أرى من بعيد، الأم تدلق من الشرفة ماء بفقاعات صابونية، لتأتي طفلتها بعد ذلك تتأمل بفرح ذوبان الفقاعات في فم التراب. وفوق السطح شقيق الطفلة ينفخ في أنبوب صفير فتتطاير منه فقاعات ملونة، اقترب قليلا والطفلة تلاعب الفقاعات وتأتي الأم مرة أخرى كي تدلق جردلا آخر من ماء الصابون، والطفلة في كل مرة تتنحى عن هطول الماء على رأسها، تتطاير الفقاعات الملونة فوق رأسها المنتشي وتحاول منع وصول الفقاعات الى فم التراب.
أقترب أكثر وثمة أمنية تراودني بأن ألعب بالفقاعات، أشاهد الأم وكأنها مستاءة، تدلق جردلا ثالثا من ماء الصابون، الفقاعات تحمل بداخلها عيونا ملونة تطير بها في الجو الجاف لكنها لا تصل ناحيتي ربما لأنني لست قريبا جدا، أما الطفلة تحاول أن تغطي فم التراب بيديها الصغيرتين وتضحك ببراءة، بينما بعض الفقاعات تقبل خديها ببرودة وحنو وأخوها مستمر في إحياء المشهد بفقاعات جميلة وناعمة.
هذه المرة اتضح لي وجه الأم، طفوليا، غاضبا، صامتا ذابلا، فستانها ذو لونين غامقين وثمة لحاف يلف رقبتها بينما شعر رأسها يبدو جافا، وهي لا تحاول أن تنظر ما تحت الشرفة، فقط تظهر كوميض غاضب وتدلق ماء الصابون وتختفي في الداخل بينما طفلتها تحاول جاهدة الاحتفاظ بالفقاعات لأطول فترة ممكنة في يدها.. وفقاعة كبيرة نزلت بهدوء على كف يدها الصغير وبنفخة خفيفة من فمها الوردي طيرت الفقاعة وتحولت الى رذاذ، ماذا لو امتلأت الأرض بفقاعات صابونية ملونة.. هل سيصبح جميع الأطفال سعداء؟ وهل جميع الأمهات يدلقن ماء الصابون بغضب ؟ وهل كل طفلة تمتلك شقيقا يرسل لها فقاعات ملونة: ربما الأم تخرج وتدخل غاضبة بسبب أنها تخوض معركة نزاع مع زوجها، ربما هو جالس على كرسي أو على بساط أو سجادة يقرأ صحيفة أو يشرب قهوة وربما يساومها على أن يؤجل رحلة النزهة لأسبوع قادم.. أما هي فتغسل البيت بالماء والصابون لذلك فرأسها ثقيل بتفاصيل البيت الكثيرة والمتكررة فتتشرب الحزن والغضب والهم، إذ لا أعتقد أنها تملأ الجردل بالماء والصابون لمجرد التسلية أو تمضية الوقت أو لمجرد أنها تنفس عن نفسها، أو أنها تفعل ذلك كي تلاعب طفلتها بماء الصابون لأن هذه الوظيفة يؤديها أخوها من فوق سطح البيت.
يبدو على الطفلة الاندهاش من الذوبان السريع للفقاعات سواء في الجو الجاف أو في يدها أو في فم التراب، وقد تكونت بركة صغيرة جدا في كف يدها واستحالت البركة الى دغدغة لطيفة تضحكها. بينما هناك برك صغيرة تكونت حولها لا تحاول هي أن تقترب منها وتتنحى بقدر الامكان عن ماء الصابون الذي يهطل من فوق الشرفة بين فترة وأخرى.
أنا الآن خلف الطفلة بمسافة قليلة جدا، وهي تنتظر قدوم مجموعة أخرى من الفقاعات مثل انتظاري لها أيضا، رغبة تلح على أن أقبل الطفلة في خدها وألعب معها، وبينما كنت أتطلع فيها بحنو وشوق خرجت الأم من باب البيت وحملت طفلتها بغضب الى الداخل بعد أن حدقت في بنظرات غريبة يشربها الخوف، لم أتحمل تلك النظرات، واختفى أيضا شقيق الطفلة.
ابتعدت عن المكان دون أن التفت خلفي وربما قد خرجت الطفلة من جديد كي تلعب بالفقاعات واستمرت الأم في دلق ماء الصابون.
يحيى بن سلام المنذري ( قاص من سلطنة عمان)