إلى الشاعر محمد الأشعري الذي منح عمقا للصداقة..
من الواجب أن نعترف، احتراما لروح المعلم سقراط، بأن الفلسفة والشعر يقتسمان مصير الإنسان، ويشيران خلسة إلى قدره حيث يحيا شعريا على هذه الأرض؛ ولذلك فإنه يضل مرغما طيلة حياته على العناية بها والإنصات إلى نداء الوجود وتسمية الآلهة والأشياء التي تنتمي إلى عالم ما بعد الطبيعة, إذا كان يرغب في إقامة ممتلئة بالأفراح والسعادة.لأن الإنسان وحده منح هبة الوجود. ووضعت الأرض أمانة بين يديه. لأنه يمتلك أخطر الملكات وهي اللغة والنطق. لكن ما الذي يجعل الفلسفة والشعر يعتنيان بقدر الإنسان ومصير إقامته على الأرض. وكيف يمكن للإنسان أن لا يتيه في هذا الانتماء المزدوج, في هذا الفضاء الذي يحوم على مشاريف العدم, هل الإنسان يحيا شعريا أم أنطلوجيا أي فلسفيا فوق هذه الأرض ؟
للإجابة على هذه الأسئلة اخترنا الإصغاء إلى نداء سقراط وكانط ونيتشه وهايدغر من أجل أن نحصل على تأشيرة الدخول إلى جمهورية العباقرة والإقامة فيها ولو بشكل عابر, لأن ما يدوم يؤسسه الشعراء, ولكنه يظل دائما عابرا ومتغيرا، لأن الشعراء يسمون الآلهة وكل الأشياء الميتافيزيقية ولكنهم لا يفكرون في أي واجب, إنهم أقرب إلى براءة الأطفال الذين يجتذبهم اللعب بالكلمات والأشياء, بيد أن الفيلسوف هو الذي يسير في طريقهم حيث ينتظره التيه في متاهات تلك التأملات الشاردة. والأحلام اللذيذة باعتبارها سبيلا نحو كشوفات الروح التي تقترب من عتبة الوجود.
1- سقراط أطردت الشعراء حقا من جمهوريتك ثم أعدتهم من منفاهم؟
«إنني أصرح برأيي هذا لكم سرا إذ أنكم لن تشوا بي لدى شعراء التراجيديا (المأساة) وبقية الشعراء الذين تقوم أعمالهم على المحاكاة, فيبدو لي أن هذا النوع من الشعر يؤذي الأذهان التي تسمعه دون أن يكون لديها ترياق ضده, أعني معرفة الطبيعة الحقيقية لما يتحدث عنه هذا الشعر».(1)
لم يكن سقراط مرتبكا ومترددا على امتداد كتاب الجمهورية إلا في الكتاب العاشر الذي أراد فيه التصريح بخطر الشعر القائم على المحاكاة في جمهوريته، ولذلك نجده يختفي وراء عبارات الاحترام والتقدير والمحبة تجاه هوميروس وأتباعه, ولكن مع ذلك يقول: «إنه من الواجب أن لا نحترم إنسانا أكثر مما نحترم الحقيقة: «و ذلك على الرغم مما كنت أشعر به منذ صباي من حب واحترام لهوميروس الذي يبدو أنه كان المعلم والمرشد الأصلي لكل هذه المجموعة الرائعة من شعراء التراجيديا «لكن لماذا كل هذا الارتباك والتردد في الإعلان عن طرد الشعراء من الجمهورية, هل تكفي تلك الحجج التي علل بها سقراط إقدامه على طرد الشعراء أمام محاوريه من جمهوريته، على الرغم من محبته واحترامه لهوميروس أم أن الأمر يقتضي تفسيرا آخر ؟
لا يمكن أن يتيه المرء كثيرا في البحث عن الإجابة الممكنة لتلك الأسباب التي كانت وراء جرأة سقراط على طرد الشعراء من جمهوريته, ولعل أهمها ليس فقط الخوف من التأثير السلبي في نفسية حفظة الجمهورية, خاصة تأثير الملاحم التراجيدية في الجزء من النفس الذي هو خسيس بدوره, وابتعاده عن الجزء الفاضل منها:» هذا هو السبب الأول الذي يبرز لنا حظر دخوله الدولة التي يحكمها قانون صالح, لأنه يثير هذا الجزء الخسيس ويغذيه وبذلك يعرض العقل ذاته للدمار. كما يحدث في الدولة عندما تسلم مقاليد أمورها وسلطاتها للأشرار ويقضي فيها على الأخيار والصالحين, فكذلك يبث الشاعر المقلد في نفس الفرد حكما فاسدا. إذ يتملق الجزء اللاعاقل» ص 370
كان سقراط إذن يسعى إلى تأسيس جمهورية فاضلة، لكن بدون شعراء يحكمها الفلاسفة لأن في استطاعتهم إقرار العدل والفضيلة والخير العام وإبعاد دولتهم من حدة الشرور التي تصيب عادة الدول التي لا يحكمها الفلاسفة, وهكذا يقول: «ما لم يصبح الفلاسفة ملوكا في بلادهم, أو يصبح أولئك الذين نسميهم الآن ملوكا وحكاما فلاسفة جادين متعمقين, وما لم تتجمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد, وما لم يحدث من جهة أخرى, أن قانونا صار ما يصدر باستبعاد أولئك الذين تؤهلهم مقدرتهم لأحد هذين الأمرين دون الآخر من إدارة شؤون الدولة –ما لم يحدث هذا كله فلن تهدأ, يا عزيزي جولوكون, حدة الشرور التي تصيب الجنس البشري بأكمله».
فبمجرد ما أعلن سقراط عن رغبته الملحة في منح رئاسة الدولة الفاضلة للفلاسفة وتقديم الحجج العقلية التي كانت وراء هذا الاختيار سيهتف محاوره قائلا: «يا له من رأي يا سقراط, ويا له من تصريح.. لا بد أنك تتوقع الآن بعدما صرحت به أن يقوم عدد من الناس ليسوا ممن يستهان بهم, بخلع ستراتهم في الحال, والتسلم بما تصل إليه أيديهم ومهاجمتك بكل قواهم ليعاملوك بما تستحق, وإن لم تصدهم بقوة الحجة وإن لم تستطع أن تنجو منهم, فستعلم جيدا كيف يكون المرء هدفا للسخرية والاحتقار» ص92.
الملاحظ أن سقراط كان شجاعا وقويا في مواجهته لتجار الحقيقة وباعة علم الكلام, أي السفسطائيين والخطابيين الذين يعتبرهم مصدر حدة الشرور التي تصيب الدولة, ولذلك فإن دستور دولته كان ينص على إبعاد هؤلاء من إدارة الدولة والقضاء, بيد أن تأجيل النظر في قضية الشعر وتخصيص له الكتاب الأخير من الجمهورية يضعنا أمام أسئلة محيرة وذات قيمة أنطولوجية تتعلق بوجود هذه الجمهورية نفسها, هل بإمكانها أن تتحقق أو أن تخرج من الإمكان إلى الوجود الفعلي في غياب الشعراء والرسامين والفنانين بصفة عامة, أم أنها ستظل في نعيم حميمية هذا الحوار السقراطي الرائع الذي يقول لمحاوره أنكم أنتم الذين تعرفون, أما أنا فكل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا, هكذا تبدأ الحقيقة وتبدأ الفلسفة التي هي لحظة بين الجهل والمعرفة, بين الحقيقة واللاحقيقة. إنها إقامة حميمية للروح قرب ذاتها.
ها هنا يحدد سقراط للفلسفة مصيرا شاقا وطريقا صعبا لا يمكن أن يسلكه إلا الفيلسوف الذي تسكنه روح سقراط, أما الشعر, باعتباره لا يفكر في أي واجب بلغة كانط، وباعتباره نتاجا للعبقرية, فإنه يدعي معرفة كل شيء وامتلاكه السماء والأرض واقتسامه العرش مع الحقيقة الأمر الذي جعل المكر السقراطي ينال من الوجود الشعري, إذ نجده يقول لمحاوره: «فلتصغ إلي. وتحكم بنفسك، إن أفضل الناس منا عندما يستمعون إلى إحدى قصائد هوميروس أو أي شاعر تراجيدي آخر وهو يصور بطلا يروي أحزانه في قصيدة مطولة أو يندب حظه بالعويل وضرب الصدر. أقول أن أفضل الناس منا يشعرون عندئذ باللذة وهم يتابعون العرض متعاطفين معه كل التعاطف, ويعجبون بعبقرية الشاعر الذي يثير فينا على هذا النحو أقوى الأحاسيس».
يبدو أن هذا الاعتراف السقراطي لم يكن صادرا من الأعماق, أي حقيقيا أنه مجرد سخرية من هوميروس، خاصة وأنه يعترف بـأن كل الشعراء منذ أيام هوميروس إنما هم مقلدون فحسب, فهم يحاكون صور الفضيلة وما شابهها, أما الحقيقة ذاتها فلا يصلون إليها قط, إن الشاعر كالرسام الذي يرسم إسكافيا دون أن يعرف شيئا عن إصلاح الأحذية», بل إن سقراط يذهب أبعد من ذلك حينما يتساءل قائلا «لماذا لا يعرف عن واحد منهم, في الماضي أو في الحاضر, أنه شفى مريضا أو نقل علمه إلى تلاميذ له كما يفعل أسقلبيوس هذا إذا كانوا حقا يعرفون الطب ولا يكتفون بمحاكاة كلام الأطباء».
إن سقراط كان يسير في طريق هادئ ربما يقوده إلى نسف الشعر انطلاقا من تمزيق وكشف الستار عن الوجه الحقيقي والأسطوري لشاعر الشعراء هوميروس, ذلك أن الفيلسوف يعرف أنه بمجرد ما ينهار رمز الشعراء تذوب التراجيديا في لهيب العدم, وتتطهر الجمهورية من تلك الأرواح الثقيلة والمحرضة على الحزن والبكاء لأن سقراط في حاجة إلى فرح الروح وإلى أناس أقوياء يتخلصون من الأحزان كما يتخلص الجسم من الأمراض التي تصيبه, ولذلك نجده يعلن عن نيته لجولوكون قائلا: «لن نسألهم عن هذا كله, ولكن عندما يأخذ هوميروس على عاتقه الكلام في أمور ذات أهمية قصوى كقيادة الحرب أو إدارة شؤون الدولة أو التعليم, فمن حقنا أن نسأله عن هذه الأمور قائلين: اسمع يا عزيزي هوميروس إذا كان صحيحا إنك فيما يتعلق بالفضيلة, لا تبعد عن الحقيقة سوى مرتبة واحدة, أي أنك في المنزلة الثانية منها لا في الثالثة…, وإذا كنت تعرف السلوك الذي يجعل الناس أفضل أو أسوأ في الحياة العامة والخاصة, فخبرنا باسم الدولة التي صلح حكمها بفضلك. إن كثيرا من الدول تدين بالكثير لمشرعيها مثل لوكورجوس في اسبرطة وخارونداس في إيطاليا وصقلية وسلون عندنا. ولكن هل تستطيع أن تنبئنا ببلد اتخذك مشرعا وانتفع منك».
لعل هذا النص المدهش الذي يضع هوميروس أمام حقيقة الشاعر ودوره في الجمهورية, بل وعدم قدرته على التشريع أو إدارة الدولة وقيادة الحرب قد جعل سقراط يقلل من الرمزية الروحية للشاعر, نعم إننا نحب الشعر, ونعظم هوميروس باعتباره أقرب إلى الحقيقة ولكن الشاعر يوجد في الدرجة الثانية, لأن الفيلسوف هو الذي يتربع على عرشها, أي يوجد في المرتبة الأولى, ولكن لا نرى فائدة منه في جمهوريتنا, ويذهب سقراط إلى حدود القول: فهل سمع أحد عن حرب حدثت في وقته, ونجح هوميروس في قيادتها بنفسه أو بنصائحه ؟ أو هل نسب إليه اختراع بارع في الفنون أو خبرة عملية في المجالات البشرية الأخرى, مثلما نسب إلى طاليس الملطي أو إلى انخارسيس الاسكوذي» ص367
إذا كان سقراط يسعى إلى حظر الشعر في جمهوريته انطلاقا من الرغبة في تدمير تلك الهالة المقدسة التي يتمتع بها الشاعر هوميروس, فإن استراتيجية الجدل باعتباره هو قمة العلوم وتاجها وأنه لن يوجد علم آخر يستحق مكانة أرفع منه «هي أضعاف صورة الشاعر من خلال التشكيك في ادعائه شفاء الأمراض, أو قيادة الحرب, ورئاسة الدولة, لأن قول هذه الأشياء هي من باب الظن, وليست من باب الحقيقة, ها هنا يتمكن المكر السقراطي من تدمير أسطورة هوميروس, لأنها تظل معلقة في السماء وليس لها أي دور في الواقع, وكأن سقراط يقول لتا أن الجمهورية تحتاج إلى حكماء ومشرعين وسياسيين نالوا أحسن تربية فلسفية وعلمية. وليس إلى السفسطائيين وشعراء يحلمون في واضحة النهار.هكذا نجده يقول لجولوكون: «إن على العارف بالديالكتيك أن يتمكن من تمييز مثال الخير, والتفرقة بينه وبين كل الصور الأخرى, وعليه أن يعرف كيف يصمد أمام كل الاعتراضات وذلك بأن يحاول إقامة براهينه على ما هو موجود, لا على ما هو ظاهر, ويظل ظافرا إلى النهاية دون زلة واحدة… وإلا لن نقول عن حياته إلا أنها حلم ومنام لن يتيقظ منه في هذا العالم, بل سيهبط قبل ذلك إلى العالم الأدنى, حيث يدوم سباته إلى الأبد «. ص 374
الواقع أن موقف سقراط من الشعر لا يمكن تبريره إلا من خلال تمجيده لقوة النفس وفرح الروح ومن ثم إبعاد كل ما يغذي الانفعالات السارة والأليمة للنفس وهي الانفعالات التي يعترف بأنها ترتبط بكل فعل من أفعالنا, ذلك أن الشعر يغذي الانفعال بدلا من أن يضعفه, ويجعل له الغلبة, مع أن من الواجب قهره إن شاء الناس أن يزدادوا سعادة وفضيلة, ويبرر سقراط دعوته لحظر الشعر في الجمهورية من خلال إحالته على صراع الفلسفة والشعر منذ القدم حيث يقول: «و حتى لا يتهمنا الشعر بالقسوة والجلافة, فلنقل أنه بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد. وما أكثر الشواهد على هذا العداء القديم فلدينا تلك الأبيات التي تتحدث عن: «الكلب الذي ينبح ضد سيده», أو عن: «الإنسان المتمكن من فن الثرثرة الجوفاء» أو عن «المفكرين المدققين الذين يرتدون أسمالا بالية».
لكن بالرغم من كل ذلك فإن سقراط سيتراجع عن موقفه المتطرف من الشعر, ويسمح بإعادته من المنفى, شريطة «أن يثبت بحجة ما أنه يستطيع أن يحتل مكانة في الدولة المثلى وسوف نقابله بكل ترحاب, إذ أننا ندرك ما له علينا من سحر, «و كل ما في الأمر أن من الظلم كتمان أمر نؤمن بأنه الحقيقة». لا بد أنك أنت نفسك, أيها الصديق, قد شعرت بسحر الشعر ولا سيما ما أتى به هوميروس», بل أكثر من ذلك أن سقراط يعلن عن وجهة نظره في الشعر الذي يصلح لجمهوريتـه, بعد السماح له بالعودة مـن المنفى. لابد أن يسير في ذلك السبيل المتجه نحو تأسيس الدولة المثلى, يقول سقراط: «فهل لي أن أقترح إعادة الشعر من المنفى, ولكن بشرط واحد, هو أن يقدم دفاعا عن نفسه بالطريقة الغنائية وبأي وزن آخر..كما أننا سنسمح لأنصاره الذين يحبون الشعر وإن لم يكونوا شعراء بالدفاع عنه نثرا, ليثبتوا لنا أنه لا يقتصر على بعث الشرور في النفوس, بل أنه نافع للدولة وللحياة البشرية. وسنستمع إليهم بصدر رحب, إذ أنه من المفيد لنا أن يثبتوا أنه يجمع بين بعث السرور في النفوس, وبين الفائدة العملية..إما إذا لم يستطيعوا إثبات ذلك, أيها الصديق العزيز فسوف نفعل كالمحبين الذين يعلمون أن حبهم لا فائدة منه, فيفترقون رغما عنهم, ولكنهم يفترقون على كل حال».
تلك هي الصورة الجميلة التي اختتم بها سقراط كلامه عن الشعر في الجمهورية, وهي على كل حال صورة صادقة وصادرة عن القلب لأنها تعترف بحبها للشعر الذي يسعى إلى بناء الدولة كما يراها الفيلسوف لا كما يراها السفسطائي المتجر بالحقيقة, ذلك أن الناس يحبون إيديولوجيتهم, فالدول التي تعتمد التراجيديا وترهب الناس وتجعلهم يعيشون الضعف والذل وإبعادهم عن السعادة والفضيلة ودفعهم إلى التشبث بقيم الشر ونكران الخير, هي الدول التي تسمح لشعراء المأساة بالتحكم في نفوس رعاياها وتمنحهم المال والجاه والسلطة: «أجل يا صديقي جولوكون, فالأمر خطير حقا وهو أخطر مما يتصوره معظم الناس.فعليه يتوقف تحول الإنسان إلى الخير وإلى الشر, ومن هنا فإن من واجبنا أن نقاوم إغراء الشعر, مثلما نقاوم إغراء المال أو الجاه أو الشهرة».
2- كانط الشعر لا يفكر في أي واجب
إذا كان سقراط قد وضع الشعراء أمام ضرورة الاختيار بين الاستمرار في مسارهم المأساوي والهزلي وبذلك يتم طردهم من الجمهورية, أو كتابة قصائد تدخل السرور على الروح وترفع من قيم الفضيلة وتذوق السعادة, هكذا ستصبح لهم مكانة في دولته المثلى, فإن كانط يعتبر أن الشعر ضروري في عصر التنوير, على الرغم من أنه لا يفكر في أي واجب كما هو الحال بالنسبة للفيلسوف ولكن مع ذلك فإن الشعر ينبثق عن العبقرية باعتبارها التربة التي ينقدح منها الإبداع الشعري, إلا أن كانط نفسه كان يميز بين الشعر العميق النابع عن الروح وبين الشعر الخالي من صفة الروح حيث يقول: «هناك قصائد شعرية بإمكانها أن تكون صحيحة النظم وغاية في الجمال, ولكنها بدون روح «, هل يمكن اعتبار هذا الموقف الكانطي من الشعر مجرد استمرار للموقف السقراطي كما جاء في الكتاب العاشر من الجمهورية ؟ وما معنى أن يكون الشعر جميلا ولكن بدون روح ؟
لقد كان سقراط واضحا وعذبا في حواره مع جلوكون حيث اعتبر أن ما يمنح للشعر قيمته الإبداعية والأنطولوجية, ليس هو الوزن والإيقاع أو القالب الشعري ولكن غايته ومقاصده أو دوره في تربية الروح على الفرح والسعادة إذ يقول: «و بالمثل فإن الشاعر يضفي بكلماته وجمله على كل فن ألوانا تلائمه, دون أن يفهم من طبيعة ذلك الفن إلا ما يكفي لمحاكاته, ويؤثر في أناس لا يقلون عنه جهلا.. فيدفعهم السحر الكامن في الوزن والأيقاع إلى الاعتقاد بأنه قد حدثهم حديثا خلابا عن القيادة الحربية أو صناعة الأحذية أو أي موضوع فني آخر.فإذا نزعت عن الشعر قالبه الشعري, فلا شك أنك تستطيع أن تراه على حقيقته عندما يتحول إلى نثر» ص 368، بل أكثر من ذلك أن سقراط يتساءل بدهشة الفيلسوف قائلا: «ألا يكون عندئذ أشبه بوجه لم يكن جميلا في وقت من الأوقات, ولكنه نضر, ثم فقد بعد ذلك نضارة الشباب بدورها؟»
حقا ان كانط في تحديده لماهية الشعر كان سقراطيا حين قام بالتفريق بين الجانب الاستيطيقي في القصيدة وبين عمقها الروحي أي غايتها في عصر التنوير, لأن الشاعر في رأيه هو مشرع المخيلة المبدعة, والفيلسوف مشرع العقل النظري، ولذلك فإنهما يقتسمان مجال نقد ملكة الحكم باعتبار هما يتجهان نحو نفس القدر وهو ملكة النفس التي تؤسس للعبقرية كأصل الإبداع الشعري والأشياء الجميلة,و للعقل كمؤسس للتنوير والحداثة من خلال ملكة النقد والبحث عن أرضية جديدة للميتافيزيقا. ولكن كيف يكون الشعر مشرعا للمخيلة المبدعة ومستمدا عبقريته من ملكة النفس, ومع ذلك بلا روح؛ فما قيمة الشعر الفاقد للروح؟
الواقع أن كانط لم يتردد في الإجابة عن معنى غياب الروح في القصيدة الشعرية, بل كان حاسما إذ يرى أن الشعر يكون بدون روح حين لا يستطيع أن يكون شعرا يحيي النفس, أي أن يجعل قوى النفس في منتهى عنفوانها أو تألقها الأسمى, ذلك أن الشعر في مملكة كانط هو مذاق للتأمل, تفكير بلا مفهوم, وبعبارة أخرى إنه مجرد لعب متعال عن المفهوم وبلغة كانط إنه «لعب بالمظهر» دون أن يتحول إلى خداع للناس, ولذلك فإنه لا ينبغي أن يزعم بأنه ينتج معرفة منبثقة عن الحدس أو التجربة لأنه لا يعتمد على المفاهيم العقلية, أي مجرد انبثاق عن مملكة النفس التي تحرض العبقرية على التجلي. ذلك أن الشاعر يمتلك جرأة خارقة على جعل اللامرئي محسوسا ومشارا إليه, مع العلم أن مجال ما وراء الطبيعة خاص بالعقل وليس بالمخيلة ها هنا يضع الشاعر قنطرة ما بين المخيلة والعقل من خلال عناصر الإبداع إنه يسعى إلى لمس إمكانية التجربة, ولذلك فإن الشعر هو ذلك المجال الهادىء الذي تبلغ فيه ملكة الأفكار الاستطيقية كمال المدى وإصغاء لصوت الحقيقة, بيد أن الفلسفة هي كمال للوجود ونداء للحقيقة, إن الفلسفة والشعر متقابلان يجتذبهما العشق أو أنهما روح واحدة في جسدين يوحد بينهما الخصام؛ خصام العشاق الذين يعلمون أن حبهم لا فائدة منه فيفترقون رغما عنهم, ولكنهم يفترقون على كل حال كما قال سقراط.لعل الشاعر في نظر كانط يأمل أن يوسع المفهوم نفسه استطيقيا على نحو لا حد له, ولذلك نجده يقول إن «الشعر ينفرد عن باقي الفنون بانتمائه إلى العبقرية, ولذلك فإنه هو الذي يفوز بالمرتبة الأولى» ولكنها مرتبة مؤقتة ما دام أنه لم يستحوذ على عرش الحقيقة.
يمكن القول أن كانط وجد نفسه في حيرة مثل سقراط عندما أراد أن يحدد العبقرية فأجاب قائلا بأنها ذات مقاصد استطيقية تخرج إلى الوجود انطلاقا من الاتحاد بين المخيلة والذهن, إنه اتحاد تتحكم فيه البراءة مثل براءة الأطفال لأن غايته ليست هي المعرفة كما هو الحال بالنسبة للفلسفة. بل الحرية والتحرر من كل التزام, بل إنه «يقوي النفس ويمكنها من الكمال ومن الشعور بالتبعية للطبيعة».
و باختصار أن غاية الشعر عند كانط لا ينبغي أن تنزاح عن غاية الفلسفة وهما معا يتجهان نحو التأسيس الأخلاقي للإنسان في هذا العالم لأن الإنسان يستحق حريته عندما يخضع إلى ما شرعه من قوانين وواجبات.
غاية ما في القول أن الشعر يبدع الجليل والجميل, والفلسفة بوابة على السعادة والفضيلة, فماذا يحق لي أن آمل, وأن أرجو وأتمنى غير التمتع بهما.
3- نيتشه الشاعر الذي نسي ظله هناك حيث الأبدية تنتظر
لقد تاه العقل, وتاهت الفضيلة لأنها شعرت بالخداع وانطلقت بأجنحتها ضاربة أسوار الأبدية, ولكن الفيلسوف يخشى أن تظل السبيل فتجد نفسها في نهاية المطاف أمام الوجه المزدوج للحقيقة, فإلى أي انتماء ستتجه إلى حقيقة الفلسفة أم حقيقة الشعر ؟
كان نيتشه على لسان زرادشت يتكلم لغة الشعراء رغم خصامه العنيف وإعلانه الحرب عليهم: «أتعبني هؤلاء العظماء, وأشدهم إرهاقا لي أوفر عظمة, فأنا أتوق إلى اجتياز مرتبتهم فأفوتها وأنا أتجه إلى الإنسان الأعلى المتفوق «ص 172 بيد أن ما يثير الاستغراب في هذا الموقف هو قدرته على إرباك الذهن ودعوته إلى الإقامة في الالتباس, ذلك أن محبة الشعر وكراهيته في نفس الآن تدعو إلى فتح سجل للأسئلة, فإلى أي مدى كان الشاعر يكره نفسه؟ ومتى تحول الفيلسوف إلى شاعر يبغض الحقيقة ؟ هل بإمكان الشعر أن يريحنا من قلق الوجود ونسيان حقيقته ؟
كان زرادشت يسعى إلى بلوغ مقام التنكر من أجل أن يعرف حقيقته والقبض على ماهيته بيد أن ازدواجية الانتماء, جعلته يفتقد مذاق السعادة, ومذاق الحقيقة, يقول : «ليتني أراكم متنكرين, أيها الإخوة والأقرباء. فتبدون بحللكم وقد نفخها الغرور, وليتني أجلس بينكم متنكرا أنا أيضا كي لا أعرف من أنا, لأن هذه آخر حكمة لي على حكم البشر» ص.172
يتجه زرادشت إلى التنكر لكي لا يعرف نفسه ولا يتعرف عن هويته, هل هو فيلسوف أم شاعر, بل إنه يرغب في عدم التعرف عن جوهره, هكذا نجده يقول:»ليس لي أن أصف ما هنالك بغير الرموز, لذلك أجدني محفوزا إلى تتمة ما أقول فأتدبدب كالشعراء. والحق أنني أخجل من اضطراري إلى الأخذ بـبـيانهم» ص226
ليس بإمكان الشعراء أن ينطقوا بكلمة الإنسان المتفوق وتربية الناس على الإيمان بأن الإنسان كائن يجب أن ينشأ منه ما يجتازه, ليس الإنسان بالنسبة لزرادشت هدفا وغاية, إن هو إلا عابر يدعي السعادة في ظهير ته ومسائه ذلك أن زرادشت أصابه قدر اليأس وأصبح يتحفظ من مهنة التعليم والتربية لأنه شعر بعدم قدرته على الاستمرار بمظهر الشاعر الذي ينتهي تعليمه بمجرد انتهاء القصيدة, يقول: «علمت الناس جميع أفكاري وأبنت لهم جميع رغباتي إذا أردت أن أجمع وأوحد ما في الإنسانية من بدد الأسرار وتعاريف الحدثان فقمت بينهم شاعرا أحل الرموز وأفتديهم من الصدف العمياء لأعلمهم أن ييدعوا المستقبل وينقذوا بإبداعهم ما انصرم من الأحقاب» ص 227.
حين بلغ زرادشت منتهى اليأس أصبح يعلن عن سفره إلى مملكة العدم, مملكة الخلود والراحة والطمأنينة, ولذلك يخاطبنا قائلا: «لقد انطلقت السفينة فهي متجهة إلى بعيد ولعلها سائرة إلى لجة العدم, فهل فيكم من يريد السفر إلى المجهول المفترض؟ » ص 236
حقا أن الرحلة مع زرادشت نحو المجهول كانت ممتعة حينما كشف لنا عن هويته وعن غايته, إذ أنه ليس هو نفسه الإنسان الأعلى ولكنه مجرد مبشر به، هكذا يتجه إلى البحث عنه وهذا لم يمنعه من التنكر في حلة الشاعر تارة وفي حلة الفيلسوف تارة أخرى وهذا بالذات ما جعلنا في ماهية الحيرة والاندهاش,هل نسميه فيلسوفا أم مجرد شاعر يسمي كل الأشياء والآلهة ويلعب مثل الأطفال؟ هل استقر زرادشت في مملكة الحقيقة حيث يسود العقل, أم في مدينة الشعراء حيث اللعب باللغة ممكنا والتفكير بلا مفاهيم وعدم الخضوع لأي واجب؟ فإلى أي ضفة وصل مركبه ؟
و في الحقيقة أن زرادشت تركنا في ليل ممتلىء بالرموز ويسوده الغموض مما جعل استمرارنا في طريقه محاطا بالمخاطر والمتاعب. هكذا نجد أنفسنا مضطرين إلى التخلي عن هذه الرحلة الشاقة والاعتراف بعدم الوصول إلى الكشف عن هوية زرادشت هل هو شاعر ناطق بالإنسان الأعلى أم شاعر تاه في طريقه نحو الأبدية ؟
4- هايدغر الشعر هو ضلال في متاهات تأمل الذات
ينطلق هيدغر من مقطع شعري رائع لهولدرلين حول ماهية القول الشعري, حيث يقول: «منذ أن كنا حوارا وكان باستطاعتنا أن نسمع بعضنا البعض الآخر» وهكذا تكون القدرة على الإنصات إلى الآخر إلى الوجود هي ما يشكل ماهية الإنسان الذي يمتلك أخطر الملكات وهي اللغة باعتبارها مأوى ومسكن الوجود, ولذلك يستغلها من أجل إيصال ندائه ونبراته العاطفية.إن اللغة هي الضامن على وجود الموجود في الوجود, أي وجود الإنسان في غسق انفتاح وتجلي الموجود، والعالم لا يكتسب قيمته إلا حين تسود ملكة اللغة, لكن ما الذي يؤسسه الشعراء ؟ وكيف يمكن أن نكون مجرد حوار يمنحنا هيبة إلهية تجعلنا نسمع لبعضنا البعض ولنداء الحقيقة والوجود ؟
إن ما يؤسسه الشعراء هو الأبدية باعتبارها تستمد ماهيتها من المتغير الذي يجد نفسه مضطرا للإقامة في الزمن الممزق حيث يتقاسمه الماضي والحاضر والمستقبل والحوار هو الذي يمنح للإنسان خاصية الوجود في العالم منذ أن كان الزمن وأصبح الإنسان في التاريخ أي منذ أن صار حوارا. هكذا نجد الشاعر يصف الزمن بأوصاف جميلة رغم تمزقه, كما أنه يسمي الآلهة وكل الأشياء المنتمية إلى الطبيعة أو ما بعد الطبيعة, ولذلك فإنه يمتلك القدرة على الإقامة في متاهات الزمن الممزق وتسمية ما هو دائم وأبدي. والحقيقة أن هايدغر يعتبر أن ما هو دائم هو العابر اعتمادا على مقطع شعري لهولدرلين: «عابر, سريع كل ما ينتمي إلى السماء, لكن ليس عبثا».
والحال أن هايدغر كان حزينا ومتألما من قدر هولدرلين, هذا القدر الحزين الذي اختطفه في ليلة ممتلئة بالرموز والأشباح وأبعده عن ذلك الشاغل الأكثر براءة من بين المشاغل كافة, ولذلك يقول فيلسوف الوجود والزمن: «و إذا ما توصلنا إلى فهم جوهر الشعر الذي يجعل من الشعر تأسيسا للوجود بواسطة اللغة, نستطيع عندئذ أن نحدس بشيء من حقيقة هذا الكلام الذي قاله هولدرلين, حين اختطفه ليل الجنون وأسكنه عتماته» ص63. ومع ذلك ظل متفائلا يعيش في لذة نعيم الروح وسرورها ولذلك يقول ببراءة الشاعر الذي يسمي الآلهة وكل العوالم الميتافيزيقية: غني بالمزايا, الإنسان, لكنه يحيا شعريا على هذه الأرض».
لعل الإنسان يحيط بعنايته الأرض, من خلال الاعتناء بالكروم والأشجار والماء والحيوانات, لأنه يحيا شعريا في عمقها وهو يشعر بأن الأرض منحته الحياة وتنتظر منه العناية الشعرية بها. فكل ما يفعله الإنسان لا يتعلق بجوهر إقامته على هذه الأرض, ولا يمتد إلى عمق الوجود.فماهية الوجود هي الشعر. والشعر بالنسبة لهايدغر يعني تسمية الآلهة والإشارة إلى جوهر الأشياء, ولذلك فإن مقاصد عبارة «يقيم شعريا «هي المثول دائما في حضرة الآلهة والإقامة في جوهر الأشياء من خلال العناية بالأرض لأن المحصول الزراعي والإنسان محميان في الحظوة التي تدبر السماء والأرض وتعطي ما يدوم. هكذا تكون الإقامة شعرية, حين تصبح عميقة ومرتبطة بماهية الوجود باعتباره هبة تدعو إلى السرور, لأن كل من يمتلك هذه الهبة ولا يكون مسرورا فهو إما حيوان أو إله. فالشعر إذا لم يكن مؤسسا للوجود بواسطة اللغة ومحرضا الإنسان على الإقامة في عمق الأشياء والعناية بما يحيط به، لا يمكن أن يكون شعرا حسب هايدغر، وإلا سيخضع لتلك الحكمة التي نطق بها هولدرلين في آخر أيامه «…ينبغي أن يرحل عندما يحين الأجل, من تكلمت الروح بلسانه».
لقد كانت دعوة هايدغر إلى الإقامة في جوهر الشعر شيقة إذ جعلتنا نستوعب ما دلالة أن الإنسان يحيا شعريا على هذه الأرض لأنه يظل مرغما على العناية بها، خاصة وأنه ذلك العابر الذي يعشق. لأن ما يدوم يؤسسه الشعراء ومن ثم فإن الإقامة في الشعر تعني الإقامة في الأبدية وإلا فقد الوجود قيمته، ذلك أن هايدغر يسعى إلى تفسير عبارة مدهشة لمعلم الإنسانية أرسطو الذي يقول أن امتلاك الوجود وحده يدعو الإنسان إلى الابتهاج والسرور, والإقامة في الوجود لابد أن تكون شعرية مرحة تشبه مرح الأطفال الذين يقضون أوقاتهم في اللعب دون التفكير في أي واجب يقربهم من الاكتواء بنار العدم.
كان هايدغر إذا يفسر شعر هولدرلين بروح الفيلسوف الذي لا يرى في الشعر سوى سبيل يقود الإنسان شعريا في هذه الأرض نحو استيعاب مقاصد الإقامة ومتعة العبور من الشعر إلى الفلسفة.
هامش
1 – أفلاطون، الكتاب العاشر الجمهورية.
عزيز الحدادي
كاتب من المغرب