سنان أنطون
«أفكّر في العراق
. . .
كيف أسري وهذا الليل
كيف أقول: إني أنا؟
كيف أدخل في العراق؟»1
شاء التاريخ وعواصفه الجارفة أن يموت عدد من كبار شعراء العراق خارجه؛ في منافيهم القريبة (الجواهري “١٩٠٠-١٩٩٧”، مثلاً، والسيّاب “١٩٢٦-١٩٦٤”، والملائكة “١٩٢٣-٢٠٠٧”)، وآخرون في المنافي البعيدة (سرگون بولص “١٩٤٤-٢٠٠٧”، وأخيرًا سعدي يوسف “١٩٣٤-٢٠٢١”).
يشكّل البعد الجغرافي عن الوطن تحديًّا جديًّا للشاعر على المستوييْن الوجودي والإبداعي. وتختلف وتتراوح تبعات ذلك وآثاره على مسار الشاعر الإبداعي وخطابه الشعري، سلبًا وإيجابًا، بحسب رؤيته وذكائه ومرونته في التعامل مع جدلية الوطن- المنفى وتغيّر معانيهما وعلاقته بهما. فهناك من تضيق مساحته الإبداعية في المنفى وتتكلّس رؤيته وجملته فيقع في شراك الحنين التقليدي. وهناك من يدرّب نفسه على مراوغة وتجاوز الحنين التقليدي الاسترجاعي، بحثًا عن حنينٍ تأمّليّ يسائل مقولتي «الوطن» و«المنفى» ويخلخل معانيهما. فيشحذ البعد والزمن ذاكرته وامتداداتها، ويجعل نتاجه أكثر خصوبة وتجدّدًا. وسعدي يوسف هو مثال على هذا. نركّز على «الحنين» كحالة وثيمة، هنا، لأنه يحضر في شعره. فيصبح هذا الحنين في أحد تمظهراته، عدوًا لدودًا للشاعر. وسنعرّج أدناه على قصيدة «أيهذا الحنين، يا عدوّي.». كما يحضر الحنين كقوة ذات آثار سلبية على الذات الشعرية في أحد الحوارات الذي تحدّث فيه سعدي عن تعامله مع المنفى والاغتراب ورؤيته ومقاربته لهما قائلًا:
«أنظر إلى نفسي كشاعر مقيم في العالم. لا أشعر بأنني منفي، لقد اعتدت على أن أكون خارج بلادي وقد أصبحت هذه حياتي العادية، أشعر بأنني في مكاني أينما كنت، وأنا بحاجة لأن أشعر بأنني جزء من الناس والمحيط، وعليّ أن أقتنص الحياة اليوميّة بتفاصيلها ودقائقها. لقد عملت بجهد ضد مشاعر الحنين، ودرّبت نفسي على مقاومتها، لأن الحنين يعرقل العمل الفني. إنه يفقدك اتزانك، وعلى الفنّان أن يظلّ متزنًا».2
وقد يكون سعدي -بنظر كاتب هذه السطور- الأكثر تميّزًا وتفوقًا من بين معظم نظرائه العرب في كونيّته؛ أي في انغماسه وانغماس شعره في المكان، أي مكان، وثقافته وتاريخه وطبيعته. وكان هذا ديدنه في أي مكان حلّ فيه في ترحاله الطويل. وهذا موضوع يستحق مقاربات ودراسات تتعمق فيه. ومع كل هذا الانغماس والتآلف في الأماكن، فإن تمثّلات «الوطن» وأشباحه وكوابيسه وآلام التحديق في الهاوية التي سقط فيها ظلّت تلاحق الشاعر حتى لحظاته الأخيرة، وتصرّ على الظهور في قصائده، بالذات بعد ٢٠٠٣. وإذا كان سعدي قد نجح، إلى حد كبير، في مقارعة الحنين ولجمه، فإن الصراع مع هذا الحنين، بحد ذاته، هو ثيمة مهمّة ومؤثّرة في الكثير من قصائد الشاعر، لأنه يواصل مساءلة معنى الوطن، والمنفى، وتضبيب الحدود بين دلالاتهما.
مفردة الوطن غالبًا ما ترتبط بحمولة ومعانٍ سلبيّة. ولا شك أن ذلك يعود لتجربة الشاعر الشخصية وتاريخه في المعارضة وتعرضه للسجن.
«لمن سوف نترك تلك البلاد
البلاد التي قد عرفنا
ولم تعترف ببنوّتنا؟
أين كنّا بها، يوم كنّا بها؟
كيف يذكرها الطفل
والمهد زنزانة؟
أي معنى لتلك البلاد؟3
. . .
أي بلاد بلادنا؟
. . .
البلاد التي أوجعتنا طويلًا4
العلاقة بين الوطن وبين الذات مشوّهة، إذ يولد المرء مسجونًا (المهد زنزانة) ولا مكان له فيه (أين كنّا بها؟) ولا اعتراف بشرعية وجوده، بل هي علاقة رفض (لم تعترف ببنوّتنا). والألم هو ما يهيمن على علاقة الفرد بالوطن (البلاد التي أوجعتنا طويلًا). كأن النفي والمنفى، كحالة، يبدآن أساسًا في الوطن اللاوطن، وليسا محكومين بالجغرافيا والحدود. وإذا كانت معاني الوطن والانتماء إليه موضع تساؤل وتشكيك، فإن المنفى، هو الآخر، ليس بمنأى عن المساءلة وخلخلة المعاني. فلا تستقر معانيه ولا تستقر الذات المنفيّة فيه وإليه. بل يتفاقم الاغتراب ويبدو النفي رحلة لا تنتهي:
«المنفيون
سوف يفيقون صباحًا ما
ليروا أنهم منفيون
حتى عن معنى المنفى»5
في قصيدة أخرى نقرأ: «يصبح كل بيت قطارًا.»6 لكن إلى أين يمضي هذا القطار؟ هل هناك محطة أخيرة أم أنها رحلة أزلية في منفى المنفى لا عودة منها ولا بعدها؟ يحيلنا هذا إلى ثيمة العودة في شعر سعدي. فالذات تتعب أحيانًا من قطارات المنفى وتحلم بعودة ما، متخيّلة:
«هذه الأرض، أرضُنا
لم نمتّع بينابيعها، ولم نمش فيها مرحًا
أرضنا التي مددنا غصنًا نحوها
لنلمسها، حتى أتانا السيف
الذي يبتر الكفّ، وأغصانها، وأولى الأغاني
. . .
فاتركاني، يا صاحبيّ
اتركاني
ولأعد نحوها
وإن بترت كفّي، وأغصانها، وأولى الأغاني
ليس لي غيرها
وليس لها غيري
فيا صاحبيّ، قودا حصاني وامضيا،
إنني عرفت مكاني
هو مثواي
جُنّتي
ومآب لن أرى فيه جنّتي
فاتركاني وامضيا
وانسيا رسوم المكان
هذه الأرض، أرضنا»7
بالرغم من سلبية علاقة الذات بالأرض، والعنف الجسدي والمعنوي الذي تتعرض له: «وإن بترت كفي، وأغصانها، وأولى الأغاني» والنفي (بالمعنييْن) فإنها تظل محطة العودة (مآب) المتخيّلة. ليست الذات في هذه القصيدة معنيّة بمواصلة الرحيل بعد الاستيقاف، بل بالترجّل والبقاء (قودا حصاني وامضيا) والعودة إلى الأرض (إنني عرفت مكاني). وتنتهي القصيدة بالتوكيد الذي بدأت به «هذه الأرض أرضنا». لكن اللافت هو أن العودة هنا ليست عودة لمواصلة حياة ووجود سابقين بصورة طبيعيّة، بل عودة منقوصة بل تكاد تكون عودة إلى المثوى الأخير، أي موتًا. فهي لاعودة!
سنجد هذه العودة المنقوصة والمجهضة، التي تصبح لاعودة في عدد من قصائد الشاعر. على سبيل المثال، في قصيدة مهداة إلى الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، نقرأ:
«ستظل الضواحي الغريبة أوطاننا
سنظلّ بها،
فهي تعرفنا أولًا
ثمّ أنا نكون بها، مثلما سمك الحوض في الحوض:
حانتنا
موقف الحافلة
وسلالا مترو الضواحي
وشقّة HLM
وكل تفاصيل يوم بلا مفصل
**
حسنًا،
فلنقل إننا العائدون
إلى أرض أوطاننا
في الضواحي. . .
في الضواحي البعيدة عن أرض أوطاننا»8
المفارقة هنا أن الضواحي «الغريبة» أصبحت أوطانًا. هناك احتفاء بطبوغرافية الحياة اليوميّة وتأكيد على الانتماء إلى المحيط وتفاصيله الأليفة. لكن الذات الجمعية ليست مثل الأسماك في محيطها الطبيعي، بل «مثلما سمك الحوض في الحوض». إذًا هو محيط اصطناعي، فيه متطلبات العيش، لكنه، في آخر المطاف، ليس الحيز الطبيعي. في المقطع التالي يتحايل الشاعر ويوهمنا بأن الضواحي هي الأوطان للعائدين بإيقاع طبيعي إلى بيوتهم و«إننا العائدون إلى أرض أوطاننا/في الضواحي.» لكن السطر الأخير، يقلب الأمور رأسًا على عقب، حين نقرأ: «في الضواحي البعيدة عن أرض أوطاننا.» وهو بذلك يجهض العودة التي بدت ممكنة قبل قليل ويضبب الحدود، فأرض أوطاننا. . . بعيدة عن أرض أوطاننا!
ذكرنا في بداية المقالة صورة الحنين كعدوّ. وهي تتجسّد بشكل جميل في قصيدة «أيهذا الحنين، يا عدوّي» ومنها:
«لي ثلاثونَ عامًا معكْ
نلتقي مثل لصّينِ في رحلةٍ لم يُـلِـمّـا بكلِ تفاصيلها؛
. . .
وإذْ بي أراكَ
تقاسمني الخبزَ والجبنَ!
كيفَ انتهيتَ إليَّ؟
وكيف انقضضْتَ عليَّ كما يفعلُ الصقرُ؟
فاسمعْ :
أنا لم أقطعْ عشراتِ الآلافِ من الأميالِ
ولم أطَّـوَّفْ في عشراتِ البلدانِ
ولم أتعرَّفْ آلافَ الأغصانِ
لكي تسلبني أنتَ … الكنــزَ
وتحبسني في زاويةٍ
فاترك المقعدَ الآنَ ، واهبطْ
قطاري سيســرعُ بي بعد هذي المحطةِ؛
فاهبِـطْ
ودعنيَ أمضي إلى حيثُ لن يتوقّفَ يومًا قطارْ»
يتمثل الحنين الذي يصارعه الشاعر منذ ثلاثة عقود، بشرًا سويًا يلاحقه ويصر على أن يرافقه كظله. فلعله سعدي يوسف، الآخر، الذي لا يملك إلا أن يحنّ والذي يخفق أحيانًا في تطبيق قواعد مقاومة الحنين الصارمة التي وضعها لنفسه؟ فمهما حاول أن يصارع ذاته التي تحنّ، فإن سعدي يوسف الآخر يمكن أن يظهر في أي لحظة، لكنه سينهره ويطرده لكي يواصل رحلته في أعماق المنفى، وهي ليست رحلة عادية غائية، بل هي رحلة أبدية لن تتوقف إلا بانتفاء القطارات، رحلة لا ينهيها إلا الموت.
إن علاقة الشاعر المنفي بفكرة الوطن بالغة التعقيد أصلًا. ويزيدها تعقيدًا وصعوبة الخراب الذي أحاق بالبلاد، بعد الدكتاتورية والحروب وسقوط البلاد من هاوية إلى أخرى، كيف يقارب الشاعر، أو الفنان، البلاد وصورتها؟ هل يمكن له أن يبصرها أو يتخيّلها؟ استهللت المقال بأبيات يتساءل فيها سعدي عن العودة إلى عراق ما:
«أفكّر في العراق
كيف أسري وهذا الليل
كيف أقول: إني أنا؟
كيف أدخل في العراق؟»9
قصيدة «تنويع صعب»10 نص يغري باستكشاف هذه المعضلة: أي محاولة إعادة تشكيل صورة الوطن المتفتت من بعيد. هناك تناص جميل ومؤلم مع مقصورة الجواهري الشهيرة، التي نظمت عام ١٩٤٨، ومع بيتين منها بالذات: «سلامٌ على هضبات العراق/ وشطّيه والجرف والمنحنى/على النخل ذي السعفات الطوال/على سيّد الشجر المقتنى.»11
تنويعٌ صعب
سلام على هضبات العراق
وشطّيه والجرف والمنحنى
على النخل. . .
والقرية الإنجليزية الآن صارت تجرجر، هونًا، سحائبها
والمساء ادّنى
فهي تدفأ، كالقط، في نومها
وتذود الكوابيس عن شجر أغرقته البحيرات
يأتي المساء بطيئًا
ومنتظمًا (سوف تحصي ثوانيه مرّة)
هل ستغمض عينيك؟
عند نهاية ذاك الممرّ
ومن مرتبى النافذة
نهضت دوحة الجوز
يأتي المساء
بطيئًا
ويزحف حتى يهدهد جفنيك:
هل تبصر النخلة المستحيلة؟
يستهل سعدي قصيدته بأبيات الجواهري التي تحيي البلاد وتضاريسها وواحد من رموزها الأيقونية، النخل، لكن صدر البيت الثاني يُقْطَع، وتنقلنا القصيدة إلى مكان آخر وتضاريس مختلفة: القرية الإنكليزية، وهي منتبذ الشاعر في منفاه. ويتساءل الشاعر في نهاية المقطع: «هل تبصر النخلة المستحيلة؟» النقصان يعتري المشهد، فلا يمكن للشاعر الآن أن يمر ببصره على كل ما مر عليه الجواهري. تختفي «السعفات الطوال» والنخلة هي الأخرى على وشك أن تختفي. وهذا ما يحدث في بداية المقطع التالي الذي يكرر أبيات الجواهري، لكنها تقطع بعد «المنحنى» وتختفي النخلة:
سلامٌ على هضبات العراق
وشطّيه والجرف والمنحنى
هل كنت أدري أن وجهي، بعدك، للطرقات؟
وبعدها يختفي الشطّان والجرف والمنحنى، وتحل محلهما مشاهد العنف والخراب الذي يعمّ البلاد والذي يثير غضب الشاعر12:
وسلامٌ على هضبات العراق
الذبيحة في العيد، بغداد في العيد
. . . .
وفي نهاية القصيدة تختفي تضاريس العراق ولا شيء بعد «سلامٌ على» إلا ثلاث نقاط وبياض الصفحة:
سلامٌ على . . .
لم تعد النخلة وحدها مستحيلة، بل كل ما كان يراه الجواهري من تضاريس العراق. هل يرفض الشاعر أن ينظر إلى العراق؟ أم أن العراق الذي كان يعرفه اندثر واختفى وانطمس؟ كيف يقارب الشاعر بلادًا استوطنها الخراب؟ وماذا سيكون مصيرها وشكلها؟ هذه هي الأسئلة التي ظلّت تعاود سعدي وأجاب عليها بكل ما أوتي من شعر.
بستان سعدي
في ١٦ شباط ٢٠٠٩ كان سعدي يوسف يوقّع الجزء السادس من «الأعمال الشعرية» في جناح منشورات الجمل في معرض الدار البيضاء للكتاب. اقتربتْ مجموعة من الفتيات في بدايات العقد الثاني. كنّ بزيّ المدرسة المتوسطة التي نظمت زيارتهن المعرض. تقدمت إحداهن وقالت لسعدي وهي تشير إلى زميلتها: «هي، أيضًا، شاعرة»، ابتسم سعدي وطلب من زميلتها أن تقترب، فترددت بخجل وقالت: «لا.. أنا مبتدئة» فقال لها سعدي: «أنا أيضًا مبتدئ.. كلنا مبتدئون».
كان الرجل قد أمضى أكثر من نصف قرن يكتب الشعر ويترجمه ويواصل العطاء والإبداع والتجدّد بلا كلل. ظلّت تلك اللحظة ومعانيها عالقة في ذاكرتي. ومن حسن حظي أنني شهدتها. لم يكن سعدي يبالغ، ولا كان يجامل تلك الفتاة. فهو ظل المبتدئ، حتى بعد أن أصبح، وبجدارة، المعلم، لأجيال من الشعراء. ظل يقارب الشعر (والحياة، وهو الذي ضبّب بل محى الحدود بينهما أكثر من غيره) كل صباح، وحيثما كان، بدهشة ونزق الطفل الذي يكتشف العالم بحواسه المتحفزّة. ويرى ما لا يُرى، أو ما لا يراه الآخرون. المغامر المتعطّش للوجود الذي يترجم كل شعاع ونأمة وحركة إلى جملة شعرية. كانت القصيدة هي الرئة التي يتنفّس بها سعدي.
***
أحبّ مقولة والاس ستيفنس عن أن الشعر صلاة وجودية. وسعدي هو خير من جسّد ذلك ببهاء وبراعة. الشعر حوار الذات الذي لا ينقطع مع الوجود ومعانيه. طقس يوميّ مقدّس للذي آمن بالشعر والذي نذر حياته وحواسه له.
***
لم يكن اللقاء الأول بسعدي يوسف في بغداد، ولا في البصرة، بل في برشلونة «بعيدًا عن السماء الأولى». في إطار احتفالية بالثقافة العراقية سنة ٢٠٠٦. في الشتات كان اللقاء والعراق تحت الاحتلال. الاحتلال الذي وقف سعدي ضدّه بشراسة وهجاه. كنت قد ترجمت له قصيدة إلى الإنگليزية ظهرت في ملحق خاص بعد احتلال بغداد في «الأهرام ويكلي» (مع قصائد ترجمتها لأدونيس ومحمود درويش ومظفر النواب) أشرفت عليه العزيزة منى أنيس وبينها وبين سعدي صداقة عميقة. كان لدينا صديق مشترك وهو الشاعر الأمريكي پيتر موني (دَرَس الشعر مع آلن غنزبرغ) الذي كان من الشعراء الذين عارضوا الغزو فأخذ يبحث عن الثقافة العراقية والشعر العراقي واهتدى إلى سعدي يوسف وتراسلا قبيل الغزو وبعده. وكان بيتر -وما زال- يعيش في ولاية ڤيرمونت، ليس بعيدًا عن كلية دارتموث التي كنت أدرّس فيها آنذاك.
يصاب المرء أحيانًا بخيبة أمل، وإحباط تتراوح درجاته حين يلتقي بالكتاب أو الشعراء الذين يحبهم. فهناك هوة، عميقة في كثير من الأحيان، بين الشخص وبين نصوصه. وهوة بين الشخصية المتخيّلة التي نرسمها كقرّاء، وبين الشخصية الواقعية. كان سعدي استثناء. وجدته بسيطًا، وطبيعيًا وشديد التواضع. لم أكن قد نشرتُ إلا رواية واحدة حين قابلته وعددا من المقالات. في أول عشاء للمشاركين في الفعالية، قال لي: تعال لنجلس على طاولة لوحدنا، بعيدًا عن الصخب، لنتحدث بالعربية. وشربنا «ريوخا» يومها. كان قد قرأ مقالتين كتبتهما عن غزو العراق (بالانكليزية). تحدّثنا عن الشعر والترجمة، عن ويتمان وريتسوس وأونغاريتي. وعن ليل العراق الطويل، طبعًا. تحدّث هو عن الـ«لا المدويّة» التي لا بد أن يقولها الشاعر.
دعا الفنان العراقي حميد المشهداني، صديق سعدي، المقيم في إسبانيا، عددًا من المشاركين إلى بيته في ظهيرة متوسطيّة رائعة. واحتدم النقاش عن أوضاع العراق ومساره السياسي. واحتد الجدال بين سعدي وبين أحد الضيوف. ولتهدئة الجو قال له أحدهم: «لا تزعل، أبو حيدر احنا ابناءك.»
فقال سعدي بهدوء: «كان عندي ابن واحد. اسمه حيدر.. ومات».
صمتنا.
وابتعد سعدي يمشي لوحده.
***
حضر سعدي إلى نيويورك في نيسان ٢٠٠٧ للاشتراك في مهرجان «أصوات العالم» الذي تنظمه مؤسسة PEN سنويًا. وجاء بيتر موني من ولاية ڤيرمونت لنلتقي ثلاثتنا. وأهدى لسعدي آلة هارمونيكا احتفظ بها وصوّرته في بيته في لندن وهو يعزف عليها فيما بعد. أخبرتُ سعدي أنني كنت قد بدأت بترجمة مختارات من دواوينه الأخيرة ففرح. لم يكن بيتر يعرف العربية لكنه كان يحب سعدي وشعره. فاقترحتُ عليه أن يكون شريكًا في مشروع الترجمة. ونشرنا المختارات (٥٠ قصيدة) تحت عنوان «أيهذا الحنين؛ يا عدوي» سنة ٢٠١٢مع مقدمة.
أحب سعدي نيويورك وكان يرغب بالعودة. في صيف ٢٠٠٧ كنت خارج المدينة أثناء شهر آب فعرضت عليه أن يسكن شقتي. أمضى آب في نيويورك وكان يذهب كل صباح إلى «واشنطن سكوير پارك» ليراقب وينصت. ويقيم صلاته الشعريّة. وكتب «قصائد نيويورك» التي تحتفل بالمدينة وعوالمها. لكنها لا تنسى العراق:
«لا تقل في خفوت: وداعًا!/لا تقل أي شيء/للبلاد التي أورثتك الجنون/البلاد التي هدمت وطنًا فوق رأسك/واستأجرت زمرة القتل/واقتلعت من حديقة بيتك معنى الغصون».
***
حين ولد سعدي يوسف سنة ١٩٣٤ كانت الدولة العراقية في ثاني سنوات استقلالها «الرسمي» عن بريطانيا. ولد الحزب الشيوعي العراقي في نفس السنة التي ولد فيها الشاعر. لعلها إشارة أولى إلى المدى الذي ستنضفر فيه حياة الشاعر، وشعره، ويرتبطان بتاريخ البلاد وأهلها. سيعيش ويعايش حقبها وتقلّباتها وأوجاعها. وسيدخل سجونها قبل أن يرحل إلى المنافي البعيدة. ويودّع، من بعيد، البلاد وحياته فيها، وبعيدًا عنها.
كُتبَ وسيُكتب الكثير عن مواقف سعدي يوسف وعمّا كتبه في العقدين الأخيرين من منشورات وهجاء سياسي. قد لا يتفق الكثير من محبيه معه حول بعض ما كتبه من آراء وأنا منهم. لقد مارس سعدي حريته في التعبير إلى أقصى الحدود، وهذا من حقه. عاش حرًا ومات حرًا في منتبذه. ومن حق الآخرين أن ينتقدوه. لكن، مهما كانت مواقفه الأخيرة إشكالية أو مرفوضة بنظر البعض، فلا يمكن إقصاء سعدي وإلغاء منجزه الشعري الهائل وما قدّمه للمكتبة العربية ولتاريخ الشعر. ليس سعدي أول ولا آخر شاعر كبير تثير مواقفه ومقولاته ضجة وغضبًا. هناك أمثلة كثيرة لشعراء كبار، شرقًا وغربًا.
ترك سعدي بستانًا كبيرًا ومعظم الذين يكتبون بمجّانية في زمن وسائل «التناحر الاجتماعي» والجهل عن صاحب البستان لا يعرفون الكثير، ولا حتى القليل، عن شعره. ولا يمتلكون، ولا يرغبون بخارطة توصلهم إلى البستان.
في إحدى زياراته إلى نيويورك، كنا جالسين في شقّتي ومعنا صلاح عواد. وذكرنا سرگون بولص ومتاعبه الصحيّة. فقال صلاح: لدي رقمه في سان فرانسيسكو. قال سعدي: فلنتصل به لنطمئن عليه! وفعلنا. كانت تلك المرة الوحيدة التي حادثت فيها سرگون. . . لنصف دقيقة.
كان سعدي قلقًا عليه وتحدّث معه بدفء وحميميّة: «شلونك بابا. . . دير بالك!».
رحل سرگون بعدها بشهرين في برلين. وها هو سعدي يشد الرحال.
سلّم عليه يا سعدي!