عمر كوش
كاتب وباحث سوري
تحيل علاقة الفلسفة بالراهن إلى النظر في مفهوم الراهن، وتناول أسئلته وتجسيداته، وتبيان مركباته وإشكالياته وقضاياه، وما هو منتسب إليه، وما هو مفترق عنه كذلك. ولا يبتعد النظر إلى الفلسفة أيضًا، حيث يتجدد طرح سؤال: ما الفلسفة؟ الذي لا يكلّ الفلاسفة والمشتغلون بحقولها عن إعادة طرحه، كلما واجهتهم تحولات، أو تحديات، أو تطورات كبرى في القيم، والمبادئ، والتصورات، أو حين تثار أسئلة جديدة حول مهام الفلسفة ووظيفتها، تلك التي لم يحصرها دولوز في إبداع المفاهيم فقط، حسبما تصور بعضهم، بل في خلق وإبداع المفاهيم داخل التجربة الإنسانية، وبناء المقامات الفلسفية وتشييدها، والخوض في حقول المحايثة من أجل إيجاد إمكانيات جديدة للحياة (1)، والأمر يتصل في هذا المقام بأن تقول الفلسفة كلمتها في تناول الواقع المعيش، وأن تجاهر بقولها في أحوال حيوات الناس، وما يعتريها من معاناة ومشاكل وهموم حياتية.
ما الراهن؟
عادة ما يتم الرجوع إلى القواميس ومعاجم اللغة من أجل إيضاح معاني الكلمات، وتبيان مركباتها واستخداماتها، وفي هذا الرجوع يكمن غموض وإبهام، لأن القواميس والمعاجم اللغوية العربية، لا تواكب على الدوام تطور اللغة وتغاير أبنيتها، وتضم مفردات اللغة التي جمعت في غابر الأزمان من أفواه متكلميها وناطقيها، ويحضر فيها معنى كلمة الراهن وفق عدّة تعيينات، بحسب استعمالاتها، ما بين المالك، والكفيل، والثابت، والدائم، والهزيل.. إلخ. وتتوزع دلالتها بحسب مجال التداول وتوظيفاته. أما في اللغة اليومية، فعادة ما تستخدم كلمة “راهن” مقرونة بكلمة “الوقت”، فيقال “الوقت الراهن”، و”الظرف الراهن”، و”الحقبة الراهنة”، و”الزمن الراهن”، بمعنى الحاضر والثابت والدائم، كما يطلق “الراهن” على ما يجري في اللحظة التي يجري الحديث فيها. وأحيانًا يُقال الراهن الذي لا يبلى، ولا يغادر الحاضر إلى الماضي.
غير أن أسئلة تحضر عن ماهية الراهن، عند تناول مفهومه واختلافاته وتقاطعاته مع الحاضر، المرتبط باستمرار بالسعي الإنساني نحو تحقيق الرغبة في تجاوزه وبلوغ السعادة، والخوف من مستقبل يُجهل ما سيأتي فيه، لذلك يجري البحث المحموم عن كيفية الارتقاء به، من مستوى اللفظ اللغوي واليومي إلى مستوى المفهوم الفلسفي.
إذا كان مفهوم الراهن يحيل إلى موقع يتوسط بين ما هو منتسب إلى الماضي وما هو منفتح على المستقبل، فإن السؤال الفلسفي ينظر في كل هذه الأزمنة، ويغوص في الزمن الفلسفي، ماضيه وحاضره، ثم يقوم بربط السابق باللاحق، من أجل تأسيس أسئلة الفلسفة، بشكل ممتد ومتمفصل، بغية ردم تلك الفجوات الموجودة بين القضايا الإشكالية التي يعالجها. ويرمي الفيلسوف بعقله في معتركها، كي يستقرئ المفهوم ضمن نسق المعرفة الفلسفية، وما تقتضيه جدلية الراهن والحاضر، طالما تستدعي الحاجة إلى مفهمة طرفيها إبستمولوجيًا، وطرح أسئلة عن أنطولوجيا الحضور، والوجود، المشترك للبشر.
في المجال التداولي الفلسفي، يجري التركيز على الدلالة الزمانية لمصطلح الراهن، الذي بات يحتل مكانة أكثر اتساعًا في عالمنا المعاصر، وخاصة فيما قد يرتبط به من مصطلحات، مثل اليومي، والآني، والظرفي، والمعاصر.. إلخ، حيث يتم تداولها في مجالات عدة، ويزداد رسوخها في حياتنا اليومية، نظرًا لانخراط الناس في تدفق الأحداث في الواقع المعاش. ومع ذلك يبقى مفهوم الراهن غير مقيد، بمعنى أنه غير صلب، صعب التحديد، منفلت الدلالة، وتطغى على استخداماته تقديرات غير مضبوطة، ومرهونة بسياقات متعددة الاستعمالات.
أما راهنية المفهوم، فتأتي من كونه فكرة ناظمة، تتجسد في فضاء استقبال، وحضور استشكالي، سواء بالنسبة إلى قضايا أم بالنسبة إلى نماذج فكرية، وهو ما يدفع الفلسفة إلى توصيف الواقع الراهن، والانتقال من الرهن باعتباره دينًا، والمراهنة باعتبارها مخاطرة يتوجب خوضها والسير في دروبها، إلى الراهن كمفهوم متعين زمانيًا ومكانيًا، ليس كيفما اتفق، إنما وفق معيارية تحكيم العقل والاستناد إليه.
سؤال الراهن:
عندما يطرح سؤال الراهن على الفلسفة، فإنه يطاول سؤالنا عن الفلسفة، ويمتد إلى سؤال الفلسفة عن نفسها، وعن راهنها، بوصفها فن ابتكار السؤال، وفق هيدغر، فيما يعبّر السؤال عن رغبة الفكر بحسب بلانشو، كونه السبيل إلى اكتشاف الإنسان معنى حياته، المفعمة بالأسئلة، التي تولد فيها وتموت فيها، كما يقول ميرلوبونتي. والفلسفة، عبر التساؤل، توقظنا على ما في وجود العالم، وفي وجودنا من إشكالات، حتى أننا نكون قد شفينا نهائيًا من البحث عن الإجابة في كراس المعلم، على حد تعبير برجسون (2).
يحيل سؤال الراهن إلى الحاضر، حيث يمتلك زمنية يعاد تشكيلها وصياغتها باستمرار، بوصفها أنطولوجيا الحاضر، لكن الفلسفة تسائل الراهن اليومي الذي نعيشه ونحيا فيه، في مساءلة لا متناهية، لا تنفك عن التوقف. يحذوها مسعى فتح آفاق جديدة أمام الإنسان، وسبر أغوار دروب الوجود الإنساني، والنظر في تجسيدات كينونته، وتعيناتها، ومركباتها المتعددة.
وتُطرح أسئلة على الفلسفة في علاقتها بالراهن، كي يعاد تأكيد صلتها بما يستجد من وقائع الحياة وأحوال الإنسان أيًا كان، ويبعدها عن محاولات حصرها في التحليق الميتافيزيقي واللغوي، وتعمّد الغموض الذي يستعصي على الفهم، وتحميلها خطاب الحقائق المطلقة والمبادئ المتعالية، وإبقائها خارج الزمن وفوق التاريخ، وجعلها غريبة عن الواقع، ولا يطولها التغير والتبدل المصاحب لحياة البشر، وذلك عبر تقديم نصوص، تنهض على “الفلسفة البسيطة”، التي تقول قولها العميق بأبسط الكلمات، بأسلوب يعتمد لغة بسيطة وعميقة، تجمع ما بين الشفهي والمكتوب، بما يسهل قول الكلام، ويجعله مفهومًا من عامة الناس، بالافتراق عما يفعله بعض الفلاسفة والمفكرين، ويتعمّده بعض المصابين بالتشاوف والتعالي الثقافي، من غموض مصطنع ومبتذل، يجعل نصهم طلسمًا، وعصيًا على الفهم من طرف الجميع، بمن فيهم هم أنفسهم. إضافة إلى تبيان أن النص البسيط في كلامه ومصطلحاته، يجعل القول الفلسفي واضحًا ورشيقًا، ويؤنسن النص والخطاب معًا.
لا يعني تبسيط الكلام سوى القطع قدر المستطاع مع اللغة التجريدية الصعبة، وعدم المبالغة في التوسع في المذاهب والنظريات المألوفة لدى أهل الاختصاص، لأن الفلسفة قادرة على القيام بصياغة الأشكال المتعلقة براهنيّتها ضمن بناء عقلي بأدوات ومفاهيم، يتم فيها مساءلة تلك الراهنية، باعتبارها حدثًا يتعيّن تحديد مركباته، ودلالاته، وتميزه الفلسفي، وبوصفها تأسيسًا للقول الفلسفي، وأهم مبرراته، وبواسطتها يقوم الفيلسوف بتحليل عميق لأحداث عصره، وتشخيص قواها ومفاعليها.
وانطلاقًا من أن السؤال الفلسفي لا يكلّ عن الترحال عبر محطات وثنايا الأزمنة، وعن أقلمة المفاهيم، وإعادة الأقلمة، في فسحات المجالات المعرفية، وفي تفاصيل الأمكنة، وتضاريس الأقاليم، من دون الارتهان إلى أي قيود جغرافية أو لغوية أو إثنية، فإن الممارسة الفلسفية الراهنة، تقتضي عدم الركون إلى كل ما هو نهائي، والسعي باستمرار إلى الاستكشاف المعرفي، والاستشكال الفلسفي النقدي، والترحال في مختلف عوالم التفكير، ذلك أن الفيلسوف لا يستحضر الراهن مفصولًا عن الماضي والمستقبل، لأن الأمر يتصل بالنظر في إشكالياته فلسفيًا.
عزل الفلسفة:
ثمة محاولات، قديمة جديدة، ترمي إلى عزل التفكير الفلسفي عن الواقع المعيش، ووضع الفلسفة في قوالب نظرية، والإبقاء عليها كصيغ مجردة، لا تمس مستجدات وقضايا العصر الراهن، وحصرها بين طيات الكتب ككتل جامدة، ترزح تحت مقولات، يُعاد تردادها وتكرارها في جميع الأوقات، وذلك كي لا تلامس الراهن، وتنفصل عن الوجود المعيش للبشر، لتنضوي تحت عبء تظهيرها كتاريخ، وأقوال يُستعان بها من وقت لآخر، فيما المطلوب تجديدها وتطويرها بشكل خلاق على مستوى جدل النظرية والممارسة، وجعلها تعيش في الواقع، تنبع منه وتواجهه في نفس الوقت.
وفي هذا السياق، تُطرح مقولات واهمة عن حياد الفلسفة، وتجرد الفلسفة، يسكنها خلفيات وتوظيفات سياسة شتى، تشيعها بعض الدوائر والقوى المهيمنة، بغية استمرار سطوتها على عامة الناس. وهي مقولات لا تصمد أمام سؤال الراهن، ولم تكن قائمة في الماضي، إذ يشهد التاريخ على أن الفلسفة “لم يكن شأنها الإنسان المطلق والعقل المطلق والمجتمع المطلق في أي مرحلة من تاريخها، بل كانت، وهي تتطلع إلى ذلك، تنطلق دائمًا من إشكاليات محددة، من بشر معينين لهم معاناتهم الخاصة ومشاكلهم الذاتية وهواجسهم الفريدة” (3)، وعليه، فإن الفلسفة كانت على الدوام لصيقة بالواقع التاريخي، وما كان يعج فيه من أحداث وإشكاليات وقضايا تهم الإنسان والتطور التاريخي، فلم يكن أرسطو، أو أفلاطون، أو سقراط، أو ابن سينا، أو الفارابي، أو أبو بكر الرازي، أو أبو حيان التوحيدي، أو ابن باجة، أو ابن رشد وأمثالهم، بعيدون عما كان يجري في بلادهم وعصرهم من أحداث وتحديات للإنسان وللعقل البشري، بل يمكن القول إن فلسفاتهم حملت استجابات لمقتضيات وتحديات الراهن الذي كانوا يعيشونه كل في بلده.
إن الفلسفة ترتبط بالتفكير في الراهن نقديًا، أي من أجل سبر أغواره وتقويمه، والقيام بدورها التنويري، بصفتها الأداة المعرفية الأرقى والضرورية للتفكير الإنساني، بما تقدمه للإنسان، من حيث هو إنسان، من إضاءات وحجج عقلانية تساعده على فهم الكون والوجود، واستيعاب العالم والواقع المعيش والأفكار المجرّدة معًا. وشكلت الفلسفة على الدوام مفتاح الكينونة، وكاشفة ماهية الوعي والحقيقة، وصاحبة مناهج تفكرية مميزة من جهة تضمنها رؤية شاملة، ومن جهة عدم توقفها عن طرح التساؤلات، وخلق المفاهيم، وتشييد المقامات، وأرضنة المتعالي.
الراهنية:
يكتسي مفهوم الراهن معطى دلاليًا عن الواقع المتعين في إقليم محدد، بالارتباط مع فعالية زمنية، يجسدها الحاضر، لكنه غير معني بكلّ مجريات وأحداث الحاضر، بل ينتقي منها ما يسهم في صياغة تمثيل معين، ومن يمتلك سلطة التمثيل له كلمة في الواقع، لأن تمثيل الواقع في راهنيته هو محل تجاذبات، ومماحكات كثيرة، في المجتمع، ويتصارع عليه مختلف الفاعلين الاجتماعيين، وتتخذه القوى المسيطرة ذريعة من أجل تبرير هيمنتها على مقاليد الحكم والسلطة، وتقدم بناء عليه قراءة للواقع، تحاول أن ترفعها إلى مصاف الحقيقة، بما يفضي إلى احتكارها، وترويج هذا الادعاء عبر مختلف وسائل الدعاية، التي تمتلكها على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية.
وإذا كان مفهوم الراهنية يسمح بإعادة صياغته، وتعدد قراءاته ضمن أفق الحاضر، فذلك، لأنه يحيل إلى الحضور، وفق زمنية هشة، من جهة وقوفه بين ماض يعاد استحضاره باستمرار، ومستقبل يصعب التنبؤ بما سيكون عليه، فيما يمضي الراهن في سعيه نحو التثبت والترسخ والحضور، بواسطة سيلان الأحداث التي تجتاح الحياة اليومية. وليس سهلًا تحديد ما يمكن أن يكتسي راهنية في عصرنا الخاضع إلى شبكة واسعة ومعقدة من علاقات القوى، وبالتالي لا يتجسد الواقع الراهن بوصفه معطى موضوعيًا مباشرًا، مقابل تجسده في الخطاب المنتج للواقع، وللحقيقة التي تسمح بمنح المشروعية المبررة للسلطة.
تعشق الفلسفة الراهن وتلازمه، كونها مرتبطة على الدوام بحياة الناس وواقعهم المعيش، وبما تحمله ظروفهم من مشكلات وأزمات وتناقضات وتحديات، فهي ليست أسيرة المجالس الضيقة والثقافة المتعالية، بل هي في متناول الناس، وتمس مشاكلهم الشخصية ومعاناتهم الخاصة وهواجسهم الفردية، فأدوار الفلسفة متعددة، ومهمتها الجوهرية تتجسد في التصدي للخلل في علاقات البشر ببعضهم البعض، وعلاقات البشر بالطبيعة والكون، وخاصة حينما تتعرض تلك العلاقات إلى الاختلال والاضطراب والفساد، لذلك تمتلك الفلسفة دورًا نقديًا أساسيًا، ولا ترضى أن توضع في خدمة السلطة، أي سلطة كانت، سواء أكانت سلطة الدين، أم الحكام، أم الأيديولوجيا، وسوى ذلك.
لا جدوى من إطالة الاسترسال النظري، لأن سؤال الراهن، المتعلق على وجه الخصوص بالأوضاع في بلداننا العربية لا يحتاج مقدمات كثيرة، كونه يكشف مرارات وعذابات كثيرة، ومآسي شعوب تقطن الأقاليم العربية، على أن نفهم الإقليم ليس بوصفه جغرافيا فقط، إنما بوصفه بشرًا ومحيطًا وبيئة مكتنفة.
إننا أمام أشباه دول متهتكة، وشعوب منتهكة الحقوق من طرف أنظمة تسلطية وشمولية قلّ مثيلها في التاريخ الحديث، من جهة ممارسة القمع والقهر والإذلال، وإنتاج العبودية والخنوع ومختلف أشكال الإرهاب، وسيطرتها على دول تغيب فيها محددات العيش الكريم والآمن، وتفتقد إلى الأمان الغذائي والصحي، فضلًا عن نشر وإنتاج الفساد وتعميمه، وإدامة التخلف والأمية والجهل، لكنها في نفس الوقت، تحاول تسويق ادعاءات تحقيق الإنجازات، والبطولات، وخلق انتصارات واهية على الأعداء.
في واقع لا يطاق كالواقع العربي، وراهن يقيم فيه الاستبداد، ويرتع فيه الطغاة، فإن سؤال الراهن يطرح بقوة على الفلسفة، كي تسهم في البحث عن سبل الخلاص، وإيجاد ممكناته، بالافتراق عن الفوضى والتطرف والإرهاب، وإنارة سبل الوصول إلى العدالة، وبما يفضي إلى تحقيق حضور إرادة الذات، وخلق مفاهيم تجسد فلسفة جديدة، تخوض في ممكنات التحرر من تغوّل السلطات، وطرق نيل الحرية، وحماية الناس، وتحرير البلاد من الظلم، والارتقاء بالواقع المعيش حضاريًا وثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا. وعليه تبرز الحاجة إلى فلسفة جديدة إزاء الراهن في بلداننا. فلسفة تنهض على مساءلة الراهن، وسبر أغواره من أجل تجاوز الغثّ فيه، ويسكنها همّ الوصول إلى مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
الراهن أوروبيًا:
يشهد تاريخ الفلسفة على نماذج عديدة تناولت فيها الفلسفة أسئلة الراهن وقضاياه، حيث خاض فلاسفة كثر في تناول قضايا الراهن في عصرهم، سواء في العصور القديمة أم الحديثة، وابتكروا مفاهيمهم الخاصة للراهنية، مع أن بعضها بقي مشدودًا إلى إطار تاريخي، يتسم بالعمومية. وإذا تناولنا فلاسفة العصر الحديث في أوروبا، فإن أسماء كثيرة تحضر في هذا السياق، مثل ديكارت وكانط وهيغل، ولا تنتهي عند ماركس الذي اعتبره القدرة على التفكير في الحاضر، وراح يسخر قوله الفلسفي في الاقتصاد من أجل الإجابة عن أسئلة الحاضر، والخلاص من بؤس الواقع المعيش في ظل الرأسمالية. أما ديكارت، فحاول إحالة فلسفته إلى الحاضر، وربطها بالتساؤل عن الراهن الذي ينتمي إليه، وطبيعته، وراح يرصد جملة مؤشرات عصره التي كانت تفسح للتنوير أوسع المجالات، ليكسى مشروعية كونه عصرًا تنويريًا تحقق بالفعل. ومع كانط ارتبط سؤال الراهن بالراهنية الزمانية، من جهة ارتباطها بالحداثة، وتحديدًا بسؤال التنوير، حتى غدا هو ذاته، حيث يتمثل التنوير في السعي الحثيث للتحرر من وصاية الغير، فيما تغدو عملية التحرر متجلية في الإعمال الحر للعقل، أو بالأحرى الإعمال الحرّ لملكة الفهم. وراح كانط يتساءل عن الراهنية المحضة، التي تعني “البحث عن الاختلاف الكامن في الحدث الذي جعل الحاضر حاضرا أي عصر مكتفيًا بنفسه” (4). من جهته، اتخذ فوكو من إعادة قراءة التنوير عند كانط، كي يسائل الفلسفة عن راهنيتها، معتبرًا أن الفلسفة تقوم -بالانطلاق من النص الكانطي عن التنوير- بربط الأشكال المتعلقة براهنيّتها كبناء عقلي، وتسائِل تلك الراهنية بوصفها حدثًا، ينبغي تحديد دلالاته، وقيمته، وتميزه الفلسفي، وبما يؤسس للقول الفلسفي وأهم مبرراته. كما اعتبر فوكو أن الرّاهن، عند كانط، يتميز في اختلافه عن الحاضر، وبالنظر إلى انتمائه إلى عصر معيّن، يختلف عن سواه من العصور بميزات معينة، إلى جانب تضمنه إشارات أو علامات تبشر بوقوع حدث ما في المستقبل (5). وذهب فوكو إلى اعتبار أن كانط كان سباقًا إلى توجيه السؤال عن ماهية الفلسفة الحديثة بنوع من التفكير “بالراهنية المحضة”(6). لكنه وظّف مفهوم الراهن، من أجل تناول قضايا راهنة في عصره، واستخدمه في سبر أغوار السجون، والحفر في طبقات المعرفة، والسلطة، والمراقبة، والمعاقبة، وسوى ذلك من قضايا وهموم العصر الراهن، وجعل سؤال الفلسفة يتمحور على الراهن الحاضر، أي ما يجري راهنًا، وفحص مكامن الراهن الذي نحياه في كل لحظة من لحظات حياتنا التي نعيشها. ورأى فوكو أن الخيار الفلسفي الذي نواجهه حاليًا يتعين في خيارين، إذ يمكننا أن ننحو نحو فلسفة نقدية تهتم بتحليل مسألة الحقيقة، أو نحو تفكير نقدي يتخذ شكل أنطولوجيا وجودنا المشترك، أنطولوجيا حاضرنا الراهن (7). وانتهى فوكو إلى أن اعتبار الفلسفة لا تكتفي بالتنوير فقط، بل هي سؤال الراهن، وهي قبل كل شي مساءلة للراهن الذي يعيشه الإنسان، مساءلة للكائن والوجود، للخطاب والنص والحياة اليومية، وترقى إلى مصاف أنطولوجيا الحاضر الإنساني، حين تغدو تنويرًا توسع تكفير الإنسان وتفتح آفاقًا لتفكيره للكائن، ودروبًا جديدة للوجود. لكن الراهن يختلف عن تحليل الحاضر، بوصفه نقطة تحوّل إلى إشراقة جديدة، حسبما حددها فيكو في مبادئ فلسفة التاريخ (8). أما دولوز، فقد اعتبر أن فوكو أولى أهمية إلى الفرق بين الرّاهن والحاضر، فالراهن هو الجديد والمهمّ، ولا يتحدّد بما نحن عليه، إنّما بما نصيره، أو نحن بصدد صيرورته، أي هو الآخر، أما الحاضر فهو ما نحن بصدد مغادرته وتجاوزه. وعليه يجب عدم الخلط بين الراهن، بوصفه صيرورة ينبغي علينا التأمل فيها بدل التفكير في الأبدي والسرمدي، والحاضر الذي يعني أنه على الدوام محلّ تجاوز مستمر (9).
خاض فلاسفة أوروبيون آخرون في قضايا وأحداث الراهن في عالمنا المعاصر، وتناولوا أحداثًا مثل سقوط جدار برلين، وثورات دول المنظومة السوفيتية السابقة، وما جرى في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، والغزو الأمريكي للعراق، والثورات العربية، التي انطلقت في بداية العقد الثاني من قرننا الحالي.
الراهن عربيًا:
عرفت الفلسفة في الفضاء العربي أفضل أيامها، خلال عصور اتسمت بالإعلاء من قيمة العلم، والعلماء، والفلاسفة، والمفكرين، وتُرجمت فيها كتب ومؤلفات فلاسفة اليونان القدامى، ولعب فلاسفة ومترجمون عرب ومسلمون دورًا بارزًا في ترجمة وشرح مختلف اتجاهات ومدارس الفلسفة اليونانية، وحققوا إضافات كثيرة في جميع ميادين المعرفة الطبيعية والإنسانية في عصرهم. وأسهم كل ذلك في تشكيل الملامح الرئيسة لشخصيات فلسفية، تميزت بنظرها العقلاني العميق، وثقافتها الموسوعية، وتفكيرها النقدي الذي وظفته في خدمة الإنسان والتصدي لكافة أشكال تغوّل السلطات الدنيوية والدينية.
في تلك العصور، التي يصفها بعضهم بالعصور الذهبية للحضارة العربية، لم تبتعد الفلسفة عن الراهن في حياة الناس، واتخذ فلاسفة كثر العقلَ مرشدًا، بوصفه المدبر لكل تفكير نظري يخص معارف الإنسان المجردة، حسبما اعتبره ابن باجة، الذي أعلى من قيمته إلى درجة أصبح فيها التعقل هو المدبر لكل تفكير عملي، يخص أمور الإنسان الحياتية، التي تميزه في أسلوب حياته، ونمط عيشه، الذي يختاره بإرادته الحرّة. وكذلك اتخذ كل من أبي حيان التوحيدي، وأبي بكر الرازي، وابن باجة، وابن رشد، وابن طفيل، العقلانية مسلكًا في مواجهة قوى الظلام، عبر الإعلاء من مكانة العقل وشأنه، ولم يترددوا في الاعتزاز بقيم العقل الذي يدعو إلى العلم والعدل، بوصفه أنسب طريقة من أجل بلوغ السيرة الحسنة، والحكمة، والفضيلة، وذلك في إطار سعي هؤلاء الفلاسفة جميعًا إلى هدم المدينة الناقصة، وتشييد المدينة الكاملة، باستخدام العقل، وخاضوا معاركهم في مواجهة الخراب والفساد في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وراحوا يجتهدون في تبيان الكيفية التي يتدبر بها الإنسان حياته، لتحقيق ذاته، وبلوغ السعادة، التي يسعى بشكل فعال للوصول إليها في مدينته الكاملة، وذلك من أجل إرسال رسالة سياسية، محملة بالنقد اللاذع للأوضاع، التي كانت سائدة في زمنهم على مختلف الأصعدة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والتي أنتجت إنسانًا بعيدًا في سلوكياته عن الفضيلة، وتخلو أفكاره من الحكمة، نتيجة تعطيل عقله، فأصبح عدوًا لنفسه وللآخرين.
أما مع تدهور الحضارة العربية الإسلامية، فقد تعرضت الفلسفة إلى ظلم كبير في بلداننا، وعلى مدى قرون عديدة، حيث سادت نزعات ورؤى متشدّدة، وسيطرت أنساق ومفاهيم أحادية ضيقة، سوقتها سلطات الأمر الواقع، والمرجعيات والمذهبيات المنغلقة، من أجل إسكات صوت العقل، وإغلاق آفاق التفكير، الأمر الذي أفضى إلى إفساح المجال لنمو توجهات متعصّبة ومنطوية على ذاتها، عملت على إسكات أصوات الفلاسفة، وإخراج الفلسفة من ديارنا العربية، والحطّ من قدرها ومقامها، بل وقامت سلطات الاستبداد بمطاردتها وتحريمها، ووصل الأمر إلى حدّ تجريمها وتكفيرها، والحاصل هو أن الفلسفة بقيت طوال قرون عديدة منبوذة في المجال التداولي العربي.
لم يتغير الوضع كثيرًا في عصرنا الراهن، حيث شيّدت جدران عازلة بين التفكير الفلسفي والواقع المعيش، وجرى حصر الفلسفة في سياقاتها النظرية وأطرها الجامدة، ووضعها في صيغ جامدة مشدودة إلى الماضي والتراث، كي لا تكون على تماس مباشر مع مستجدات العصر، لذلك ظلت الفلسفة تعاني من تبعات إظهارها، وكأنها مقولات لغوية جامدة، قيلت في عصور التاريخ الغابر، ويتمّ استدعاؤها بين حين وآخر.
المؤسف، هو أنه سادت لدى بعض الفلاسفة والمفكرين العرب، في نهايات القرن العشرين المنصرم، حالة من رهن الفلسفة بمشاريع فكرية وسياسية واجتماعية، ابعدتها عن تناول الراهن، وحوّلت سؤاله إلى صراع رهانات نظرية على الماضي، فيما أصبح سؤال الفلسفة معقودًا على الرهن والرهان وليس على الراهن. ولم تسهم الجهود الفلسفية في بلداننا العربية في الإجابة عن أسئلة الواقع المعيش، أو خلخلته أو حتى تحريكه، كونها اتبعت نهجًا متعاليًا وغامضًا جعل الكتابات الفلسفية موجهة إلى النخب الثقافية في مجتمعاتنا من جهة، وعصية على الفهم من طرف باقي أفراد المجتمع من جهة أخرى، وبالتالي بقيت بعيدة عن عموم الناس، ولا تمس همومهم ومشاكلهم، لذلك لم ينتج فلاسفتنا مشاريع تغييرية للواقع في الدول العربية، الأمر الذي أراح سلطات أنظمة الحكم، ويفسر لجوء معظم الفلاسفة والمشتغلين في حقولها، أمثال محمد عابد الجابري وطيب تيزيني ومحمد أركون وجورج طرابيشي وطه عبد الرحمان، إلى طرح مشاريع، عادت في معظمها إلى الماضي، وصرفوا تفكيرهم على اجتراح مشاريع تتناول التراث، ونقد التراث، طوال سنين عديدة. ونال “العقل العربي” قسطًا كبيرًا من النقد والتشريح والتجريح، إضافة إلى بروز ظاهرة عودة الدين، وإعادة قراءة النص الديني، وإعادة تأويله وتفسيره، بما يخدم توظيفات ونزعات معينة. وأفضى كل ذلك إلى ظهور مشاريع فكرية عديدة، ركزت على العقل في التراث العربي الإسلامي، واتخذ هذا النقد اتجاهات ثقافية متنوعة، انصبت في مجملها ضمن إطار محاولات البحث عن أسباب وحيثيات الإخفاقات التي مرّ بها الوضع العربي، المجسد في حالاته القطرية وما شابهها، والذي أفرز حالات من التخلف، والتبعية، والانهيار، والهزائم على مختلف الصعد، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ابتعد العائدون إلى التراث عن الراهن، وعن تناول قضايا الواقع العربي، ظنًا منهم أن في عودتهم ما يسهم في تحديد أسباب التأخر والفوات، وما يعينهم على تجاوز مشاكل الحاضر، لكنهم تناسوا أن على الفلسفة البحث عن تلك الأسباب في الواقع الراهن، من خلال تناول التفكير الفلسفي قضاياها، وبما ينتج جملة من المبادئ والقيم، التي تفتح دروب الفلسفة للإسهام في إنارة دروب عملية التغيير السياسي والمجتمعي، وطرح مشاريع تنير عتمة الواقع المعيش، على اعتبار أن مسؤولية التنوير تقع على كاهل التفكير الفلسفي، كي تمكن كل إنسان من امتلاك القدرة على إنتاج قيمه، التي تصنع ذاته المميزة، وعلى اعتبار أن المشروع الفلسفي التنويري ينهض على نشر ومشاركة القيم والمبادئ، من خلال ممارسة عملية تفكرية جماعية ومنظمة، تقودها نواة مجتمعية، تبادر إلى إطلاق مشروع التغيير السلمي في المجتمع.
لقد انتهت موجة العودة إلى التراث، والمشاريع التراثية، دون أن تثمر على المستوى الفلسفي إلى إعادة الاعتبار لقيم العقل داخل الفكر العربي، فلم تحدد مفهوم العقل في أهم تجلياته في التفكير والنظر، كما لم تضبط مقوماته، ومركباته، في ظل المعطيات الفلسفية والعلمية. وكان يفترض بها تناول العقل في التجربة العربية الراهنة، وخصوصًا في تعيناته السياسية التسلطية، تلك التي تقمع كافة أشكال العقل النقدي، وتحاول فرض وتسويغ العقل في نسخته المشوهة للحاكم الفرد ونظامه.
بالمقابل، وبالافتراق عن العائدين إلى التراث، قدم فلاسفة آخرون أمثلة على تناول الفلسفة للراهن، نذكر في هذا السياق صادق جلال العظم، وناصيف نصار، وحسن حنفي، وأحمد برقاوي، وغيرهم من الذين لم يترددوا في الانخراط في تناول الواقع المعيش، وقدموا مساهماتهم الفلسفية والفكرية، نقدًا وتشخيصًا وطرحًا للحلول والبدائل.
لقد ارتبطت الفلسفة على الدوام بالدفاع عن البشر وحقهم في الحياة، واحترمت مبادئ وحقوق الإنسان، أيًا كان، وأينما كان، وعن حقه في الحياة وحريته في التفكير والتعبير والرأي والاختلاف والوجود، لذلك نحن بأمس الحاجة إلى فلسفة تقول كلمتها في أحوال بلداننا، بالنظر إلى ما حدث، وما يزال يحدث، في عدد من بلداننا العربية من قتل للبشر، ومن إِتلاف للحجر والشجر، ودمار مدن وحواضر كثيرة، وتهجير قسري واعتقالات وتعذيب، وسوى ذلك من الفظائع والجرائم، وبما يجعل الإنسان يقف مدهوشًا مما يحدث في بلدان مثل سورية وليبيا واليمن والعراق ولبنان… إلخ.
ما تزال أمام الفلسفة مهمة إنجاز مشروع الخلق والإبداع المنشود، فأحداث التاريخ حافلة بالتطورات، إذ على الرغم من الحروب والصراعات التي تعصف بدول عربية في عصرنا الراهن، فإن الفلسفة قادرة على إنجاب الفيلسوف الحقيقي، الذي سينادي على الشعب بالمجيء كي يدخل المدنية، بوصفه الوحيد “الذي يستطيع أن يكون سياسيًا، يجمع بين طوباوية المفهوم وراهنيته، وبين ثورة المفهوم ومفهوم الثورة، وبين الثبات في اللاتناهي والتناهي في اللحظة نفسها” (10).
الهوامش
1 -انظر: جيل دولوز وفيليكس غتاري، ما هي الفلسفة؟ ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء العربي، بيروت، ط3، 1997.
2 – بدر الدين مصطفى أحمد وغادة الإمام، مشكلات فلسفية، دار المسيرة، عمان، 2012، ص12.
3 -كرم الحلو، الفلسفة ومهمتها في عالمنا الراهن، النهار العربي، 10-07 – 2021.
https://www.annaharar.com/arabic/culturebooks-authors/10072021025252170
4 -أم الزين بنشيخة المسكيني، كانط راهنًا أو الإنسان في حدود مجرد العقل، المركز الثقافي العربي، الرباط، ط1، ص(22).
5 – ميشيل فوكو، ما هي الأنوار؟ ترجمة حميد طاس، مجلّة فكر ونقد، عدد 5، 1998.
6 – ميشال فوكو، بين كانط وبودلير الحداثة كموقف، مقدمات، المجلة المغاربية للكتاب، العدد 31 خريف 2014، ص(17).
7- Michel Foucault .Magazune Littéraire, N° 207, Avril 1984, p.39 .
8 – عطيات أبو سعود، فلسفة التاريخ عند فيكو، مؤسسة الهنداوي، 2017، ص21.
9 – جيل دولوز وفيليكس غتاري، ماهي الفلسفة، مصدر سابق ص 186.
10 -ما هي الفلسفة، دولوز وغتاري، مصدر سابق، ص(212).