرع على جدران بطني كالسجين، وقراءة كتاب د. سبوك عن الأطفال لا د. العظم.
تعطّل دماغي لصالح طفلي وهو ما يدعي باللغة البسيطة «الوحام» بصورة كافة وعشته عسيراً… لكن ذلك لم يحل بيني وبين حضور الجلسة الأخيرة من محكمة زوجي الناشر والدكتور المؤلف.
كان بطني يتقدّمني وأمشي بصعوبة، وصدر حكم البراءة، ولكن ذلك لم يعفني من بعض ردود الفعل. كنت أعمل في مجلة «الحوادث» ولي زميل هو الصحافي جلال كشك وكان من أشد الرافضين لكتاب «نقد الفكر الديني» وصارت المناوشات اليومية قهوة صباحنا… أما والدة زوجي السيدة سارة غندور داعوق المعروفة بنشاطاتها في أوساط بيروت الاجتماعية والخيرية (الصليب الأحمر، جمعية العناية بالطفل والأم التي تبرعت وأولادها للجمعية بأرض في حي فردان الراقي وغير ذلك) فقد التقت بالمفتي الراحل الأستاذ حسن خالد وقال لها عبارة واحدة: قولي لإبنك الله يسامحه! ولم يرسل شخصاً لإرهابه أو لقتله لكنه للأسف مات هو مقتولاً!
حظي كتاب الدكتور العظم بتأييد شعبي واسع على كتابه الجري وبالذات من المؤسسات المدنية مثل «دار الفن» وكانت رئيسة الدار جانين ربيز من أشد المتحمسين والمتحمسات لـ»نقد الفكر الديني» وسواها كثير… كأن ذلك الكتاب جاء لبلورة صرخات كثيرة تريد تحرير المقدّس من مستثمريه باسم التقاليد التراثية.
صدرت للدكتور العظم عدة كتب عن «دار الطليعة» كان زوجي سعيداً بالاحتفاء بها منه: دراسات يسارية حول الثورة الفلسطينية – زيارة السادات وبؤس السلام العادل – النقد الذاتي بعد الهزيمة – سياسة كارتر وسواها…
كما عمل د. العظم رئيساً لتحرير مجلة «دراسات عربية» التي كان زوجي يصدرها عن داره «الطليعة» وكان من رؤساء تحريرها العديد من المفكّرين أمثال ناجي علوش وجورج طرابيشي وخليل أحمد خليل والدكتور العظم نفسه وسواهم وكان مدير الإدارة عبد الحميد ناصر. وكانت أيام ما تزال تسري في عروق جيل شاب… كالدكتور إيلي شلالا الأستاذ في جامعات كاليفورنيا وصاحب مجلة «الجديد» الصادرة بالإنكليزية هناك، والذي كان يطالع مجلة «دراسات عربية» أيام الدراسة وتأثر بها وبالمفكرين الضالعين فيها… وما زال في كتاباته ومجلته الراقية وفياً لعطائها.
لقد شكل تمرد الدكتور العظم في كتبه عامة وبالذات في كتاب «نقد الفكر الديني» علامة تطور فكري عربي والدليل أنني حتى اليوم كمسؤولة عن «دار الطليعة» بمعونة العاملين فيها منذ أيام الراحل زوجي ما زلت أقع في المخطوطات التي أطالعها تمهيداً لرفضها أو للترحاب بنشرها، أقع على مخطوطات حديثة الكتابة تقلّد كتاب «نقد الفكر الديني» أو تستلمه بنجاح لا يذكر غالباً ولذا أقوم بالاعتذار عن نشرها… إذ تنقصها روح الابتكار الفكري والاصالة والتجديد التي جاء بها يومئذ صادق العظم. وفي ذلك برهان على تأثير فكر د. العظم في أجيال عديدة وركض اجتهاده في الدورة الدموية الثقافية لجيل جديد ينهل من عطاءاته ويتقبلها أو يرفضها لكنه يتفاعل معها سلباً أو إيجاباً.
لقد كان كتاب «نقد الفكر الديني» الشهير الذي صدر قبل حوالي أربعة عقود يقوم بالتصدي الصريح للبنى الفكرية، والأيديولوجية الغبية السائدة في مجتمعنا، لأن اقتحام هذا المجال يمس أكثر المناطق حساسية في المجتمع العربي، المسألة الدينية. ولكن الثورة العربية المعاصرة لا تستطيع أن تتجاهل إلى ما لا نهاية طرح القضايا الحيوية المرتبطة بالأيديولوجيا الغبية الدينية وعلاقتها بالثورة نفسها. وما يتفرع عن ذلك من مشكلات تتعلق بنضال الجماهير عن طريق استخدام الدين باعتباره السلاح «النظري» الرئيسي بيد الرجعية العربية في هذه المرحلة. من هنا تشكل سلسلة الدراسات النقدية للفكر الديني محاولة جريئة وضرورية يقوم بها صادق جلال العظم لهدم العقلية الغبية المسيطرة والعمل على إحلال الثقافة العلمية العصرية والثورية محلها باعتبار أن الثورة الاشتراكية ليست مجرد تغيير للواقع الاقتصادي، والطبقة السائدة – كما جاء في غلاف الكتاب يوم صدوره.
والدكتور العظم مقاتل يسمي الأشياء بأسمائها ولا يهادن ففي كتابه عن سياسة كارتر الصادر في السبعينيات من القرن الماضي يتناول الرهان العربي على الولايات المتحدة وعلى سياسات الرئيس كارتر لتسوية «أزمة الشرق الأوسط» بصورة عادلة ومتوازنة. ويفتح النار بشدة على محمد حسنين هيكل وغسان تويني وكلوفيس مقصود باعتبارهم كانوا أهم المروّجين والمدافعين عن هذا الرهان. كما يناقش بعض الخصائص الاستراتيجية والتكتيكية للسياسة الأمريكية في منطقتنا مبيناً أنها لا يمكن أن توصل إلا إلى مزيد من الإضعاف للجانب العربي والتقوية للجانب الإسرائيلي وهو ما يحدث اليوم بعد انقضاء أعوام طويلة على صدور الكتاب.
وصادق العظم سيظل علامة مضيئة على الشجاعة وقول ما يجده «الحقيقة» دونما مبالاة بالثمن الذي قد يدفعه. وسواء اتفقت معه أو اختلفت لا تملك إلا تقدير مسيرته الطويلة.
——————————–
غادة السمان