أنيس الرّافعي
كاتب وقاص مغربي
(وإذا كان قلبُ الميّت أثقلَ من “ريشة الحقيقة” (ماعت) فمعنى ذلك أنّ الميّتَ كان جبّارا عصيّا وكاذبا في حياته في الدنيا يفعل المنكرات، عندئذ يُلقى بقلبه ويلتهمهُ الوحش الخرافيّ (عمعميت) المنتظرُ بجانب الميزان، وتكون هذه هي نهايته الأبديّة)
برت.إم. هرد شارحًا برديّات “كتاب الموتى الفرعونيّ”، ص 223.
حوالي الثانية صباحا، وصلت سيّارة نقل الأموات، سوداء اللّون كجناح خفّاش -تلك التي لم تكن تحملُ لوحتها أيّة أرقام لتحديد هويّتها الفعليّة- إلى مقبرة هامشيّة ومغلقة منذ سنوات، تقعُ تحديدا بنواحي جماعة أولاد الحاجّ وطواط. ترجّل منها أربعة رجال، ثمّ أنزلوا الجثمان الملفوف كيفما اتّفق في كفن رخيص الثوب كأكفان الصّدقة.
كان يبدو واضحا من نظراتهم المتضايقة وملامحهم المنزعجة، أنّهم على عجلة من أمرهم لمواراة الراحل الثّرى، دون أن يتنبّه أيّ أحد من الفضوليّين إلى وجودهم السرّيّ في المكان.
انضمّ إليهم حارس المقبرة الملتحي، بعد أمر صارم من ذاك الذي كان يرتدي الزِّيَّ الرسميّ لأحد الأجهزة، ثمّ شرع اثنان منهم، على نور المصابيح اليدويّة، في حفر قبر بمعولين ومجرفتين.
كانت طبقة الأرض قاسيّة السطح و شديدة الصّلابة لطبيعتها البازلتيّة، مما تطلّب منهما بذل مجهودات جسيمة في محاولة لإحداث التجويف والعمق المناسبين. استعصى عليهما الأمر حوالي نصف ساعة، متمخّضًا فقط عن كُسارات صخرٍ مُنْحَتَّة، وتصبّبَ عرقٌ غزير من جسديهما المكدودين، ممّا دفعَ الرجلين الآخرين، الفقيه الأمرد وحارس المقبرة الملتحي، لمساعدتهما بمعولين ومجرفتين إضافيتين، عقب أن وجّهَ إليهما صاحب الزّيّ الرسميّ تعليمات صارمة.
لكن، دون جدوى كمن يتبوّلُ ضدّ اتجاه عصف الريح مثلما يقول المَثَل. فعلى الرغم من الجهود الجهيدة للرجال الأربعة، الأرض تمنّعت على فتح بطنها لاحتضان هذا الهالك الجديد، رجيم الطّالع.
عندها، نبشوا قبرا قديما مثل سعلاوات مفترسة، رموا برفاته بين الشجيرات المتشابكة، ثمّ أنزلوا الجثمان الحديث إلى اللّحد المعاد تدويره، ضيّق الأرجاء حدّ اختلاف الأضلاع بجوفه.
أهالوا عليه التراب بعشوائيّة ولامبالاة ساطعين، ليقتعدوا بعدها جميعهم التحويطات الإسمنتيّة المتآكلة لبعض القبور المتجاورة، فكانت وجوههم على انعكاسات ضوء القمر تبدو كوجوه متداخلة في لقطة سينمائيّة واحدة مُرَكَّبَةٍ من ذئب وثعلب و وَشَقٍ ونمس وضبع.
شرعوا في التدخين بشراهة، متجادلين فيما بينهم مطوّلا، بأصوات هامسة تارة أو زاعقة تارة أخرى، عن الفرق بين هلاك الآدمي ونفوق البكماوات من الحيوانات المجترَّة والثدييّة والفقاريّة والقشريّة والقاضمة والداجنة والجارحة؛ عن إحجام الفقيه الأمرد عن قراءة القرآن على قبر النافق المختفي عن الأنظار لسنوات طويلة كما لو كان حشرة ضئيلة مصابة بالفوبيا بحجّة أنّه لن ينتفع ببركتها نظير ما قام به في حياته من فظاعات وجرائم لا تغتفر؛ عن الرائحة المُنتنة التي زكمت الأنوف من جيفتة المتفسّخة لكون المسؤولين الكبار في مكاتب العاصمة ودواوينها احتفظوا بالجثّة لمدّة ثلاثة أيام في ثلاجة رديئة التبريد خشية أن يبلغ خبر مصرع الدبّاغ القديم للأرواح بالنّار والدّم إلى علم الصحافة والضحايا التّائبين المعوّضين؛ عن عدم جواز أو لا شرعيّة استعارة أو احتلال مساكن الآخرة حينما يُدفنُ ميّت طارئ ذو سمعة مخزيّة موضع ميّت أصليّ ناصع الذّمّة وهو بعد لم يصبهُ البلَى ومازال به لحم وعظم كثيران.
لم تفض جدالاتهم العقيمة إلى أيّة نتيجة مرضيّة لأيّ من الأطراف، فانطلقت سيّارتهم بسرعة جنونيّة، خارج المقبرة، مخترقة أغباش الفجر، على وقع النظرات الأسيانة والصامتة لكمشة كلاب غبراء، دون أن يتفطّنوا إلى أنّهم لم يكتبوا على الشاهدة الأسمنتيّة المكسورة اسم الميّت وتاريخ وفاته، كما تعمّدوا من دون شكّ وبكلّ إصرارٍ عدم تنظيف القبر من عشرات أعقاب السجائر، التي كانت مغروسة في تربته غير المبلّلة، تماما مثل دمامل خبيثة مليئة بالصديد(*).
الهوامش
(*) إحالة: من منظور شامانيّ محض، تقارب هاته القصة النهاية الحزينة والمخجلة لأحد جلاّدي سنوات الرّصاص في المغرب، حيث يتمّ استخدام مفهوم «الصنو المسيخ»، الذي يساوي بين الميت ودافنيه. ﺇذ يتشارك الجميع في لعبة العنف التأسيسيّ، ويتبادلون مداورة مواقعها غير المريحة، ضمن بنية تراجيديّة، يتحوّل فيها الطرفان ﺇلى صنوين رديفين يخلع كلّ منهما صورة حقده المسيخ على اﻵخر. ﺇنّها حكاية عنف شرير معدٍ، وموت مدنّس لضحيّة فدائيّة، جرى من دون طقوس تطهيريّة طاردة، وبلا عزاء ﺃو ارتياع. ذاك هو موت المنبوذ المعزول خبيث السمعة، الذي يضاعف وساخة الجثّة، وقدرة المنايا على ارتكاب المزيد من الشرور. يرجى الرجوع من ﺃجل فهم ﺃشمل ﺇلى الفصل المعنون بـ»اﻵلهة، الأموات، المقدّس، اﻹبدال الذبائحيّ» ضمن كتاب روني جيرار الموسوم بـ»العنف والمقدّس»، صص 421، 437.