عماد عبد اللطيف
هل يوجد المكان خارج إحساسنا به؟ هكذا أسأل نفسي، وأنا أجوس في طرقات القاهرة؛ أتأمل في الأبنية والفضاءات ووجوه البشر، وأستدعي شريط ذاكرةٍ حبلى بالحكايات والصور. القاهرة تلك الكينونة الأسطورية التي تمثلتُها حينًا شمسًا حارقة وريحًا هوجاء، وأحسستها أحيانًا أخرى نسمات مهفهفة وظلالًا وفيرة. وما بين الحالتين تكمن قصتي معها.
القاهرة: هوة بين مرتفعين
منذ نحو ثلاثة وعشرين عامًا، وفي أحد شهور الخريف المفعمة بالتأمل، كان عليَّ أن ألملم بعض أغراضي المتواضعة، وأحط رحالي في مدينة العوادم الخانقة.
كنتُ قد عُينت لتوي معيدًا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة. وكنت أثناء الدراسة قد اعتدت السفر مرتين أسبوعيًا من بلدتي الصغيرة الكائنة جنوب غرب مدينة الفيوم إلى الجامعة. أتحرك مع مطلع الفجر، وأصل إلى الجامعة بعد أن تنتشر أشعة الشمس في أرجاء المدينة. كنت أختار اليوم الذي يحفل بأكثر المحاضرات أهمية وعددًا، وأظل ألهث من مدرج إلى مدرج، وأنا أتابع بأعين مسحورة وآذان متلهفة كلمات أساتذتي، الذين ملأت أسماؤهم وأفكارهم نفسي وعقلي قبل أن تراهم عيني. ثمَّ في نهاية اليوم، ألملم أوراقي، وأعود إلى مساءاتي البهيجة في بلدتي.
أثناء سنوات الدراسة كنت أشعر بغربة قروي يخشى على نفسه غدر المدينة. وحين تجرَّدت للأدب إبداعًا ودراسة، تزايد موقف الرفض والخوف من كلِّ ما تمثله “القاهرة” –وصفًا لا اسمًا- من فهلوة وزحام. فبفعل مئات القصص والروايات ودواوين الشعر وأفلام السينما المكرَّسة لرثاء القاهرة، إما في ذاتها أو بوصفها تجسيدًا للمدن التي فقدت روحها، وبفعل عشرات الأعمال الأخرى المكرَّسة للسخرية من مصير القروي “البريء” بين حبائل المدينة الماكرة، غدوتُ أخشى القاهرة النداهة التي ما إن تغوي حتى تخون، وأبغض القاهرة القبيحة التي لا أرى منها سوى شارع الهرم وميدان الجيزة المكدَّسين بعوادم السيارات والبشر.
هكذا كانت القاهرة بالنسبة إليَّ هوَّة صخرية بين مرتفعين. وكنت مضطرا للعبور فوقها مرتين أسبوعيًا. لكنه عبور شائك؛ فقد كنت كمن يسير على حبل؛ وينظر للأمام حتى لا يتعثر فيهوي في العمق السحيق. وذلك هو وجه القاهرة الذي غالبًا ما لا يرَى القرويون المجبرون على السفر اليومي إليها وجهًا غيره.
لكن القاهرة المتجهمة سرعان ما أرتني وجوهًا أخرى، ربما لا يراها إلا المقيم. فبمثل ما يبادل المكان من يبغضه بمزيد من الجهامة، يبادل المحب بمزيد من الجمال والألفة. وسرعان ما أصبحتُ أسير القاهرة/النيل، والقاهرة/السهرة، والقاهرة/الثقافة، والقاهرة/الصحبة، والقاهرة/الحبيبة، والقاهرة/الأسرة. لم يحدث هذا التحول بين عشية وضحاها، بل كان أشبه بحبات الرمل التي تسقط حبة… حبة في قلب الهوة العميقة فتتراكم بفعل الأيام، وتردمها كأن لم تكن. كان لأصدقائي وأساتذتي بقسم اللغة العربية في ردم الهوة فضل، ولحبيبتي القاهرية فضل، ولابنتيَّ اللتين تجبراني على استكشاف الوجوه الطفولية للقاهرة فضل. وهكذا غدوت قاهريًا بمعنى الاشتياق لا بمعنى الإقامة والاعتياد، وغدا حديثي عن القاهرة حميميًا كجلسة عائلية على شط نيل قاهري فضفاض.
القاهرة: قطرات تنساب بين ضفتين
على حواف النهر الصبور، كنت أقضي مساءاتي أتأمل خطو النيل في رحلته الطويلة. تُرى كم من الخبرات عاشتها قطراته التي تنساب متعانقة في شكل تيار مائي متصل. هل تراقصت متدحرجة فوق جبال إثيوبيا أم قبَّلت شجرة استوائية في بحيرات بريتوريا؟ هل عابثت أحد تماسيح النيل في السودان أم راوغت صخور شلالاته الستة واحدًا إثر الآخر من الخرطوم إلى أسوان؟ هل تركتها بعض قطرات المياه ممن رافقنها السفر لتروي عود قمح أوغندي يبتهج لأنه يوشك أن يستوي فيشبع جوع طفلة إفريقية؟ أم ودَّعتها لتروي ظمأ أسر رواندية أو بوروندية تتعطش للماء بقدر عطشها للمحبة؟ ها هي بعد رحلتها الطويلة يتاح لها بعض الوقت للهو، فتتلكأ متلألئة تحت أضواء القاهرة المبهرة، وتفسح الطريق لمقدمة فلوكة ذات شراعٍ أبيض عالٍ، تتهادى طربًا بدغدغة الماء، وتتراقص على أنغام “إمتى الزمان يسمح يا جميل، وأقعد معاك على شط النيل”. أفكر في قطرات النيل الرقراقة، وأدرك كم أن العالم صغير… صغير، وكم أننا جميعًا نتشارك مع ملايين البشر ممن لم نعرفهم ولن نلتقي يومًا بهم آلاف الأشياء الصغيرة الحميمية، مثل رؤية تلك القطرات نفسها وهي تنساب بين ضفتين في رحلتها عبر نصف العالم، حاملة معها وعود الرخاء والأمن والسلام.
القاهرة: عتبات الألفة
كثيرا ما نتخيل المكان في هيئة إنسان مشحون بالعواطف؛ “يحتضننا” و”نحتضنه”، فيسري الدفء فينا جميعًا. وقد كانت جامعة القاهرة لي دومًا حضنًا وسيعًا، تفتح ذراعيها على عتبات أبوابها الثمانية فتتلقفني من جحيم الشوارع المحيطة، وسرعان ما تحل الألفة محل الغربة، والطمأنينة محل الوحشة. أجتاز مبتهجًا فضاءاتها الوسيعة، وأبتسم لأشجارها المورقة، وأتغزل في روعة مبانيها القديمة. أمر على تمثال الأميرة فاطمة إسماعيل التي تبرعت بأرضها وحليها ومالها لتجعل حلم الأمة المصرية الناهضة بإنشاء جامعة أهلية حديثة واقعًا ملموسًا. أتأمل وجهها البريء ورأسها المرفوع في عنان السماء، وأفكر كم هي رائعة تلك الأمكنة التي تتيح للبشر أن يتركوا بصمات مضيئة لا تمحى على وجهها، لمجرد أنهم آثروا أن يفعلوا ما هو خير وحق وجمال. خطوات قليلة وأصِلُ إلى ساعة جامعة القاهرة العتيقة بدقاتها المميزة، لكن عينيَّ مأخوذتان بقبتها السماوية المهيبة التي تسلب مني اللب والنظر. بضع خطوات أخرى وأدلف إلى المبنى الرئيس لكلية الآداب، أصعد عدة درجات على السلم الوسيع فأجدني في حضرة طه حسين، يجلس متربعًا في مدخل الكلية العتيقة بنظارته السوداء ووجهه الأشم.
أين كان مكتب طه حسين؟ سؤال مألوف اعتدت أن أسمعه من أصدقائي ممن يزورونني في قسم اللغة العربية، أنظر إلى مكتبه المتواضع في طرف إحدى الحجرات وأقول: ها هو. أصمت منتظرا السؤال التالي: ممكن تصورني وأنا أجلس عليه؟ بينما أقوم بالواجب التقليدي أفكر كيف استطاع طه حسين، ذاك الطفل الكفيف الذي كان يلهو على شطوط الخلجان في إحدى قرى الصعيد، أن يسحر بجهده واجتهاده ملايين البشر. وأتساءل كيف تضفي ذكرى شخص راحل على مكان ما كلَّ هذه الأبهة والألق؟ وأتذكر كيف كنت يومًا ما أسيرَ رغبة عارمة بزيارة بقعة قاهرية أخرى، شكَّلَتها في خيالي كلمات ساحر مصري آخر، أغواني بالحكايات.
القاهرة: حين يولد المكان
من رحم صفحات الكتب
في مطلع شبابي الغض، حملت في جيبي جنيهات قليلة، وهيأت روحي للحج لقاهرة نجيب محفوظ. لم تكن تلك زيارتي الأولى لمدينة الألف مئذنة، لكنها كانت زيارتي الأولى لمآذن القاهرة الفاطمية العتيقة. تبدو تلك الرحلة التي بدأت مع مطلع شمس وانتهت بغروبها، موغلة في أعماق ذاكرتي، لكنها حيَّة كأحداث هذا الصباح. فقد كانت المرة الأولى التي أطأ فيها قاهرة المعز بمفردي، لم تحركني حاجة ولا مصلحة من قاهرة المصالح الحكومية، بل جئت مدفوعًا برغبة عارمة بأن أسير بين طرقات “بين القصرين”، وأن أتشمم عبق “قصر الشوق والسكرية”، وأتأمل وجوه البشر في “زقاق المدق وخان الخليلي”. كنت مدفوعًا بقوة سحرية نحو استكشاف ما تبقى من المكان. ومنذ أسرتني اللوحات التي رسمها محفوظ لقاهرته الحميمة وأنا أخطو في شوارعها العتيقة، أختلس النظر إلى المشربيات القديمة، والوجوه الغريبة، كبطل رواية خرج للتو من بين صفحاتها، ليس له حلم سوى استعادة روح مكان طالما شعر نحوه بالألفة. أتساءل: ترى ما الذي كان يشعر به نجيب محفوظ وهو يطوف في دروب قاهرته؟ هل شعر يومًا أن المكان الذي صورته كلماته يتداعى بفعل انتحار ذاتي أو تشويه متعمد؟ أم ظل قادرًا على أن يستأنس بروح المكان التي لا يُبليها الزمن؟ وأستدعي خبرة شخصية عايشت فيها وقائع انتحار بقعة أخرى من بقاع القاهرة.
القاهرة: حين يشوه المكان ملامحه
ما أقسى غدر المكان حين يقرر أن يشوه ملامحه انتقامًا من عبث البشر. كثيرًا ما قرأت عن تلك الأماكن التي تقرر الانتحار فتتخلى فجأة عن روحها وترتدي غلالة القبح والإهمال. وقد كان من حسن حظي أن الأماكن التي حللتُ فيها لم تبعثر ذاكرتي إلا قليلا، غير أنه قُدِّر لي أن أعيش إحدى تجارب التحول تلك. لقد كنت قبل سفري إلى إنجلترا في بعثة دكتوراه أعيش في شقة قاهرية ترى النيل من أحد جوانبها، وتطل على براح وسيع من الأرض الزراعية البكر من الجانب الآخر. كنت أتملى بمشهد النيل تارة، وبمشهد الفلاحين وهم يمارسون طقوسًا أبدعها أجدادهم منذ آلاف السنين تارة أخرى. كنت أحن في الغربة لمنظر الخُص الذي ينتصب في قلب الخضرة، تظلله أشجار الموز والتوت، وترتاح فيه أجسادٌ اعتادت الشقاء. كنت أحن إليه؛ خاصة لمرأى عجوز، طاعنة في العمر، تكاد تختفي بجسدها بالغ النحالة داخل رداء أسود، كلحته أشعة شمس لا ترحم، تقتطف أعواد البقدونس والشبت والكزبرة وتربطها في حزم صغيرة من مطلع الفجر حتى مغرب الشمس. تلك العجوز هي الوحيدة التي توددت إليها دومًا بالسلام، بلهجة قروية قح، في بلد لا تعرف عادة السلام بين السائرين. كنت أناديها أمي، وأتذرع بأية حجة لألقي نظرة قريبة على وجهها الذي لم تُخف تجاعيده المتغضنة فيض الطيبة والحنان.
لم تطُل غربتي بحسابات أزمنة المكان، لكنني حين عدت كان براح الخضرة قد ولَّى تاركًا خلفه عشرات العمارات العالية وبقايا مواد بناء وجذع شجرة ميتة. من يومها وأنا أطل من نافذتي على الأرض الجرداء، وأفكِّر: تُرَى في أية بقعة حلَّت أمي العجوز؛ سيدة الأرض ووَنَس المكان.
القاهرة: عيون البشر وفعالهم
هل نضفي روحنا على المكان أم تغمرنا روحه؟ هكذا أسأل نفسي الآن بعد تجربة لا بأس بها في الترحال. وكلما أمعنت في تأمل الأمر لا أجد فرقًا بين الإنسان والمكان. كلاهما قد يعوزه الجمال ويسعفه التجمل، كلاهما يحتاج إلى من يحنو عليه، ويمد له يد المحبة، كلاهما قد يضحك لنا وجهه حينًا، ويكشف عن ملامح شريرة حينًا آخر. كلاهما تزيده المحبة ألقًا، ويزيده البغض توحشًا. فالمكان (الإنسان) ليس إلا عين المتأمل وأفعال البشر.