رجل أربعيني العمر, يحيا مع روتين الحياة.وجهه يشبه وجه مدينة مهجورة منسية, تلوّن وجهه بالسُمرة نبتت لحيته بشكل عشوائي واختلط بها قليل من بياض السنوات .مسالم مع الجميع و المجتمع. ليست لديه أي مشكلة مع الحياة ولا المجتمع ولا العمل.يحيا حياة عادية جدا. كل بداية أسبوع يذهب إلى عمله في مسقط، ويرجع نهاية الأسبوع يحمل أشواقه إلى أسرته وقريته, أب لست بنات. يعمل فرّاشا في وحدة عسكرية. براتب زهيد . ما يُميز هذا الرجل انضباطه وابتسامته. طوال الوقت في العمل يتحرك لا يجلس يحمل أوراقا, ينسخ قرارات عسكرية،يجهز قهوة للضباط وأصحاب النجوم المتعددة. يسكن غرفة صغيرة داخل المعسكر. ينام مبكرا كل يوم. يستيقظ قبل الكل . يعدُّ القهوة التي يحبُّ كل الضباط أن يشربوها. خمسة عشر عاما مرّت وهو في نفس العمل ونفس الروتين.تتغير وجوه، نجوم ترتفع ونجوم تنطفئ. وهذا الرجل يصل العمل قبل الكل ويخرج بعد الكل . بالإضافة إلى تجهيز القهوة والشاي ونسخ القرارات والأوراق، يعتني هذا الرجل بالنخيل وأشجار الليمون والمانجو المحيطة بالمعسكر.. يحبُّ كثيرا الأشجار يهذّبها كل فترة.
«عمر يمرّ وعمر يمضي وأنا وأنتي هنا. ونجوم تعلق ونجوم تحلق وأنا وأنتي هنا «.تمتم بهذه الجملة وهو يتأمل أطراف النخيل وهي صاعدة إلى السماء ..
هكذا مرّت حياة هذا الرجل في هذه المرحلة والعجيب أنه لسنوات طويلة يلبس مصَراً بنّي اللون وله أطراف بيضاء متدلية.وكلما تمزّق مصرّاًَ يشتري جديدا بنفس القيمة ونفس اللون . ذات يوم من نهاية أسبوع ناداه مسوؤله بالعمل وأهداه مصر أحمر اللون. ففرحَ فرحاً شديدا ليس بالمصر فقط.بل أنه ظنَّ في نفسه أن هذه الهدية بداية الخير القادم وفكّر كثيراً بالترقية في العمل والتي انتظرها كثيرا ويئس من أن تأتي وتيقّن أن الزمنَ والعسكر قد نسوه.
_ «صحيح أنني ما عندي شهادة ولا واسطة لكن لدي خبرة في العمل، خبرة عمر» .
في نهاية الدوام كوّمَ ملابسه في كيس أسود ولبس مصره الجديد بكل عفوية طواه على رأسه لفه لفتين وفي الثالثة اكتمل كل شيء.كم سعيد هو بهذه الهدية لأول مرة منذ خمس عشرة عاما يحصل على هدية.
« إذا هذه بداية المطر… أكيد الخير قادم.
كعادته الروتينية يوم الأربعاء يخرج بعد الساعة الحادية عشرة صباحا يتوقف عند محطة الوقود يُعبئ سيارته القديمة بنزينا يشتري لأولاده بسكويتا وبطاطس وعصائر وينطلق. هذه المرة ليست ككل المرات السابقة
هذه المرة سعيد بالمصر الجديد، يأخذ لزوجته هديه احتفاء بالهدية. ينطلق بسيارته . يدندن بصوت مرتفع يهز رأسه طربا وفرحا وجنونا . ويسرح في أحلام كبيرة.
«سأبني بيتاً واسعاً سأُغير سيارتي وربما أتزوج الثانية .ويرزقنا الله بولد.وووو الترقية قااااااااااااااادمة.
مع الأحلام قطع نصف المسافة لم يشعر بطول الطريق . أخذت السيارة كذلك تميل في الشارع . يسمع صوت زمرة سيارة خلفه فيرفع رأسه للمرآة الأمامية بلمحة سريعة يلمح شخصا يظهر في المرآة فيرتعب فيضغط فرامل السيارة وكاد أن ينقلب لولا أنه كعادته لا يسرع يقف السيارة على جانب الطريق. يبسمل ويحوقل.ينزل من السيارة يفتح الباب الخلفي. يبحث عن الرجل الذي رآه في المرآة.فتّش السيارة . قلّب ملابسه والأغراض فلم يجد شيئاً. يرجع لسيارته يتمتم:
__أكيد هذا الشيطان ما يريدني أفرح .
تناسى موضوع الصورة .أخذ يددن مع صوت المغني المنبعث من الإذاعة.لكن بدأت فكرة الرجل الذي رآه تقلقه جدا .
_ماذا يريد مني هذا الرجل؟
بدأ يرجع إلى أحلامه التي بدأت تكبر مع الإحساس بقرب وصول الترقية وأن هذه الهدية ربما ذكّرت الزمن والعسكر أنني أستحق الترقية.الأحلام تكبر والمسافة تقصر للوصول إلى قريته التـي رماهه الله بين جبال الحجر.بدأ يقلق يفكّر في صورة الرجل الذي يتجسس عليه.
ربما اختفى في صندوق الخلفي لسيارة.
أوقف السيارة على الرصيف. رفع عينيه بحذر إلى المرآة. وبلمحة بصر سريعة شاهد نفس الرجل.الرعب يرتفع ويكبر. ينزل من السيارة . يتجه إلى الصندوق الخلفي للسيارة وفي يده عصى غليظة.وقبل أن يفتح الصندوق خاف أن يكون أكثر من رجل في السيارة ويقتلوه .ويخسر كل مشاريعه الحُلمية.قرر أن يذهب بسرعة وفي البيت سيعالج الموضوع بطريقته الخاصة . وصل البيت ادخل سيارته كعادته في حوش البيت. لم يذهب مباشرة لزوجته. متأكد أنها في المطبخ كعادتها في هذا الوقت . ماذا سأفعل بهذا الرجل المختبئ بداخل السيارة أو ربما الرجال.ذهب لبيت جاره كي يساعده في مشكلة الرجل الذي يتجسس عليه.أخبر جاره بالقصة . فتحمّس الجار للمساعدة. أخذ البندقية من حائط (المجلس)وألقمها عدة طلقات نارية.اقتربا من صندوق السيارة . طرق الرجل صندوق السيارة بقوة وفي ظنّه أن الرجل سيخاف ويهرب أو يطلب العفو.وجاره على بعد خطوات في وضعية الاستعداد. أدخل الرجل مفتاح سيارته في صندوق السيارة الخلفي.فتحه وهو يرتعب . انفتح الصندوق الخلفي للسيارة . ولم يجدا شيئاً.أُصيب بالإحباط والخيبة.حاول ان يتهرب ويتعلل من جاره قال متلعثماً :
: يمكن هرب يوم سرت عندك أخبرك.
دخل بيته . خلع مصره الجديد ودشداشته .فكّر بالرجل الذي يراقبه.
ربما يكون سحِرا.
يمكن شخص يريد يقتلنا.
يمكن ان شخص أرسله الضابط يراقبني .
أخذ يقلب كل هذه الفرضيات والأفتراضيات ولكن لم يجد أي مبررات لأي سبب . فهو يصلي لذا السحر لا يقربه. وهو مسالم فليس لديه أعداء . ومسوؤله في العمل يحترمه ويمزح معه فلذا لماذا يراقبه.
لاحظت زوجته التغيرات على زوجها.لم يرد على أسئلتها ؟ أخذ يهذي ويفكر في الرجل الذي يراقبه.أخذ بندقيته القديمة ومصباح؟ أخذ يفتش السيارة من الكراسي الخلفية والأمامية ومن أسفل السيارة. قرر أن ينام هذه الليلة في السيارة. ويخسر متعته الأسبوعية مع زوجته. قال في نفسه ربما سيرجع هذا الكلب الغبي. في الليل.
نام نوما متقطعا قلقا.رأى كوابيس.صورة الرجل شاهدها عدة مرات.طلع الفجر ولم يطلع هذا الرجل.
أخذ قهوته الصباحية. ذهب إلى السوق كعادته صباح كل يوم خميس.كل أصحاب السوق لاحظوا في وجهه تعابير مختلفة كلامه أصبح أقل. نكاته التي كان يطلقها ماتتْ.
سيخسر كذلك الليلة الاخرى من متعة نهاية الأسبوع مع زوجته وسينام في الكراسي الخلفية للسيارة.وفي هذه الليلة وهو ينظر إلى النجوم شاهد كل شريط حياته يمرُّ رأى نفسه طفلا معذبا في بيت أبيه بعد موت أمه بمرض مزمن, شاهد نفسه في جنازة أمه يبكي وهو لا يدرك معنى الموت . تذكر جيدا زواج أبيه بعد شهور قليلة؛ وفي العرس صبَّ فناجين القهوة وفرح لفرح أبيه . تذكّر جيداً سنوات العذاب مع زوجة أبيه. فشله في الدراسة . وخروجه من المدرسة ومن القرية، وذهابه لمسقط .بحثه المتعب عن لقمة العيش.تذكّر جيداً وجه بنت خاله فاطمة، وأول ليلة معها شكا لها حزنه وعذابه وليالي الدموع والجوع . بنت خاله صارت زوجته وأم لبناته الست.مع السنوات في مسقط وحبه لبناته وعائلته نسى طفولته هذه الليلة رأى نفسه . الخوف من الرجل جعله يراجع كل مراحل حياته . فلم يجد أي عداوة مع أحد.
مرّت صباحية الجمعة في قلق من صورة الرجل الذي شاهده في المرآة.القلق الذي يعيشه منذ يومين يتحول إلى كآبة.في ظهر ذلك اليوم ذهب إلى المعلم ليعمل له « حرز». أخبره بالقصة كاملة.كتب له شيئاً في ورقة وخاطها في قطع قماش بيضاء وقال له:
خبّئها أسفل الكرسي الخلفي.
وضع قطعة القماش البيضاء أسفل الكرسي الخلفي . كوّم ملابسه ومصرّه الأحمر في كيس . قذف بها في صندوق الخلفي لسيارته.عندما حان وقت الرجوع لمسقط .ودّع زوجته وبناته الست. أدار محرك السيارة.في الطريق تحسّر لعدم إخبار زوجته بالهدية.وفي طريق العودة لم يرفع رأسه للمرآة خوفاً وقلقاً. وصل مسقط ليلاً.وفي محاولة منه لنسيان صورة الرجل .كدس جسده في سريره.راجع وهو في حالة أرق وكآبة هذه القصة التي مرّ بها.ما يزيده قلقا كلما فكر بالأمر لماذا يراقبه هذا الرجل صاحب العمامة الحمراء؟ما بين القلق والكوابيس أنقضت هذه الليلة كما مرّت الليلتان الماضيتان. في الصباح لبس مصره الأحمر.جهّز دلتين شاي ودلّة قهوة. ذهب مباشرة لمسوؤله ليخبره بقصته. كان يسرد قصته وفي وجه الضابط ضحكات مكبوتة.
ردّ الضابط : سأفكر بهذا الرجل وأقبض عليه.
خرج من مكتبه . دخل دورة المياه .نظر إلى المرآة الكبيرة، سمعوه يصرخ، عندما دخلوا عليه وجدوه مغميا عليه ساقطاً على الأرض والعمامة الحمراء ساقطة في المرحاض.
حمـــود الراشــــدي
قاص من عُمان