حاورته: راما وهبة
كاتبة وشاعرة سورية
الحرب تغيِّر كلَّ شيء، الإنسان والمدن وحتَّى شكل الزَّمن. لا يعود الوقت في مكانه بل يصبح منفيًا ومطاردًا بين النَّظرات والذاَّكرة. فلسطين الآن هي الذَّاكرة لا للإنسان العربيِّ وحده، بل للعالم أجمع، وحين تقترب عدسة التَّصوير من وجوه النَّاس في غزَّة فهي لا تقترب من الواقع الرَّاهن فحسب، بل أيضًا لنرى الغد الذي نحيا من أجله.
فادي ثابت مصوِّر فلسطينيٌّ من غزَّة، يعمل أستاذًا لمادَّة الفنون الجميلة، وقد شارك في معارض تصوير محليَّة وعالميَّة وحصل على جوائز عدَّة، وهو يعرِّف نفسه بأنَّه “مصوِّر شارع يدور حيث يدور الإنسان”، حيث ينطلق بكاميرته بين خيم النَّازحين، ليُريَ العالم مدينته المحرَّرة عبر تجربته الفريدة في فنِّ الفوتوغرافيا، وقد كان لنا معه هذا الحوار:
* من خلال رحلتك مع التَّصوير الفوتوغرافي، ما الإشارات الأولى التي تحرِّك غرائز المصوِّر إلى اقتناص اللَّحظة، وما الذي اخترقته من خلال هذا الفن؟
– بدأت التَّعرف على عالم التَّصوير متأخرًا. كان ذلك قرابة العام 2006. المفاجأة هي في الطَّريقة التي أوصلتني إلى هذا الفن. في تلك المرحلة حصل معي موقف في إحدى رحلاتي مع الأصدقاء حيث سمعت صوتًا أيقظ في داخلي شيئًا غريبًا. كان ذلك الصَّوت هو “شتر الكاميرا” شعرت عنئذٍ كأن دلو ماء بارد انسكب فجأة على رأس فوتوغرافي نائم في أحشائي، فاستيقظ يجري وبيده كاميرا يطارد بها الضَّوء في كلِّ اتجاه. من هناك بدأت رحلة الشَّغف وملاحقة الضَّوء ودهشة الأشياء الأولى. عشتُ ظروفًا صعبة لكن الفوتوغرافيا أخذت بيدي، واستطعت تحويل المسار بشكل إيجابيٍّ. كنت في عزلة تامَّة وصمت مطبق، لكنَّ الفوتوغرافيا مدَّتني بجسور من الحوار والتَّواصل العظيم.
* بين التَّصوير الصحفيِّ والتَّصوير الحربيِّ أين تصنِّف عملك؟
– عملي إنسانيٌّ بحت. أنقل رسالة الإنسان البسيط والأطفال والعجائز ليرى العالم صورة غزَّة التي تعبت من الظُّلم والقتل والحصار وكلِّ أشكال الموت. أنا مصوُّر شارع، أدور حيث يدور الإنسان وحيث تدور الإنسانيَّة. أخذت على عاتقي نقل الصَّورة من دون أشلاء أو ركام أو دماء، فالعالم يفهم المعنى الإنسانيَّ للصُّورة من دون اللُّجوء إلى استعراض الدَّم والركُّام، حتى مواقع التَّواصل الاجتماعي باتت تحجِبُ الصُّور المؤلمة في هذا الفضاء المغلق.
* ما الحدُّ الفاصل بين تسليع الموت ومواجهة العالم اللَّاإنساني في عملك كمصوُّر فوتوغرافيٍّ؟
– التَّصوير الفوتوغرافيِّ مساحة لاستيعاب العالم من حولي، وهو يجدِّد رؤيتي للأمكنة والنَّاس. أعدت تشكيل ارتباطي بالآخرين عبر الكاميرا وربط خيط المعنى مع تمثُّلات الواقع حولي، وذلك من خلال طرح القضايا المستحقَّة وحضوري كفاعل إنسانيٍّ من خلال التَّعريف بآلام النَّاس وطرح مشاكلهم، أي أن أكون في الخندق نفسه الذي يقاتلون فيه من أجل حرِّيتهم المسلوبة. التَّصوير مقاومة مؤثِّرة. كنت أشعر أنَّ هذا العالم من حولي يبعث الرُّعب ويتسلَّى بالبسطاء ويُطبق على أحلامهم في غرف تشبه علب السَّردين العفن.
* هناك صور فوتوغرافيَّة تجاوزت التَّاريخ المكتوب وفجائع العيش تحت أزيز الطَّائرات الحربيَّة، مثل صورة الطِّفلة العارية في حرب فيتنام، أو الأم وابنها إثر قنبلة هيروشيما، ما دور الأسلوب الفنيُّ الذي يتفاعل مع المعطى البصريِّ لإعطاء الصورة امتدادها بما يتجاوز الحدود والزَّمن ويمنحها شموليَّتها الإنسانيَّة؟
– لطالما كان الوضع في غزَّة صعبًا، وعلاقة الفنَّان بالآخرين تكون شبه منعدمة، فيتَّجه اهتمامه إلى الأشياء من حوله وتفاصيلها. وسط هذا الوضع كانت الحيرة تتملَّكني والأسئلة تطوف في ذهني عن كيفيَّة الفعل. الواقع يرزح تحت وطأة القسوة والمذلَّة، ولا شيء سوى الانكسار والحصار والاستبداد من حولنا. كم من الصَّعب أن تبقى الرُّوح الحرَّة صامتة من دون أن تفعل أيَّ شيء. كان هناك شيء في داخلي يقول لي : أنت لست عاديًَّا، لا بدَّ من فعل شيء ما. فكانت الفوتوغرافيا.
* تضيء في تصويرك وجوهًا نرى فيها الطُّفولة والضَّحك وتضاريس الشُّيوخ المعمرين، كما تكشف عن الجوع والقهر ومعاناة الإنسان الفلسطينيِّ في تفاصيل حياته اليوميَّة، إلى أين تتجه بوصلة الكاميرا التي تحملها في مكان مهدَّد بالإبادة في أيِّ لحظة؟
– أركِّز في صوري على ملامح الوجوه والأشياء الهامشيَّة من حولها في آن واحد. وهذا شيء مهم لأنَّه يساعدني على تثبيت اللَّحظة التي تنقل الإحساس البشريَّ. أحاول من خلال الصُّورة الاستدلال على مسيرة الحياة عبر الوجوه، هذه الرُّؤية تكشف عن الوجوه من خلال تفاصيلها: الخطوط، الألوان، التَّعابير، الحزن، الألم، الفرح المسلوب… أخرجها من خلال الاشتباك السَّاخن بين الفكرة والإيحاء. هذه الإجراءات التَّصويريَّة تفتح مشهديَّة تساؤل إنسانيِّ بين صوت “الشَّتر” وصوت ونبض الوجوه وأنفاسها، حيث يدور حوار انسيابيٌّ ومتكامل بين الضَّوء والكاميرا كما بين الرُّوح والجسد.
لن تموت الأحلام التي رُسمت على الجدران، ملامح غزَّة جزء من هذا الكون. تتلاقى فيها الألوان وتغيب في تفاصيل الوقت وتشقُّقات البؤس على إسفلتها. تلك الملامح هي لأطفال بعيون ملوَّنة وبشرة لوَّحتها الشَّمس ورطَّبها البحر. وجوه كاميرتي المعنونة دائمًا بغزَّة ليست مجرَّد صور لوجوه جميلة، بل هي لغة جديدة لغزَّة المحاصرة، لغة بعيدة كلَّ البعد عن اللُّغات التي تصدّرها معظم وسائل الإعلام إلى العالم. لغة تقول ما لا يريد العالم أن يسمَعه، وما لا يجرؤ البؤس والدَّمار على تشويه جماليَّته.
* استوقفتني صورة الفتاة الصَّغيرة التي تخفي وجهها وراء طنجرة متفحِّمة، الهيئة التي تجلس بها وظهور الألم بشكل جزئيِّ من خلال الطَّرف الأعلى للجبين جعله أشدّ تأثيرًا. هل اقتربتَ من الفتاة وتحدَّثت معها؟ هل تسجِّل تقارير عن بعض الحالات الإنسانيَّة التي تلتقطها؟
– تواصلت مع تلك الطِّفلة بعد أن قمت بتصويرها، وأتواصل مع أهلها بشكل يوميِّ تقريبًا داخل الخيمة التي تأويهم. أحاول التَّخفيف عنهم من خلال الزِّيارات وتبادل الأخبار. نشأت بيننا علاقة جميلة كما هي الحال مع العديد من عائلات النَّازحين وأطفالهم. أجلب لهم هدايا بسيطة لتبقى العلاقة الإنسانيَّة حميمة ومستمرَّة رغم نزوحهم، ومأساتهم، وخراب بيوتهم وأملاكهم. من وقت لآخر أعمل على قصص فوتوغرافيَّة تسلِّط الضَّوء على قضيَّة، أو تروي لنا قصَّة، وتكون هي رسالتي كمصوِّر.
* في الحال الفلسطينيَّة، وما يحدث في غزَّة الآن، كيف يتفاعل معك من تصوِّرهم؟ هل يشعر بعضهم أنّهم، بقبولهم التَّصوير، يرسلون رسالة إلى الخارج ويفصحون عن معاناتهم؟ هل تخفِّف عنهم الصَّورة أم أنَّ الفلسطينيَّ يئس من أن يصبح مسموعًا؟
– هذا يرجع إلى أسلوب المصوِّر. كلَّما اقترب من موضوع صورته، استطاع أن يتشارك اللَّحظة مع الآخرين لمحاولة تثبيتها، ولامس أوجاع النَّاس ومشاعرهم وانفعالاتهم. تصوير الشَّارع معقَّد وصعب، ولكن مع تكرار التَّجربة يصبح لدى المصِّور الخبرة الكافية للحوار مع المحيط والآخرين، قبل الصُّورة وبعدها وأثناء عملية التَّصوير. للحصول على التَّجاوب معهم لا بدَّ من القبول والمعاملة الإنسانيَّة. هناك وجوه تُقبل على الفوتوغرافيا وتتمتَّع بها، وهناك وجوه ترفض الفكرة بسبب فوبيا التَّصوير. أحاول أن أوصل صوت الإنسان الفلسطينيِّ من خلال ملامحه، وفي لحظات تعجز عنها اللُّغة. من المهمِّ جدًا أن نعيش الفنَّ كتجربة تحرُّر وأمل، أمَّا الرِّهان على الفنون للشَّهادة على الواقع وإيقاظ الشُّعوب فهو لا يقل أهميَّة عن أيِّ دور آخر.
* هناك زملاء كثر لك استهدفتهم الآلة العسكريَّة الإسرائيليَّة، ألم يردعك ذلك عن الاستمرار بعمل لا فاصل فيه بين القتل والواقع؟
– لديَّ رسالة أؤمن بها، وأتمسَّك بضرورة إيصالها إلى العالم مهما كانت الظروف، وللآن أنا مستمرٌّ في نقل الرِّسالة وتغطية ما يحدث، والأهم هو تكسير السَّرديات الإعلاميَّة المغلوطة عن غزَّة وأهلها.
* بعض الصَّور نشعر أنَّها التقطت بشكل آليٍّ، ولكن ثمَّة عين إنسانيَّة تقدِّم المشهد ملموسًا من خلال عدستك، ما الذي تحلم أن تكون شاهدًا عليه من خلال عملك في الفوتوغرافيا؟
– مشروعي هو الوصول بالفنِّ إلى ساحات النِّضال الاجتماعيِّ والإنسانيِّ، لا بدَّ أن يخرج الفنُّ من متحفيَّته إلى الاحتكاك بحياة العامة، ليوصل الرِّسالة المطلوبة منه بصدق وشفافيَّة. لنعثر على أبطالنا الحقيقيِّين ممن يستحقُّون الفخر والاعتزاز بهم. هؤلاء هم الأطفال، الذين رغم مآسيهم التي لا يحتملها الكبار في أيِّ مكان في العالم، ما زالوا يرسلون إلينا عبر عيونهم وابتساماتهم أمل الكون في البقاء.