صادق جلال العظم أحد أعلام الثقافة السورية والعربية، بل أحد نبلائها معرفياً وأخلاقياً، وأحد أعلام الفكر النقدي الحديث. الحداثة، عنده، ممارسة فكرية وعملية أصيلة، لا تلبيس فيها ولا تلفيق؛ وعلمانيته راديكالية صريحة، لا مداورة فيها ولا مناورة؛ فمن «نقد الفكر الديني» و«النقد الذاتي بعد الهزيمة» إلى دفاعه عن المادية والتاريخ، مروراً بنقد «ذهنية التحريم»، كان سيد الوضوح.
وهو نموذج المثقف المستقل؛ الاستقلال هنا هو استقلال الوجدان وحرية الضمير. فالعظم لا يعتبر معرفته وثقافته تمنحانه سلطة لا تقبل المراجعة والنقد والمعارضة، لذلك لم يخضع لأي سلطة اجتماعية أو دينية أو سياسية، سوى سلطة الحقيقة النسبية والقانون العام، ببطانته الأخلاقية.
وإلى ذلك، فإن دماثته وتواضعه ملازمان لثقافته الموسوعية ومعرفته العميقة. هذه ليست شهادة لمفكر وأستاذ وصديق، هو في غنى عنها، لأن فكره وممارسته ومكانته تشهد له، بل إشارة إلى صعوبة ما أنا مقدم عليه، من تقصي معاني العقل والتاريخ في فكره.
اتساقاً مع منهجية العظم في «مراجعة الفكر على الواقع»، ومع رؤيته لتاريخية الفكر أو العقل، لعله من الضروري أن نتساءل عن علاقة فكره ببيئته الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية، وهو تساؤل يثير غير قليل من الإرباك والحرج أيضاً، إذا لم ندرك أن بيئة العظم – كأي شخص آخر – هي مصادر معرفته وثقافته وموئل قيمه، وكل ما يشكل شخصيته. يحيلنا هذا، ونحن نفكر في علاقة فكر العظم ببيئته، على مسألتي الكونية والمعاصرة.
الثقافة الغربية، والفلسفة منها بوجه خاص، مصدر رئيس من مصادر ثقافة العظم، مثلها مثل الثقافة العربية وبعض الثقافات الشرقية، ولكنه ليس مولعاً بالغرب، وليس مسحوراً به؛ موقفه من الغرب يتجاوز الدهشة إلى المعرفة، كما يدل على ذلك نقده للثقافة الغربية، وليس مريضاً به مرض المثقفين العرب، ولاسيما القوميين منهم والإسلاميين، إذا استعملنا التعبير الضارب لجورج طرابيشي. ذلك لأن انتماءه الجذري إلى الجماعة الإنسانية والعصر الحديث أساس انتمائه العربي أو الإسلامي أو السوري أو الدمشقي أو ما شئتم، ولأنه أدرك باكراً كلية اغتراب الإنسان في النظام الرأسمالي العالمي، الذي لا يمكن إخراج العالم العربي من دائرته إلا بإخراجه وخروجه من التاريخ.
لذلك تجده يسارياً راديكالياً من أبرز الفاعلين في مواجهة الذهنية أو العقلية التقليدية والثقافة التقليدية والفكر المحافظ، ومن أبرزهم في مواجهة الدوغمائية والتلفيق في جبهة اليسار ذاتها. ومن ثم فإن فكر العظم وليد التعارضات العميقة في البيئة السورية والعربية والعالمية، ولا سيما التعارض بين التبعية والاستقلال، وبين التقليد والحداثة، وبين التيوقراطية والعلمانية، وبين الاستبداد والديمقراطية، علاوة على التعارضات الاجتماعية لا سيما الطبقية منها. ومن ثم فإن فكر أي مفكر أو فيلسوف يتشكل في سياق تشكل المفكر ذاته، وفقاً لعلاقته بعالمه وعصره، حتى لكأن كل ما يحدث في العالم إنما يحدث له شخصياً، بتعبير الفيلسوف الروسي نيكولاي برديايف.
إن تمثل الثقافة الغربية، مثل تمثل الثقافة العربية أو غيرها، هو تمثل منجز إنساني، من دون أي شعور بالتفوق أو بالدونية. تلكم هي القاعدة التي أزعم أن نقد العظم للأنساق الفكرية والفلسفية قد نهض عليها، هذه القاعدة هي التي تعيِّن الحدود بين الفكر والأيديولوجيا، بما هي حجاب للعقل. العقل، عند العظم، هو نزع الحجاب عن الحقيقة الواقعية، أي التاريخية، التي لا يماري فيها العقلاء، سواء كانت الحقيقة حقيقة كون مادي أم كون اجتماعي وأخلاقي. وإذا كانت «الحقيقة»، بدون أي وصف، موضع تأويلات شتى، فإن الحقيقة العلمية ليست كذلك، لذلك كانت المسالة الأساسية عند العظم هي مواجهة الجهل بالعلم، والمواجهة أيضاً من المعاني الأخلاقية للعقل، لأن العقل إذ يكشف حقيقة الواقع أو يعريه من الأوهام إنما يعمل على تغييره وتشكيله من جديد، مرة بعد مرة، إذ ليس من حقيقة نهائية، ما دام الواقع متغيراً بحكم تعارضاته الملازمة، وما دام العقل نفسه ينمو ويتطور.
في عقل العقل
«الحاكم محكوم بما يحكم فيه»، هذا رأي شيخ المتصوفة، ابن عربي. غني عن القول إن الحاكم هنا هو الذات العارفة أو العاقلة، أو «العقل». هذا يؤدي بنا إلى «وحدة المعرفة والوجود»، أو وحدة الذات والموضوع، عند هيغل (الذي تأثر، على ما يرى بعضهم، بالتصوف الألماني، من جملة ما تأثر به) وعند ماركس وغيره أيضاً. هذا «الحكم»، الذي يبدو واضحاً، من أكثر الأحكام غموضاً والتباساً؛ يتأتى غموضه والتباسه من ثلاثة مصادر في آن معاً، الأول هو التباس معنى الذات والاختلاف في تحديد ما هي الذات، ومن هي، وكيف هي، هل هي «العقل الكلي» أم الإنسان المجرد، أم الفرد الإنساني، ذكراً وأنثى، والجماعة والمجتمع في مكان معين وعصر معين. والثاني هو التباس معنى الموضوع والاختلاف في تحديده، هل هو العالم الموضوعي، الطبيعي والاجتماعي والإنساني القائم بتمامه خارج الذات، أم هو تصور الذات نفسها عن هذا العالم، والثالث هو طابع العلاقة بين الذات والموضوع، أو بين العقل ومعقوله أو معقولاته.
وإذ نقد العظم «وحدة الذات والموضوع»، عند هيغل، فإنه لم ينقد المبدأ، على ما أظن، بل نقد رؤية هيغل للذات، بما هي الفكر المجرد أو العقل المطلق أو الروح المطلق، ونقد رؤيته للموضوع، بما هو العالم الذي يخلقه العقل من ذاته، أي ما سماه ماركس «القشرة الصوفية التي تغلف ديالكتيك هيغل».
من المؤكد أن كل تحديد لهذه المصادر يستند إلى كوسمولوجيا معينة أو رؤية عامة لنشأة الكون ووجود الإنسان، الذي «حارت البرية فيه»، ويؤسس لنسق فكري وبنية معرفية. هذه الرؤية «النشكونية» إما أن تكون رؤية ثابتة، أسطورية أو دينية، على ما بينهما من اتصال، يجري تحيينها بطقوس بهيجة وإعادة إنتاجها مرة تلو مرة، وإما أن تكون رؤية علمية تتغير وفقاً لتطور العلم، كالكوسمولوجيا الذرية البسيطة والكوسمولوجيا النيوتونية والرؤية التي تؤسسها نسبية آينشتين والفيزياء الكمومية.
هنا تتجلى أهمية فكر صادق جلال العظم وكيفية تفكيره، أي في تحديده الواضح للذات على أنها الإنسان الحي، والناس الأحياء، في المجتمع، هنا والآن، (في كل عصر)، الذين يفكرون ويعملون، وينتجون أشكال وجودهم بأنفسهم، وتحديده الواضح للموضوع على أنه العالم الطبيعي والاجتماعي والإنساني القائم بتمامه خارج الذات، التي هي جزء من هذا العالم وأعلى أشكال تطوره، وبمقدورها إنتاج تصور كلي عنه، وتصور تفصيلي عن أي جزء من أجزائه ومعرفته معرفة علمية دقيقة، وأخيراً من تحديده للعلاقة بين الذات والموضوع على أنها علاقة ديالكتيكية، وهذه أكثر من كونها علاقة «تناقضية» بالمعنى البسيط الدارج، الذي يفضي إلى العدمية، وأكثر من كونها تفاعلية أو تبادلية، لأنها علاقة سلب لحدّي التعارض أو التناقض معاً، ينتج منه – أي من السلب – إيجاب جديد، ليس أياً من الحدين المتعارضين. يتوقف الأمر على فهم معنى السلب (ذي السمعة السيئة عندنا).
لعل من أهم ميزات العظم في إنتاجه الفكري وتعليمه ومحاضراته تفنيد الكوسمولوجيا الدينية، بنواتها الأسطورية، وتجلياتها في ثقافتنا السائدة اليوم، أعني أسطورة الخلق التوراتية وفكرة الخليقة، اللتين تثويان في أساس الرعوية وتأليه المستبدين كافة، ومعارضتها بمبادئ كوسمولوجيا القرن العشرين، التي تنسجها منجزات العلوم الأحدث، إذ بدون تفنيد هاتين الأسطورة والفكرة وبدون نقد «ذهنية التحريم» والتكفير (والتخوين) لا نصل إلى الفرد الإنساني الحر، بما هو نموذج كامل للنوع الإنساني، ولا نصل إلى المجتمع المدني، الذي هو من إنتاج ذاته، ولا نصل إلى المواطن، في دولة سياسية حديثة، هي «إنسان مُمَوْضَع» و«تحديد ذاتي للشعب»، كما وصفها ماركس. وهذا في أوضاعنا، لا يقل أهمية وثورية عن تفنيد المادية الميكانيكية علمياً، وهذه للأسف ليست من شواغل ثقافتنا بعد. حتى تعليمنا الجامعي لا يزال يتأرجح بين كوسمولوجيا دينية وكوسمولوجيا ميكانيكية. فإن تفنيد الرؤية العامة للكون والمجتمع والإنسان هو تفنيد لبنية معرفية صادّة للعلم أو نظام معرفي لا يزال حبيس مسبقاته وثوابته ويقينياته، وتفنيد لوعي خرافي وأسطوري يؤجج حميّة الرعاع وجمهور «المثقفين» لدى ما يسمونه المسّ بالثوابت والمقدسات. لنقل، ولو قبل الأوان، إن دفاع العظم عن المادية دفاع عن العلم وتاريخيته، وعن المعرفة العلمية والرؤية العلمية للعالم.
العقل نشاط ذاتي للأفراد الأصحاء، إناثاً وذكوراً، ذو خصائص نوعية (= إنسانية) عامة، على اعتبار الفرد هي أو هو النموذج الكامل للنوع الإنساني؛ هذه الخصائص هي مناط كونية العقل وموضوعيته المحمولتين على التبادل والتواصل. فلا كونية بلا فردية، ولا موضوعية بلا ذاتية. بهذا نتجنب العقل المجرد المطلق والمفارق المؤسس للقطعية واليقينية معرفياً وللاستبداد اجتماعياً وسياسياً.
فلو نظرنا في العقل من زاوية التموضع والاغتراب، وتساءلنا: ما الذي يتموضع، في العالم الفيزيقي والأخلاقي؟ لوجدنا الجواب واضحاً، عند ماركس، بأنه الخصائص الإنسانية والنشاط الإنساني أو الفاعلية النوعية. فإن ماركس لم يتحدث عن عقل مجرد أو مطلق وإنسان مثالي، بل تحدث عن الإنسان الواقعي، عن الفرد الإنساني في خضم النشاط والتفاعل الاجتماعي، وفي خضم عملية الإنتاج الاجتماعي، أو عن «الناس، كما هم في الواقع، كائنات منفعلة متلقية متكيفة مفكرة واعية فاعلة ومحوِّلة وصانعة مندفعة مجربة ومكافحة…» (العظم، 1991، 174).
العقل إذاً ممارسة خلاقة، تغير أشكال الطبيعة وأشكال الوجود الاجتماعي، وتتغير بتغيرها. هذا هو الطابع التاريخي للعقل والمحتوى العقلي للتاريخ، وقد بَسَطه العظم على أحسن وجه في مقاربته موضوعي الاغتراب والممارسة (البراكسيس)، وفي نقده للميتافيزيقا وفلسفة الذات. ولعل أهم ما في «دفاع» العظم عن المادية والتاريخ، أنه ممارسة فكرية خلاقة بالفعل، متحررة من سلطة النص الماركسي وغير الماركسي، موضوعها تاريخية الفلسفة ونصوصها أو لا تاريخيتها. فهو يرى أن الماركسية استجرت ردود فعل فكرية وفلسفية وما زالت تستجر، بمستوى ردود الفعل التي أثارتها في زمانها كل من الكوبرنيكية والمادية الذرية والميكانيكية والداروينية. ولا تتميز الماركسية على هذا الصعيد بأي شيء فريد يخصها دون غيرها، إنها استمرار لتقليد علمي ثوري تحرري طويل وعريق وتتويج له في الوقت ذاته في حقبتنا الحاضرة. علينا أن نؤكد هذه النقطة حتى لا نفقد ذاكرتنا التاريخية وحتى لا تفقد الماركسية عمقها التاريخي (م. ن. 166).
ما دام العقل نشاطاً نوعياً للفرد الإنساني، زيد أو هند، أو عملية تعقُّل ديناميكية وتفاعلية، مركبة ومعقدة، فإنه لا يتعرف بذاته، بصفته اسماً يدل على مسمى، ومفهوماً يرمز، بل يتعرف بمنتجاته الفكرية والعلمية والتقنية والعملية والأدبية والفنية وطريقة إنتاجها، ويمكن القول إنه تفكير وتدبير، أو معرفة وعمل. وهذا لا يعني أنه لا يمكن مقاربته بمفاهيم نيروبيولوجية، على أنه «نشاط الدماغ»، ولكن هذا غير كاف، لأنه يهمل تضافر جميع قوى الجسد، لكي لا نقول قوى النفس، في عملية التفكير والتعقل، ويهمل أثر البيئة والظروف الموضوعية المتغيرة، علاوة على طبيعة مواضيع الفعل والفاعلية.
في هذا الصدد، يلفتنا قول العظم: «ليس لصحة (أحكام العقل ومقارباته) أو «لصحة القوانين العلمية (التي يستنبطها) أو لصدق نظرياته أو لسلامة مناهجه أو لعملية تعليلاته علاقة ببورجوازيته أو طبقيته أو ما شابه ذلك من الكلام المبتذل وغير المسؤول» (م. ن. 53). إذا كان الأمر كذلك، فمن البديهي أن منجزات العقل لا تتعلق بعرقيته أو قوميته أو قارِّيته.
في عقل التاريخ
يرى العظم أن تواريخ الفلسفة المهمة، التي وضعها أمثال فيكتور كوزان، فيشر، أوبرفيك، رينوفييه، فيندلباند، فولر، ويوسف كرم، تفتقر إلى التاريخ؛ إذ يقدم كل منها تاريخ الفلسفة على أنه تعاقب زمني لسلسلة من الأنساق الفلسفية، فيبدو تاريخ الفلسفة، كالتاريخ العام، بالمعنى العادي، على أنه من صنع أبطال الفلسفة وفرسانها (العظم 1991، ص 19).
على هذه القاعدة النقدية يمكن استجلاء العلاقة بين العقل والتاريخ، في فكر العظم، على اعتبار العقل فعلَ تعقُّلٍ للتاريخ، بما هو صيرورة الكون وصيرورة الكائن، أولاً (كل كائن ناتج وصائر، مادياً كان الكائن أم لا مادياً). وبما هو علم جميع العلوم، كما وصفه ماركس ثانياً. فلا سبيل إلى فصل العقل عن التاريخ، إلا إذا كان الأخير خطاباً أيديولوجياً أو سياسياً، يتصادى مع «قوة الأسد ومكر الثعلب»، كالخطاب التاريخي – السياسي للقوميين والإسلاميين، وليس من التاريخ في شيء.
يتركز نقد العظم لتواريخ الفلسفة على عدم اهتمامها الجدي بالبنية الاجتماعية والفكرية والثقافية التي نشأ فيها هذا النسق الفلسفي أو ذاك، أو بالبحث عن مصادر تاريخية فاعلة ومؤثرة خارج النصوص الفلسفية المعروفة. وهذا يعني، بصورة أساسية أن موضوع الفلسفة هو الإنسان. ولكن ما هو الإنسان، الذي لا يجوز أن يكون موضوعاً إلا في هذه الحال، أي لا يجوز أن يكون موضوعاً إلا لذاته؟ الإنسان، كما عرفه ماركس، هو «عالم الإنسان»، أي المجتمع والدولة، وليس في هذا العالم ما هو جذري سوى الإنسان ذاته.
فتاريخ الفلسفة الذي يعرض النزاع بين أفلاطون والسفسطائيين في موضوع العدالة أو غيره، أو بين القدرية والجبرية، في العصر الأموي، على أنه مجرد نزاع بين أفكار أو بين مشكلات نصية ولاهوتية، يعبر عن ميل المؤرخين إلى فصل الفلسفة عن التعارضات الاجتماعية، وفصل الفكر عن الواقع بوجه عام. هذا الميل ليس ميلاً فردياً أو هوى في رأس المؤرخ، بل نتاج بنية اجتماعية وثقافية تناقضية، وإلا لما كانت هناك أنساق فلسفية متزامنة ومختلفة ومتعارضة.
نقع على أحد معاني التاريخ (المعقول) والعقل (التاريخي)، عند العظم في مطلع كتابه الشهير: «دفاعاً عن المادية والتاريخ»، إذ يفرق بوضوح بين ماضي الفلسفة وتاريخها، ويشير إلى أن تاريخ الفلسفة هو «كيفية تولُّد الأنساق الفلسفية» (العظم 1990، ص19)، لا مجرد تعاقبها، ولا مجرد ماضيها وتتالي عبقريات منتجيها. فسؤال التاريخ، وفق هذه الحيثية، هو سؤال الكيفية، التي تتضمن السببية، لكن السببية (البسيطة) لا تستنفدها: كيف حدث ما حدث؟ وكيف ينشأ ما ينشأ؟ وكيف يتشكَّل الوجود، انطلاقاً من خصائص الموجود وشروط وجوده، أو إمكان وجوده؟ من هنا نستدل استدلالاً على أحد معاني العقل، على نحو ما عرَّفناه، فالعقل ليس مجموع أحكامه، بل كيفية إنتاج هذه الأحكام، في مكان وزمان محددين وشروط طبيعية واجتماعية وإنسانية محددة. الأحكام تتغير بتغير الظروف والمعطيات وتقدم المعرفة. ومن ثم، فإن العقل ليس «نسق المقولات»، بل هو محتوى العلاقات والروابط، (المحتوى المثالي أو الواقعي)، الذي يجعل من المقولات نسقاً أو منظومة، كالمنظومة الهيغلية أو الماركسية، على سبيل المثال.
سؤال التاريخ المشار إليه هو نفسه سؤال العقل، أي «كيفية التفكير والإدراك والتمثُّل والتقدير والعمل». هذا لا يعني إطلاقاً أن العقل هو التاريخ، والتاريخ هو العقل، بل يمكن أن يعني أن عقل التاريخ هو تاريخ العقل. فإن كيفية إنتاج الأحكام، أحكام الواقع وأحكام القيمة، وكيفية إنتاج الأنساق، محكومة كلها بالبنية الاجتماعية والفكرية والثقافية التي تُنتَج فيها، من جهة، وبطبيعة المواضيع التي يُحكَم فيها من الجهة المقابلة. «كل حاكم محكوم بما يحكُم فيه» أو له أو عليه. غير أن الطريقة أو المنهج ليست وليس الطريق الملكية إلى الحقيقة، التي لا تشوبها شائبة؛ لأن المنهج ليس منطق الموضوع الحاكم على الذات فقط، لو كان كذلك لتشابهت أعمال العلماء والفلاسفة والباحثين، بل هو منطق الذات الناظرة في الموضوع، من موقع معين وزاوية نظر معينة، في شروط معينة، لغاية معينة، أيضاً. لذلك لا يمكن الحديث عن غائية التاريخ، الذي لا غاية له سوى غايات من يصنعونه، ومن يتأولون وقائعه.
المعنى الثاني للتاريخ والعقل متواشجين نقع عليه أيضاً في موقف العظم مما سماه «المنظور التاريخي الحقيقي» عند هيغل الذي كان يعتبر «التعاليم الفلسفية لعصر ما هي روح ذلك العصر». فالفلسفة هي زمكانها معقولاً في الفكر. ولكن الروح عند العظم، وهي اسم آخر للعقل، لا تستمد فرادتها من كونها جوهراً بسيطاً يحدد طبيعة العصر، بل من تعقيد البنية الكلية التي أفرزت تلك الروح، ومن الخصوصيات المميزة التي اكتسبتها هذه البنية في أثناء تشكلها التاريخي. (م. ن. ص 30). يأخذنا هذا مباشرة إلى الفكر اللاهوتي، الذي إما أنه لا يزال يعيش في عصر غير عصره، وإما أن المجتمع الذي يحتضنه ماضٍ ملقى على هامش العصر أو في فجواته، ويأخذنا من ثم، إلى ضرورة «نقد الفكر الديني» على نحو ما فعل العظم في أواخر ستينات القرن الماضي.
والمعنى الثالث للعقل يمكن أن نقف عليه من خلال تفريق العظم بين العلم والأيديولوجيا، على اعتبار الأخيرة وعياً زائفاً (36). مرة أخرى يتجادل العقل والتاريخ في نقده لتاريخ الفلسفة، وتاريخ العلوم أيضاً، على أنهما تسجيل لعبقريات فردية متتالية «تبحث على مستوى النظر المحض عن حقيقة الظواهر… بتجرد مطلق عن أي هم دنيوي». لعل السبب الأعمق لمثل هذا التوجه هو فصل الحياة الفردية الخاصة، للعالم أو الفيلسوف، عن الحياة النوعية العامة، واعتبار العبقرية والإبداع نوعاً من الإلهام، لا نتاج العلاقة الجدلية بين الحياة الفردية والحياة النوعية.
هذه العلاقة وحدها تنصف الفاعلات والفاعلين والمبدعات والمبدعين، وتبرز خصائصهن وخصائصهم الفردية، وتموضع الفاعلية والإبداع الفرديين في الحياة الاجتماعية والإنسانية، على أنهما من إنتاجها، ومن عوامل نموها وتطورها، ولا سيما بعد اندماج العلم والعمل، وتغير طبيعة العمل وطبيعة الطبقة العاملة وشروط كفايتها في الصناعات الأحدث، وتحول المعرفة إلى قوة إنتاج رائدة، إذ صرنا نتحدث عن اقتصاد المعرفة وتخليق المواد وتقنيات النانو وثورة المعلومات والاتصالات والآلات الذكية والهندسة الوراثية أو التعديل الجيني … «فإن تحول الرأسمالية الصاعدة إلى النمط الإنتاجي الأكثر قوة وسيطرة في أوروبا الغربية (منذ) القرن الخامس عشر اقترن عضوياً بتحول الطرائق الرياضية والتجريبية في المعرفة الطبيعية إلى المنهج الأكثر قوة وهيمنة في تحصيل المعرفة وتفسير الظواهر وحل مشكلات الإنتاج والتقنية علمياً»، فلا يمكن فصل الإبداعات العلمية والتقنية عن هذه السيرورة. (39).
تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة هو تاريخ أسئلتهما، لا مجرد تاريخ إجاباتهما، فالتوقف عند الإجابات وحفظها واعتبارها حقائق ناجزة ونهائية، وإهمال الأسئلة لا تفضي إلى تقدم. ومن ثم، فإن العقل هنا هو العقل المتسائل والنافي أو الناقد، في آن معاً. المنهج التاريخي عند العظم لا يغلق الأبواب في وجه أي نوع من أنواع الدراسات الفلسفية العلمية، التي تستخدم مناهج غير تاريخية… بل إنه لا يغتني ويرتقي إلا بفضل هذه الدراسات ومثل هذا الإنتاج العلمي، كما أنه يتطلبها ويفترض إنجازها على مستوى رفيع من الدقة والشمول وإلا عجز عن استكمال عمله التفسيري بفاعلية ونجاح. إذاً، للتاريخ العام، كما لتاريخ الفلسفة أو العلم… قيمة تفسيرية، أو وظيفة تفسيرية، تقيم الحد على الخطابات الأيديولوجية والسياسية – التاريخية، وتمكن الفيلسوف والباحث من الكشف عن زيفها وغاياتها الحصرية.
في تنسيب العقل
لعل رؤية العظم للتاريخ على أنه صيرورة موضوعية، ونظرته إلى الفلسفة على أنها مظهر من مظاهر روح عصرها، وقوله: «ليس لصحة قوانين العلم الحديث… « علاقة ببورجوازيته أو طبقيته، لعل هذه تذهب مباشرة إلى رفض تنسيب العقل، وتبين أن العقل أو عملية التعقل هو أو هي عملية تجذر في الوجود، تذويت للطبيعة وأنسنة للذات، وانتماء جذري إلى عالم الإنسان، هنا والآن، على اعتبار الـ «هنا» و«الآن» وجهين متلازمين للوجود الفعلي، وتبين بجلاء أن مقولات العقل العربي والعقل الغربي .. مقولات أيديولوجية، تفاضلية وعنصرية، تفصل «العقل» أو الفكر عن الشروط التاريخية التي تشكله، فتدين الشعوب المتأخرة بدلاً من نقد الشروط التي جعلتها كذلك، وتحكم عليها بالبوار، على نحو ما فعل الاستشراق، الذي جعل من الثقافة الغربية قيمة معيارية لا تقبل الاختلاف، ولعلها تحذف «الشرقيين» المختلفين من دائرة الكائنات العاقلة والأخلاقية، حين تعرفهم جهوياً أو عرقياً أو دينياً. بهذا المعنى يلتبس العقل واللاعقل في كل زمان ومكان، ما يترك إمكانية الانتكاس إلى اللاعقل مفتوحة دوماً، على نحو ما نلاحظ اليوم، في غير مكان من العالم. الفلسفة معنية بالدرجة الأولى بكشف أسباب هذا الالتباس وعوامله. وهذا بعض مما قام به العظم، حين كشف مظاهر اللاعقل في ثقافة المجتمع وعلاقاته ومؤسساته.
في ضوء هذه الحيثية ينكشف المعنى الأبدأ والأشمل للعقل، بصفته نقداً يثبت وينفي، على نحو ما هو متجذر في جميع اللغات، التي يمكن قسمة أي منها بلا تعسف إلى إثبات ونفي أو إيجاب وسلب، ليسا ضدين متقابلين، بل وجهان لحقيقة واحدة، لأن كل تعيُّن هو سلب أو نفي (اسبينوزا) وكل سلب هو تعيُّن أو تموضع (هيغل وماركس). «فالميل العام (للمعرفة العلمية) وتطور العلم الحديث هو بالتأكيد باتجاه العمل النقدي الدائم للتخلص من الاختلاطات الأيديولوجية المتسربة إليهما عفوياَ أو المقحمة عليهما عمداً» (م. ن. 36)
من أبرز ما في رؤية العظم للعلاقة بين العقل والتاريخ اقتران الفلسفة الحديثة بالعلم الحديث، وهذا الاقتران أحد معالم الحداثة؛ منذ بدايات النهضة تحرر العلم من اللاهوت، فكف عن كونه عذراء منذورة للآلهة، وفي الوقت نفسه تحررت السياسة والفلسفة، وأُرسيت أسس فلسفة مدنية تعتبر الطبيعة مصدراً وحيداً للحقيقة والمجتمع مصدراً وحيداً للقيم. وتؤكد الطبيعة الدنيوية والبشرية للسلطة السياسية والمصدر التعاقدي لسلطانها. ورفعت من شأن البيئي أو الإيكولوكي، بالمعنى الواسع، على حساب البيولوجي في تكوين الإنسان وتقرير مصائر الأفراد وتحديد مكانتهم ومستقبلهم وامتيازاتهم. (راجع/ي، م. ن. 47)، فقد صار يُنظَر إلى الفرد الإنساني على أنه منظومة إيكولوجية، ضمن منظومات أوسع فأوسع، يتأثر بها، بمقدار ما تسمح به طبيعته وطبيعة كل منها، ويؤثر فيها بالمعيار ذاته.
——————————–
جاد الكريم الجباعي